فصل: تفسير الآية رقم (71):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الكشاف عن حقائق التنزيل وعيون الأقاويل في وجوه التأويل



.تفسير الآية رقم (55):

{قَالُوا أَجِئْتَنَا بِالْحَقِّ أَمْ أَنْتَ مِنَ اللَّاعِبِينَ (55)}
بقوا متعجبين من تضليله إياهم، وحسبوا أن ما قاله إنما قاله على وجه المزاح والمداعبة، لا على طريق الجدّ. فقالوا له: هذا الذي جئتنا به، أهو جدّ وحق، أم لعب وهزل؟

.تفسير الآية رقم (56):

{قَالَ بَلْ رَبُّكُمْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الَّذِي فَطَرَهُنَّ وَأَنَا عَلَى ذَلِكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ (56)}
الضمير في {فطَرَهُنَّ} للسموات والأرض. أو للتماثيل، وكونه للتماثيل أدخل في تضليلهم، وأثبت للاحتجاج عليهم. وشهادته على ذلك: إدلاؤه بالحجة عليه. وتصحيحه بها كما تصحح الدعوى بالشهادة، كأنه قال: وأنا أبين ذلك وأبرهن عليه كما تبين الدعاوى بالبينات، لأني لست مثلكم، فأقول ما لا أقدر على إثباته بالحجة. كما لم تقدروا على الاحتجاج لمذهبكم، ولم تزيدوا على أنكم وجدتم عليه آباءكم.

.تفسير الآيات (57- 58):

{وَتَاللَّهِ لَأَكِيدَنَّ أَصْنَامَكُمْ بَعْدَ أَنْ تُوَلُّوا مُدْبِرِينَ (57) فَجَعَلَهُمْ جُذَاذًا إِلَّا كَبِيرًا لَهُمْ لَعَلَّهُمْ إِلَيْهِ يَرْجِعُونَ (58)}
قرأ معاذ بن جبل {بالله} وقرئ {تولوا} بمعنى تتولوا. ويقويها قوله: {فَتَوَلَّوْاْ عَنْهُ مُدْبِرِينَ} [الصافات: 90].
فإن قلت: ما الفرق بين الباء والتاء؟ قلت: أن الباء هي الأصل، والتاء بدل من الواو المبدلة منها، وأن التاء فيها زيادة معنى وهو التعجب، كأنه تعجب من تسهل الكيد على يده وتأتيه، لأن ذلك كان أمراً مقنوطاً منه لصعوبته وتعذره. ولعمري إن مثله صعب متعذر في كل زمان. خصوصاً في زمن نمروذ مع عتوّه واستكباره وقوة سلطانه وتهالكه على نصرة دينه ولكن:
إذَا اللَّهُ سَنَّى عِقْدَ شَيْءٍ تَيَسَّرا

روي أن آزر خرج به في يوم عيد لهم، فبدؤا ببيت الأصنام فدخلوه وسجدوا لها ووضعوا بينها طعاماً خرجوا به معهم وقالوا: إلى أن نرجع بركت الآلهة على طعامنا، فذهبوا وبقي إبراهيم فنظر إلى الأصنام وكانت سبعين صنماً مصطفة، وثم صنم عظيم مستقبل الباب، وكان من ذهب وفي عينيه جوهرتان تضيئان بالليل فكسرها، كلها بفأس في يده، حتى إذا لم يبق إلا الكبير علق الفأس في عنقه، عن قتادة: قال ذلك سرا من قومه، وروي: سمعه رجل واحد {جُذَاذاً} قطاعاً، من الجذ وهو القطع. وقرئ بالكسر والفتح. وقرئ: {جَذَذَاً} جمع جَذيذ، و {جذذاً} جمع جذة. وإنما استبقى الكبير لأنه غلب في ظنه أنهم لا يرجعون إلا إليه، لما تسامعوه من إنكاره لدينهم وسبه لآلهتهم، فيبكتهم بما أجاب به من قوله: {بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هذا فَاسْئَلُوهُمْ} وعن الكلبي {إِلَيْهِ} إلى كبيرهم. ومعنى هذا: لعلهم يرجعون إليه كما يرجع إلى العالم في حل المشكلات، فيقولون له: ما لهؤلاء مكسورة ومالك صحيحاً والفأس على عاتقك؟ قال هذا بناء على ظنه بهم، لما جرب وذاق من مكابرتهم لعقولهم واعتقادهم في آلهتهم وتعظيمهم لها. أو قاله مع علمه أنهم لا يرجعون إليه استهزاء بهم واستجهالاً، وأن قياس حال من يسجد له ويؤهله للعبادة أن يرجع إليه في حل كل مشكل.
فإن قلت: فإذا رجعوا إلى الصنم بمكابرتهم لعقولهم ورسوخ الإشراك في أعراقهم، فأي فائدة دينية في رجوعهم إليه حتى يجعله إبراهيم صلوات الله عليه غرضاً؟ قلت: إذا رجعوا إليه تبين أنه عاجز لا ينفع ولا يضر، وظهر أنهم في عبادته على جهل عظيم.

.تفسير الآية رقم (59):

{قَالُوا مَنْ فَعَلَ هَذَا بِآَلِهَتِنَا إِنَّهُ لَمِنَ الظَّالِمِينَ (59)}
أي أن من فعل هذا الكسر والحطم لشديد الظلم، معدود في الظلمة: إمّا لجرأته على الآلهة الحقيقة عندهم بالتوقير والإعظام، وإمّا لأنهم رأوا إفراطاً في حطمها وتمادياً في الاستهانة بها.

.تفسير الآيات (60- 61):

{قَالُوا سَمِعْنَا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقَالُ لَهُ إِبْرَاهِيمُ (60) قَالُوا فَأْتُوا بِهِ عَلَى أَعْيُنِ النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَشْهَدُونَ (61)}
فإن قلت: ما حكم الفعلين بعد {سَمِعْنَا فَتًى} وأي فرق بينهما؟ قلت: هما صفتان لفتى، إلا أن الأوّل وهو {يَذْكُرُهُمْ} لابد منه لسمع، لأنك لا تقول: سمعت زيداً وتسكت، حتى تذكر شيئاً مما يسمع. وأمّا الثاني فليس كذلك.
فإن قلت: {إِبْرَاهِيمَ} ما هو؟ قلت: قيل هو خبر مبتدأ محذوف، أو منادى. والصحيح أنه فاعل يقال، لأن المراد الاسم لا المسمى {على أَعْيُنِ الناس} في محل الحال، بمعنى معايناً مشاهداً، أي: بمرأى منهم ومنظر.
فإن قلت: فما معنى الاستعلاء في على؟ قلت: هو وارد على طريق المثل، أي: يثبت إتيانه في الأعين ويتمكن فيها ثبات الراكب على المركوب وتمكنه منه {لَعَلَّهُمْ يَشْهَدُونَ} عليه بما سمع منه. وبما فعله أو يحضرون عقوبتنا له. روي أنّ الخبر بلغ نمروذ وأشراف قومه، فأمروا بإحضاره.

.تفسير الآيات (62- 63):

{قَالُوا أَأَنْتَ فَعَلْتَ هَذَا بِآَلِهَتِنَا يَا إِبْرَاهِيمُ (62) قَالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا فَاسْأَلُوهُمْ إِنْ كَانُوا يَنْطِقُونَ (63)}
هذا من معاريض الكلام ولطائف هذا النوع لا يتغلغل فيها إلا أذهان الراضة من علماء المعاني. والقول فيه أنّ قصد إبراهيم صلوات الله عليه لم يكن إلى أن ينسب الفعل الصادر عنه إلى الصنم، وإنما قصد تقريره لنفسه وإثباته لها على أسلوب تعريضي يبلغ فيه غرضه من إلزامهم الحجة وتبكيتهم، وهذا كما لو قال لك صاحبك وقد كتبت كتاباً بخط رشيق وأنت شهير بحسن الخط: أأنت كتبت هذا وصاحبك أمّيّ لا يحسن الخطّ ولا يقدر إلا على خرمشة فاسدة؟! فقلت له: بل كتبته أنت، كان قصدك بهذا الجواب تقريره لك مع الاستهزاء به، لا نفيه عنك وإثباته للأمّيّ أو المخرمش، لأنّ إثباته- والأمر دائر بينكما للعاجز منكما- استهزاء به وإثبات للقادر، ولقائل أن يقول: غاظته تلك الأصنام حين أبصرها مصطفة مرتبة، وكان غيظ كبيرها أكبر وأشدّ لم رأى من زيادة تعظيمهم له. فأسند الفعل إليه لأنه هو الذي تسبب لاستهانته بها وحطمه لها، والفعل كما يسند إلى مباشره يسند إلى الحامل عليه. ويجوز أن يكون حكاية لما يقول إلى تجويزه مذهبهم، كأنه قال لهم: ما تنكرون أن يفعله كبيرهم. فإنّ من حق من يعبد ويدعى إلها أن يقدر على هذا وأشدّ منه. ويحكى أنه قال: فعله كبيرهم هذا غضب أن تعبد معه هذه الصغار وهو أكبر منها.
وقرأ محمد بن السُّمَيْقَع {فعله كبيرهم}، يعني: فلعله، أي فلعلّ الفاعل كبيرهم.

.تفسير الآية رقم (64):

{فَرَجَعُوا إِلَى أَنْفُسِهِمْ فَقَالُوا إِنَّكُمْ أَنْتُمُ الظَّالِمُونَ (64)}
فلما ألقمهم الحجر وأخذ بمخانقهم، رجعوا إلى أنفسهم فقالوا: أنتم الظالمون على الحقيقة، لا من ظلمتموه حين قلتم: من فعل هذا بآلهتنا إنه لمن الظالمين.

.تفسير الآية رقم (65):

{ثُمَّ نُكِسُوا عَلَى رُءُوسِهِمْ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا هَؤُلَاءِ يَنْطِقُونَ (65)}
نكسته: قلبته فجعلت أسفله أعلاه، وانتكس: انقلب، أي: استقاموا حين رجعوا إلى أنفسهم وجاؤا بالفكرة الصالحة، ثم انتكسوا وانقلبوا عن تلك الحالة، فأخذوا في المجادلة بالباطل والمكابرة، وأنّ هؤلاء- مع تقاصر حالها عن حال الحيوان الناطق- آلهة معبودة، مضارّة منهم. أو انتكسوا عن كونهم مجادلين لإبراهيم عليه السلام مجادلين عنه، حين نفوا عنها القدرة على النطق. أو قلبوا على رؤسهم حقيقة، لفرط إطراقهم خجلاً وانكساراً وانخزالاً مما بهتهم به إبراهيم عليه السلام، فما أحاروا جواباً ما هو حجة عليهم. وقرئ: {نكسوا} بالتشديد ونكسوا، على لفظ ما سمي فاعله، أي: نكسوا أنفسهم على رؤوسهم. قرأ به رضوان ابن عبد المعبود.

.تفسير الآيات (66- 67):

{قَالَ أَفَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُكُمْ شَيْئًا وَلَا يَضُرُّكُمْ (66) أُفٍّ لَكُمْ وَلِمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (67)}
{أُفٍّ} صوت إذا صوّت به علم أنّ صاحبه متضجر، أضجره ما رأى من ثباتهم على عبادتها بعد انقطاع عذرهم وبعد وضوح الحق وزهوق الباطل، فتأفف بهم. واللام لبيان المتأفف به. أي: لكم ولآلهتكم هذا التأفف.

.تفسير الآيات (68- 70):

{قَالُوا حَرِّقُوهُ وَانْصُرُوا آَلِهَتَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ (68) قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلَامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ (69) وَأَرَادُوا بِهِ كَيْدًا فَجَعَلْنَاهُمُ الْأَخْسَرِينَ (70)}
أجمعوا رأيهم- لما غلبوا- بإهلاكه؛ وهكذا المبطل إذا قرعت شبهته بالحجة وافتضح، لم يكن أحد أبغض إليه من المحق. ولم يبق له مفزع إلا مناصبته، كما فعلت قريش برسول الله صلى الله عليه وسلم حين عجزوا عن المعارضة والذي أشار بإحراقه نمروذ.
وعن ابن عمر رضي الله عنهما: رجل من أعراب العجم يريد الأكراد.
وروي: أنهم حين هموا بإحراقه، حبسوه ثم بنوا بيتاً كالحظيرة بكوثى، وجمعوا شهراً أصناف الخشب الصلاب، حتى إن كانت المرأة لتمرض فتقول: إن عافاني الله لأجمعنّ خطباً لإبراهيم عليه السلام، ثم أشعلوا ناراً عظيمة كادت الطير تحترق في الجوّ من وهجها. ثم وضعوه في المنجنيق مقيداً مغلولاً فرموا به فيها، فناداها جبريل عليه السلام {قُلْنَا يانار كُونِى بَرْداً وسلاما} ويحكى. ما أحرقت منه إلا وثاقه. وقال له جبريل عليه السلام حين رمي به: هل لك حاجة؟ فقال: أما إليك فلا. قال: فسل ربك. قال: حسبي من سؤالي علمه بحالي.
وعن ابن عباس رضي الله عنهما: إنما نجا بقوله: حسبي الله ونعم الوكيل، وأطل عليه نمروذ من الصرح فإذا هو في روضة ومعه جليس له من الملائكة، فقال: إني مقرّب إلى إلهك، فذبح أربعة آلاف بقرة وكفّ عن إبراهيم، وكان إبراهيم صلوات الله وسلامه عليه إذ ذاك ابن ست عشرة سنة. واختاروا المعاقبة بالنار لأنها أهول ما يعاقب به وأفظعه، ولذلك جاء: «لا يعذب بالنار إلا خالقها» ومن ثم قالوا: {إِن كُنتُمْ فاعلين} أي إن كنتم ناصرين آلهتكم نصراً مؤزراً، فاختاروا له أهول المعاقبات وهي الإحراق بالنار، وإلا فرّطتم في نصرتها. ولهذا عظموا النار وتكلفوا في تشهير أمرها وتفخيم شأنها، ولم يألوا جهداً في ذلك. جعلت النار لمطاوعتها فعل الله وإرادته كمأمور أمر بشيء فامتثله. والمعنى: ذات برد وسلام، فبولغ في ذلك، كأن ذاتها برد وسلام. والمراد: ابردي فيسلم منك إبراهيم. أو ابردي برداً غير ضارّ.
وعن ابن عباس رضي الله عنه: لو لم يقل ذلك لأهلكته ببردها.
فإن قلت: كيف بردت النار وهي نار؟ قلت: نزع الله عنها طبعها الذي طبعها عليه من الحرّ والإحراق، وأبقاها على الإضاءة {والإشراق} والاشتعال كما كانت، والله على كل شيء قدير. ويجوز أن يدفع بقدرته عن جسم إبراهيم عليه السلام أذى حرّها ويذيقه فيها عكس ذلك، كما يفعل بخزنة جهنم، ويدل عليه قوله: {على إبراهيم} وأرادوا أن يكيدوه ويمكروا به، فما كانوا إلا مغلوبين مقهورين غالبوه بالجدال فغلبه الله ولقنه بالمبكت، وفزعوا إلى القوّة والجبروت، فنصره وقوّاه.

.تفسير الآية رقم (71):

{وَنَجَّيْنَاهُ وَلُوطًا إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا لِلْعَالَمِينَ (71)}
نجيا من العراق إلى الشام. وبركاته الواصلة إلى العالمين: أن أكثر الأنبياء عليهم السلام بعثوا فيه فانتشرت في العالمين شرائعهم وآثارهم الدينية وهي البركات الحقيقية. وقيل: بارك الله فيه بكثرة الماء والشجر والثمر والخصب وطيب عيش الغنيّ والفقير.
وعن سفيان أنه خرج إلى الشام فقيل له: إلى أين؟ فقال: إلى بلد يملأ فيه الجراب بدرهم. وقيل: ما من ماء عذب إلا وينبع أصله من تحت الصخرة التي ببيت المقدس وروي: أنه نزل بفلسطين، ولوط بالمؤتفكة وبينهما مسيرة يوم وليلة.

.تفسير الآية رقم (72):

{وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ نَافِلَةً وَكُلًّا جَعَلْنَا صَالِحِينَ (72)}
النافلة: ولد الولد. وقيل: سأل إسحاق فأعطيه، وأعطي يعقوب نافلة، أي: زيادة وفضلاً من غير سؤال.

.تفسير الآية رقم (73):

{وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْرَاتِ وَإِقَامَ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءَ الزَّكَاةِ وَكَانُوا لَنَا عَابِدِينَ (73)}
{يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا} فيه أن من صلح ليكون قدوة في دين الله فالهداية محتومة عليه مأمور هو بها من جهة الله، ليس له أن يخل بها ويتثاقل عنها، وأول ذلك أن يهتدي بنفسه؛ لأن الانتفاع بهداه أعم، والنفوس إلى الاقتداء بالمهدي أميل {فِعْلَ الخيرات} أصله أن تفعل الخيرات، ثم فعلا الخيرات، ثم فعل الخيرات. وكذلك إقام الصلاة وإيتاء الزكاة.