فصل: تفسير الآية رقم (52):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الكشاف عن حقائق التنزيل وعيون الأقاويل في وجوه التأويل



.تفسير الآيات (50- 51):

{يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَحْلَلْنَا لَكَ أَزْوَاجَكَ اللَّاتِي آَتَيْتَ أُجُورَهُنَّ وَمَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ مِمَّا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَيْكَ وَبَنَاتِ عَمِّكَ وَبَنَاتِ عَمَّاتِكَ وَبَنَاتِ خَالِكَ وَبَنَاتِ خَالَاتِكَ اللَّاتِي هَاجَرْنَ مَعَكَ وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ إِنْ أَرَادَ النَّبِيُّ أَنْ يَسْتَنْكِحَهَا خَالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ قَدْ عَلِمْنَا مَا فَرَضْنَا عَلَيْهِمْ فِي أَزْوَاجِهِمْ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ لِكَيْلَا يَكُونَ عَلَيْكَ حَرَجٌ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (50) تُرْجِي مَنْ تَشَاءُ مِنْهُنَّ وَتُؤْوِي إِلَيْكَ مَنْ تَشَاءُ وَمَنِ ابْتَغَيْتَ مِمَّنْ عَزَلْتَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكَ ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ تَقَرَّ أَعْيُنُهُنَّ وَلَا يَحْزَنَّ وَيَرْضَيْنَ بِمَا آَتَيْتَهُنَّ كُلُّهُنَّ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا فِي قُلُوبِكُمْ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَلِيمًا (51)}
{أُجُورَهُنَّ} مهورهنّ: لأنّ المهر أجر على البضع. وإيتاؤها: إما إعطاؤها عاجلاً. وإما فرضها وتسميتها في العقد.
فإن قلت: لم قال: {الاتي ءَاتيْتَ أُجُورَهنَّ} و{مِمَّا أَفَاء الله عَلَيْكَ} و{الاتي هَاجَرْنَ مَعَكَ} وما فائدة هذه التخصيصات؟ قلت: قد اختار الله لرسوله الأفضل الأولى، واستحبه بالأطيب الأزكى، كما اختصه بغيرها من الخصائص، وآثره بما سواها من الأثر، وذلك أن تسمية المهر في العقد أولى وأفضل من ترك التسمية، وإن وقع العقد جائزاً؛ وله أن يماسها وعليه مهر المثل إن دخل بها، والمتعة إن لم يدخل بها. وسوق المهر إليها عاجلاً أفضل من أن يسميه ويؤجله، وكان التعجيل ديدن السلف وسنتهم، وما لا يعرف بينهم غيره. وكذلك الجارية إذا كانت سبية مالكها، وخطبة سيفه ورمحه، ومما غنمه الله من دار الحرب أحلّ وأطيب مما يشتري من شقّ الجلب. والسبي على ضربين: سبي طيبة، وسبي خبيثة: فسبي الطيبة: ما سبي من أهل الحرب. وأما من كان له عهد فالمسبي منهم سبي خبيثة، ويدلّ عليه قوله تعالى: {مِمَّا أَفَاء الله عَلَيْكَ} لأن فيء الله لا يطلق إلاّ على الطيب دون الخبيث، كما أنّ رزق الله يجب إطلاقه على الحلال دون الحرام، وكذلك اللاتي هاجرن مع رسول الله صلى الله عليه وسلم من قرائبه غير المحارم أفضل من غير المهاجرات معه.
وعن أم هانئ، بنت أبي طالب: خطبني رسول الله صلى الله عليه وسلم فاعتذرت إليه فعذرني، ثم أنزل الله هذه الآية، فلم أحلّ له؛ لأني لم أهاجر معه، كنت من الطلقاء. وأحللنا لك من وقع لها أن تهب لك نفسها ولا تطلب مهراً من النساء المؤمنات إن اتفق ذلك، ولذلك نكرها. واختلف في اتفاق ذلك، فعن ابن عباس رضي الله عنهما: لم يكن عند رسول الله صلى الله عليه وسلم أحد منهنّ بالهبة. وقيل: الموهوبات أربع: ميمونة بنت الحرث، وزينب بنت خزيمة أمّ المساكين الأنصارية، وأمّ شريك بنت جابر، وخولة بنت حكيم- رضي الله عنهنّ. قرئ: {إِن وَهَبَتْ} على الشرط.
وقرأ الحسن رضي الله عنه: {أن} بالفتح، على التعليل بتقدير حذف اللام. ويجوز أن يكون مصدراً محذوفاً معه الزمان، كقولك: اجلس ما دام زيد جالساً، بمعنى دوامه جالساً، ووقت هبتها نفسها.
وقرأ ابن مسعود بغير أن.
فإن قلت: ما معنى الشرط الثاني مع الأوّل؟ قلت: هو تقييد له شرط في الإحلال هبتها نفسها، وفي الهبة: إرادة استنكاح رسول الله صلى الله عليه وسلم، كأنه قال: أحللناها لك إن وهبت لك نفسها وأنت تريد أن تستنكحها؛ لأنّ إرادته هي قبول الهبة وما به تتمّ.
فإن قلت: لم عدل عن الخطاب إلى الغيبة في قوله تعالى: {نَفْسَهَا لِلنَّبِىّ إِنْ أَرَادَ النبى} ثم رجع إلى الخطاب؟ قلت: للإيذان بأنه مما خصّ به وأوثر، ومجيئه على لفظ النبي للدلالة على أن الاختصاص تكرمة له لأجل النبوّة، وتكريره تفخيم له وتقرير لاستحقاقه الكرامة لنبوّته، واستنكاحها: طلب نكاحها والرغبة فيه، وقد استشهد به أبو حنيفة على جواز عقد النكاح بلفظ الهبة؛ لأنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم وأمّته سواء في الأحكام إلاّ فيما خصّه الدليل، وقال الشافعي: لا يصحّ، وقد خصّ رسول الله صلى الله عليه وسلم بمعنى الهبة ولفظها جميعاً؛ لأنّ اللفظ تابع للمعنى، والمدعي للاشتراك في اللفظ يحتاج إلى دليل. وقال أَبو الحسن الكرخي: إن عقدالنكاح بلفظ الإجارة جائز، لقوله تعالى: {الاتي ءَاتَيْتَ أُجُورَهُنَّ} وقال أبو بكر الرازي: لا يصحّ: لأنّ الإجارة عقد مؤقت، وعقد النكاح مؤبد، فهما متنافيان {خَالِصَةً} مصدر مؤكد، كوعد الله، وصبغة الله، أي: خلص لك إحلال ما أحللنا لك خالصة، بمعنى خلوصاً، والفاعل والفاعلة في المصادر غير عزيزين، كالخارج والقاعد، والعافية والكاذبة. والدليل على أنها وردت في أثر الإحلالات الأربع مخصوصة برسول الله صلى الله عليه وسلم على سبيل التوكيد لها قوله: {قَدْ عَلِمْنَا مَا فَرَضْنَا عَلَيْهِمْ فِي أزواجهم وَمَا مَلَكَتْ أيمانهم} بعد قوله: {مِن دُونِ المؤمنين} وهي جملة اعتراضية، وقوله: {لِكَيْلاَ يَكُونَ عَلَيْكَ حَرَجٌ} متصل بخالصة لك من دون المؤمنين، ومعنى هذه الجملة الاعتراضية أنّ الله قد علم ما يجب فرضه على المؤمنين في الأزواج والإماء، وعلى أي حدّ وصفه يجب أن يفرض عليهم ففرضه، وعلم المصلحة في اختصاص رسول الله صلى الله عليه وسلم بما اختصّه به ففعل؛ ومعنى: {لِكَيْلاَ يَكُونَ عَلَيْكَ حَرَجٌ} لئلا يكون عليك ضيق في دينك: حيث اختصصناك بالتنزيه واختيار ما هو أولى وأفضل، وفي دنياك: حيث أحللنا لك أجناس المنكوحات وزدنا لك الواهبة نفسها. وقرئ: {خالصة} بالرفع، أي: ذاك خلوص لك وخصوص من دون المؤمنين ومن جعل خالصة نعتاً للمرأة، فعلى مذهبه: هذه المرأة خالصة لك من دونهم {وَكَانَ الله غَفُوراً} للواقع في الحرج إذا تاب {رَّحِيماً} بالتوسعة على عباده.
روي أن أمهات المؤمنين حين تغايرن وابتغين زيادة النفقة وغظن رسول الله صلى الله عليه وسلم، هجرهنّ شهراً، ونزل التخيير، فأشفقن أنّ يطلقهنّ، فقلن: يا رسول الله، افرض لنا من نفسك ومالك ما شئت.
وروي: أن عائشة رضي الله عنها قالت: يا رسول الله إني أرى ربك يسارع في هواك. {تُرْجِى} بهمز وغير همز: تؤخر {وَتُئْوِى} تضمّ، يعني: تترك مضاجعة من تشاء منهن. وتضاجع من تشاء. أو تطلق من تشاء، وتمسك من تشاء.
أو تقسم لأيتهنّ شئت، وتقسم لمن شئت. أو تترك تزوّج من شئت من نساء أمّتك، وتتزوج من شئت.
وعن الحسن رضي الله عنه: كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا خطب امرأة لم يكن لأحد أن يخطبها حتى يدعها، وهذه قسمة جامعة لما هو الغرض؛ لأنه إما أن يطلق، وإما أن يمسك؛ فإذا أمسك ضاجع أو ترك وقسم أو لم يقسم. وإذا طلق وعزل، فإما أنّ تخلي المعزولة لا يبتغيها، أو يبتغيها. روي: أنه أرجى منهن سودة وجويرية وصفية وميمونة وأم حبيبة، فكان يقسم لهنّ ما شاء كما شاء، وكانت ممن آوى إليه: عائشة وحفصة وأم سلمة وزينب رضي الله عنهنّ أرجى خمسة وآوى أربعة.
وروي: أنه كان يسوّي مع ما أطلق له وخير فيه إلاّ سودة، فإنها وهبت ليلتها لعائشة وقالت: لا تطلقني حتى أحشر في زمرة نسائك {ذَلِكَ} التفويض إلى مشيئتك {أدنى} إلى قرّة عيونهن وقلة حزنهن ورضاهن جميعاً؛ لأنه إذا سوّى بينهن في الإيواء والإرجاء والعزل والابتغاء. وارتفع التفاضل، ولم يكن لإحداهنّ مما تريد ومما لا تريد إلاّ مثل ما للأخرى. وعلمن أنّ هذا التفويض من عند الله بوحيه- اطمأنت نفوسهن وذهب التنافس والتغاير، وحصل الرضا وقرّت العيون، وسلت القلوب {والله يَعْلَمُ مَا فِي قلُوبِكُمْ} فيه وعيدٌ لمن لم ترضَ منهنّ بما دبر الله من ذلك، وفوّض إلى مشيئة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبعثٌ على تواطؤ قلوبهنّ والتصافي بينهن والتوافق على طلب رضا رسول الله صلى الله عليه وسلم وما فيه طيب نفسه. وقرئ: {تقرّ أعينهنّ}، بضم التاء ونصب الأعين. وتقرّ أعينهنّ، على البناء للمفعول {وَكَانَ الله عَلِيماً} بذات الصدور {حَلِيماً} لا يعاجل بالعقاب، فهو حقيق بأن يتقى ويحذر، {كُلُّهُنَّ} تأكيد لنون يرضين، وقرأ ابن مسعود: {ويرضين كلهنّ، بما آتيتهنّ}، على التقديم. وقرأ: {كلهنّ}، تأكيد ل {هنّ} في {ءاتَيْتَهُنَّ}.

.تفسير الآية رقم (52):

{لَا يَحِلُّ لَكَ النِّسَاءُ مِنْ بَعْدُ وَلَا أَنْ تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْوَاجٍ وَلَوْ أَعْجَبَكَ حُسْنُهُنَّ إِلَّا مَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ رَقِيبًا (52)}
{لاَّ يَحِلُّ} وقرئ التذكير، لأنّ تأنيث الجمع غير حقيقي، وإذا جاز بغير فصل في قوله تعالى: {وَقَالَ نِسْوَةٌ} [يوسف: 30] كان مع الفصل أجوز {مِن بَعْدِ} من بعد التسع، لأنّ التسع نصاب رسول الله صلى الله عليه وسلم من الأزواج، كما أن الأربع نصاب أمّته منهنّ، فلا يحل له أن يتجاوز النصاب {وَلاَ أَن تَبَدَّلَ بِهِنَّ} ولا أن تستبدل بهؤلاء التسع أزواجاً أخر بكلهنّ أو بعضهنّ، أراد الله لهنّ كرامة وجزاء على ما اخترن ورضين. فقصر النبيّ صلى الله عليه وسلم عليهنّ، وهي التسع اللاتي مات عنهنّ: عائشة بنت أبي بكر، حفصة بنت عمر، أمّ حبيبة بنت أبي سفيان، سودة بنت زمعة، أمّ سلمة بنت أبي أمية، صفية بنت حيي الخيبرية، ميمونة بنت الحرث الهلالية، زينب بنت جحش الأسدية، وجويرية بنت الحرث المصطلقية، رضي الله عنهنّ. من في {مِنْ أَزْوَاجٍ} لتأكيد النفي، وفائدته استغراق جنس الأزواج بالتحريم.
وقيل معناه: لا تحلّ لك النساء من بعد النساء اللاتي نصّ إحلالهنّ لك من الأجناس الأربعة من الأعرابيات والغرائب، أو من الكتابيات، أو من الإماء بالنكاح، وقيل في تحريم التبدل: هو من البدل الذي كان في الجاهلية كان يقول الرجل للرجل: بادلني بامرأتك وأبادلك بامرأتي، فينزل كل واحد منهما عن امرأته لصاحبه. ويحكى: أنّ عيينة بن حصن دخل على النبيّ صلى الله عليه وسلم وعنده عائشة من غير استئذان، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يا عيينة، أين الاستئذان»؟ قال: يا رسول الله، ما استأذنت على رجل قط ممن مضى منذ أدركت، ثم قال: من هذه الجميلة إلى جنبك؟ فقال صلى الله عليه وسلم: «هذه عائشة أمّ المؤمنين» قال عيينة: أفلا أنزل لك عن أحسن الخلق؟ فقال صلى الله عليه وسلم: «إنّ الله قد حرّم ذلك»، فلما خرج قالت عائشة رضي الله عنها: من هذا يا رسول الله؟ قال: «أحمق مطاع، وإنه- على ما ترين- لسيد قومه» وعن عائشة رضي الله عنها: ما مات رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أحلّ له النساء، يعني: أنّ الآية قد نسخت. ولا يخلو نسخها إما أن يكون بالسنة، وإما بقوله تعالى: {إِنَّا أَحْلَلْنَا لَكَ أزواجك} وترتيب النزول ليس على ترتيب المصحف {وَلَوْ أَعْجَبَكَ حُسْنُهُنَّ} في موضع الحال من الفاعل، وهو الضمير في {تَبَدَّلُ} لا من المفعول الذي هو {مِنْ أَزْوَاجٍ} لأنه موغل في التنكير، وتقديره: مفروضاً إعجابك بهنّ. وقيل؛ هي أسماء بنت عميس الخثعمية امرأة جعفر بن أبي طالب، والمراد أنها ممن أعجبه حسنهنّ، واستثنى ممن حرم عليه: الإماء {رَقِيباً} حافظاً مهيمناً، وهو تحذير عن مجاوزة حدوده وتخطي حلاله إلى حرامه.

.تفسير الآية رقم (53):

{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلَّا أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ إِلَى طَعَامٍ غَيْرَ نَاظِرِينَ إِنَاهُ وَلَكِنْ إِذَا دُعِيتُمْ فَادْخُلُوا فَإِذَا طَعِمْتُمْ فَانْتَشِرُوا وَلَا مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ يُؤْذِي النَّبِيَّ فَيَسْتَحْيِي مِنْكُمْ وَاللَّهُ لَا يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقِّ وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعًا فَاسْأَلُوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ ذَلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ وَمَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللَّهِ وَلَا أَنْ تَنْكِحُوا أَزْوَاجَهُ مِنْ بَعْدِهِ أَبَدًا إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمًا (53)}
{أَن يُؤْذَنَ لَكُمْ} في معنى الظرف تقديره وقت أن يؤذن لكم. و{غَيْرَ ناظرين} حال من {لاَ تَدْخُلُواْ} وقع الاستثناء على الوقت والحال معاً. كأنه قيل: لا تدخلوا بيوت النبي صلى الله عليه وسلم إلا وقت الإذن، ولا تدخلوها إلاّ غير ناظرين، وهؤلاء قوم كانوا يتحينون طعام رسول الله، فيدخلون ويقعدون منتظرين لإدراكه. ومعناه: لا تدخلوا يا هؤلاء المتحينون للطعام، إلاّ أن يؤذن لكم إلى طعام غير ناظرين إناه، وإلا فلو لم يكن لهؤلاء خصوصاً، لما جاز لأحد أن يدخل بيوت النبي صلى الله عليه وسلم إلاّ أن يؤذن له إذناً خاصاً، وهو الإذن إلى الطعام فحسب.
وعن ابن أبي عبلة أنه قرأ: غير ناظرين، مجروراً صفةٌ لطعام، وليس بالوجه، لأنه جرى على غير ما هو له، فمن حق ضمير ما هو له أن يبرز إلى اللفظ، فيقال: غير ناظرين إناه أنتم، كقولك: هند زيد ضاربته هي، وإني الطعام: إدراكه. يقال: أني الطعام إنىً، كقولك: قلاه قلىً. ومنه قوله: {بَيْنَ حَمِيمٍ آن} [الرحمن: 44] بالغ إناه. وقيل: (إناه): وقته، أي: غير ناظرين وقت الطعام وساعة أكله.
وروي: أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم أولم على زينب بتمر وسويق وشاة، وأمر أنساً أن يدعو بالناس، فترادفوا أفواجاً يأكل فوج فيخرج، ثم يدخل فوج إلى أن قال: يا رسول الله، دعوت حتى ما أجد أحداً أدعوه، فقال: «ارفعوا طعامكم» وتفرق الناس، وبقي ثلاثة نفر يتحدثون فأطالوا؛ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ليخرجوا، فانطلق إلى حجرة عائشة رضي الله عنها فقال: «السلام عليكم أهل البيت» فقالوا: عليك السلام يا رسول الله، كيف وجدت أهلك؟ وطاف في الحجرات فسلم عليهنّ ودعون له؛ ورجع فإذا الثلاثة جلوس يتحدثون، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم شديد الحياء، فتولى، فلما رأوه متولياً خرجوا، فرجع ونزلت: {وَلاَ مُسْتَئْنِسِينَ لِحَدِيثٍ} نهوا عن أن يطيلوا الجلوس يستأنس بعضهم ببعض لأجل حديث يحدثه به. أو عن أن يستأنسوا حديث أهل البيت، واستئناسه: تسمعه وتوجسه، وهو مجرور معطوف على ناظرين. وقيل: هو منصوب على: ولا تدخلوها مستأنسين. لابد في قوله: {فَيَسْتَحْيِى مِنكُمْ} من تقدير المضاف، أي: من إخراجكم، بدليل قوله: {والله لاَ يَسْتَحْىِ مِنَ الحق} يعني أن إخراجكم حتى ما ينبغي أن يستحيا منه، ولما كان الحياء مما يمنع الحي من بعض الأفعال، قيل: {لاَ يَسْتَحىِ مِنَ الحق} بمعنى لا يمتنع منه ولا يتركه ترك الحي منكم، وهذا أدبٌ أدّب الله تعالى به الثقلاء.
وعن عائشة رضي الله عنها: حسبك في الثقلاء أنّ الله تعالى لم يحتملهم وقال: فإذا طعمتم فانتشروا.
وقرئ: {لا يستحي} بياء واحدة. الضمير في {سَأَلْتُمُوهُنَّ} لنساء النبي صلى الله عليه وسلم، ولم يذكرن لأنّ الحال ناطقة بذكرهن {متاعا} حاجة {فَسْئَلُوهُنَّ} المتاع. قيل: إن عمر رضي الله عنه كان يحب ضرب الحجاب عليهن محبة شديدة، وكان يذكره كثيراً، ويزد أن ينزل فيه، وكان يقول: لو أُطاع فيكن ما رأتكن عين، وقال: يا رسول الله، يدخل عليك البر والفاجر، فلو أمرت أمهات المؤمنين بالحجاب، فنزلت.
وروي أنه مر عليهن وهن مع النساء في المسجد، فقال: لئن احتجبتن، فإن لكن على النساء فضلاً، كما أن لزوجكن على الرجال الفضل، فقالت زينب رضي الله عنها: يا ابن الخطاب، إنك لتغار علينا والوحي ينزل في بيوتنا، فلم يلبثوا إلاّ يسيراً حتى نزلت. وقيل: إنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يطعم ومعه بعض أصحابه، فأصابت يد رجل منهم يد عائشة، فكره النبي صلى الله عليه وسلم ذلك، فنزلت آية الحجاب. وذكر أنّ بعضهم قال: أننهى أن نكلم بنات عمنا إلاّ من وراء حجاب، لئن مات محمد لأتزوّجن فلانة. فأعلم الله أن ذلك محرم {وَمَا كَانَ لَكُمْ} وما صحّ لكم إيذاء رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا نكاح أزواجه من بعده، وسمى نكاحهن من بعده عظيماً عنده، وهو من أعلام تعظيم الله تعالى لرسوله وإيجاب حرمته حياً وميتاً، وإعلامه بذلك مما طيب به تعالى نفسه وسر قلبه واستغزر شكره. فإن نحو هذا مما يحدث الرجل به نفسه ولا يخلي منه فكره. ومن الناس من تفرظ غيرته على حرمته حتى يتمنى لها الموت لئلا تنكح من بعده.
وعن بعض الفتيان أنه كانت له جارية لا يرى الدنيا بها شغفاً واستهتاراً، فنظر إليها ذات يوم فتنفس الصعداء، وانتحب فعلا نحيبه مما ذهب به فكره هذا المذهب، فلم يزل به ذلك حتى قتلها، تصوراً لما عسى يتفق من بقائها بعده وحصولها تحت يد غير.
وعن بعض الفقهاء أن الزوج الثاني في هدم الثلاث مما يجري مجرى العقوبة؛ فصين رسول الله صلى الله عليه وسلم عما يلاحظ ذلك.