فصل: تفسير الآية رقم (71):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الكشاف عن حقائق التنزيل وعيون الأقاويل في وجوه التأويل



.تفسير الآية رقم (54):

{فَذَرْهُمْ فِي غَمْرَتِهِمْ حَتَّى حِينٍ (54)}
الغمرة. الماء الذي يغمر القامة فضربت مثلاً لما هم مغمورون فيه من جهلهم وعمايتهم. أو شبهوا باللاعبين في غمرة الماء لما هم عليه من الباطل. قال:
كَأَنَّنِي ضَارِبٌ فِي غَمْرَةٍ لَعِبُ

وعن علي رضي الله عنه: في غمراتهم {حتى حِينٍ} إلى أن يقتلوا أو يموتوا.

.تفسير الآيات (55- 56):

{أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مَالٍ وَبَنِينَ (55) نُسَارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْرَاتِ بَلْ لَا يَشْعُرُونَ (56)}
سلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وسلم بذلك، ونهى عن الاستعجال بعذابهم والجزع من تأخيره. وقرئ: {يمدّهم} ويسارع، ويسرع، بالياء، والفاعل الله سبحانه وتعالى. ويجوز في: يسارع، ويسرع: أن يتضمن ضمير الممدّ به. ويسارع، مبنياً للمفعول. والمعنى: أنّ هذا الإمداد ليس إلا استدراجاً لهم إلى المعاصي، واستجراراً إلى زيادة الإثم، وهم يحسبونه مسارعة لهم في الخيرات، وفيما لهم فيه نفع وإكرام، ومعاجلة بالثواب قبل وقته. ويجوز أن يراد في جزاء الخيرات كما يفعل بأهل الخير من المسلمين. و{بَل} استدراك لقوله: {أَيَحْسَبُونَ} يعني: بل هم أشباه البهائم لا فطنة بهم ولا شعور، حتى يتأملوا ويتفكروا في ذلك: أهو استدراج، أم مسارعة في الخير؟ فإن قلت: أين الراجع من خبر أنّ لها اسمها إذا لم يستكن فيه ضميره؟ قلت: هو محذوف تقديره: نسارع به، ويسارع به، ويسارع الله به، كقوله: {إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الأمور} [الشورى: 43] أي إن ذلك منه، وذلك لاستطالة الكلام مع أمن الإلباس.

.تفسير الآيات (57- 61):

{إِنَّ الَّذِينَ هُمْ مِنْ خَشْيَةِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ (57) وَالَّذِينَ هُمْ بِآَيَاتِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ (58) وَالَّذِينَ هُمْ بِرَبِّهِمْ لَا يُشْرِكُونَ (59) وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آَتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ (60) أُولَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ (61)}
{يُؤْتُونَ مَا ءَاتَواْ} يعطون ما أعطوا، وفي قراءة رسول الله صلى الله عليه وسلم وعائشة: {يأتون ما أتوا}، أي يفعلون ما فعلوا. وعنها أنها قالت: «قلت: يا رسول الله، هو الذي يزني ويسرق ويشرب الخمر وهو على ذلك يخاف الله؟ قال: لا يا ابنة الصدّيق، ولكن هو الذي يصلي ويصوم ويتصدق وهو على ذلك يخاف الله أن لا يقبلَ مِنْهُ». {يسارعون فِي الخيرات} يحتمل معنيين، أحدهما: أن يراد يرغبون في الطاعات أشدّ الرغبة فيبادرونها.
والثاني: أنهم يتعجلون في الدنيا المنافع ووجوه الإكرام، كما قال: {فاتاهم الله ثَوَابَ الدنيا وَحُسْنَ ثَوَابِ الأخرة} [آل عمران: 148]، {وآتيناه أجره في الدنيا وإنه في الآخرة لمن الصالحين} [العنكبوت: 27] لأنهم إذا سورع بها لهم، فقد سارعوا في نيلها وتعجلوها، وهذا الوجه أحسن طباقاً للآية المتقدمة، لأنّ فيه إثبات ما نفي عن الكفار للمؤمنين. وقرئ: {يسرعون في الخيرات} {لَهَا سابقون} أي فاعلون السبق لأجلها أو سابقون الناس لأجلها، أو إياها سابقون، أي: ينالونها قبل الآخرة حيث عجلت لهم في الدنيا. ويجوز أن يكون {لَهَا سابقون} خبراً بعد خبر. ومعنى {وَهُمْ لَهَا} كمعنى قوله:
أَنْتَ لَهَا أَحْمَدُ مِنْ بَيْنِ الْبَشَرِ

.تفسير الآيات (62- 63):

{وَلَا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا وَلَدَيْنَا كِتَابٌ يَنْطِقُ بِالْحَقِّ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (62) بَلْ قُلُوبُهُمْ فِي غَمْرَةٍ مِنْ هَذَا وَلَهُمْ أَعْمَالٌ مِنْ دُونِ ذَلِكَ هُمْ لَهَا عَامِلُونَ (63)}
يعني أن هذا الذي وصف به الصالحين غير خارج من حدّ الوسع والطاقة، وكذلك كل ما كلفه عباده وما عملوه من الأعمال فغير ضائع عنده، بل هو مثبت لديه في كتاب، يريد اللوح، أو صحيفة الأعمال ناطق بالحق لا يقرؤون منه يوم القيامة إلا ما هو صدق وعدل، لا زيادة فيه ولا نقصان ولا يظلم منهم أحد. أو أراد أن الله لا يكلف إلا الوسع، فإن لم يبلغ المكلف أن يكون على صفة هؤلاء السابقين بعد أن يستفرغ وسعه ويبذل طاقته فلا عليه، ولدينا كتاب فيه عمل السابق والمقتصد، ولا نظلم أحداً ولا نحطه دون درجته، بل قلوب الكفرة في غفلة غامرة لها {مِنْ هذا} أي مما عليه هؤلاء الموصوفون من المؤمنين {وَلَهُمْ أعمال} متجاوزة متخطية لذلك، أي: لما وصف به المؤمنون {هُمْ لَهَا عاملون} معتادون وبها ضارون، لا يفطمون عنها حتى يأخذهم الله بالعذاب.

.تفسير الآيات (64- 67):

{حَتَّى إِذَا أَخَذْنَا مُتْرَفِيهِمْ بِالْعَذَابِ إِذَا هُمْ يَجْأَرُونَ (64) لَا تَجْأَرُوا الْيَوْمَ إِنَّكُمْ مِنَّا لَا تُنْصَرُونَ (65) قَدْ كَانَتْ آَيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ فَكُنْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ تَنْكِصُونَ (66) مُسْتَكْبِرِينَ بِهِ سَامِرًا تَهْجُرُونَ (67)}
حتى هذه هي التي يبتدأ بعدها الكلام، والكلام: الجملة الشرطية، والعذاب. قتلهم يوم بدر. أو الجوع حين دعا عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: «اللَّهم اشدد وطأتك على مضر واجعلها عليهم سنين كسني يوسف» فابتلاهم الله بالقحط حتى أكلوا الجيف والكلاب والعظام المحترقة والقدّ والأولاد. الجؤار: الصراخ باستغاثة قال:
جَئَّارُ سَاعَاتِ النِّيَامِ لِرَبِّهِ

أي يقال لهم حينئذ {لاَ تَجْئَرُواْ} فإن الجؤار غير نافع لكم، {مِّنَّا لاَ تُنصَرُونَ} لا تغاثون ولا تمنعون منا أو من جهتنا، لا يلحقكم نصر ومغوثة. قالوا: الضمير في {بِهِ} للبيت العتيق أو للحرم، كانوا يقولون: لا يظهر علينا أحد لأنا أهل الحرم. والذي سوّغ هذا الأضمار شهرتهم بالاستكبار بالبيت، وأنه لم تكن لهم مفخرة إلا أنهم ولاته والقائمون به. ويجوز أن يرجع إلى آياتي، إلا أنه ذكر لأنها في معنى كتابي، ومعنى استكبارهم بالقرآن: تكذيبهم به استكباراً. ضمن مستكبرين معنى مكذبين، فعدّي تعديته. أو يحدث لكم استماعه استكباراً وعتوّاً، فأنتم مستكبرون بسببه، أو تتعلق الباء بسامراً، أي: يسمرون بذكر القرآن وبالطعن فيه، وكانوا يجتمعون حول البيت بالليل يسمرون. وكانت عامة سمرهم ذكر القرآن وتسميته سحراً وشعراً وسبّ رسول الله صلى الله عليه وسلم. أو يتهجرون. والسامر: نحو الحاضر في الإطلاق على الجمع. وقرئ: {سمراً} و {سماراً} وتهجرون وتهجرون، من أهجر في منطقه إذا أفحش. والهجر- بالضم-: الفحش، ومن هجر الذي هو مبالغة في هجر إذا هذي. والهجر- بالفتح-: الهذيان.

.تفسير الآيات (68- 70):

{أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا الْقَوْلَ أَمْ جَاءَهُمْ مَا لَمْ يَأْتِ آَبَاءَهُمُ الْأَوَّلِينَ (68) أَمْ لَمْ يَعْرِفُوا رَسُولَهُمْ فَهُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ (69) أَمْ يَقُولُونَ بِهِ جِنَّةٌ بَلْ جَاءَهُمْ بِالْحَقِّ وَأَكْثَرُهُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ (70)}
{القول} القرآن، يقول: أفلم يتدبروه ليعلموا أنه الحق المبين فيصدّقوا به وبمن جاء به، بل {جَآءَهُمْ مَّا لَمْ يَأْتِ ءابَاءهُمُ} فلذلك أنكروه واستبدعوه، كقوله: {لِتُنذِرَ قَوْماً مَّا أُنذِرَ ءابَاؤُهُمْ فَهُمْ غافلون} [يس: 6] أو ليخافوا عنه تدبر آياته وأقاصيصه مثل ما نزل بمن قبلهم من المكذبين، أم جاءهم من الأمن ما لم يأت أباءهم حين خافوا الله فآمنوا به وبكتبه ورسله وأطاعوه؟ وآباؤهم: إسماعيل وأعقابه من عدنان وقحطان.
وعن النبي صلى الله عليه وسلم: «لا تسبُّوا مضرَ ولا ربيعةَ فإنّهمَا كانَا مسلمينَ، ولا تسبُّوا قساً فإنّه كان مسلمَاً، ولا تسبُّوا الحارثَ بنَ كعبٍ ولا أَسدَ بنَ خُزيمةَ ولا تميمَ بنَ مرَّ. فإنهم كانُوا على الإسلامِ، وما شككْتُم فيه من شيء فلا تشكُّوا في أن تبَعاً كان مسلماً» وروي في أنّ ضبة كان مسلماً، وكان على شرطة سليمان بن داود {أَمْ لَمْ يَعْرِفُواْ} محمداً وصحة نسبه، وحلوله في سطة هاشم، وأمانته، وصدقه، وشهامته، وعقله واتسامه بأنه خير فتيان قريش، والخطبة التي خطبها أبو طالب في نكاح خديجة بنت خويلد، كفى برغائها منادياً.
الجنة: الجنون وكانوا يعلمون أنه بريء منها وأنه أرجحهم عقلاً وأثقبهم ذهناً، ولكنه جاءهم بما خالف شهواتهم وأهواءهم، ولم يوافق ما نشأوا عليه، وسيط بلحومهم ودمائهم من اتباع الباطل، ولم يجدوا له مردّاً ولا مدفعاً لأنه الحق الأبلج والصراط المستقيم، فأَخلدوا إلى البهت وعوّلوا على الكذب من النسبة إلى الجنون والسحر والشعر.
فإن قلت: قوله: {وَأَكْثَرُهُمْ} فيه أن أقلهم كانوا لا يكرهون الحق.
قلت: كان فيهم من يترك الإيمان به أنفة واستنكافاً من توبيخ قومه وأن يقولوا صبأ وترك دين آبائه، لا كراهة للحق، كما يحكى عن أبي طالب.
فإن قلت: يزعم بعض الناس أنّ أبا طالب صحّ إسلامه.
قلت: يا سبحان الله، كأن أبا طالب كان أخمل أعمام رسول الله صلى الله عليه وسلم، حتى يشتهر إسلام حمزة والعباس رضي الله عنهما، ويخفى إسلام أبي طالب.

.تفسير الآية رقم (71):

{وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّمَوَاتُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ بَلْ أَتَيْنَاهُمْ بِذِكْرِهِمْ فَهُمْ عَنْ ذِكْرِهِمْ مُعْرِضُونَ (71)}
دلّ بهذا على عظم شأن الحق، وأنّ السموات والأرض ما قامت ولا من فيهنّ إلا به، فلو اتبع أهواءهم لانقلب باطلاً، ولذهب ما يقوم به العالم فلا يبقى له بعده قوام. أو أراد أنّ الحق الذي جاء به محمد صلى الله عليه وسلم وهو الإسلام، لو اتبع أهواءهم وانقلب شركاً، لجاء الله بالقيامة ولأهلك العالم ولم يؤخر.
وعن قتادة: أنّ الحق هو الله. ومعناه: لو كان الله إلها يتبع أهواءهم ويأمر بالشرك والمعاصي، لما كان إلها ولكان شيطاناً، ولما قدر أن يمسك السموات والأرض {بِذِكْرِهِمْ} أي بالكتاب الذي هو ذكرهم، أي: وعظهم أو وصيتهم وفخرهم: أو بالذكر الذي كانوا يتمنونه ويقولون: لو أنّ عندنا ذكراً من الأوّلين لكنا عباد الله المخلصين. وقرئ: {بذكراهم}.

.تفسير الآية رقم (72):

{أَمْ تَسْأَلُهُمْ خَرْجًا فَخَرَاجُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (72)}
قرئ: {خراجا فخراج} و {خرجاً فخرج} و {خرجا فخراج} وهو ما تخرجه إلى الإمام من زكاة أرضك. وإلى كل عامل من أجرته وجُعله. وقيل: الخرج: ما تبرعت به. والخراج: ما لزمك أداؤه. والوجه أنّ الخرج أخصّ من الخراج، كقولك: خراج القرية، وخرج الكردة، زيادة اللفظ لزيادة المعنى؛ ولذلك حسنت قراءة من قرأ: خرجاً فخراج ربك، يعني: أم تسألهم على هدايتك لهم قليلاً من عطاء الخلق، فالكثير من عطاء الخالق خير.

.تفسير الآيات (73- 74):

{وَإِنَّكَ لَتَدْعُوهُمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (73) وَإِنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآَخِرَةِ عَنِ الصِّرَاطِ لَنَاكِبُونَ (74)}
قد ألزمهم الحجّة في هذه الآيات وقطع معاذيرهم وعللهم بأن الذي أُرسل إليهم رجل معروف أمره وحاله، مخبور سرّه وعلنه، خليق بأن يجتبى مثله للرسالة من بين ظهرانيهم، وأنه لم يعرض له حتى يدعى بمثل هذه الدعوى العظيمة بباطل، ولم يجعل ذلك سلماً إلى النيل من دنياهم واستعطاء أَموالهم، ولم يدعهم إلا إلى دين الإسلام الذي هو الصراط المستقيم، مع إبراز المكنون من أدوائهم وهو إخلالهم بالتدبر والتأمل، واستهتارهم بدين الآباء الضُّلاَّل من غير براهان، وتعللهم بأنه مجنون بعد ظهور الحق وثبات التصديق من الله بالمعجزات والآيات النيرة، وكراهتهم للحق، وإعراضهم عما فيه حظهم من الذكر، يحتمل أنّ هؤلاء وصفتهم أنهم لا يؤمنون بالآخرة {لناكبون} أي عادلون عن هذا الصراط المذكور، وهو قوله: {إلى صراط مُّسْتَقِيمٍ} وأن كل من لا يؤمن بالآخرة فهو عن القصد ناكب.
لما أسلم ثمامة بن أثال الحنفي ولحق باليمامة ومنع الميرة من أهل مكة وأخذهم الله بالسنين حتى أكلوا العلهز جاء أبو سفيان إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال له: أنشدك الله والرحم ألست تزعم أنك بعثت رحمة للعالمين فقال: بلى، فقال: قتلت الآباء بالسيف، والأبناء بالجوع.

.تفسير الآيات (75- 77):

{وَلَوْ رَحِمْنَاهُمْ وَكَشَفْنَا مَا بِهِمْ مِنْ ضُرٍّ لَلَجُّوا فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ (75) وَلَقَدْ أَخَذْنَاهُمْ بِالْعَذَابِ فَمَا اسْتَكَانُوا لِرَبِّهِمْ وَمَا يَتَضَرَّعُونَ (76) حَتَّى إِذَا فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَابًا ذَا عَذَابٍ شَدِيدٍ إِذَا هُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ (77)}
والمعنى: لو كشف الله عنهم هذا الضرّ وهو الهزال والقحط الذي أصابهم برحمته عليهم ووجدوا الخصب؛ لارتدوا إلى ما كانوا عليه من الاستكبار وعداوة رسول الله صلى الله عليه وسلم والمؤمنين وإفراطهم فيها، ولذهب عنهم هذا الإبلاس وهذا التملق بين يديه ويسترحمونه، واستشهد على ذلك بأنا أخذناهم أوّلاً بالسيوف وبما جرى عليهم يوم بدر من قتل صناديدهم وأسرهم، فما وجدت منهم بعد ذلك استكانة ولا تضرّع، حتى فتحنا عليهم باب الجوع الذي هو أشدّ من الأسر والقتل وهو أطمّ العذاب، فأبسلوا الساعة وخضعت رقابهم، وجاء أعتاهم وأشدّهم شكيمة في العناد يستعطفك. أو محناهم بكل محنة من القتل والجوع فما رؤي فيهم لين مقادة وهم كذلك، حتى إذا عذبوا بنار جهنم فحينئذ يبلسون، كقوله: {وَيَوْمَ تَقُومُ الساعة يُبْلِسُ المجرمون} [الروم: 12]، {لا يُفَتَّرُ عَنْهُمْ وَهُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ} [الزخرف: 75]. والإبلاس: اليأس من كل خير. وقيل: السكوت مع التحير.
فإن قلت: ما وزن استكان؟ قلت: استفعل من الكون، أي: انتقل من كون إلى كون، كما قيل: استحال، إذا انتقل من حال إلى حال. ويجوز أن يكون افتعل من السكون أشبعت فتحة عينه، كما جاء: بمنتزاح.
فإن قلت: هلا قيل: وما تضرّعوا. أو: فما يستكينون؟ قلت: لأنّ المعنى: محناهم فما وجدت منهم عقيب المحنة استكانة. وما من عادة هؤلاء أن يستكينوا ويتضرّعوا حتى يفتح عليهم باب العذاب الشديد. وقرئ: {فتحنا}.