فصل: تفسير الآية رقم (26):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الكشاف عن حقائق التنزيل وعيون الأقاويل في وجوه التأويل



.تفسير الآية رقم (25):

{وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ (25)}
{فِتْنَةً} ذنبا. قيل هو إقرار المنكر بين أظهرهم. وقيل: افتراق الكلمة. وقيل: {فِتْنَةً} عذاباً. وقوله: {لاَّ تُصِيبَنَّ} لا يخلو من أن يكون جواباً للأمر. أو نهياً بعد أمر. أو صفة لفتنة، فإذا كان جواباً، فالمعنى إن إصابتكم لا تصيب الظالمين منكم خاصة ولكنها تعمكم وهذا كما يحكى أن علماء بني إسرائيل نُهوا عن المنكر تعذيراً فعمهم الله بالعذاب، وإذا كانت نهياً بعد أمر فكأنه قيل: واحذروا ذنباً أو عقاباً، ثم قيل: لا تتعرضوا للظم فيصيب العقاب أو أثر الذنب ووباله من ظلم منكم خاصة، وكذلك إذا جعلته صفة على إرادة القول، كأنه قيل: واتقوا فتنة مقولاً فيها لا تصيبنَّ، ونظيره قوله:
حَتَّى إذَا جَنَّ الظَّلاَمُ وَاخْتَلَط ** جَاءُوا بِمَذْقٍ هَلْ رَأَيْتَ الذِّئْبَ قَطْ

أي بمذق مقول فيه هذا القول، لأنه سمار فيه لون الورق التي هي لون الذئب. ويعضد المعنى الأخير قراءة ابن مسعود: {لتصيبنّ}، على جواب القسم المحذوف.
وعن الحسن: نزلت في عليّ وعمار وطلحة والزبير وهو يوم الجمل خاصة. قال الزبير: نزلت فينا وقرأناها زماناً، وما أرانا من أهلها، فإذا نحن المعنيون بها.
وعن السدي: نزلت في أهل بدر فاقتتلوا يوم الجمل.
وروي: (أن الزبير كان يساير النبي صلى الله عليه وسلم يوماً، إذ أقبل عليّ رضي الله عنه، فضحك إليه الزبير فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم كيف حبك لعليٍّ؟ فقال يا رسول الله، بأبي أنت وأمي، إني أحبه كحبي لوالدي أو أشدّ حباً. قال: فكيف أنت إذا سرت إليه تقاتله)، فإن قلت: كيف جاز أن يدخل النون المؤكدة في جواب الأمر؟ قلت: لأنّ فيه معنى النهي، إذا قلت: أنزل عن الدابة لا تطرحك، فلذلك جاز لا تطرحنك ولا تصيبنّ ولا يحطمنكم.
فإن قلت: فما معنى {مِنْ} في قوله: {الذين ظَلَمُواْ مِنكُمْ}؟ قلت: التبعيض على الوجه الأول، والتبيين على الثاني، لأنَّ المعنى: لا تصيبنكم خاصة على ظلماكم؛ لأن الظلم أقبح منكم من سائر الناس.

.تفسير الآية رقم (26):

{وَاذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ مُسْتَضْعَفُونَ فِي الْأَرْضِ تَخَافُونَ أَنْ يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ فَآَوَاكُمْ وَأَيَّدَكُمْ بِنَصْرِهِ وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (26)}
{إِذْ أَنتُم} نصبه على أنه مفعول به مذكور لا ظرف: أي اذكروا وقت كونكم أقلة أذلة مستضعفين {فِى الأرض} أرض مكة قبل الهجرة تستضعفكم قريش {تَخَافُونَ أَن يَتَخَطَّفَكُمُ الناس} لأن الناس كانوا جميعاً لهم أعداء منافين مضادّين {فَآوَاكُمْ} إلى المدينة {وَأَيَّدَكُم بِنَصْرِهِ} بمظاهرة الأنصار وبإمداد الملائكة يوم بدر {وَرَزَقَكُم مّنَ الطيبات} من الغنائم {لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} إرادة أن تشكروا هذه النعم وعن قتادة: كان هذا الحيّ من العرب أذلّ الناس، وأشقاهم عيشا، وأعراهم جلداً، وأبينهم ضلالا، يؤكلون ولا يأكلون، فمكن الله لهم في البلاد، ووسع لهم في الرزق والغنائم وجعلهم ملوكاً.

.تفسير الآية رقم (27):

{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (27)}
معنى الخون: النقص، كما أن معنى الوفاء التمام. ومنه: تخوّنه، إذا تنقصه، ثم استعمل في ضد الأمانة والوفاء، لأنك إذا خنت الرجل في شيء فقد أدخلت عليه النقصان فيه، وقد استعير فقيل: خان الدلو الكرب، وخان المشتار السبب لأنه إذا انقطع به فكأنه لم يف له. ومنه قوله تعالى: {وَتَخُونُواْ أماناتكم} والمعنى لا تخونوا الله بأن تعطلوا فرائضه، ورسوله بأن لا تستنوا به. و{أماناتكم} فيما بينكم بأن لا تحفظوها {وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ} تبعة ذلك ووباله، وقيل وأنتم تعلمون أنكم تخونون، يعني أن الخيانة توجد منكم عن تعمد لا عن سهو. وقيل: وأنتم علماء تعلمون قبح القبيح وحسن الحسن.
وروي: أن نبي الله صلى الله عليه وسلم حاصر يهود بني قريظة إحدى وعشرين ليلة فسألوا الصلح كما صالح إخوانهم بني النضير على أن يسيروا إلى أذرعات وأريحاء من أرض الشام، فأبى رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا أن ينزلوا على حكم سعد ابن معاذ، فأبوا وقالوا: أرسل إلينا أبا لبابة مروان بن عبد المنذر وكان مناصحاً لهم لأنّ عياله وماله في أيديهم، فبعثه إليهم فقالوا له: ما ترى، هل ننزل على حكم سعد؟ فأشار إلى حلقه إنه الذبح، قال أبو لبابة فما زالت قدماي حتى علمت أني قد خنت الله ورسوله فنزلت، فشدّ نفسه على سارية من سواري المسجد وقال: والله لا أذوق طعاماً ولا شراباً حتى أموت أو يتوب الله عليّ، فمكث سبعة أيام حتى خر مغشياً عليه ثم تاب الله عليه، فقيل له: قد تيب عليك فحل نفسك. فقال: لا والله لا أحلها حتى يكون رسول الله صلى الله عليه وسلم هو الذي يحلني، فجاءه فحله بيده فقال: إنّ من تمام توبتي أن أهجر دار قومي التي أصبت فيها الذنب، وأن أنخلع من مالي. فقال صلى الله عليه وسلم: يجزيك الثلث أن تتصدّق به.
وعن المغيرة: نزلت في قتل عثمان بن عفان رضي الله عنه. وقيل: {أماناتكم} ما ائتمنكم الله عليه من فرائضه وحدوده.
فإن قلت: {وَتَخُونُواْ} جزم هو أم نصب؟ قلت: يحتمل أن يكون جزماً داخلاً في حكم النهي وأن يكون نصباً بإضمار (إن) كقوله: {وَتَكْتُمُواْ الحق} [البقرة: 42] وقرأ مجاهد: {وتخونوا أمانتكم}، على التوحيد.

.تفسير الآية رقم (28):

{وَاعْلَمُوا أَنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ وَأَنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ (28)}
جعل الأموال والأولاد فتنة، لأنهم سبب الوقوع في الفتنة وهي الإثم أو العذاب. أو محنة من الله ليبلوكم كيف تحافظون فيهم على حدوده و{الله عِندَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ} فعليكم أن تنوطوا بطلبه وبما تؤدي إليه هممكم، وتزهدوا في الدنيا، ولا تحرصوا على جمع المال وحب الولد؛ حتى تورّطوا أنفسكم من أجلهما، كقوله: {المال والبنون} الآية [الكهف: 46] وقيل: هي من جملة ما نزل في أبي لبابة وما فرط منه لأجل ماله وولده.

.تفسير الآيات (29- 30):

{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانًا وَيُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (29) وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ (30)}
{فُرْقَانًا} نصراً؛ لأنه يفرق بين الحق والباطل وبين الكفر بإذلال حزبه، والإسلام بإعزاز أهله. ومنه قوله تعالى: {يَوْمَ الفرقان} [الأنفال: 41] أو بياناً وظهوراً يشهر أمركم ويبث صيتكم وآثاركم في أقطار الأرض، من قولهم: (بتّ أفعل كذا) حتى سطع الفرقان: أي طلع الفجر. أو مخرجاً من الشبهات وتوفيقاً وشرحاً للصدور. أو تفرقة بينكم وبين غيركم من أهل الأديان، وفضلاً ومزية في الدنيا والآخرة. {وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الذين كَفَرُواْ لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ الله والله خَيْرُ الماكرين} لما فتح الله عليه، ذكره مكر قريش به حين كان بمكة، ليشكر نعمة الله عز وجل في نجاته من مكرهم واستيلائه عليهم وما أتاح الله له من حسن العاقبة، والمعنى: واذكرإذ يمكرون بك وذلك أن قريشاً- لما أسلمت الأنصار وبايعوه- فرِقوا أن يتفاقم أمره، فاجتمعوا في دار الندوى متشاورين في أمره، فدخل عليهم إبليس في صورة شيخ وقال: أنا شيخ من نجد، ما أنا من تهامة دخلت مكة فسمعت باجتماعكم، فأردت أن أحضركم ولن تعدموا غير كوّة تلقون إليه طعامه وشرابه منها؛ وتتربصوا به ريب المنون. فقال إبليس: بئس الرأي؛ يأتيكم من يقاتلكم من قومه ويخلصه من أيديكم. فقال هشام بن عمرو: رأيي أن تحملوه على جمل وتخرجوه من بين أظهركم؛ فلا يضركم ما صنع واسترحتم. فقال إبليس: بئس الرأي يفسد قوما غيركم ويقاتلكم بهم. فقال أبو جهل: أنا أرى أن تأخذوا من كل بطن غلاما وتعطوه سيفا صارما، فيضربوه ضربة رجل واحد فيتفرق دمه في القبائل، فلا يقوى بنو هاشم على حرب قريش كلهم، فإذا طلبوا العقل عقلناهم واسترحنا. فقال الشيخ- لعنه الله-: صدق هذا الفتى، هو أجودكم رأيا. فتفرقوا على رأي أبي جهل مجتمعين على قتله. فأخبر جبريل عليه السلام رسول الله صلى الله عليه وسلم وأمره أن لا يبيت في مضجعه، وأذن الله له في الهجرة، فأمر علياً رضي الله عنه فنام في مضجعه، وقال له: اتّشح ببردتي، فإنه لن يخلص إليك أمر تكرهه، وباتوا مترصدين، فلما أصبحوا ثاروا إلى مضجعه، فأبصروا علياً فبهتوا وخيب الله عز وجل سعيهم، واقتصوا أثره فأبطل الله مكرهم {ليثبتوك} ليسجنوك أو يوثقوك أو يثخنوك بالضرب والجرح، من قولهم: ضربوه حتى أثبتوه لا حراك به ولا براح، وفلان مثبت وجعاً. وقرئ: (ليثبتوك)، بالتشديد.
وقرأ النخعي: (ليثبتوك)، ومن البيات.
وعن ابن عباس: (ليقيدوك)، وهو دليل لمن فسره بالإيثاق {وَيَمْكُرُونَ} ويخفون المكايد له {وَيَمْكُرُ الله} ويخفي الله ما أعد لهم حتى يأتيهم بغتة {والله خَيْرُ الماكرين} أي مكره أنفذ من مكر غيره وأبلغ تأثيراً، أو لأنه لا ينزل إلا ما هو حق وعدل ولا يصيب إلا بما هو مستوجب.

.تفسير الآيات (31- 34):

{وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آَيَاتُنَا قَالُوا قَدْ سَمِعْنَا لَوْ نَشَاءُ لَقُلْنَا مِثْلَ هَذَا إِنْ هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ (31) وَإِذْ قَالُوا اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (32) وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ (33) وَمَا لَهُمْ أَلَّا يُعَذِّبَهُمُ اللَّهُ وَهُمْ يَصُدُّونَ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَمَا كَانُوا أَوْلِيَاءَهُ إِنْ أَوْلِيَاؤُهُ إِلَّا الْمُتَّقُونَ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (34)}
{لَوْ نَشَاء لَقُلْنَا مِثْلَ هذا} نفاجة منهم وصلف تحت الراعدة، فإنهم لم يتوانوا في مشيئتهم لو ساعدتهم الاستطاعة، وإلا فما منعهم إن كانوا مستطيعين أن يشاؤوا غلبة من تحدّاهم وقرعهم بالعجز، حتى يفوزوا بالقدح المعلي دونه، مع فرط أنفتهم واستنكافهم أن يغلبوا في باب البيان خاصة، وأن يماتنهم واحد، فيتعللوا بامتناع المشيئة، ومع ما علم وظهر ظهور الشمس، من حرصهم على أن يقهروا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتهالكهم على أن يغمروه. وقيل: قائله النضر بن الحرث المقتول صبراً، حين سمع اقتصاص الله أحاديث القرون: لو شئت لقلت مثل هذا. وهو الذي جاء من بلاد فارس بنسخة حديث رستم وأسفنديار فزعم أن هذا مثل ذاك، وأنه من جملة تلك الأساطير، وهو القائل: {إِن كَانَ هذا هُوَ الحق} وهذا أسلوب من الجحود بليغ، يعني إن كان القرآن هو الحق فعاقبنا على إنكاره بالسجيل، كما فعلت بأصحاب الفيل، أو بعذاب آخر. ومراده نفي كونه حقاً، وإذا انتفى كونه حقاً لم يستوجب منكره عذاباً فكان تعليق العذاب بكونه حقاً مع اعتقاد أنه ليس بحق، كتعليقه بالمحال في قولك: إن كان الباطل حقاً، فأمطر علينا حجارة. وقوله: {هُوَ الحق} تهكم بمن يقول على سبيل التخصيص والتعيين: هذا هو الحق.
وقرأ الأعمش {هُوَ الحق} بالرفع، على أن هو مبتدأ غير فصل. وهو في القراءة الأولى فصل. ويقال: أمطرت السماء، كقولك أنجمت وأسبلت ومطرت، كقولك: هتنت وهتلت، وقد كثر الأمطار في معنى العذاب.
فإن قلت: ما فائدة قوله: {مّنَ السماء}؟ والأمطار لا تكون إلا منها.
قلت: كأنه يريد أن يقال: فأمطر علينا السجيل وهي الحجارة المسوّمة للعذاب، فوضع {حِجَارَةً مّنَ السماء} موضع السجيل، كما تقول: صب عليه مسرودة من حديد، تريد درعاً {بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} أي بنوع آخر من جنس العذاب الأليم، يعني أن أمطار السجيل بعض العذاب الأليم، فعذبنا به أو بنوع آخر من أنواعه.
وعن معاوية أنه قال لرجل من سبإ: ما أجهل قومك حين ملكوا عليهم امرأة! قال: أجهل من قومي قومك قالوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم حين دعاهم إلى الحق {إِن كَانَ هذا هُوَ الحق مِنْ عِندِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً} ولم يقولوا: إن كان هذا هو الحق فاهدنا له. اللام لتأكيد النفي، والدلالة على أنّ تعذيبهم وأنت بين أظهرهم غير مستقيم في الحكمة؛ لأن عادة الله وقضية حكمته أن لا يعذب قوماً عذاب استئصال ما دام نبيهم بين أظهرهم وفيه إشعار بأنهم مرصودون بالعذاب إذا هاجر عنهم. والدليل على هذا الإشعار قوله: {وَمَا لَهُمْ أَلاَّ يُعَذّبَهُمُ الله} وإنما يصح هذا بعد إثبات التعذيب، كأنه قال: وما كان الله ليعذبهم وأنت فيهم، وهو معذبهم إذا فارقتهم، وما لهم أن لا يعذبهم {وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ} في موضع الحال.
ومعناه نفي الاستغفار عنهم: أي ولو كانوا ممن يؤمن ويستغفر من الكفر لما عذبهم، كقوله: {وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ القرى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ} [هود: 117] ولكنهم لا يؤمنون ولا يستغفرون، ولا يتوقع ذلك منهم.
وقيل معناه وما كان الله معذبهم وفيهم من يستغفر، وهم المسلمون بين أظهرهم ممن تخلف عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من المستضعفين، {وَمَا لَهُمْ أَن لا يُعَذّبْهُمُ الله} وأي شيء لهم في انتفاء العذاب عنهم، يعني: لا حظّ لهم في ذلك وهم معذبون لا محالة. وكيف لا يعذبون وحالهم أنهم يصدّون عن المسجد الحرام كما صدّوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عام الحديبية، وإخراجهم رسول الله صلى الله عليه وسلم والمؤمنين من الصدّ، وكانوا يقولون: نحن ولاة البيت والحرم فنصدّ من نشاء وندخل من نشاء {مَا كَانُواْ أَوْلِيَاءهُ} وما استحقوا مع إشراكهم وعداوتهم للدين أن يكونوا ولاة أمره وأربابه {إِنْ أَوْلِيَاؤُهُ إِلاَّ المتقون} من المسلمين ليس كل مسلم أيضاً ممن يصلح لأن يلي أمره، إنما يستأهل ولايته من كان براً تقياً، فكيف بالكفرة عبدة الأصنام {ولكن أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ} كأنه استثنى من كان يعلم وهو يعاند ويطلب الرياسة. أو أراد بالأكثر: الجميع، كما يراد بالقلة: العدم.