فصل: تفسير الآية رقم (5):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الكشاف عن حقائق التنزيل وعيون الأقاويل في وجوه التأويل



.تفسير الآية رقم (14):

{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُونُوا أَنْصَارَ اللَّهِ كَمَا قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ لِلْحَوَارِيِّينَ مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصَارُ اللَّهِ فَآَمَنَتْ طَائِفَةٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَكَفَرَتْ طَائِفَةٌ فَأَيَّدْنَا الَّذِينَ آَمَنُوا عَلَى عَدُوِّهِمْ فَأَصْبَحُوا ظَاهِرِينَ (14)}
قرئ: {كونوا أنصار الله وأنصاراً لله}.
وقرأ ابن مسعود: {كونوا أنتم أنصار الله}. وفيه زيادة حتم للنصرة عليهم.
فإن قلت: ما وجه صحة التشبيه وظاهره تشبيه كونهم أنصاراً بقول عيسى صلوات الله عليه: {مَنْ أنصارى إِلَى الله}؟ قلت: التشبيه محمول على المعنى، وعليه يصح. والمراد: كونوا أنصار الله كما الحواريون أنصار عيسى حين قال لهم: {مَنْ أَنصَارِى إِلَى الله}.
فإن قلت: ما معنى قوله: {مَنْ أنصارى إِلَى الله}؟ قلت: يجب أن يكون معناه مطابقاً لجواب الحواريين {نَحْنُ أَنْصَارُ الله} والذي يطابقه أن يكون المعنى: من جندي متوجهاً إلى نصرة الله، وإضافة {أنصارى} خلاف إضافة {أَنْصَارَ الله} فإنّ معنى {نَحْنُ أَنْصَارُ الله}: نحن الذين ينصرون الله. ومعنى {مَنْ أنصارى} من الأنصار الذين يختصون بي ويكونون معي في نصرة الله؛ ولا يصح أن يكون معناه: من ينصرني مع الله؛ لأنه لا يطابق الجواب. والدليل عليه: قراءة من قرأ: {من أنصار الله}. والحواريون أصفياؤه وهم أوّل من آمن به وكانوا اثنى عشر رجلاً؛ وحواري الرجل: صفيه وخلصانه من الحوار وهو البياض الخالص. والموارى: الدرمك. ومنه قوله عليه الصلاة والسلام: «الزبير ابن عمتي وحواريي من أمتي» وقيل: كانوا قصارين يحوّرون الثياب يبيضونها. ونظير الحواري في زنته: الحوالي: الكثير الحيل {فَئَامَنَت طَّآئِفَةٌ} منهم بعيسى {وَكَفَرَت} به {طَّائِفَةٌ فَأَيَّدْنَا} مؤمنيهم على كفارهم، فظهروا عليهم.
وعن زيد بن علي: كان ظهورهم بالحجة.
عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من قرأ سورة الصف كان عيسى مصلياً عليه مستغفراً له ما دام في الدنيا وهو يوم القيامة رفيقه».

.سورة الجمعة:

.تفسير الآيات (1- 4):

{يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ الْمَلِكِ الْقُدُّوسِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (1) هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آَيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (2) وَآَخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (3) ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (4)}
قرئت صفات الله عزّ وعلا بالرفع على المدح، كأنه قيل: هو الملك القدوس، ولو قرئت منصوبة لكان وجها، كقول العرب: الحمد لله أهل الحمد. الأمي: منسوب إلى أمّة العرب، لأنهم كانوا لا يكتبون ولا يقرؤون من بين الأمم. وقيل: بدأت الكتابة بالطائف، أخذوها من أهل الحيرة، وأهل الحيرة من أهل الأنبار. ومعنى {بَعَثَ فِي الأميين رَسُولاً مّنْهُمْ} بعث رجلاً أمياً في قوم أميين، كما جاء في حديث شعياء: أني أبعث أعمى في عميان، وأميّاً في أميين وقيل {منهم}، كقوله تعالى: {مّنْ أَنفُسِكُمْ} [التوبة: 128] يعلمون نسبه وأحواله. وقرئ: {في الأمين}، بحذف ياءي النسب {يَتْلُو عَلَيْهِمْ ءاياته} يقرؤها عليهم مع كونه أميّاً مثلهم لم تعهد منه قراءة ولم يعرف بتعلم، وقراءة أمي بغير تعلم أية بينة {وَيُزَكّيهِمْ} ويطهرهم من الشرك وخبائث الجاهلية {وَيُعَلّمُهُمُ الكتاب والحكمة} القرآن والسنة. وإن في {وَإِن كَانُواْ} هي المخففة من الثقيلة واللام دليل عليها، أي: كانوا في ضلال لا ترى ضلالاً أعظم منه {وَءاخَرِينَ} مجرور عطف على الأميين، يعني: أنه بعثه في الأميين الذين على عهده، وفي آخرين من الأميين لم يلحقوا بهم بعد وسيلحقون بهم، وهم الذين بعد الصحابة رضي الله عنهم. وقيل: [1172] لما نزلت قيل: من هم يا رسول الله، فوضع يده على سلمان ثم قال: «لو كان الإيمان عند الثريا لتناوله رجال من هؤلاء» وقيل: هم الذين يأتون من بعدهم إلى يوم القيامة، ويجوز أن ينتصب عطفاً على المنصوب في {وَيُعَلّمُهُمُ} أي: يعلمهم ويعلم آخرين؛ لأن التعليم إذا تناسق إلى آخر الزمان كان كله مستنداً إلى أوّله، فكأنه هو الذي تولى كل ما وجد منه {وَهُوَ العزيز الحكيم} في تمكينه رجلاً أميّاً من ذلك الأمر العظيم، وتأييده عليه، واختياره إياه من بين كافة البشر {ذَلِكَ} الفضل الذي أعطاه محمداً وهو أن يكون نبي أبناء عصره، ونبي أبناء العصور الغوابر. هو {فَضْلُ الله يُؤْتِيهِ مَن يَشَاء} إعطاءه وتقتضيه حكمته.

.تفسير الآية رقم (5):

{مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآَيَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (5)}
شبه اليهود- في أنهم حملة التوراة وقرّاؤها وحفاظ ما فيها، ثم إنهم غير عاملين بها ولا منتفعين بآياتها، وذلك أنّ فيها نعت رسول الله صلى الله عليه وسلم والبشارة به ولم يؤمنوا به- بالحمار حمل أسفاراً، أي كتباً كباراً من كتب العلم، فهو يمشي بها ولا يدري منها إلا ما يمر بجنبيه وظهره من الكد والتعب. وكل من علم ولم يعمل بعلمه فهذا مثله، وبئس المثل {بِئْسَ} مثلاً {مَثَلُ القوم الذين كَذَّبُواْ بئايات الله} وهم اليهود الذين كذبوا بآيات الله الدالة على صحة نبوّة محمد صلى الله عليه وسلم. ومعنى: {حُمّلُواْ التوراة}: كلفوا علمها والعمل بها، {ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا} ثم لم يعملوا بها، فكأنهم لم يحملوها. وقرئ: {حملوا التوراة}، أي حملوها ثم لم يحملوها في الحقيقة لفقد العمل. وقرئ: {يحمل الأسفار} فإن قلت: (يحمل) ما محله؟ قلت: النصب على الحال، أو الجر على الوصف؛ لأنّ الحمار كاللئيم في قوله:
وَلَقَدْ أَمُرُّ عَلَى اللَّئِيمِ يَسُبُّنِي

.تفسير الآيات (6- 8):

{قُلْ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ هَادُوا إِنْ زَعَمْتُمْ أَنَّكُمْ أَوْلِيَاءُ لِلَّهِ مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (6) وَلَا يَتَمَنَّوْنَهُ أَبَدًا بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ (7) قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلَاقِيكُمْ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (8)}
هاد يهود: إذا تهود {أَوْلِيَاء لِلَّهِ} كانوا يقولون. نحن أبناء الله وأحباؤه، أي: إن كان قولكم حقاً وكنتم على ثقة {فَتَمَنَّوُاْ} على الله أن يميتكم وينقلكم سريعاً إلى دار كرامته التي أعدّها لأوليائه، ثم قال: {وَلاَ يَتَمَنَّونَهُ أَبَداً} بسبب ما قدّموا من الكفر، وقد قال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: «والذي نفسي بيده لا يقولها أحد منكم إلا غص بريقه» فلولا أنهم كانوا موقنين بصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم لتمنوا، ولكنهم علموا أنهم لو تمنوا لماتوا من ساعتهم ولحقهم الوعيد، فما تمالك أحد منهم أن يتمنى؛ وهي إحدى المعجزات. وقرئ: {فتمنوا الموت} بكسر الواو، تشبيهاً بلو استطعنا. ولا فرق بين (لا) و (لن) في أن كل واحدة منهما نفي للمستقبل، إلا أن في (لن) تأكيداً وتشديداً ليس في (لا) فأتى مرّة بلفظ التأكيد {وَلَن يَتَمَنَّوْهُ} [البقرة: 95] ومرّة بغير لفظه {وَلاَ يَتَمَنَّونَهُ} [الجمعة: 7] ثم قيل لهم {إِنَّ الموت الذى تَفِرُّونَ مِنْهُ} ولا تجسرون أن تتمنوه خيفة أن تؤخذوا بوبال كفركم؛ لا تفوتونه وهو ملاقيكم لا محالة {ثُمَّ تُرَدُّونَ} إلى الله فيجازيكم بما أنتم أهله من العقاب.
وقرأ زيد بن علي رضي الله عنه: إنه ملاقيكم. وفي قراءة ابن مسعود: تفرون منه ملاقيكم، وهي ظاهرة. وأما التي بالفاء، فلتضمن الذي معنى الشرط، وقد جعل {إِنَّ الموت الذى تَفِرُّونَ مِنْهُ} كلاماً برأسه في قراءة زيد، أي: إن الموت هو الشيء الذي تفرّون منه، ثم استؤنف: إنه ملاقيكم.

.تفسير الآيات (9- 10):

{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (9) فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (10)}
{يوم الجمعة} يوم الفوج المجموع، كقولهم: ضحكة، للمضحوك منه. و {يوم الجمعة}، بفتح الميم: يوم الوقت الجامع، كقولهم: ضحكة، ولعنة، ولعبة؛ ويوم الجمعة تثقيل للجمعة، كما قيل: عسرة في عسر. وقرئ: بهن جميعاً.
فإن قلت: من في قوله: {مِن يَوْمِ الجمعة} ما هي؟ قلت: هي بيان لإذا وتفسير له. والنداء: الأذان. وقالوا: المراد به الأذان عند قعود الإمام على المنبر، وقد: كان لرسول الله صلى الله عليه وسلم مؤذن واحد، فكان إذا جلس على المنبر أذن على باب المسجد؛ فإذا نزل أقام للصلاة، ثم كان أبو بكر وعمر رضي الله عنهما على ذلك؛ حتى إذا كان عثمان وكثر الناس وتباعدت المنازل زاد مؤذناً آخر، فأمر بالتأذين الأوّل على داره التي تسمى زوراء، فإذا جلس على المنبر: أذن المؤذن الثاني، فإذا نزل أقام للصلاة، فلم يعب ذلك عليه. وقيل: أول من سماها {جمعة} كعب بن لؤي، وكان يقال لها: العروبة. وقيل: إنّ الأنصار قالوا: لليهود يوم يجتمعون فيه كل سبعة أيام، وللنصارى مثل ذلك؛ فهلموا نجعل لنا يوم نجتمع فيه فنذكر الله فيه ونصلى. فقالوا: يوم السبت لليهود، ويوم الأحد للنصارى، فاجعلوا يوم العروبة فاجتمعوا إلى سعد بن زرارة فصلى بهم يومئذٍ ركعتين وذكرهم، فسموه يوم الجمعة لاجتماعهم فيه، فأنزل الله آية الجمعة، فهي أوّل جمعة، كانت في الإسلام وأما أوّل جمعة جمعها رسول الله صلى الله عليه وسلم، فهي: أنه لما قدم المدينة مهاجراً نزل قباء على بني عمرو بن عوف، وأقام بها يوم الاثنين والثلاثاء والأربعاء والخميس، وأسس مسجدهم، ثم خرج يوم الجمعة عامداً المدينة فأدركته صلاة الجمعة في بني سالم بن عوف في بطن واد لهم، فخطب وصلى الجمعة.
وعن بعضهم: قد أبطل الله قول اليهود في ثلاث: افتخروا بأنهم أولياء الله وأحباؤه، فكذبهم في قوله: {فَتَمَنَّوُاْ الموت إِن كُنْتُمْ صادقين} وبأنهم أهل الكتاب والعرب لا كتاب لهم فشبههم بالحمار يحمل أسفاراً؛ وبالسبت وأنه ليس للمسلمين مثله فشرع الله لهم الجمعة.
وعن النبي صلى الله عليه وسلم: «خير يوم طلعت فيه الشمس يوم الجمعة، فيه خلق آدم، وفيه أدخل الجنة، وفيه أهبط إلى الأرض، وفيه تقوم الساعة، وهو عند الله يوم المزيد» وعنه عليه السلام: «أتاني جبريل وفي كفه مرآة بيضاء وقال: هذه الجمعة يعرضها عليك ربك لتكون لك عيداً ولأمتك من بعدك، وهو سيد الأيام عندنا، ونحن ندعوه إلى الآخرة يوم المزيد» وعنه صلى الله عليه وسلم: «إنّ لله تعالى في كل جمعة ستمائة ألف عتيق من النار»
وعن كعب: إنّ الله فضل من البلدان: مكة، ومن الشهور: رمضان، ومن الأيام: الجمعة. وقال عليه الصلاة والسلام: «من مات يوم الجمعة كتب الله له أجر شهيد، ووقي فتنة القبر» وفي الحديث: «إذا كان يوم الجمعة قعدت الملائكة على أبواب المسجد بأيديهم صحف من فضة وأقلام من ذهب، يكتبون الأوِّل فالأوَّل على مراتبهم» وكانت الطرقات في أيام السلف وقت السحر وبعد الفجر مغتصة بالمبكرين إلى الجمعة يمشون بالسرج. وقيل: أوّل بدعة أحدثت في الإسلام: ترك البكور إلى الجمعة.
وعن ابن مسعود: أنه بكر فرأى ثلاثة نفر سبقوه، فاغتم وأخذ يعاتب نفسه يقول: أراك رابع أربعة وما رابع أربعة بسعيد. ولا تقام الجمعة عند أبي حنيفة رضي الله عنه إلا في مصر جامع، لقوله عليه السلام: «لا جمعة ولا تشريق ولا فطر ولا أضحى إلا في مصر جامع» والمصر الجامع: ما أقيمت فيه الحدود ونفذت فيه الأحكام، ومن شروطها الإمام أو من يقوم مقامه، لقوله عليه السلام: «فمن تركها وله إمام عادل أو جائر... الحديث» وقوله صلى الله عليه وسلم: «أربع إلى الولاة: الفيء، والصدقات، والحدود، والجمعات» فإن أمّ رجل بغير إذن الإمام أو من ولاه من قاض أو صاحب شرطة: لم يجز؛ فإن لم يكن الاستئذان فاجتمعوا على واحد فصلى بهم: جاز، وهي تنعقد بثلاثة سوى الإمام. وعند الشافعي بأربعين. ولا جمعة على المسافرين والعبيد والنساء والمرضى والزمنى، ولا على الأعمى عند أبي حنيفة، ولا على الشيخ الذي لا يمشي إلا بقائد.
وقرأ عمر وابن عباس وابن مسعود وغيرهم: {فامضوا}.
وعن عمر رضي الله عنه أنه سمع رجلاً يقرأ: {فاسعوا}. فقال: من أقرأك هذا؟ قال أبيّ بن كعب، فقال: لا يزال يقرأ بالمنسوخ، لو كانت {فاسعوا} لسعيت حتى يسقط ردائي. وقيل: المراد بالسعي القصد دون العدو، والسعي: التصرف في كل عمل. ومنه قوله تعالى: {فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السعى} [الصافات: 102]، {وأن لَّيْسَ للإنسان إِلاَّ مَا سعى} [النجم: 39] وعن الحسن: ليس السعي على الأقدام، ولكنه على النيات والقلوب. وذكر محمد بن الحسن رحمه الله في موطئه: أن عمر سمع الإقامة وهو بالبقيع فأسرع المشي. قال محمد: وهذا لا بأس به ما لم يجهد نفسه {إلى ذِكْرِ الله} إلى الخطبة والصلاة، ولتسمية الله الخطبة ذكراً له قال أبو حنيفة رحمه الله: إن اقتصر الخطيب على مقدار يسمى ذكر الله كقوله: الحمد لله، سبحان الله: جاز.
وعن عثمان أنه صعد المنبر فقال: الحمد لله وأرتج عليه، فقال: إن أبا بكر وعمر كانا يعدّان لهذا المقام مقالاً، وإنكم إلى إمام فعال أحوج منكم إلى إمام قوّال، وستأتيكم الخطب، ثم نزل، وكان ذلك بحضرة الصحابة ولم ينكر عليه أحد.
وعند صاحبيه والشافعي: لابد من كلام يسمى خطبة.
فإن قلت: كيف يفسر ذكر الله بالخطبة وفيها ذكر غير الله؟ قلت: ما كان من ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم والثناء عليه وعلى خلفائه الراشدين وأتقياء المؤمنين والموعظة والتذكير فهو في حكم ذكر الله، فأمّا ما عدا ذلك من ذكر الظلمة وألقابهم والثناء عليهم والدعاء لهم، وهم أحقاء بعكس ذلك؛ فمن ذكر الشيطان وهو من ذكر الله على مراحل، وإذا قال المنصت للخطبة لصاحبه (صه) فقد لغا، أفلا يكون الخطيب الغالي في ذلك لاغياً، نعوذ بالله من غربة الإسلام ونكد الأيام. أراد الأمر بترك ما يذهل عن ذكر الله من شواغل الدنيا، وإنما خص البيع من بينها لأن يوم الجمعة يوم يهبط الناس فيه من قراهم وبواديهم، وينصبون إلى المصر من كل أوب ووقت هبوطهم واجتماعهم واغتصاص الأسواق بهم إذا انتفخ النهار وتعالى الضحى ودنا وقت الظهيرة، وحينئذٍ تحرّ التجارة ويتكاثر البيع والشراء، فلما كان ذلك الوقت مظنة الذهول بالبيع عن ذكر الله والمضي إلى المسجد، قيل لهم: بادروا تجارة الآخرة، واتركوا تجارة الدنيا، واسعوا إلى ذكر الله الذي لا شيء أنفع منه وأربح {وَذَرُواْ البيع} الذي نفعه يسير وربحه مقارب.
فإن قلت: فإذا كان البيع في هذا الوقت مأموراً بتركه محرماً، فهل هو فاسد؟ قلت: عامّة العلماء على أن ذلك لا يوجب فساد البيع. قالوا: لأنّ البيع لم يحرم لعينه، ولكن لما فيه من الذهول عن الواجب، فهو كالصلاة في الأرض المغصوبة والثوب المغصوب، والوضوء بماء مغصوب، وعن بعض الناس: أنه فاسد. ثم أطلق لهم ما حظر عليهم بعد قضاء الصلاة من الانتشار وابتغاء الربح، مع التوصية بإكثار الذكر، وأن لا يلهيهم شيء من تجارة ولا غيرها عنه، وأن تكون هممهم في جميع أحوالهم وأوقاتهم موكلة به لا ينفضون عنه، لأنّ فلاحهم فيه وفوزهم منوط به، وعن ابن عباس: لم يؤمروا بطلب شيء من الدنيا، إنما هو عيادة المرضى وحضور الجنائز وزيارة أخ في الله: وعن الحسن وسعيد بن المسيب: طلب العلم، وقيل: صلاة التطوّع: وعن بعض السلف أنه كان يشغل نفسه بعد الجمعة بشيء من أمور الدنيا نظراً في هذه الآية.