فصل: تفسير الآية رقم (37):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الكشاف عن حقائق التنزيل وعيون الأقاويل في وجوه التأويل



.تفسير الآية رقم (36):

{إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلَا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ (36)}
{فِى كتاب الله} فيما أثبته وأوجبه من حكمه ورآه حكمة وصواباً.
وقيل في اللوح: {أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ} ثلاثة سرد: ذو القعدة وذو الحجة والمحرّم، وواحد فرد وهو رجب. ومنه قوله عليه السلام في خطبته في حجة الوداع: «ألا إنَّ الزمان قد استدار كهيئة يوم خلق السموات والأرض» والسنة اثنا عشر شهراً: منها أربعة حرم، ثلاث متواليات: ذو القعدة وذو الحجة، والمحرّم. ورجب مضر الذي بين جمادى وشعبان. والمعنى: رجعت الأشهر إلى ما كانت عليه، وعاد الحج في ذي الحجّة، وبطل النسيء الذي كان في الجاهلية، وقد وافقت حجّة الوداع ذا الحجّة، وكان حجّة أبي بكر رضي الله عنه قبلها في ذي القعدة {ذلك الدين القيم} يعني أنّ تحريم الأشهر الأربعة هو الدين المستقيم، دين إبراهيم وإسماعيل، وكانت العرب قد تمسكت به وراثة منهما، وكانوا يعظمون الأشهر الحرم ويحرّمون القتال فيها، حتى لو لقي الرجل قاتل أبيه أو أخيه لم يهجه، وسموا رجباً: الأصم ومنصل الأسنة، حتى أحدثت النسيء فغيروا {فَلاَ تَظْلِمُواْ فِيهِنَّ} في الحرم {أَنفُسَكُمْ} أي لا تجعلوا حرامها حلالاً.
وعن عطاء: تالله ما يحلّ للناس أن يغزوا في الحرم ولا في الأشهر الحرم إلاّ أن يقاتلوا، وما نسخت، وعن عطاء الخراساني رضي الله عنه: أحلّت القتال في الأشهر الحرم براءة من الله ورسوله. وقيل: معناه لا تأتموا فيهن، بياناً لعظم حرمتهن، كما عظم أشهر الحجّ بقوله تعالى: {فَمَن فَرَضَ فِيهِنَّ الحج فَلاَ رَفَثَ وَلاَ فُسُوقَ} الآية [البقرة: 197] وإن كان ذلك محرّماً في سائر الشهور {كَآفَّةً} حال من الفاعل أو المفعول {مَعَ المتقين} ناصر لهم، حثّهم على التقوى بضمان النصر لأهلها.

.تفسير الآية رقم (37):

{إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُحِلُّونَهُ عَامًا وَيُحَرِّمُونَهُ عَامًا لِيُوَاطِئُوا عِدَّةَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ فَيُحِلُّوا مَا حَرَّمَ اللَّهُ زُيِّنَ لَهُمْ سُوءُ أَعْمَالِهِمْ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ (37)}
والنسيء: تأخير حرمة الشهر إلى شهر آخر، وذلك أنهم كانوا أصحاب حروب وغارات، فإذا جاء الشهر الحرام وهم محاربون شقّ عليهم ترك المحاربة، فيحلّونه ويحرّمون مكانه شهر آخر، حتى رفضوا تخصيص الأشهر الحرم بالتحريم، فكانوا يحرّمون من شقّ شهور العام أربعة أشهر وذلك قوله تعالى: {لّيُوَاطِئُواْ عِدَّةَ مَا حَرَّمَ الله} أي ليوافقوا العدّة التي هي الأربعة ولا يخالفوها وقد خالفوا التخصيص الذي هو أحد الواجبين. وربما زادوا في عدد الشهور فيجعلونها ثلاثة عشر أو أربعة عشر ليتسع لهم الوقت. ولذلك قال عزّ وعلا {إِنَّ عِدَّةَ الشهور عِندَ الله اثنا عَشَرَ شَهْرا} [التوبة: 36] يعني من غير زيادة زادوها. والضمير في: يحلونه، ويحرّمونه للنسيء. أي إذا أحلّوا شهراً من الأشهر الحرم عاماً، رجعوا فحرّموه في العام القابل، وروي: أنه حدث ذلك في كنانة لأنهم كانوا فقراء محاويج إلى الغارة، وكان جنادة بن عوف الكناني مطاعاً في الجاهلية، وكان يقوم على جمل في الموسم فيقول بأعلى صوته: إنّ آلهتكم قد أحلّت لكم المحرم فأحلوه، ثم يقوم في القابل فيقول: إنّ آلهتكم قد حرمت عليكم المحرم فحرموه. جعل النسيء زيادة في الكفر، لأن الكافر كلما أحدث معصية ازداد كفراً، {فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إلى رِجْسِهِمْ} [التوبة: 125]، كما أن المؤمن إذا أحدث الطاعة ازداد إيماناً {فَزَادَتْهُمْ إيمانا وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ} [التوبة: 124]. وقرئ: {يُضِل} على البناء للمفعول، و {يَضَل} بفتح الياء والضاد، و{يُضَلُّ} على أن الفعل لله عزّ وجلّ.
وقرأ الزهري: {ليوطئوا} بالتشديد. والنسيء مصدر نسأه إذا أخره. يقال نسأه ونسأ ونساء ونسيئاً، كقولك: مسه مساً ومساساً ومسيساً. وقرئ بهنّ جميعاً. وقرئ: {النَسَى} بوزن الندى. و {النِسي} بوزن النهي، وهما تخفيف النسيء والنسء.
فإن قلت: ما معنى قوله: {فَيُحِلُّواْ مَا حَرَّمَ الله}؟ قلت: معناه فيحلوا بمواطأة العدة وحدها من غير تخصيص ما حرّم الله من القتال، أو من ترك الاختصاص للأشهر بعينها {زُيّنَ لَهُمْ سُوء أعمالهم} خذلهم الله فحسبوا أعمالهم القبيحة حسنة {والله لاَ يَهْدِى} أي لا يلطف بهم بل يخذلهم. وقرئ: {زين لهم سوء أعمالهم} على البناء للفاعل، وهو الله عزّ وجلّ.

.تفسير الآيات (38- 41):

{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الْآَخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الْآَخِرَةِ إِلَّا قَلِيلٌ (38) إِلَّا تَنْفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا وَيَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ وَلَا تَضُرُّوهُ شَيْئًا وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (39) إِلَّا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (40) انْفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالًا وَجَاهِدُوا بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (41)}
{اثاقلتم} تثاقلتم. وبه قرأ الأعمش، أي تباطأتم وتقاعستم. وضمن معنى الميل والإخلاد فعدي بإلى. والمعنى: ملتم إلى الدنيا وشهواتها وكرهتم مشاق السفر ومتاعبه، ونحوه: {أَخْلَدَ إِلَى الأرض واتبع هَوَاهُ} [الأعراف: 176] وقيل: ملتم إلى الإقامة بأرضكم ودياركم. وقرئ: {أثاقلتم}؟ على الاستفهام الذي معناه الإنكار والتوبيخ.
فإن قلت: فما العامل في (إذا) وحرف الاستفهام مانعة أن يعمل فيه؟ قلت: ما دلّ عليه قوله: {اثاقلتم} أو ما في {مَالَكُمْ} من معنى الفعل، كأنه قيل: ما تصنعون إذا قيل لكم كما تعمله في الحال إذا قلت: مالك قائماً، وكان ذلك في غزوة تبوك في سنة عشر بعد رجوعهم من الطائف. استتفروا في وقت عسرة وقحط وقيظ مع بعد الشقة وكثرة العدو، فشقّ عليهم. وقيل: ما خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة إلاّ ورّى عنها بغيرها إلاّ في غزوة تبوك ليستعدّ الناس تمام العدة {مِنَ الاخرة} أي بدل الآخرة كقوله: لَجَعَلْنَا مِنكُمْ ملائكة [الزخرف: 60]. {فِى الآخرة} في جنب الآخرة {إِلاَّ تَنفِرُواْ} سخط عظيم على المتثاقلين حيث أوعدهم بعذاب أليم مطلق يتناول عذاب الدارين، وأنه يهلكهم ويستبدل بهم قوماً آخرين خيراً منهم وأطوع، وأنه غني عنهم في نصرة دينه، لا يقدح تثاقلهم فيها شيئاً: وقيل: الضمير للرسول: أي ولا تضروه، لأنّ الله وعده أن يعصمه من الناس وأن ينصره، ووعد الله كائن لا محالة، وقيل: يريد بقوله: {قَوْماً غَيْرَكُمْ} [التوبة: 39] أهل اليمن. وقيل: أبناء فارس، والظاهر مستغن عن التخصيص.
فإن قلت: كيف يكون قوله: {فَقَدْ نَصَرَهُ الله} جواباً للشرط؟ قلت: فيه وجهان أحدهما: إلاّ تنصروه فسينصره من نصره حين لم يكن معه إلاّ رجل واحد ولا أقل من الواحد، فدلّ بقوله: {فَقَدْ نَصَرَهُ الله} على أنه ينصره في المستقبل، كما نصره في ذلك الوقت.
والثاني: أنه أوجب له النصرة وجعله منصوراً في ذلك الوقت، فلن يخذل من بعده. وأسند الإخراج إلى الكفار كما أسند إليهم في قوله: {مّن قَرْيَتِكَ التى أَخْرَجَتْكَ} [محمد: 13] لأنهم حين هموا بإخراجه أذن الله له في الخروج فكأنهم أخرجوه {ثَانِيَ اثنين} أحد اثنين، كقوله: {ثالث ثلاثة} وهما رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر الصديق رضي الله عنه. يروى: (أنّ جبريل عليه السلام لما أمره بالخروج قال: من يخرج معي؟ قال: أبو بكر) وانتصابه على الحال. وقرئ: {ثاني اثنين} بالسكون و{إِذْ هُمَا} بدل من إذ أخرجه. والغار: ثقب في أعلى ثور، وهو جبل في يمين مكة على مسيرة ساعة، مكثا فيه ثلاثاً {إِذْ يَقُولُ} بدل ثان.
وقيل: طلع المشركون فوق الغار فأشفق أبو بكر رضي الله عنه على رسول الله صلى الله تعالى عليه وعلى آله وسلم فقال: إن تصب اليوم ذهب دين الله، فقال عليه الصلاة والسلام: «ما ظنك باثنين الله ثالثهما» وقيل: لما دخلا الغار بعث الله تعالى حمامتين فباضتا في أسفله، والعنكبوت فنسجت عليه. وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «اللَّهم أعم أبصارهم» فجعلوا يتردّدون حول الغار ولا يفطنون. وقد أخذ الله بأبصارهم عنه. وقالوا: من أنكر صحبة أبي بكر رضي الله عنه فقد كفر، لإنكاره كلام الله، وليس ذلك لسائر الصحابة {سَكِينَتَهُ} ما ألقى في قلبه من الأمنة، التي سكن عندها وعلم أنهم لا يصلون إليه، والجنود الملائكة يوم بدر، والأحزاب وحنين. وكلمة الذين كفروا: دعوتهم إلى الكفر {وَكَلِمَةُ الله} دعوته إلى الإسلام. وقرئ: {كلمة الله} بالنصب، والرفع أوجه و{هِىَ} فصل أو مبتدأ، وفيها تأكيد فضل كلمة الله في العلوّ، وأنها المختصة به دون سائر الكلم {خِفَافًا وَثِقَالاً} خفافاً في النفور لنشاطكم له، وثقالاً عنه لمشقته عليكم، أو خفافاً لقلة عيالكم وأذيالكم، وثقالاً لكثرتها. أو خفافاً من السلاح وثقالاً منه. أو ركباناً ومشاة. أو شباباً وشيوخاً. أو مهازيل وسماناً. أو صحاحاً ومراضاً.
وعن ابن أمّ مكتوم أنه قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم: أعليّ أن أنفر؟ قال: نعم، حتى نزل قوله: {لَّيْسَ عَلَى الأعمى حَرَجٌ} [النور: 61].
وعن ابن عباس: نسخت بقوله: {لَّيْسَ عَلَى الضعفاء وَلاَ على المرضى} [التوبة: 91] وعن صفوان بن عمرو: كنت والياً على حمص، فلقيت شيخاً كبيراً قد سقط حاجباه من أهل دمشق على راحلته يريد الغزو. فقلت: يا عمّ لقد أعذر الله إليك فرفع حاجبيه وقال: يا ابن أخي استنفرنا الله خفافاً وثقالاً، إلا أنه من يحبه الله يبتله.
وعن الزهري: خرج سعيد بن المسيب إلى الغزو، وقد ذهبت إحدى عينيه، فقيل له: إنك عليل صاحب ضرر، فقال: استنفرنا الله الخفيف والثقيل، فإن لم يمكنّي الحرب كثرت السواد وحفظت المتاع {وجاهدوا بأموالكم وَأَنفُسِكُمْ} إيجاب للجهاد بهما إن أمكن، أو بأحدهما على حسب الحال والحاجة.

.تفسير الآية رقم (42):

{لَوْ كَانَ عَرَضًا قَرِيبًا وَسَفَرًا قَاصِدًا لَاتَّبَعُوكَ وَلَكِنْ بَعُدَتْ عَلَيْهِمُ الشُّقَّةُ وَسَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَوِ اسْتَطَعْنَا لَخَرَجْنَا مَعَكُمْ يُهْلِكُونَ أَنْفُسَهُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ (42)}
العرض: ما عرض لك من منافع الدنيا. يقال: الدنيا عرض حاضر يأكل منه البر والفاجر، أي لو كان ما دعوا إليه غنماً قريباً سهل المنال {وَسَفَرًا قَاصِدًا} وسطاً مقارباً {الشقة} المسافة الشاقّة.
وقرأ عيسى بن عمر: {بعدت عليهم الشقة} بكسر العين والشين ومنه قوله:
يَقُولُونَ لاَ تَبْعُدْ وَهُمْ يَدْفِنُونَه ** وَلاَ بُعْدَ إلاَّ مَا تُوَارِي الصَّفَائِحُ

{بالله} متعلق بسيحلفون، أو هو من جملة كلامهم. والقول مراد في الوجهين، أي سيحلفون بعني المتخلفين عند رجوعك من غزوة تبوك معتذرين يقولون بالله {لَوِ استطعنا لَخَرَجْنَا مَعَكُمْ} أو سيحلفون بالله ويقولون: لو استطعنا، وقوله: {لَخَرَجْنَا} سدّ مسدّ جوابي القسم ولو جميعاً، والإخبار بما سوف يكون بعد القفول من حلفهم واعتذارهم. وقد كان من جملة المعجزات. ومعنى الاستطاعة: استطاعة العدّة، أو استطاعة الأبدان، كأنهم تمارضوا. وقرئ: {لو استطعنا}، بضم الواو تشبيهاً لها بواو الجمع في قوله: {فَتَمَنَّوُاْ الموت} [البقرة: 94]. {يُهْلِكُونَ أَنفُسَهُمْ} إما أن يكون بدلاً من سيحلفون، أو حالاً بمعنى مهلكين. والمعنى: أنهم يوقعونها في الهلاك بحلفهم الكاذب وما يحلفون عليه من التخلف. ويحتمل أن يكون حالاً من قوله: {لَخَرَجْنَا} أي لخرجنا معكم، وإن أهلكنا أنفسنا وألقيناها في التهلكة بما نحملها من المسير في تلك الشقة. وجاء به على لفظ الغائب، لأنه مخبر عنهم. ألا ترى أنه لو قيل: سيحلفون بالله لو استطاعوا لخرجوا، لكان سديداً، يقال: حلف بالله ليفعلنّ ولأفعلنّ، فالغيبة على حكم الإخبار، والتكلم على الحكاية.

.تفسير الآية رقم (43):

{عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَتَعْلَمَ الْكَاذِبِينَ (43)}
{عَفَا الله عَنكَ} كناية عن الجناية، لأن العفو رادف لها. ومعناه: أخطأت وبئس ما فعلت. و{لِمَ أَذِنتَ لَهُمْ} بيان لما كنى عنه بالعفو. ومعناه: مالك أذنت لهم في القعود عن الغزو حين استأذنوك واعتلوا لك بعللهم وهلاّ استأنيت بالإذن {حتى يَتَبَيَّنَ لَكَ} من صدق في عذره ممن كذب فيه. وقيل: شيئان فعلهما رسول الله ولم يؤمر بهما: إذنه للمنافقين وأخذه من الأسارى فعاتبه الله تعالى.

.تفسير الآية رقم (44):

{لَا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ أَنْ يُجَاهِدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ (44)}
{لاَ يَسْتَأْذِنُكَ} ليس من عادة المؤمنين أن يستأذنوك في أن يجاهدوا، وكان الخلص من المهاجرين والأنصار يقولون: لا نستأذن النبي أبداً، ولنجاهدنّ أبداً معه بأموالنا وأنفسنا. ومعنى {أَن يجاهدوا} في أن يجاهدوا أو كراهة أن يجاهدوا {والله عَلِيمٌ بالمتقين} شهادة لهم بالانتظام في زمرة المتقين، وعدة لهم بأجزل الثواب.