فصل: تفسير الآية رقم (68):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الكشاف عن حقائق التنزيل وعيون الأقاويل في وجوه التأويل



.تفسير الآيات (62- 64):

{أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (62) الَّذِينَ آَمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ (63) لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآَخِرَةِ لَا تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (64)}
{أَوْلِيَاء الله} الذين يتولونه بالطاعة ويتولاهم بالكرامة. وقد فسر ذلك في قوله: {الذين ءامَنُواْ وَكَانُواْ يَتَّقُونَ} فهم توليهم إياه {لَهُمُ البشرى فِي الحياة الدنيا وَفِى الأخرة} فهو توليه إياهم.
وعن سعيد بن جبير: أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم سُئل: من أولياء الله؟ فقال: «هم الذين يذكر الله برؤيتهم» يعني السمت والهيئة.
وعن ابن عباس رضي الله عنهما: الإخبات والسكينة. وقيل: هم المتحابون في الله.
وعن عمر رضي الله عنه: سمعت النبيّ صلى الله عليه وسلم يقول: «إنَّ من عباد الله عباداً ما هم بأنبياء ولا شهداء، يغبطهم الأنبياء والشهداء يوم القيامة لمكانهم من الله» قالوا: يا رسول الله، خبرنا من هم وما أعمالهم؟ فلعلنا نحبهم، قال: «هم قوم تحابوا في الله على غير أرحام بينهم ولا أموال يتعاطونها، فوالله إن وجوههم لنور، وإنهم لعلى منابر من نور، لا يخافون إذا خاف الناس ولا يحزنون إذا حزن الناس» ثم قرأ الآية: {الذين كَفَرُواْ} نصب أو رفع على المدح أو على وصف الأولياء أو على الابتداء والخبر لهم البشرى، والبشرى في الدنيا ما بشر الله به المؤمنين المتقين في غير مكان من كتابه، وعن النبي صلى الله عليه وسلم: «هي الرؤيا الصالحة يراها المسلم أو ترى له» وعنه عليه الصلاة والسلام: ذهبت النبوّة وبقيت المبشرات. وقيل: هي محبة الناس له والذكر الحسن.
وعن أبي ذرّ: قلت: لرسول الله صلى الله عليه وسلم: الرجل يعمل العمل لله ويحبه الناس فقال: «تلك عاجل بشرى المؤمن» وعن عطاء: لهم البشرى عند الموت تأتيهم الملائكة بالرحمة. قال الله تعالى: {تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الملئكة أَن لا تَخَافُواْ وَلاَ تَحْزَنُواْ وَأَبْشِرُواْ بالجنة} [فصلت: 30] وأمّا البشرى في الآخرة فتلقى الملائكة إياهم مسلمين مبشرين بالفوز والكرامة، وما يرون من بياض وجوههم وإعطاء الصحائف بأيمانهم وما يقرءون منها، وغير ذلك من البشارات {لاَ تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ الله} لا تغيير لأقواله ولا إخلاف لمواعيده، كقوله تعالى: {مَا يُبَدَّلُ القول لَدَىَّ} [ق: 29] و{ذلك} إشارة إلى كونهم مبشرين في الدارين، وكلتا الجملتين اعتراض.

.تفسير الآية رقم (65):

{وَلَا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ إِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (65)}
{وَلاَ يَحْزُنكَ} وقرئ: {ولا يحزنك} من أحزنه {قَوْلُهُمْ} تكذيبهم لك، وتهديدهم وتشاورهم في تدبير هلاكك وإبطال أمرك، وسائر ما يتكلمون به في شأنك {إِنَّ العزة للَّهِ} استئناف بمعنى التعليل، كأنه قيل: ما لي لا أحزن؟ فقيل: إن العزّة لله جميعاً، أي إن الغلبة والقهر في ملكة الله جميعاً، لا يملك أحد شيئاً منها لا هم ولا غيرهم، فهو يغلبهم وينصرك عليهم {كَتَبَ الله لاَغْلِبَنَّ أَنَاْ وَرُسُلِى} [المجادلة: 21]. {إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا} [غافر: 51] وقرأ أبو حيوة {أن العزة} بالفتح بمعنى لأن العزة على صريح التعليل ومن جعله بدلاً من قولهم ثم أنكره، فالمنكر هو تخريجه، لا ما أنكر من القراءة به {هُوَ السميع العليم} يسمع ما يقولون. ويعلم ما يدبرون ويعزمون عليه. وهو مكافئهم بذلك.

.تفسير الآية رقم (66):

{أَلَا إِنَّ لِلَّهِ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَتَّبِعُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ شُرَكَاءَ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ (66)}
{مَن فِي السماوات وَمَنْ فِي الأرض} يعني العقلاء المميزين وهم الملائكة والثقلان، وإنما خصّهم، ليؤذن أنّ هؤلاء إذا كانوا له وفي ملكته فهم عبيد كلهم، وهو سبحانه وتعالى: ربهم ولا يصلح أحد منهم للربوبية، ولا أن يكون شريكاً له فيها، ما وراءهم مما لا يعقل أحقّ أن لا يكون له ندّاً وشريكاً، وليدلّ على أن من اتّخذ غيره رباً من ملك أو إنسي فضلاً عن صنم أو غير ذلك، فهو مبطل تابع لما أدّى إليه التقليد وترك النظر. ومعنى: وما يتبعون شركاء، أي: وما يتبعون حقيقة الشركاء وإن كانوا يسمونها شركاء، لأنّ شركة الله في الربوبية محال {إِن يَتَّبِعُونَ إِلاَّ} ظنهم أنها شركاء {وَإِنْ هُمْ إِلاَّ يَخْرُصُونَ} يحزرون ويقدرون أن تكون شركاء تقديراً باطلاً. ويجوز أن يكون {وَمَا يَتَّبِعُ} في معنى الاستفهام، يعني: وأي شيء يتبعون. و{شُرَكَاء} على هذا نصب بيدعون، وعلى الأوّل بيتبع. وكان حقه. وما يتبع الذين يدعون من دون الله شركاء شركاء، فاقتصر على أحدهما للدلالة. ويجوز أن تكون (ما) موصولة معطوفة على (من) كأنه قيل: ولله ما يتبعه الذين يدعون من دون الله شركاء، أي: وله شركاؤهم.
وقرأ علي بن أبي طالب رضي الله عنه: تدعون، بالتاء، ووجهه أن يحمل {وَمَا يَتَّبِعُ} على الاستفهام، أي: وأي شيء يتبع الذين تدعونهم شركاء من الملائكة والنبيين، يعني: أنهم يتبعون الله ويطيعونه، فما لكم لا تفعلون مثل فعلهم؟ كقوله تعالى: {أُولَئِكَ الذين يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إلى رَبّهِمُ الوسيلة} [الإسراء: 57] ثم صرف الكلام عن الخطاب إلى الغيبة فقال: إن يتبع هؤلاء المشركون إلاّ الظن، ولا يتبعون ما يتبع الملائكة والنبييون من الحق.

.تفسير الآية رقم (67):

{هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهَارَ مُبْصِرًا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ (67)}
ثم نبه على عظيم قدرته ونعمته الشاملة لعباده التي يستحق بها أن يوحّدوه بالعبادة، بأنه جعل لهم الليل مظلماً ليسكنوا فيه مما يقاسون في نهارهم من تعب التردّد في المعاش، والنهار مضيئاً يبصرون فيه مطالب أرزاقهم ومكاسبهم {لِّقَوْمٍ يَسْمَعُونَ} سماع معتبر مدّكر.

.تفسير الآية رقم (68):

{قَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ هُوَ الْغَنِيُّ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ إِنْ عِنْدَكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ بِهَذَا أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (68)}
{سبحانه} تنزيه له عن اتخاذ الولد، وتعجب من كلمتهم الحمقاء {هُوَ الغنى} علة لنفي الولد لأنّ ما يطلب به الولد من يلد، وما يطلبه له السبب في كله الحاجة، فمن الحاجة منتفية عنه كان الولد عنه منتفياً {لَّهُ مَا فِي السموات وَمَا فِي الأرض} فهو مستغن بملكه لهم عن اتخاذ أحد منهم ولدا {إِنْ عِندَكُمْ مّن سُلْطَانٍ بهذا} ما عندكم من حجة بهذا القول والباء حقها أن تتعلق بقوله: {إِنْ عِندَكُمْ} على أن يجعل القول مكاناً للسلطان، كقولك: ما عندكم بأرضكم موز، كأنه قيل: إن عندكم فيما تقولون سلطان {أَتَقُولُونَ عَلَى الله مَا لاَ تَعْلَمُونَ} لما نفى عنهم البرهان جعلهم غير عالمين، فدلّ على أنّ كل قول لا برهان عليه لقائله فذاك جهل وليس بعلم.

.تفسير الآيات (69- 70):

{قُلْ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لَا يُفْلِحُونَ (69) مَتَاعٌ فِي الدُّنْيَا ثُمَّ إِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ ثُمَّ نُذِيقُهُمُ الْعَذَابَ الشَّدِيدَ بِمَا كَانُوا يَكْفُرُونَ (70)}
{يَفْتَرُونَ عَلَى الله الكذب} بإضافة الولد إليه {متاع فِي الدنيا} أي افتراؤهم هذا منفعة قليلة في الدنيا، وذلك حيث يقيمون رياستهم في الكفر ومناصبة النبي صلى الله عليه وسلم بالتظاهر به، ثم يلقون الشقاء المؤبد بعده.

.تفسير الآيات (71- 73):

{وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ نُوحٍ إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ إِنْ كَانَ كَبُرَ عَلَيْكُمْ مَقَامِي وَتَذْكِيرِي بِآَيَاتِ اللَّهِ فَعَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْتُ فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ وَشُرَكَاءَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُنْ أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ غُمَّةً ثُمَّ اقْضُوا إِلَيَّ وَلَا تُنْظِرُونِ (71) فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَمَا سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ (72) فَكَذَّبُوهُ فَنَجَّيْنَاهُ وَمَنْ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ وَجَعَلْنَاهُمْ خَلَائِفَ وَأَغْرَقْنَا الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُنْذَرِينَ (73)}
{كَبُرَ عَلَيْكُمْ} عظم عليكم وشقّ وثقل. ومنها قوله تعالى: {وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلاَّ عَلَى الخاشعين} [البقرة: 45]. ويقال: تعاظمه الأمر {مَّقَامِى} مكاني، يعني نفسه، كما تقول: فعلت كذا لمكان فلان: وفلان ثقيل الظل. ومنه: {وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبّهِ} [الرحمن: 46] بمعنى خاف ربه. أو قيامي ومكثي بين أظهركم مدداً طوالاً أَلْفَ سَنَةٍ إِلاَّ خَمْسِينَ عَاماً أو مقامي وتذكيري؛ لأنهم كانوا إذا وعظوا الجماعة قاموا على أرجلهم يعظونهم، ليكون مكانهم بيناً وكلامهم مسموعاً، كما يحكى عن عيسى صلوات الله عليه أنه كان يعظ الحواريين قائماً وهم قعود {فَأَجْمِعُواْ أَمْرَكُمْ وَشُرَكَاءكُمْ} من أجمع الأمر، وأزمعه، إذا نواه وعزم عليه. قال:
هَلْ أَغْدُوَنْ يَوْماً وَأَمْرِي مُجْمعُ

والواو بمعنى (مع) يعني: فأجمعوا أمركم مع شركائكم.
وقرأ الحسن: {وشركاؤكم} بالرفع عطفاً على الضمير المتصل، وجاز من غير تأكيد بالمنفصل لقيام الفاصل مقامه لطول الكلام، كما تقول: اضرب زيداً وعمرو. وقرئ: {فاجمعوا} من الجمع. وشركاءكم نصب للعطف على المفعول، أو لأنّ الواو بمعنى (مع) وفي قراءة أبيّ: {فأجمعوا أمركم وادعوا شركاءكم} فإن قلت: كيف جاز إسناد الإجماع إلى الشركاء؟ قلت: على وجه التهكم، كقوله: {قُلِ ادعوا شُرَكَاءكُمْ ثُمَّ كِيدُونِ} [الأعراف: 195] فإن قلت: ما معنى الأمرين؟ أمرهم الذي يجمعونه، وأمرهم الذي لا يكون عليهم غمة؟ قلت: أمّا الأمر الأوّل فالقصد إلى إهلاكه، يعني: فأجمعوا ما تريدون من إهلاكي واحتشدوا فيه وابذلوا وسعكم في كيدي. وإنما قال ذلك إظهاراً لقلة مبالاته وثقته بما وعده ربه من كلاءته وعصمته إياه، وأنهم لن يجدوا إليه سبيلاً. وأما الثاني ففيه وجهان، أحدهما: أن يراد مصاحبتهم له وما كانوا فيه معه من الحال الشديدة عليهم المكروهة عندهم، يعني: ثم أهلكوني لئلا يكون عيشكم بسببي غصة وحالكم عليكم غمة: أي غماً وهماً، والغم والغمة، كالكرب والكربة. والثاني أن يراد به ما أريد بالأمر الأوّل، والغمة السترة من غمه إذا ستره. ومنها قوله عليه السلام: «ولا غمة في فرائض الله» أي لا تستر، ولكن يجاهر بها، يعني: ولا يكن قصدكم إلى إهلاكي مستوراً عليكم ولكن مكشوفاً مشهوراً تجاهرونني به {ثُمَّ اقضوا إِلَىَّ} ذلك الأمر الذي تريدون بي، أي: أدّوا إليَّ قطعه وتصحيحه، كقوله تعالى: {وَقَضَيْنَآ إِلَيْهِ ذَلِكَ الأمر} [الحجر: 66] أو أدّوا إليّ ما هو حق عليكم عندكم من هلاكي كما يقضي الرجل غريمه {وَلاَ تُنظِرُونَ} ولا تمهلوني. قرئ: {ثم افضوا إليّ} بالفاء بمعنى: ثم انتهوا إليّ بشرّكم. وقيل: هو من أفضى الرجل إذا خرج إلى الفضاء، أي أصحروا به إليَّ وأبرزوه لي {فَإِن تَوَلَّيْتُمْ} فإن أعرضتم عن تذكيري ونصيحتي {فَمَا سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ} فما كان عندي ما ينفركم عني وتتهموني لأجله من طمع في أموالكم وطلب أجر على عظتكم {إِنْ أَجْرِىَ إِلاَّ عَلَى الله} وهو الثواب الذي يثيبني به في الآخرة أي: ما نصحتكم إلاّ لوجه الله، لا لغرض من أغراض الدنيا {وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ المسلمين} الذين لا يأخذون على تعليم الدين شيئاً ولا يطلبون به دنيا، يريد: أن ذلك مقتضى الإسلام، والذي كل مسلم مأمور به.
والمراد أن يجعل الحجّة لازمة لهم ويبرئ ساحته، فذكر أن توليهم لم يكن عن تفريط منه في سوق الأمر معهم على الطريق الذي يجب أن يساق عليه، وإنما ذلك لعنادهم وتمرّدهم لا غير {فَكَذَّبُوهُ} فتموا على تكذيبه، وكان تكذيبهم له في آخر المدّة المتطاولة كتكذيبهم في أوّلها، وذلك عند مشارفة الهلاك بالطوفان {وَجَعَلْنَاهُمْ خَلاَئِفَ} يخلفون الهالكين بالغرق {كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ المنذرين} تعظيم لما جرى عليهم، وتحذير لمن أنذرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم عن مثله، وتسلية له.

.تفسير الآية رقم (74):

{ثُمَّ بَعَثْنَا مِنْ بَعْدِهِ رُسُلًا إِلَى قَوْمِهِمْ فَجَاءُوهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا بِمَا كَذَّبُوا بِهِ مِنْ قَبْلُ كَذَلِكَ نَطْبَعُ عَلَى قُلُوبِ الْمُعْتَدِينَ (74)}
{مِن بَعْدِهِ} من بعد نوح {رُسُلاً إلى قَوْمِهِمْ} يعني هوداً وصالحاً وإبراهيم ولوطاً وشعيباً {فَجَاءوهُم بالبينات} بالحجج الواضحة المثبتة لدعواهم {فَمَا كَانُواْ لِيُؤْمِنُواْ} فما كان إيمانهم إلاّ ممتنعاً كالمحال لشدّة شكيمتهم في الكفر وتصميمهم عليه {بِمَا كَذَّبُواْ بِهِ مِن قَبْلُ} يريد أنهم كانوا قبل بعثة الرسل أهل جاهلية مكذبين بالحق. فما وقع فصل بين حالتهم بعد بعثة الرسل وقبلها، كأن لم يبعث إليهم أحد {كَذَلِكَ نَطْبَعُ} مثل ذلك الطبع المحكم نطبع {على قُلوبِ المعتدين} والطبع جار مجرى الكناية عن عنادهم ولجاجهم، لأنّ الخذلان يتبعه. ألا ترى كيف أسند إليهم الاعتداء ووصفهم به.

.تفسير الآيات (75- 78):

{ثُمَّ بَعَثْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ مُوسَى وَهَارُونَ إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ بِآَيَاتِنَا فَاسْتَكْبَرُوا وَكَانُوا قَوْمًا مُجْرِمِينَ (75) فَلَمَّا جَاءَهُمُ الْحَقُّ مِنْ عِنْدِنَا قَالُوا إِنَّ هَذَا لَسِحْرٌ مُبِينٌ (76) قَالَ مُوسَى أَتَقُولُونَ لِلْحَقِّ لَمَّا جَاءَكُمْ أَسِحْرٌ هَذَا وَلَا يُفْلِحُ السَّاحِرُونَ (77) قَالُوا أَجِئْتَنَا لِتَلْفِتَنَا عَمَّا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آَبَاءَنَا وَتَكُونَ لَكُمَا الْكِبْرِيَاءُ فِي الْأَرْضِ وَمَا نَحْنُ لَكُمَا بِمُؤْمِنِينَ (78)}
{مّن بَعْدِهِمْ} من بعد الرسل {بئاياتنا} بالآيات التسع {فاستكبروا} عن قبولها، وهو أعظم الكبر أن يتهاون العبيد برسالة ربهم بعد تبينها، ويتعظموا عن تقبلها {وَكَانُواْ قَوْماً مُّجْرِمِينَ} كفاراً ذوي آثام عظام، فلذلك استكبروا عنها واجترءوا على ردّها {فَلَمَّا جَاءهُمُ الحق مِنْ عِندِنَا} فلما عرفوا أنه هو الحق، وأنه من عند الله، لا من قبل موسى وهارون {قالوا} لحبهم الشهوات {إِنَّ هذا لَسِحْرٌ مُّبِينٌ} وهم يعلمون أنّ الحق أبعد شيء من السحر الذي ليس إلاّ تمويهاً وباطلاً.
فإن قلت: هم قطعوا بقولهم: {إِنَّ هذا لَسِحْرٌ مُّبِينٌ} على أنه سحر، فكيف قيل لهم: أتقولون أسحر هذا؟ قلت: فيه أوجه: أن يكون معنى قوله: {أَتقُولُونَ لِلْحَقّ} أتعيبونه وتطعنون فيه. وكان عليكم أن تذعنوا له وتعظموه، من قولهم: فلان يخاف القالة، وبين الناس تقاول إذا قال بعضهم لبعض ما يسوؤه، ونحو القول: الذكر، في قوله: {سَمِعْنَا فَتًى يَذْكُرُهُمْ} [الأنبياء: 60] ثم قال: {أَسِحْرٌ هذا} فأنكر ما قالوه في عيبه والطعن عليه، وأن يحذف مفعول أتقولون وهو ما دلّ عليه قولهم: {إِنَّ هذا لَسِحْرٌ مُّبِينٌ} كأنه قيل: أتقولون ما تقولون، يعني قولهم: إن هذا لسحر مبين، ثم قيل: أسحر هذا؟ وأن يكون جملة قوله: {أَسِحْرٌ هذا وَلاَ يُفْلِحُ الساحرون} حكاية لكلامهم، كأنهم قالوا: أَجئتما بالسحر تطلبان به الفلاح {وَلاَ يُفْلِحُ الساحرون} كما قال موسى للسحرة: ما جئتم به آلسحر، إنّ الله سيبطله {لِتَلْفِتَنَا} لتصرفنا. واللفت والفتل: أخوان، ومطاوعهما الالتفات والانفتال {عَمَّا وَجَدْنَا عَلَيْهِ ءابَاءنَا} يعنون عبادة الأصنام {وَتَكُونَ لَكُمَا الكبرياء} أي الملك؛ لأن الملوك موصوفون بالكبر. ولذلك قيل للملك الجبار، ووصف بالصيد والشوس، ولذلك وصف ابن الرقيات مصعباً في قوله:
مُلْكُهُ مُلْكُ رَأْفَةٍ لَيْسَ فِيه ** جَبَرُوتٌ مِنْهُ وَلاَ كُبْرِيَاءُ

ينفي ما عليه الملوك من ذلك. ويجوز أن يقصدوا ذمّهما وأنهما إن ملكا أرض مصر تجبرا وتكبرا، كما قال القبطي لموسى عليه السلام: إن تريد إلاّ أن تكون جباراً في الأرض {وَمَا نَحْنُ لَكُمَا بِمُؤْمِنِينَ} أي مصدّقين لكما فيما جئتما به. وقرئ: {يطبع} ويكون لكما، بالياء.