فصل: تفسير الآية رقم (179):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الكشاف عن حقائق التنزيل وعيون الأقاويل في وجوه التأويل



.تفسير الآية رقم (175):

{إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلَا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (175)}
{الشيطان} خبر ذلكم، بمعنى: إنما ذلكم المثبط هو الشيطان. ويخوّف أولياءه: جملة مستأنفة بيان لشيطنته. أو الشيطان صفة لاسم الإشارة. ويخوف الخبر. والمراد بالشيطان نعيم، أو أبو سفيان. ويجوز أن يكون على تقدير حذف المضاف، بمعنى إنما ذلكم قول الشيطان، أي قول إبليس لعنه الله {يُخَوّفُ أَوْلِيَاءهُ} يخوّفكم أولياءه الذين هم أبو سفيان وأصحابه. وتدل عليه قراءة ابن عباس وابن مسعود: {يخوفكم أولياءه}. وقوله: فلا تخافوهم.
وقيل يخوّف أولياءه القاعدين عن الخروج مع رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فإن قلت: فإلام رجع الضمير في {فَلاَ تَخَافُوهُمْ} على هذا التفسير؟ قلت: إلى الناس في قوله: {إِنَّ الناس قَدْ جَمَعُواْ لَكُمْ} [آل عمران: 183] فلا تخافوهم فتقعدوا عن القتال وتجبنوا {وَخَافُونِ} فجاهدوا مع رسولي وسارعوا إلى ما يأمركم به {إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ} يعني أنّ الإيمان يقتضي أن تؤثرواخوف الله على خوف الناس {وَلاَ يَخْشَوْنَ أَحَداً إِلاَّ الله} [الأحزاب: 39].

.تفسير الآيات (176- 178):

{وَلَا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئًا يُرِيدُ اللَّهُ أَلَّا يَجْعَلَ لَهُمْ حَظًّا فِي الْآَخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (176) إِنَّ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْكُفْرَ بِالْإِيمَانِ لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئًا وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (177) وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْمًا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ (178)}
{يسارعون فِي الكفر} يقعون فيه سريعاً ويرغبون فيه أشدّ رغبة، وهم الذين نافقوا من المتخلفين. وقيل: هم قوم ارتدّوا عن الإسلام.
فإن قلت: فما معنى قوله: {وَلاَ يَحْزُنكَ}؟ ومن حق الرسول أن يحزن لنفاق من نافق وارتداد من ارتدّ؟ قلت: معناه لا يحزنوك لخوف أن يضرّوك ويعينوا عليك. ألا ترى إلى قوله {إِنَّهُمْ لَن يَضُرُّواْ الله شَيْئاً} يعني أنهم لا يضرون بمسارعتهم في الكفر غير أنفسهم، وما وبال ذلك عائداً على غيرهم. ثم بين كيف يعود وباله عليهم بقوله: {يُرِيدُ الله أَلاَّ يَجْعَلَ لَهُمْ حَظّاً فِي الاخرة} أي نصيباً من الثواب {وَلَهُمْ} بدل الثواب {عَذَابٌ عظِيمٌ} وذلك أبلغ ما ضرّ به الإنسان نفسه.
فإن قلت: هلا قيل: لا يجعل الله لهم حظاً في الآخرة، وأيّ فائدة في ذكر الإرادة؟ قلت: فائدته الإشعار بأنّ الداعي إلى حرمانهم وتعذيبهم قد خلص خلوصاً لم يبق معه صارف قط حين سارعوا في الكفر، تنبيهاً على تماديهم في الطغيان وبلوغهم الغاية فيه، حتى أنّ أرحم الراحمين يريد أن لا يرحمهم {إِنَّ الذين اشتروا الكفر بالإيمان} إمّا أن يكون تكريراً لذكرهم للتأكيد والتسجيل عليهم بما أضاف إليهم. وإمّا أن يكون عاماً للكفار، والأوّل خاصاً فيمن نافق من المتخلفين، أو ارتدّ عن الإسلام أو على العكس. و{شَيْئاً} نصب على المصدر؛ لأن المعنى: شيئاً من الضرر وبعض الضرر {الذين كَفَرُواْ} فيمن قرأ بالتاء نصب و{أَنَّمَا نُمْلِى لَهُمْ خَيْرٌ لاِنفُسِهِمْ} بدل منه: أي ولا تحسبنّ أنّ ما نملي للكافرين خير لهم، و (إن) مع ما في حيزه ينوب عن المفعولين، كقوله: {أم تحسب أنّ أكثرهم يسمعون} [الفرقان: 44] وما مصدرية، بمعنى: ولا تحسبنّ أنّ إملاءنا خير، وكان حقها في قياس علم الخط أن تكتب مفصولة. ولكنها وقعت في الإمام متصلة فلا يخالف، وتتبع سنة الإمام في خط المصاحف.
فإن قلت: كيف صحّ مجيء البدل ولم يذكر إلا أحد المفعولين، ولا يجوز الاقتصار بفعل الحسبان على مفعول واحد؟ قلت: صحّ ذلك من حيث إنّ التعويل على البدل والمبدل منه في حكم المنحى، ألا تراك تقول: جعلت متاعك بعضه فوق بعض، مع امتناع سكوتك على متاعك. ويجوز أن يقدّر مضاف محذوف على: ولا تحسبنّ الذين كفروا أصحاب أن الإملاء خير لأنفسهم. أو ولا تحسبنّ حال الذين كفروا أن الإملاء خير لأنفسهم. وهو فيمن قرأ بالياء رفع، والفعل متعلق بأن وما في حيزه. والإملاء لهم: تخليتهم وشأنهم، مستعار من أملى لفرسه إذا أرخى له الطول ليرعى كيف شاء. وقيل: هو إمهالهم وإطالة عمرهم. والمعنى: ولا تحسبنّ أن الإملاء خير لهم من منعهم أو قطع آجالهم {إِنَّمَا نُمْلِى لَهُمْ} (ما) هذه حقها أن تكتب متصلة، لأنها كافة دون الأولى، وهذه جملة مستأنفة تعليل للجملة قبلها، كأنه قيل: ما بالهم لا يحسبون الإملاء خيراً لهم، فقيل: إنما نملي لهم ليزدادوا إثماً.
فإن قلت: كيف جاز أن يكون ازدياد الإثم غرضاً لله تعالى في إملائه لهم؟ قلت: هو علة للإملاء، وما كل علة بغرض. ألا تراك تقول: قعدت عن الغزو للعجز والفاقة، وخرجت من البلد لمخافة الشر، وليس شيء منها بغرض لك. وإنما هي علل وأسباب، فكذلك ازدياد الإثم جعل علة للإمهال وسبباً فيه.
فإن قلت: كيف يكون ازدياد الإثم علة للإملاء كما كان العجز علة للقعود عن الحرب؟ قلت: لما كان في علم الله المحيط بكل شيء أنهم مزدادون إثماً، فكأن الإملاء وقع من أجله وبسببه على طريق المجاز.
وقرأ يحيى بن وثاب بكسر الأولى وفتح الثانية. ولا يحسبنّ بالياء، على معنى: ولا يحسبنّ الذين كفروا أن إملاءنا لازدياد الإثم كما يفعلون، وإنما هو ليتوبوا ويدخلوا في الإيمان. وقوله: {أَنَّمَا نُمْلِى لَهُمْ خَيْرٌ لاِنفُسِهِمْ} اعتراض بين الفعل ومعموله. ومعناه: أن إملاءنا خير لأنفسهم إن عملوا فيه وعرفوا إنعام الله عليهم بتفسيح المدّة وترك المعاجلة بالعقوبة.
فإن قلت: فما معنى قوله: {وَلَهْمُ عَذَابٌ مُّهِينٌ} على هذه القراءة؟ قلت: معناه: ولا تحسبوا إن إملاءنا لزيادة الإثم وللتعذيب، والواو للحال، كأنه قيل: ليزداودا إثماً معداً لهم عذاب مهين.

.تفسير الآية رقم (179):

{مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَجْتَبِي مِنْ رُسُلِهِ مَنْ يَشَاءُ فَآَمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا فَلَكُمْ أَجْرٌ عَظِيمٌ (179)}
اللام لتأكيد النفي {على مَا أَنتُمْ عَلَيْهِ} من اختلاط المؤمنين الخلص والمنافقين {حتى يَمِيزَ الخبيث مِنَ الطيب} حتى يعزل المنافق عن المخلص. وقرئ: {يميز}. من ميز. وفي رواية عن ابن كثير: {يميز}، من أماز بمعنى ميز.
فإن قلت: لمن الخطاب في {أَنتُمْ}؟ قلت: للمصدّقين جميعاً من أهل الإخلاص والنفاق، كأنه قيل: ما كان الله ليذر المخلصين منكم على الحال التي أنتم عليها من اختلاط بعضكم ببعض، وأنه لا يعرف مخلصكم من منافقكم لاتفاقكم على التصديق جميعاً حتى يميزهم منكم بالوحي إلى نبيه وإخباره بأحوالكم، ثم قال: {وَمَا كَانَ الله لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الغيب} أي وما كان الله ليؤتي أحداً منكم علم الغيوب، فلا تتوهموا عند إخبار الرسول عليه الصلاة والسلام بنفاق الرجل وإخلاص الآخر أنه يطلع على ما في القلوب اطلاع الله فيخبر عن كفرها وإيمانها {ولكن الله} يرسل الرسول فيوحي إليه ويخبره بأنّ في الغيب كذا، وأن فلاناً في قلبه النفاق وفلاناً في قلبه الإخلاص، فيعلم ذلك من جهة إخبار الله لا من جهة اطلاعه على المغيبات. ويجوز أن يراد: لا يترككم مختلطين حتى يميز الخبيث من الطيب، بأن يكلفكم التكاليف الصعبة التي لا يصبر عليها إلا الخلص الذين امتحن الله قلوبهم. كبذل الأرواح في الجهاد، وإنفاق الأموال في سبيل الله، فيجعل ذلك عياراً على عقائدكم وشاهداً بضمائركم، حتى يعلم بعضكم ما في قلب بعض من طريق الاستدلال، لا من جهة الوقوف على ذات الصدور والاطلاع عليها، فإن ذلك مما استأثر الله به. وما كان الله ليطلع أحداً منكم على الغيب ومضمرات القلوب حتى يعرف صحيحها من فاسدها مطلعاً عليها {وَلَكِنَّ الله يَجْتَبِى مِن رُّسُلِهِ مَن يَشَاءُ} فيخبره ببعض المغيبات {فآمنوا باللّه ورسوله} بأن تقدروه حق قدره، وتعلموه وحده مطلعاً على الغيوب، وأن تنزلوهم منازلهم بأن تعلموهم عباداً مجتبين، لا يعلمون إلا ما علمهم الله، ولا يخبرون إلا بما أخبرهم الله به من الغيوب، وليسوا من علم الغيب في شيء.
وعن السدي قال الكافرون: إن كان محمد صادقاً فليخبرنا من يؤمن منا ومن يكفر فنزلت.

.تفسير الآية رقم (180):

{وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا آَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ هُوَ خَيْرًا لَهُمْ بَلْ هُوَ شَرٌّ لَهُمْ سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلِلَّهِ مِيرَاثُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (180)}
{وَلاَ تَحْسَبَنَّ} من قرأ بالتاء قدّر مضافاً محذوفاً، أي ولا تحسبن بخل الذين يبخلون هو خيراً لهم. وكذلك من قرأ بالياء وجعل فاعل يحسبن ضمير رسول الله، أو ضمير أحد. ومن جعل فاعله الذين يبخلون كان المفعول الأوّل عنده محذوفاً تقديره: ولا يحسبن الذين يبخلون بخلهم {هُوَ خَيْراً لَّهُمْ} والذي سوغ حذفه دلالة {يَبْخَلُونَ} عليه، وهو فصل.
وقرأ الأعمش بغير هو {سَيُطَوَّقُونَ} تفسير لقوله: {هُوَ شَرٌّ لَّهُمْ} أي سيلزمون وبال ما بخلوا به إلزام الطوق. وفي أمثالهم: تقلدها طوق الحمامة، إذا جاء بهنة يسب بها ويذم. وقيل: يجعل ما بخل من الزكاة حية يطوقها في عنقه يوم القيامة، تنهشه من قرنه إلى قدمه وتنقر رأسه وتقول: أنا مالك.
وعن النبي صلى الله عليه وسلم في مانع الزكاة: «يطوق بشجاع أقرع» وروي «بشجاع أسود» وعن النخعي سيطوقون بطوق من نار {وَلِلَّهِ مِيرَاثُ السماوات والارض} أي وله ما فيها مما يتوارثه أهلها من مال وغيره فمالهم يبخلون عليه بملكه ولا ينفقونه في سبيله. ونحوه قوله: {وَأَنفِقُواْ مِمَّا جَعَلَكُم مُّسْتَخْلَفِينَ فِيهِ} [الحديد: 7] وقرئ {بما تعملون} بالتاء والياء فالتاء على طريقة الالتفات، وهي أبلغ في الوعيد والياء على الظاهر.

.تفسير الآيات (181- 182):

{لَقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ سَنَكْتُبُ مَا قَالُوا وَقَتْلَهُمُ الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَنَقُولُ ذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ (181) ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ (182)}
قال ذلك اليهود حين سمعوا قول الله تعالى: {مَّن ذَا الذى يُقْرِضُ الله قَرْضًا حَسَنًا}، فلا يخلو إمّا أن يقولوه عن اعتقاد لذلك، أو عن استهزاء بالقرآن، وأيهما كان فالكلمة عظيمة لا تصدر إلا عن متمردين في كفرهم. ومعنى سماع الله له: أنه لم يخف عليه، وأنه أعدّ له كفاءه من العقاب {سَنَكْتُبُ مَا قَالُواْ} في صحائف الحفظة. أو سنحفظه ونثبته في علمنا لا ننساه كما يثبت المكتوب فإن قلت: كيف قال: {لَّقَدْ سَمِعَ الله} ثم قال {سَنَكْتُبُ} وهلا قيل: ولقد كتبنا؟ قلت: ذكر وجود السماع أوّلاً مؤكداً بالقسم ثم قال: سنكتب على جهة الوعيد بمعنى لن يفوتنا أبداً إثباته وتدوينه كما لن يفوتنا قتلهم الأنبياء. وجعل قتلهم الأنبياء قرينة له إيذاناً بأنهما في العظم أخوان، وبأن هذا ليس بأوّل ما ركبوه من العظائم. وأنهم أصلاء في الكفر ولهم فيه سوابق، وأن من قتل الأنبياء لم يستبعد منه الاجتراء على مثل هذا القول.
وروي: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كتب مع أبي بكر رضي الله عنه إلى يهود بني قينقاع يدعوهم إلى الإسلام وإلى إقام الصلاة وإيتاء الزكاة، وأن يقرضوا الله قرضاً حسناً، فقال فنحاص اليهودي: إنّ الله فقير حين سألنا القرض فلطمه أبو بكر في وجهه وقال: لولا الذي بيننا وبينكم من العهد لضربت عنقك فشكاه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وجحد ما قاله، فنزلت. ونحوه قولهم: {يَدُ الله مَغْلُولَةٌ} [المائدة: 64] {وَنَقُولُ} لهم {ذُوقُواْ} وننتقم منهم أن نقول لهم يوم القيامة: ذوقوا {عَذَابَ الحريق} كما أذقتم المسلمين الغصص. يقال للمنتقم منه: أحس، وذق. وقال أبو سفيان لحمزة رضي الله عنه: ذق عقق وقرأ حمزة: {سيكتب}، بالياء على البناء للمفعول، {ويقول} بالياء.
وقرأ الحسن والأعرج: {سيكتب} بالياء وتسمية الفاعل.
وقرأ ابن مسعود: {ويقال ذوقوا} {ذلك} إشارة إلى ما تقدّم من عقابهم وذكر الأيدي لأن أكثر الأعمال تزاول بهنّ، فجعل كل عمل كالواقع بالأيدي على سبيل التغليب فإن قلت: فلم عطف قوله {وَأَنَّ الله لَيْسَ بظلام لّلْعَبِيدِ} {على ما قدّمت أيديكم}، وكيف جعل كونه غير ظلام للعبيد شريكاً لاجتراحهم السيئات في استحقاق التعذيب؟ قلت: معنى كونه غير ظلام للعبيد أنه عادل عليهم ومن العدل أن يعاقب المسيء منهم ويثيب المحسن.

.تفسير الآيات (183- 184):

{الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ عَهِدَ إِلَيْنَا أَلَّا نُؤْمِنَ لِرَسُولٍ حَتَّى يَأْتِيَنَا بِقُرْبَانٍ تَأْكُلُهُ النَّارُ قُلْ قَدْ جَاءَكُمْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِي بِالْبَيِّنَاتِ وَبِالَّذِي قُلْتُمْ فَلِمَ قَتَلْتُمُوهُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (183) فَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ جَاءُوا بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ وَالْكِتَابِ الْمُنِيرِ (184)}
{عَهِدَ إِلَيْنَا} أمرنا في التوراة وأوصانا بأن لا نؤمن لرسول حتى يأتينا بهذه الآية الخاصة، وهو أن يرينا قربانا تنزل نار من السماء فتأكله، كما كان أنبياء بني إسرائيل تلك آيتهم، كان يقرب بالقربان، فيقوم النبي فيدعو، فتنزل نار من السماء فتأكله، وهذه دعوى باطلة وافتراء على الله، لأن أكل النار القربان لم يوجب الإيمان للرسول الآتي به إلا لكونه آية ومعجزة فهو إذن وسائر الآيات سواء فلا يجوز أن يعينه الله تعالى من بين الآيات. وقد ألزمهم الله أن أنبياءهم جاؤهم بالبينات الكثيرة التي أوجبت عليهم التصديق، وجاؤهم أيضاً بهذه الآية التي اقترحوها فلم قتلوهم إن كانوا صادقين أن الإيمان يلزمهم بإتيانها وقرئ {بقربان} بضمتين. ونظيره السلطان.
فإن قلت: ما معنى قوله: {وبالذى قُلْتُمْ}؟ قلت: معناه، وبمعنى الذي قلتموه من قولكم: قربان تأكله النار. ومؤدّاه كقوله: {ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُواْ} [المجادلة: 3] أي لمعنى ما قالوا. في مصاحف أهل الشام: وبالزبر، وهي الصحف {والكتاب المنير} التوراة والإنجيل والزبور. وهذه تسلية لرسول الله صلى الله عليه وسلم من تكذيب قومه وتكذيب اليهود.