فصل: تفسير الآية رقم (48):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الكشاف عن حقائق التنزيل وعيون الأقاويل في وجوه التأويل



.تفسير الآية رقم (43):

{إِذْ يُرِيكَهُمُ اللَّهُ فِي مَنَامِكَ قَلِيلًا وَلَوْ أَرَاكَهُمْ كَثِيرًا لَفَشِلْتُمْ وَلَتَنَازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَلَكِنَّ اللَّهَ سَلَّمَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (43)}
{إِذْ يُرِيكَهُمُ الله} نصبه بإضمار اذكر. أو هو بدل ثان من يوم الفرقان، أو متعلق بقوله {لَسَمِيعٌ عَلِيمٌ} أي يعلم المصالح إذ يقللهم في عينك {فِى مَنَامِكَ} في رؤياك. وذلك أن الله عزّ وجل أراه في رؤياه قليلاً، فأخبر بذلك أصحابه فكان تثبيتاً لهم وتشجيعاً على عدوهم.
وعن الحسن: في منامك في عينك، لأنها مكان النوم، كما قيل للقطيفة: المنامة، لأنه ينام فيها. وهذا تفسير فيه تعسف، وما أحسب الرواية صحيحة فيه عن الحسن، وما يلائم عليه بكلام العرب وفصاحته {لَّفَشِلْتُمْ} لجبنتم وهبتم الإقدام {ولتنازعتم} في الرأي، وتفرقت فيما تصنعون كلمتكم، وترجحتم بين الثبات والفرار {ولكن الله سَلَّمَ} أي عصم وأنعم بالسلامة من الفشل والتنازع والاختلاف {إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصدور} يعلم ما سيكون فيها من الجراءة والجبن والصبر والجزع.

.تفسير الآية رقم (44):

{وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ إِذِ الْتَقَيْتُمْ فِي أَعْيُنِكُمْ قَلِيلًا وَيُقَلِّلُكُمْ فِي أَعْيُنِهِمْ لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْرًا كَانَ مَفْعُولًا وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (44)}
{وَإِذَا يُرِيكُمُوهُمْ} الضميران مفعولان. معنى: وإذ يبصركم إياهم. و{قَلِيلاً} نصب على الحال، وإنما قللهم في أعينهم تصديقاً لرؤية رسول الله صلى الله عليه وسلم، وليعاينوا ما أخبرهم به فيزداد يقينهم ويجدّوا ويثبتوا. قال ابن مسعود رضي الله عنه: لقد قللوا في أعيننا حتى قلت لرجل إلى جنبي: أتراهم سبعين؟ قال: أراهم مائة، فأسرنا رجلاً منهم فقلنا له: كم كنتم؟ قال: ألفاً {وَيُقَلّلُكُمْ فِي أَعْيُنِهِمْ} حتى قال قائل منهم: إنما هم أكلة جزور.
فإن قلت: الغرض في تقليل الكفار في أعين المؤمنين ظاهر، فما الغرض في تقليل المؤمنين في أعينهم؟ قلت: قد قللهم في أعينهم قبل اللقاء، ثم كثرهم فيها بعده ليجترؤا عليهم، قلة مبالاة بهم، ثم تفجؤهم الكثرة فيبهتوا ويهابوا، وتفل شوكتهم حين يرون ما لم يكن في حسابهم وتقديرهم، وذلك قوله: {يَرَوْنَهُمْ مّثْلَيْهِمْ رَأْىَ العين} [آل عمران: 13] ولئلا يستعدوا لهم، وليعظم الاحتجاج عليهم باستيضاح الآية البينة من قلتهم أوّلاً وكثرتهم آخراً.
فإن قلت: بأي طريق يبصرون الكثير قليلاً؟ قلت بأن يستر الله عنهم بعضه بساتر أو يحدث في عيونهم ما يستقلون به الكثير، كما أحدث في أعين الحول ما يرون به الواحد اثنين. قيل لبعضهم: إن الأحول يرى الواحد اثنين، وكان بين يديه ديك واحد فقال: مالي لا أرى هذين الديكين أربعة؟.

.تفسير الآيات (45- 46):

{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (45) وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ (46)}
{إذا لَقِيتُمْ فِئَةً} إذا حاربتم جماعة من الكفار، وترك أن يصفها لأن المؤمنين ما كانوا يلقون إلا الكفار. واللقاء اسم للقتال غالب {فاثبتوا} لقتالهم ولا تفرّوا {واذكروا الله كَثِيراً} في مواطن الحرب مستظهرين بذكره، مستنصرين به، داعين له على عدوكم: اللهم اخذلهم، اللهم اقطع دابرهم {لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} لعلكم تظفرون بمرادكم من النصرة والمثوبة. وفيه إشعار بأنّ على العبد أن لا يفتر عن ذكر ربه أشغل ما يكون قلباً وأكثر ما يكون هما، وأن تكون نفسه مجتمعة لذلك وإن كانت متوزعة عن غيره. وناهيك بما في خطب أمير المؤمنين عليه السلام في أيام صفين وفي مشاهده مع البغاة والخوارج- من البلاغة والبيان ولطائف المعاني، وبليغات المواعظ والنصائح- دليلاً على أنهم كانوا لا يشغلهم عن ذكر الله شاغل وإن تفاقم الأمر {وَلاَ تنازعوا} قرئ بتشديد التاء {فَتَفْشَلُواْ} منصوب بإضمار أن، أو مجزوم لدخوله في حكم النهي، وتدل على التقديرين قراءة من قرأ: {وتذهب ريحكم} بالتاء والنصب وقراءة من قرأ: {ويذهب ريحكم} بالياء والجزم والريح: الدولة، شبهت في نفوذ أمرها وتمشيه بالريح وهبوبها، فقيل: هبت رياح فلان إذا دالت له الدولة ونفذ أمره. ومنه قوله:
يَا صَاحِبَيَّ ألاَ لاَحَيَّ بِالْوَادِي ** إلاّ عبِيدٌ قُعُودٌ بَيْنَ أذوَاد

أتُنْظِرَانِ قَلِيلاً رَيْثَ غَفَلَتِهِم ** أمْ تَعْدُوَانِ فَإِنَّ الرِّيحَ لِلْعَادِي

وقيل: لم يكن نصر قط إلا بريح يبعثها الله تعالى. وفي الحديث: «نصرت بالصبا وأهلكت عاد بالدبور».

.تفسير الآية رقم (47):

{وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بَطَرًا وَرِئَاءَ النَّاسِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَاللَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ (47)}
حذرهم- بالنهي عن التنازع واختلاف الرأي- نحو ما وقع لهم بأحد لمخالفتهم رسول الله صلى الله عليه وسلم من فشلهم وذهاب ريحهم {كالذين خَرَجُواْ مِن ديارهم} هم أهل مكة حين خرجوا لحماية العير، فأتاهم رسول أبي سفيان وهم بالجحفة: أن ارجعوا فقد سلمت عيركم، فأبى أبو جهل وقال: حتى نقدم بدراً نشرب بها الخمور، وتعزف علينا القيان ونطعم بها من حضرنا من العرب. فذلك بطرهم ورئاؤهم الناس بإطعامهم، فوافوها، فسقوا كؤس المنايا مكان الخمر وناحت عليهم النوائح مكان القيان، فنهاهم أن يكونوا مثلهم بطرين طربين مرائين بأعمالهم، وأن يكونوا من أهل التقوى، والكآبة والحزن من خشية الله عز وجل، مخلصين أعمالهم لله.

.تفسير الآية رقم (48):

{وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ وَقَالَ لَا غَالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ النَّاسِ وَإِنِّي جَارٌ لَكُمْ فَلَمَّا تَرَاءَتِ الْفِئَتَانِ نَكَصَ عَلَى عَقِبَيْهِ وَقَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكُمْ إِنِّي أَرَى مَا لَا تَرَوْنَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ وَاللَّهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ (48)}
{و} اذكر {إِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشيطان أعمالهم} التي عملوها في معاداة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ووسوس إليهم أنهما لا يغلبون ولا يطاقون، وأوهمهم أن اتباع خطوات الشيطان وطاعته مما يجيرهم فلما تلاقى الفريقان نكص الشيطان وتبرأ منهم، أي بطل كيده حين نزلت جنود الله وكذا عن الحسن رحمه الله: كان ذلك على سبيل الوسوسة ولم يتمثل لهم. وقيل: لما اجتمعت قريش على السير ذكرت الذي بينها وبين بني كنانة من الحرب، فكان ذلك يثنيهم، فتمثل لهم إبليس في صورة سراقة بن مالك بن جعشم الشاعر الكناني- وكان من أشرافهم- في جند من الشياطين معه راية، وقال: لا غالب لكم اليوم، وإني مجيركم من بني كنانة. فلما رأى الملائكة تنزل، نكص وقيل: كانت يده في يد الحارث بن هشام، فلما نكص قال له الحارث: إلى أين؟ أتخذلنا في هذه الحال؟ فقال: إني أرى ما لا ترون، ودفع في صدر الحارث وانطلق، وانهزموا، فلما بلغوا مكة قالوا: هزم الناس سراقة، فبلغ ذلك سراقة فقال: والله ما شعرت بمسيركم حتى بلغتني هزيمتكم فلما أسلموا علموا أنه الشيطان. وفي الحديث: «وما رؤى إبليس يوماً أصغر ولا أدحر ولا أغيظ من يوم عرفة لما يرى من نزول الرحمة إلا ما رؤي يوم بدر» فإن قلت: هلا قيل لا غالباً لكم كما يقال: لا ضارباً زيداً عندنا؟ قلت: لو كان (لكم) مفعولاً لغالب، بمعنى: لا غالباً إياكم لكان الأمر كما قلت؛ لكنه خبر تقديره: لا غالب كائن لكم.

.تفسير الآية رقم (49):

{إِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ غَرَّ هَؤُلَاءِ دِينُهُمْ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (49)}
{إِذْ يَقُولُ المنافقون} بالمدينة {والذين فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ} يجوز أن يكون من صفة المنافقين، وأن يراد الذين هم على حرف ليسوا بثابتي الأقدام في الإسلام.
وعن الحسن: هم المشركون {غَرَّ هَؤُلاء دِينُهُمْ} يعنون أنّ المسلمين اغتروا بدينهم وأنهم يتقوّون به وينصرون من أجله، فخرجوا وهم ثلاثمائة وبضعة عشر إلى زهاء ألف، ثم قال جواباً لهم {وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى الله فَإِنَّ الله عَزِيزٌ} غالب يسلط القليل الضعيف على الكثير القوي.

.تفسير الآيات (50- 51):

{وَلَوْ تَرَى إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُوا الْمَلَائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ وَذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ (50) ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ (51)}
{وَلَوْ تَرَى} ولو عاينت وشاهدت؛ لأن (لو) تردّ المضارع إلى معنى الماضي؛ كما تردّ (إن) الماضي إلى معنى الاستقبال. و{إِذْ} نصب على الظرف وقرئ: {يتوفى} بالياء والتاء و{الملائكة} رفعها بالفعل و{يَضْرِبُونَ} حال منهم، ويجوز أن يكون في {يَتَوَفَّى} ضمير الله عز وجل، و{الملائكة} مرفوعة بالابتداء، و{يَضْرِبُونَ} خبر.
وعن مجاهد: وأدبارهم: استاههم، ولكن الله كريم يكنى، وإنما خصوهما بالضرب. لأنّ الخزي والنكال في ضربهما أشدّه، وبلغني عن أهل الصين أن عقوبة الزاني عندهم أن يصبر، ثم يعطي الرجل القوي البطش شيئاً عمل من حديد كهيئة الطبق فيه رزانة وله مقبض، فيضربه على دبره ضربه واحد بقوّته فيجمد في مكانه. وقيل: يضربون ما أقبل منهم وما أدبر {وَذُوقُواْ} معطوف على {يَضْرِبُونَ} على إرادة القول: أي ويقولون ذوقوا {عَذَابَ الحريق} أي مقدمة عذاب النار. أو وذوقوا عذاب الآخرة: بشارة لهم به. وقيل: كانت معهم مقامع من حديد، كلما ضربوا بها التهبت النار أو ويقال لهم يوم القيامة: ذوقوا. وجواب {لَوْ} محذوف: أي لرأيت أمراً فظيعاً منكراً {ذلك بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ} يحتمل أن يكون من كلام الله ومن كلام الملائكة، و{ذلك} رفع بالابتداء و{بِمَا قَدَّمَتْ} خبره {وَأَنَّ الله} عطف عليه، أي ذلك العذاب بسببين: بسبب كفركم ومعاصيكم وبأن الله {لَيْسَ بظلام لّلْعَبِيدِ} لأن تعذيب الكفار من العدل كإثابة المؤمنين. وقيل: ظلام للتكثير لأجل العبيد أو لأن العذاب من العظم بحيث لولا الاستحقاق لكان المعذب بمثله ظلاماً بليغ الظلم متفاقمه.

.تفسير الآيات (52- 54):

{كَدَأْبِ آَلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَفَرُوا بِآَيَاتِ اللَّهِ فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ شَدِيدُ الْعِقَابِ (52) ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّرًا نِعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (53) كَدَأْبِ آَلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذَّبُوا بِآَيَاتِ رَبِّهِمْ فَأَهْلَكْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَأَغْرَقْنَا آَلَ فِرْعَوْنَ وَكُلٌّ كَانُوا ظَالِمِينَ (54)}
الكاف في محل الرفع: أي دأب هؤلاء مثل دأب آل فرعون. ودأبهم: عادتهم وعملهم الذي دأبوا فيه: أي داوموا عليه وواظبوا. و{كَفَرُواْ} تفسير لدأب آل فرعون. و{ذلك} إشارة إلى ما حل بهم، يعني ذلك العذاب أو الانتقام بسبب أن الله لم ينبغ له ولم يصحّ في حكمته أن يغير نعمته عند قوم {حتى يُغَيّرُواْ مَا} بهم من الحال.
فإن قلت: فما كان من تغيير آل فرعون ومشركي مكة حتى غير الله نعمته عليهم؟ ولم تكن لهم حال مرضية فيغيروها إلى حال مسخوطة قلت: كما تغير الحال المرضية إلى المسخوطة، تغير الحال المسخوطة إلى أسخط منها، وأولئك كانوا قبل بعثة الرسول إليهم كفرة عبدة أصنام، فلما بعث إليهم بالآيات البينات فكذبوه وعادوه وتحزبوا عليه ساعين في إراقة دمه، غيروا حالهم إلى أسوإ مما كانت، فغير الله ما أنعم به عليهم من الإمهال وعاجلهم بالعذاب {وَأَنَّ الله سَمِيعٌ} لما يقول مكذبو الرسل {عَلِيمٌ} بما يفعلون {كَدَأْبِ ءالِ فِرْعَوْنَ} تكرير للتأكيد. وفي قوله: {بآيات رَبّهِمْ} زيادة دلالة على كفران النعم وجحود الحق. وفي ذكر الإغراق بيان للأخذ بالذنوب {وَكُلٌّ كَانُواْ ظالمين} وكلهم من غرقى القبط وقتلى قريش كانوا ظالمين أنفسهم بالكفر والمعاصي.

.تفسير الآيات (55- 57):

{إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الَّذِينَ كَفَرُوا فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (55) الَّذِينَ عَاهَدْتَ مِنْهُمْ ثُمَّ يَنْقُضُونَ عَهْدَهُمْ فِي كُلِّ مَرَّةٍ وَهُمْ لَا يَتَّقُونَ (56) فَإِمَّا تَثْقَفَنَّهُمْ فِي الْحَرْبِ فَشَرِّدْ بِهِمْ مَنْ خَلْفَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ (57)}
{الذين كَفَرُواْ فَهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ} أي أصروا على الكفر ولجوا فيه، فلا يتوقع منهم إيمان وهم بنو قريظة، عاهدهم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن لا يمالئوا عليه فنكثوا بأن أعانوا مشركي مكة بالسلاح وقالوا: نسينا وأخطأنا، ثم عاهدهم فنكثوا ومالوا معهم يوم الخندق، وانطلق كعب بن الأشرف إلى مكة فحالفهم {الذين عاهدت مِنْهُمْ} بدل من الذين كفروا، أي الذين عاهدتهم من الذين كفروا جعلهم شر الدواب، لأن شر الناس الكفار، وشر الكفار المصرون منهم، وشر المصرين الناكثون للعهود {وَهُمْ لاَ يَتَّقُونَ} لا يخافون عاقبة الغدر ولا يبالون ما فيه من العار والنار {فَإِمَّا تَثْقَفَنَّهُمْ فِي الحرب} فإما تصادفنهم وتظفرن بهم {فَشَرّدْ بِهِم مَّنْ خَلْفَهُمْ} ففرق عن محاربتك ومناصبتك بقتلهم شر قتلة والنكاية فيهم، من وراءهم من الكفرة، حتى لا يجسر عليك بعدهم أحد، اعتباراً بهم واتعاظاً بحالهم وقرأ ابن مسعود رضي الله عنه {فشرذ} بالذال المعجمة بمعنى: ففرق، وكأنه مقلوب {شذر} من قولهم (ذهبوا شذر مذر)، ومنه: الشذر: المتلقط من المعدن لتفرّقه وقرأ أبو حيوة {من خلفهم} ومعناه: فافعل التشريد من ورائهم، لأنه إذا شرد الذين وراءهم فقد فعل التشريد في الوراء وأوقعه فيه؛ لأن الوراء جهة المشردين، فإذا جعل الوراء ظرفاً للتشريد فقد دلّ على تشريد من فيه، فلم يبق فرق بين القراءتين {لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ} لعلّ المشردين من ورائهم يتعظون.