فصل: تفسير الآية رقم (45):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الكشاف عن حقائق التنزيل وعيون الأقاويل في وجوه التأويل



.تفسير الآية رقم (42):

{اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الْأُخْرَى إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (42)}
{الأنفس} الجمل كما هي. وتوفيها: إماتتها، وهو أن تسلب ما هي به حية حساسة درّاكة: من صحة أجزائها وسلامتها؛ لأنها عند سلب الصحة كأن ذاتها قد سلبت {والتى لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا} يريد ويتوفي الأنفس التي لم تمت في منامها، أي: يتوفاها حين تنام، تشبيهاً للنائمين بالموتى. ومنه قوله تعالى: {وَهُوَ الذى يتوفاكم باليل} [الأنعام: 6] حيث لا يميزون ولا يتصرفون، كما أنّ الموتى كذلك {فَيُمْسِكُ} الأنفس {التى قضى عَلَيْهَا الموت} الحقيقي، أي: لا يردّها في وقتها حية {وَيُرْسِلُ الأخرى} النائمة إلى أجل مسمى إلى وقت ضربه لموتها. وقيل: يتوفى الأنفس يستوفيها ويقضيها، وهي الأنفس التي تكون معها الحياة والحركة، ويتوفى الأنفس التي لم تمت في منامها، وهي أنفس التمييز. قالوا: فالتي تتوفى في النوم هي نفس التمييز لا نفس الحياة؛ لأنّ نفس الحياة إذا زالت زال معها النفس، والنائم يتنفس. ورووا عن ابن عباس رضي الله عنهما: في ابن آدم نفس وروح بينهما مثل شعاع الشمس، فالنفس التي بها العقل والتمييز والروح التي بها النفس والتحرك، فإذا نام العبد قبض الله نفسه ولم يقبض روحه والصحيح ما ذكرت أوّلاً، لأنّ الله عزّ وعلا علق التوفي والموت والمنام جميعاً بالأنفس، وما عنوا بنفس الحياة والحركة ونفس العقل والتمييز غير متصف بالموت والنوم، وإنما الجملة هي التي تموت وهي التي تنام {إِنَّ فِي ذَلِكَ} إنّ في توفي الأنفس مائتة ونائمة وإمساكها وإرسالها إلى أجل لآيات على قدرة الله وعلمه لقوم يتفكرون، لقوم يجيلون فيه أفكارهم ويعتبرون. وقرئ: {قُضِيَ عليها الموتُ} على البناء للمفعول.

.تفسير الآيات (43- 44):

{أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ شُفَعَاءَ قُلْ أَوَلَوْ كَانُوا لَا يَمْلِكُونَ شَيْئًا وَلَا يَعْقِلُونَ (43) قُلْ لِلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعًا لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (44)}
{أَمِ اتخذوا} بل اتخذ قريش، والهمزة للإنكار {مِن دُونِ الله} من دون إذنه {شُفَعَاء} حين قالوا: {هَؤُلاء شفعاؤنا عِندَ الله} [يونس: 18] ولا يشفع عنده أحد إلا بإذنه. ألا ترى إلى قوله تعالى {قُل لِلَّهِ الشفاعة جَمِيعاً} أي: هو مالكها، فلا يستطيع أحد شفاعة إلاّ بشرطين: أن يكون المشفوع له مرتضى، وأن يكون الشفيع مأذوناً له. وههنا الشرطان مفقودان جميعاً {أَوَلَوْ كَانُواْ} معناه: أيشفعون ولو كانوا {لاَ يَمْلِكُونَ شَيْئاً وَلاَ يَعْقِلُونَ} أي: ولو كانوا على هذه الصفة لا يملكون شيئاً قطّ، حتى يملكوا الشفاعة ولا عقل لهم {لَّهُ مُلْكُ السماوات والأرض} تقرير لقوله تعالى: {لِلَّهِ الشفاعة جَمِيعاً} لأنه إذا كان له الملك كله والشفاعة من الملك، كان مالكاً لها.
فإن قلت: بم يتصل قوله: {ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ}؟ قلت: بما يليه، معناه: له ملك السموات والأرض اليوم ثم إليه ترجعون يوم القيامة، فلا يكون الملك في ذلك اليوم إلاّ له. فله ملك الدنيا والآخرة.

.تفسير الآية رقم (45):

{وَإِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآَخِرَةِ وَإِذَا ذُكِرَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ (45)}
مدار المعنى على قوله {وحده}، أي: إذا أفرد الله بالذكر ولم يذكر معه آلهتهم اشمأزوا، أي: نفروا وانقبضوا {وَإِذَا ذُكِرَ الذين مِن دُونِهِ} وهم آلهتهم ذكر الله معهم أو لم يذكر استبشروا، لافتتانهم بها ونسيانهم حق الله إلى هواهم فيها. وقيل: إذا قيل لا إله إلا الله وحده لا شريك له نفروا؛ لأنّ فيه نفياً لآلهتهم. وقيل: أراد استبشارهم بما سبق إليه لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم من ذكر آلهتهم حين قرأ (والنجم) عند باب الكعبة، فسجدوا معه لفرحهم، ولقد تقابل الاستبشار والاشمئزاز؛ إذ كل واحد منهما غاية في بابه؛ لأنّ الاستبشار أن يمتلئ قلبه سروراً حتى تنبسط له بشرة وجهه ويتهلّل. والاشمئزاز: أن يمتلئ غماً وغيظاً حتى يظهر الانقباض في أديم وجهه.
فإن قلت: ما العامل في {إِذَا ذُكِرَ}؟ قلت: العامل في إذا المفاجأة، تقديره وقت ذكر الذين من دونه، فاجأوا وقت الاستبشار.

.تفسير الآية رقم (46):

{قُلِ اللَّهُمَّ فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ عَالِمَ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ أَنْتَ تَحْكُمُ بَيْنَ عِبَادِكَ فِي مَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (46)}
بَعِل رسول الله صلى الله عليه وسلم بهم، وبشدة شكيمتهم في الكفر والعناد، فقيل له: ادع الله بأسمائه العظمى، وقل: أنت وحدك تقدر على الحكم بيني وبينهم، ولا حيلة لغيرك فيهم. وفيه وصف لحالهم وإعذار لرسول الله صلى الله عليه وسلم وتسلية له ووعيد لهم.
وعن الربيع بن خثيم وكان قليل الكلام. أنه أخبر بقتل الحسين- رضي الله عنه، وسخط على قاتله- وقالوا: الآن يتكلم، فما زاد على أن قال: آه أو قد فعلوا؟ وقرأ هذه الآية. وروى أنه قال على أثره: قتل من كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يجلسه في حجره ويضع فاه على فيه.

.تفسير الآيات (47- 48):

{وَلَوْ أَنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا وَمِثْلَهُ مَعَهُ لَافْتَدَوْا بِهِ مِنْ سُوءِ الْعَذَابِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَبَدَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مَا لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ (47) وَبَدَا لَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا كَسَبُوا وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (48)}
{وَبَدَا لَهُمْ مّنَ الله} وعيد لهم لا كنه لفظاعته وشدّته، وهو نظير قوله تعالى في الوعد: {فَلاَ تَعْلَمُ نَفْسٌ ما أُخْفِىَ لَهُم} [السجدة: 17] والمعنى: وظهر لهم من سخط الله وعذابه ما لم يكن قط في حسابهم ولم يحدثوا به نفوسهم. وقيل: عملوا أعمالاً حسبوها حسنات، فإذا هي سيئات.
وعن سفيان الثوري أنه قرأها فقال: ويل لأهل الرياء، ويل لأهل الرياء. وجزع محمد بن المنكدر عند موته فقيل له، فقال: أخشى آية من كتاب الله، وتلاها، فأنا أخشى أن يبدو لي من الله ما لم أحتسبه {وَبَدَا لَهُمْ سَيّئَاتُ مَا كَسَبُواْ} أي سيئات أعمالهم التي كسبوها. أو سيئات كسبهم، حين تعرض صحائفهم، وكانت خافية عليهم، كقوله تعالى: {أحصاه الله وَنَسُوهُ} [المجادلة: 6] وأراد بالسيئات: أنواع العذاب التي يجازون بها على ما كسبوا، فسماها سيئات، كما قال: {وَجَزَاء سَيّئَةٍ سَيّئَةٌ مّثْلُهَا} [الشورى: 40] {وَحَاقَ بِهِم} ونزل بهم وأحاط جزاء هزئهم.

.تفسير الآية رقم (49):

{فَإِذَا مَسَّ الْإِنْسَانَ ضُرٌّ دَعَانَا ثُمَّ إِذَا خَوَّلْنَاهُ نِعْمَةً مِنَّا قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ بَلْ هِيَ فِتْنَةٌ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (49)}
التخويل: مختص بالتفضل. ويقال: خولني، إذا أعطاك على غير جزاء {على عِلْمٍ} أي على علم مني أني سأعطاه، لما فيّ من فضل واستحقاق. أو على علم من الله بي وباستحقاقي أو على علم مني بوجوه الكسب، كما قال قارون: {على علم عندي} [القصص: 78].
فإن قلت: لم ذكر الضمير في {أُوتِيتُهُ} وهو للنعمة؟ قلت: ذهاباً به إلى المعنى؛ لأنّ قوله: {نِعْمَةً مّنَّا} شيئاً من النعم وقسماً منها. ويحتمل أن تكون (ما) في إنما موصولة لا كافة، فيرجع إليها المضير. على معنى: أن الذي أوتيته على علم {بَلْ هِىَ فِتْنَةٌ} إنكار لقوله كأنه قال: ما خوّلناك من خولناك من النعمة لما تقول، بل هي فتنة، أي: ابتلاء وامتحان لك، أتشكر أم تكفر؟ فإن قلت: كيف ذكر الضمير ثم أنثه؟ قلت: حملاً على المعنى أوّلاً، وعلى اللفظ آخراً؛ ولأنّ الخبر لما كان مؤنثاً أعني {فِتْنَةً}: ساغ تأنيث المبتدأ لأجله لأنه في معناه، كقولهم: ما جاءت حاجتك. وقرئ: {بل هو فتنة}على وفق {إِنَّمَا أُوتِيتُهُ}.
فإن قلت: ما السبب في عطف هذه الآية بالفاء وعطف مثلها في أوّل السورة بالواو؟ قلت: السبب في ذلك أنّ هذه وقعت مسببة عن قوله: {وَإِذَا ذُكِرَ الله وَحْدَهُ اشمأزت} [الزمر: 45] على معنى أنهم يشمئزون عن ذكر الله ويستبشرون بذكر الآلهة، فإذا مسّ أحدهم ضرّ دعا من اشمأزّ من ذكره، دون من استبشر بذكره، وما بينهما من الآي اعتراض.
فإن قلت: حق الاعتراض أن يؤكد المعترض بينه وبينه.
قلت: ما في الاعتراض من دعاء رسول الله صلى الله عليه وسلم ربه بأمر منه وقوله: أَنتَ تَحْكُمُ بَيْنَ عبادك ثم ما عقبه من الوعيد العظيم: تأكيد لإنكار اشمئزازهم واستبشارهم ورجوعهم إلى الله في الشدائد دون آلهتهم، كأنه قيل: يا رب لا يحكم بيني وبين هؤلاء الذين يجترؤن عليك مثل هذه الجراءة، ويرتكبون مثل هذا المنكر إلا أنت. وقوله: {وَلَوْ أَنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُواْ} [الزمر: 47] متناول لهم ولكل ظالم إن جعل مطلقاً، وإياهم خاصة إن عنيتهم به، كأنه قيل: ولو أنّ لهؤلاء الظالمين ما في الأرض جميعاً ومثله معه لافتدوا به. حين أحكم عليهم بسوء العذاب، وهذه الأسرار والنكت لا يبرزها إلا علم النظم، وإلا بقيت محتجبة في أكمامها. وأما الآية الأولى فلم تقع مسببة وما هي إلاّ جملة ناسبت جملة قبلها فعطفت عليها بالواو، كقولك: قام زيد وقعد عمرو.
فإن قلت: من أي وجه وقعت مسببة؟ والاشمئزاز عن ذكر الله ليس بمقتض لالتجائهم إليه، بل هو مقتض لصدوفهم عنه.
قلت: في هذا التسبيب لطف، وبيانه أنك تقول: زيد مؤمن بالله، فإذا مسّه ضرّ التجأ إليه، فهذا تسبيب ظاهر لا لبس فيه، ثم تقول: زيد كافر بالله، فإذا مسّه ضرّ التجأ إليه، فتجيء بالفاء مجيئك به ثمة، كأنّ الكافر حين التجأ إلى الله التجاء المؤمن إليه، مقيم كفره مقام الإيمان، ومجريه مجراه في جعله سبباً في الالتجاء، فأنت تحكي ما عكس فيه الكافر. ألا ترى أنك تقصد بهذا الكلام الإنكار والتعجب من فعله.؟

.تفسير الآيات (50- 52):

{قَدْ قَالَهَا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (50) فَأَصَابَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا كَسَبُوا وَالَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْ هَؤُلَاءِ سَيُصِيبُهُمْ سَيِّئَاتُ مَا كَسَبُوا وَمَا هُمْ بِمُعْجِزِينَ (51) أَوَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (52)}
الضمير في {قَالَهَا} راجع إلى قوله: {إِنَّمَا أُوتِيتُهُ على عِلْمٍ} لأنها كلمة أو جملة من القول. وقرئ: {قد قاله} على معنى القول والكلام، وذلك والذين من قبلهم: هم قارون وقومه، حيث قال: {إنما أوتيته على علم عندي} [القصص: 78] وقومه راضون بها، فكأنهم قالوها. ويجوز أن يكون في الأمم الخالية آخرون قائلون مثلها {فَمَآ أغنى عَنْهُمْ مَّا كَانُواْ يَكْسِبُونَ} من متاع الدنيا ويجمعون منه {مِنْ ها ا ؤلا ءِ} من مشركي قومك {سَيُصِيبُهُمْ} مثل ما أصاب أولئك، فقتل صناديدهم ببدر، وحبس عنهم الرزق، فقحطوا سبع سنين، ثم بسط لهم فمطروا سبع سنين، فقيل لهم: {أَوَلَمْ يعلموا اْ} أنه لا قابض ولا باسط إلاّ الله عزّ وجلّ.

.تفسير الآية رقم (53):

{قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (53)}
{أَسْرَفُواْ على أَنفُسِهِمْ} جنوا عليها بالإسراف في المعاصي والغلوّ فيها {لاَ تَقْنَطُواْ} قرئ: بفتح النون وكسرها وضمها {إِنَّ الله يَغْفِرُ الذنوب جَمِيعاً} يعني بشرط التوبة، وقد تكرّر ذكر هذا الشرط في القرآن، فكان ذكره فيما ذكر فيه ذكراً له فيما لم يذكر فيه؛ لأنّ القرآن في حكم كلام واحد، ولا يجوز فيه التناقض. وفي قراءة ابن عباس وابن مسعود: {يغفر الذنوب جميعاً لمن يشاء}. والمراد بمن يشاء: من تاب؛ لأنّ مشيئة الله تابعة لحكمته وعدله، لا لملكه وجبروته. وقيل: في قراءة النبيّ صلى الله عليه وسلم وفاطمة رضي الله عنها: {يغفر الذنوب جميعاً ولا يبالي} ونظير نفي المبالاة نفي الخوف في قوله تعالى: {وَلاَ يَخَافُ عقباها} [الشمس: 15] وقيل: قال أهل مكة: يزعم محمد أنّ من عبد الأوثان وقتل النفس التي حرم الله لم يغفر له فكيف ولم نهاجر وقد عبدنا الأوثان وقتلنا النفس التي حرّم الله فنزلت. وروى أنه أسلم عياش بن أبي ربيعة والوليد ابن الوليد ونفر معهما، ثم فتنوا وعذبوا، فافتتنوا، فكنا نقول: لا يقبل الله لهم صرفاً ولا عدلاً أبداً، فنزلت. فكتب بها عمر رضي الله عنه إليهم، فأسلموا وهاجروا، وقيل: نزلت في وحشي قاتل حمزة رضي الله عنه.
وعن رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما أحب أنّ لي الدنيا وما فيها بهذه الآية» فقال رجل: يا رسول الله، ومن أشرك؟ فسكت ساعة ثم قال: «إلامن أشرك» ثلاث مرّات.

.تفسير الآيات (54- 59):

{وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ ثُمَّ لَا تُنْصَرُونَ (54) وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ بَغْتَةً وَأَنْتُمْ لَا تَشْعُرُونَ (55) أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يَا حَسْرَتَا عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ وَإِنْ كُنْتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ (56) أَوْ تَقُولَ لَوْ أَنَّ اللَّهَ هَدَانِي لَكُنْتُ مِنَ الْمُتَّقِينَ (57) أَوْ تَقُولَ حِينَ تَرَى الْعَذَابَ لَوْ أَنَّ لِي كَرَّةً فَأَكُونَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ (58) بَلَى قَدْ جَاءَتْكَ آَيَاتِي فَكَذَّبْتَ بِهَا وَاسْتَكْبَرْتَ وَكُنْتَ مِنَ الْكَافِرِينَ (59)}
{وَأَنِيبُواْ إلى رَبّكُمْ} وتوبوا إليه {وَأَسْلِمُواْ لَهُ} وأخلصوا له العمل، إنما ذكر الإنابة على أثر المغفرة لئلا يطمع طامع في حصولها بغير توبة، وللدلالة على أنها شرط فيها لازم لا تحصل بدونه {واتبعوا أَحْسَنَ مآ أُنزِلَ إِلَيْكُم مِّن رَّبِّكُم} مثل قوله: {الذين يَسْتَمِعُونَ القول فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ} [الزمر: 18]. {وَأَنتُمْ لاَ تَشْعُرُونَ} أي يفجؤكم وأنتم غافلون، كأنكم لا تخشون شيئاً لفرط غفلتكم وسهوكم {أَن تَقُولَ نَفْسٌ} كراهة أن تقول.
فإن قلت: لم نكرت؟ قلت: لأنّ المراد بها بعض الأنفس، وهي نفس الكافر. ويجوز أن يراد: نفس متميزة من الأنفس: إما بلجاج في الكفر شديد. أو بعذاب عظيم. ويجوز أن يراد التكثير، كما قال الأعشى:
وَرَبَّ بَقِيعٍ لَوْ هَتَفْتُ بِحَوِّهِ ** أَتَانِي كَرِيمٌ يَنْفُضُ الرَّأْسَ مُغْضَبَا

وهو يريد: أفواجاً من الكرام ينصرونه، لا كريماً واحداً. ونظيره: ربّ بلد قطعت، ورب بطل قارعت. وقد اختلس الطعنة ولا يقصد إلاّ التكثير. وقرئ: {يا حسرتي} على الأصل. ويا حسرتاي، على الجمع بين العوض والمعوّض منه. والجنب: الجانب، يقال: أنا في جنب فلان وجانبه وناحيته، وفلان لين الجنب والجانب، ثم قالوا: فرّط في جنبه وفي جانبه، يريدون في حقه. قال سابق البربري:
أَمَا تَتَّقِينَ اللَّهَ فِي جَنْبِ وَامِقٍ ** لَهُ كَبِدٌ حَرَّى عَلَيْكَ تَقَطَّعُ

وهذا من باب الكناية؛ لأنك إذا أثبت الأمر في مكان الرجل وحيزه، فقد أثبته فيه. ألا ترى إلى قوله:
إنَّ السَّمَاحَةَ وَالْمُرُوءَة وَالنَّدَى ** فِي قُبَّةٍ ضُرِبَتْ عَلَى ابْنِ الْحَشْرَجِ

ومنه قول الناس: لمكانك فعلت كذا، يريدون: لأجلك. وفي الحديث: «من الشرك الخفيّ أن يصلي الرجل لمكان الرجل» وكذلك: فعلت هذا من جهتك. فمن حيث لم يبق فرق فيما يرجع إلى أداء الغرض بين ذكر المكان وتركه، قيل: {فَرَّطَتُ فِي جَنبِ الله} على معنى: فرطتُ في ذات الله.
فإن قلت: فمرجع كلامك إلى أن ذكر الجنب كلا ذكر سوى ما يعطى من حسن الكناية وبلاغتها، فكأنه قيل: فرطت في الله. فما معنى فرطت في الله؟ قلت: لابد من تقدير مضاف محذوف، سواء ذكر الجنب أو لم يذكر. والمعنى: فرطت في طاعة الله وعبادة الله، وما أشبه ذلك. وفي حرف عبد الله وحفصة: في ذكر الله. (وما) في {ما فرطت} مصدرية مثلها في {بِمَا رَحُبَتْ} [التوبة: 25]، [التوبة: 118]، {وَإِن كُنتُ لَمِنَ الساخرين} قال قتادة: لم يكفه أن ضيع طاعة الله حتى سخر من أهلها، ومحل {وَإِن كُنتُ} على النصب على الحال، كأنه قال: فرطت وأنا ساخر، أي: فرطت في حال سخريتي. وروى: أنه كان في بني إسرائيل عالم ترك علمه وفسق.
وأتاه إبليس فقال له: تمتع من الدنيا ثم تب، فأطاعه، وكان له مال فأنفقه في الفجوز، فأتاه ملك الموت في ألذّ ما كان فقال: يا حسرتاه على ما فرطت في جنب الله، ذهب عمري في طاعة الشيطان، وأسخطت ربي فندم حين لم ينفعه الندم، فأنزل الله خبره في القرآن {لَوْ أَنَّ الله هدانى} لا يخلو: إما أن يريد به الهداية بالإلجاء أو بالإلطاف أو بالوحي، فالإلجاء خارج عن الحكمة، ولم يكن من أهل الإلطاف فليلطف به. وأما الوحي فقد كان، ولكنه عرض ولن يتبعه حتى يهتدي، وإنما يقول هذا تحيراً في أمره وتعللاً بما لا يجدي عليه، كما حكى عنهم التعلل بإغواء الرؤوساء والشياطين ونحو ذلك ونحوه {لَوْ هَدَانَا الله لَهَدَيْنَاكُمْ} [إبراهيم: 21] وقوله: {بلى قَدْ جَآءَتْكَ ءاياتى} ردّ من الله عليه، معناه: بلى قد هديت بالوحي فكذبت به واستكبرت عن قبوله، وآثرت الكفر على الإيمان، والضلالة على الهدى. وقرئ: بكسر التاء على مخاطبة النفس.
فإن قلت: فهلا قرن الجواب بما هو جواب له، وهو قوله: {لَوْ أَنَّ الله هدانى} ولم يفصل بينهما بآية؟ قلت: لأنه لا يخلو: إما أن يقدّم على أخرى القرائن الثلاث فيفرق بينهن. وإما أن تؤخر القرينة الوسطى، فلم يحسن الأوّل لما فيه من تبتير النظم بالجمع بين القرائن. وأما الثاني: فلما فيه من نقص الترتيب وهو التحسر على التفريط في الطاعة، ثم التعلل بفقد الهداية، ثم تمني الرجعة فكان الصواب ما جاء عليه، وهو أنه حكى أقوال النفس على ترتيبها ونظمها، ثم أجاب من بينها عما اقتضى الجواب.
فإن قلت: كيف صحّ أن تقع بلى جواباً لغير منفي؟ قلت: {لَوْ أَنَّ الله هدانى} فيه معنى: ما هُديت.