فصل: تفسير الآية رقم (88):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الكشاف عن حقائق التنزيل وعيون الأقاويل في وجوه التأويل



.تفسير الآية رقم (85):

{مَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً حَسَنَةً يَكُنْ لَهُ نَصِيبٌ مِنْهَا وَمَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً سَيِّئَةً يَكُنْ لَهُ كِفْلٌ مِنْهَا وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُقِيتًا (85)}
الشفاعة الحسنة: هي التي روعي بها حق مسلم، ودفع بها عنه شر أو جلب إليه خير. وابتغي بها وجه الله ولم تؤخذ عليها رشوة، وكانت في أمر جائز لا في حدّ من حدود الله ولا في حق من الحقوق. والسيئة: ما كان بخلاف ذلك.
وعن مسروق أنه شفع شفاعة فأهدى إليه المشفوع جارية، فغضب وردها وقال: لو علمت ما في قلبك لما تكلمت في حاجتك، ولا أتكلم فيما بقي منها وقيل: الشفاعة الحسنة: هي الدعوة للمسلم، لأنها في معنى الشفاعة إلى الله.
وعن النبي صلى الله عليه وسلم: «من دعا لأخيه المسلم بظهر الغيب استجيب له و قال له الملك: ولك مثل ذلك، فذلك النصيب»، والدعوة على المسلم بضد ذلك {مُّقِيتاً} شهيداً حفيظاً. وقيل: مقتدراً. وأقات على الشيء، قال الزبير بن عبد المطلب:
وَذِي ضِغْنٍ نَفَيْتُ السُّوءَ عَنْهُ ** وَكُنْتُ عَلَى إِسَاءَتِهِ مُقِيتاً

وقال السموأل:
أَلِي الْفَضْلُ أَمْ عَلَيّ إِذَا حُو ** سِبْتُ إِنِّي عَلَى الْحِسَابِ مُقِيتُ

واشتقاقه من القوت لأنه يمسك النفس ويحفظها.

.تفسير الآية رقم (86):

{وَإِذَا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَسِيبًا (86)}
الأحسن منها أن تقول: (وعليكم السلام ورحمة الله) إذا قال: (السلام عليكم) وأن تزيد (وبركاته) إذا قال: (ورحمة الله) وروي أن: رجلاً قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم: السلام عليك، فقال: «وعليك السلام ورحمة الله» وقال آخر: السلام عليك ورحمة الله، فقال: «وعليك السلام ورحمة الله وبركاته» وقال آخر: السلام عليك ورحمة الله وبركاته، فقال: «وعليك». فقال الرجل: نقصتني، فأين ما قال الله؟ وتلا الآية. فقال: «إنك لم تترك لي فضلاً فرددت عليك مثله» {أَوْ رُدُّوهَا} أو أجيبوها بمثلها. ورد السلام ورجعه: جوابه بمثله، لأن المجيب يرد قول المسلم ويكرره، وجواب التسليمة واجب، والتخيير إنما وقع بين الزيادة وتركها.
وعن أبي يوسف رحمه الله: من قال لآخر: أقرئ فلاناً السلام، وجب عليه أن يفعل.
وعن النخعي: السلام سنة والردّ فريضة.
وعن ابن عباس: الردّ واجب. وما من رجل يمرّ على قوم مسلمين فيسلم عليهم ولا يردون عليه إلا نزع عنهم روح القدس وردّت عليه الملائكة. ولا يرد السلام في الخطبة، وقراءة القرآن، جهراً ورواية الحديث، وعند مذاكرة العلم، والأذان، والإقامة، وعن أبي يوسف: لا يسلم على لاعب النرد والشطرنج، والمغني، والقاعد لحاجته، ومطير الحمام، والعاري من غير عذر في حمام أو غيره. وذكر الطحاوي: أن المستحب ردّ السلام على طهارة.
وعن النبي صلى الله عليه وسلم: «أنه تيمم لردّ السلام» قالوا: ويسلم الرجل إذا دخل على امرأته. ولا يسلم على أجنبية. ويسلم الماشي على القاعد. والراكب على الماشي، وراكب الفرس على راكب الحمار، والصغير على الكبير، والأقل على الأكثر. وإذا التقيا ابتدرا.
وعن أبي حنيفة: لا تجهر بالرد يعني الجهر الكثير.
وعن النبي صلى الله عليه وسلم: «إذا سلم عليكم أهل الكتاب فقولوا: وعليكم» أي وعليكم ما قلتم؛ لأنهم كانوا يقولون: السام عليكم.
وروى: «لا تبتدئ اليهوديّ بالسلام، وإن بدأك فقل وعليك» وعن الحسن: يجوز أن تقول للكافر: وعليك السلام، ولا تقل: ورحمة الله، فإنها استغفار.
وعن الشعبي أنه قال لنصراني سلم عليه: وعليك السلام ورحمة الله. فقيل له في ذلك، فقال: أليس في رحمة الله يعيش؟ وقد رخص بعض العلماء في أن يبدأ أهل الذمة بالسلام إذا دعت إلى ذلك حادثة تحوج إليهم. وروى ذلك عن النخعي.
وعن أبي حنيفة: لا تبدأه بسلام في كتاب ولا غيره.
وعن أبي يوسف لا تسلم عليهم ولا تصحافهم، وإذا دخلت فقل: السلام على من اتبع الهدى. ولا بأس بالدعاء له بما يصلحه في دنياه {على كُلّ شَيْء حَسِيباً} أي يحاسبكم على كل شيء من التحية وغيرها.

.تفسير الآية رقم (87):

{اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَا رَيْبَ فِيهِ وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثًا (87)}
{لاَ إله إِلاَّ هُوَ} إما خبر المبتدأ. وإما اعتراض والخبر {لَيَجْمَعَنَّكُمْ}. ومعناه: الله. والله ليجمعنكم {إلى يَوْمِ القيامة} أي ليحشرنكم إليه. والقيامة والقيام. كالطلابة والطلاب، وهي قيامهم من القبور أو قيامهم للحساب. قال الله تعالى: {يَوْمَ يَقُومُ الناس لِرَبّ العالمين} [المطففين: 6] {وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ الله حَدِيثاً} لأنه عز وعلا صادق لا يجوز عليه الكذب. وذلك أنّ الكذب مستقل بصارف عن الإقدام عليه وهو قبحه. ووجه قبحه الذي هو كونه كذباً وإخباراً عن الشيء بخلاف ما هو عليه. فمن كذب لم يكذب إلا لأنه محتاج إلى أن يكذب ليجرّ منفعة أو يدفع مضرة. أو هو غني عنه إلا أنه يجهل غناه. أو هو جاهل بقبحه. أو هو سفيه لا يفرق بين الصدق والكذب في إخباره ولا يبالي بأيهما نطق، وربما كان الكذب أحلى على حنكه من الصدق.
وعن بعض السفهاء أنه عوتب على الكذب فقال: لو غرغرت لهواتك به ما فارقته.
وقيل لكذاب: هل صدقت قط؟ فقال: لولا أني صادق في قولي لا لقلتها. فكان الحكيم الغني الذي لا يجوز عليه الحاجات العالم بكل معلوم، منزهاً عنه، كما هو منزه عن سائر القبائح.

.تفسير الآية رقم (88):

{فَمَا لَكُمْ فِي الْمُنَافِقِينَ فِئَتَيْنِ وَاللَّهُ أَرْكَسَهُمْ بِمَا كَسَبُوا أَتُرِيدُونَ أَنْ تَهْدُوا مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلًا (88)}
{فِئَتَيْنِ} نصب على الحال، كقولك: مالك قائماً؟ روى أنّ قوماً من المنافقين استأذنوا رسول الله صلى الله عليه وسلم في الخروج إلى البدو معتلين باجتواء المدينة، فلما خرجوا لم يزالوا راحلين مرحلة مرحلة حتى لحقوا بالمشركين، فاختلف المسلمون فيهم، فقال بعضهم: هم كفار. وقال بعضهم: هم مسلمون. وقيل: كانوا قوماً هاجروا من مكة، ثم بدا لهم فرجعوا وكتبوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم: إنا على دينك وما أخرجنا إلا اجتواء المدينة والاشتياق إلى بلدنا. وقيل: هم قوم خرجوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم أُحد ثم رجعوا. وقيل: هم العرنيون الذين أغاروا على السرح وقتلوا يساراً. وقيل: هم قوم أظهروا الإسلام وقعدوا عن الهجرة. ومعناه: ما لكم اختلفتم في شأن قوم نافقوا نفاقاً ظاهراً وتفرقتم فيه فرقتين وما لكم لم تبتوا القول بكفرهم {والله أَرْكَسَهُمْ} أي ردهم في حكم المشركين كما كانوا {بِمَا كَسَبُواْ} من ارتدادهم ولحوقهم بالمشركين واحتيالهم على رسول الله صلى الله عليه وسلم. أو أركسهم في الكفر بأن خذلهم حتى أركسوا فيه. لما علم من مرض قلوبهم، {أَتُرِيدُونَ أَن تَهْدُواْ} أن تجعلوا من جملة المهتدين {مَنْ أَضَلَّ الله} من جعله من جملة الضلال، وحكم عليه بذلك أو خذله حتى ضلّ. وقرئ: {ركسهم}. و {ركسوا فيها}.

.تفسير الآيات (89- 91):

{وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَوَاءً فَلَا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ أَوْلِيَاءَ حَتَّى يُهَاجِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَلَا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا (89) إِلَّا الَّذِينَ يَصِلُونَ إِلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ أَوْ جَاءُوكُمْ حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ أَنْ يُقَاتِلُوكُمْ أَوْ يُقَاتِلُوا قَوْمَهُمْ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَسَلَّطَهُمْ عَلَيْكُمْ فَلَقَاتَلُوكُمْ فَإِنِ اعْتَزَلُوكُمْ فَلَمْ يُقَاتِلُوكُمْ وَأَلْقَوْا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ فَمَا جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلًا (90) سَتَجِدُونَ آَخَرِينَ يُرِيدُونَ أَنْ يَأْمَنُوكُمْ وَيَأْمَنُوا قَوْمَهُمْ كُلَّ مَا رُدُّوا إِلَى الْفِتْنَةِ أُرْكِسُوا فِيهَا فَإِنْ لَمْ يَعْتَزِلُوكُمْ وَيُلْقُوا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ وَيَكُفُّوا أَيْدِيَهُمْ فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأُولَئِكُمْ جَعَلْنَا لَكُمْ عَلَيْهِمْ سُلْطَانًا مُبِينًا (91)}
{فَتَكُونُونَ} عطف على {تَكْفُرُونِ} ولو نصب على جواب التمني لجاز. والمعنى: ودّوا كفركم فكونكم معهم شرعاً واحداً فيما هم عليه من الضلال واتباع دين الآباء. فلا تتولوهم وإن آمنوا حتى يظاهروا إيمانهم بهجرة صحيحة هي لله ورسوله لا لغرض من أغراض الدنيا مستقيمة ليس بعدها بداء ولا تعرّب. {فَإِن تَوَلَّوْاْ} عن الإيمان المظاهر بالهجرة الصحيحة المستقيمة، فحكمهم حكم سائر المشركين يقتلون حيث وجدوا في الحلّ والحرم، وجانبوهم مجانبة كلية، وإن بذلوا لكم الولاية والنصرة فلا تقبلوا منهم {إِلاَّ الذين يَصِلُونَ} استثناء من قوله: {فَخُذُوهُمْ واقتلوهم} ومعنى {يَصِلُونَ إلى قَوْمٍ} ينتهون إليهم ويتصلون بهم.
وعن أبي عبيدة: هو من الانتساب. وصلت إلى فلان واتصلت به إذا انتميت إليه. وقيل: إن الانتساب لا أثر له في منع القتال، فقد قاتل رسول الله صلى الله عليه وسلم بمن معه من هو من أنسابهم، والقوم هم الأسلميون، كان بينهم وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم عهد، وذلك أنه وادع وقت خروجه إلى مكة هلال بن عويمر الأسلمي على أن لا يعينه ولا يعين عليه، وعلى أنّ من وصل إلى هلال ولجأ إليه فله من الجوار مثل الذي لهلال. وقيل: القوم بنو بكر بن زيد مناة كانوا في الصلح {أَوْ جَآءوكُمْ} لا يخلو من أن يكون معطوفاً على صفة قوم، كأنه قيل: إلا الذين يصلون إلى قوم معاهدين، أو قوم ممسكين عن القتال لا لكم ولا عليكم، أو على صلة الذين، كأنه قيل: إلا الذين يتصلون بالمعاهدين، أو الذين لا يقاتلونكم والوجه العطف على الصلة لقوله: {فَإِنِ اعتزلوكم فَلَمْ يقاتلوكم وَأَلْقَوْاْ إِلَيْكُمُ السلم فَمَا جَعَلَ الله لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلاً} بعد قوله: {فَخُذُوهُمْ واقتلوهم حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ} فقرّر أن كفهم عن القتال أحد سببي استحقاقهم لنفي التعرض عنهم وترك الإيقاع بهم.
فإن قلت: كل واحد من الاتصالين له تأثير في صحة الاستثناء، واستحقاق إزالة التعرّض الاتصال بالمعاهدين والاتصال بالمكافين، لأنّ الاتصال بهؤلاء أو هؤلاء دخول في حكمهم، فهلا جوزت أن يكون العطف على صفة قوم، ويكون قوله: {فَإِنِ اعتزلوكم} تقريراً لحكم اتصالهم بالمكافين واختلاطهم بهم وجريهم على سننهم؟ قلت: هو جائز، ولكن الأول أظهر وأجرى على أسلوب الكلام. وفي قراءة أبيّ: {بينكم وبينهم ميثاق جاؤكم حصرت صدورهم}، بغير أو ووجهه أن يكون (جاؤكم) بياناً ليصلون، أو بدلاً أو استئنافاً، أو صفة بعد صفة لقوم. حصرت صدورهم في موضع الحال بإضمار قد. والدليل عليه قراءة من قرأ: {حصرة صدورهم}، و {حصرات صدورهم}. و {حاصرات صدورهم}. وجعله المبرد صفة لموصوف محذوف على: أو جاؤكم قوماً حصرت صدورهم.
وقيل: هو بيان لجاؤكم، وهم بنو مدلج جاؤوا رسول الله صلى الله عليه وسلم غير مقاتلين. والحصر الضيق والانقباض {أن يقاتلوكم} عن أن يقاتلوكم. أو كراهة أن يقاتلوكم.
فإن قلت: كيف يجوز أن يسلط الله الكفرة على المؤمنين؟ قلت: ما كانت مكافتهم إلا لقذف الله الرعب في قلوبهم، ولو شاء لمصلحة يراها من ابتلاء ونحوه لم يقذفه، فكانوا متسلطين مقاتلين غير مكافين، فذلك معنى التسليط. وقرئ: {فلقتلوكم}، بالتخفيف والتشديد {فَإِنِ اعتزلوكم} فإن لم يتعرضوا لكم {وَأَلْقَوْاْ إِلَيْكُمُ السلم} أي الانقياد والاستسلام. وقرئ بسكون اللام مع فتح السين {فَمَا جَعَلَ الله لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلاً} فما أذن لكم في أخذهم وقتلهم {سَتَجِدُونَ ءاخَرِينَ} هم قوم من بني أسد وغطفان، كانوا إذا أتوا المدينة أسلموا وعاهدوا ليأمنوا المسلمين، فإذا رجعوا إلى قومهم كفروا ونكثوا عهودهم {كُلَّمَا رُدُّواْ إِلَى الفتنة} كلما دعاهم قومهم إلى قتال المسلمين {أُرْكِسُواْ فِيِهَا} قلبوا فيها أقبح قلب وأشنعه، وكانوا شراً فيها من كل عدوّ {حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ} حيث تمكنتم منهم {سلطانا مُّبِيناً} حجة واضحة لظهور عداوتهم وانكشاف حالهم في الكفر والغدر، وإضرارهم بأهل الإسلام أو تسلطاً ظاهراً حيث أذنا لكم في قتلهم.

.تفسير الآيات (92- 93):

{وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِنًا إِلَّا خَطَأً وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ إِلَّا أَنْ يَصَّدَّقُوا فَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ فَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ تَوْبَةً مِنَ اللَّهِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا (92) وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا (93)}
{وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ} وما صح له ولا استقام ولا لاق بحاله، كقوله: {وَمَا كَانَ لِنَبِىّ أَنْ يَغُلَّ} [آل عمران: 161]، {وَمَا يَكُونُ لَنَا أَن نَّعُودَ فِيهَا} [الأعراف: 89]، {أَن يَقْتُلَ مُؤْمِناً} ابتداء غير قصاص {إِلا خَطَئاً} إلا على وجه الخطأ.
فإن قلت: بم انتصب خطأ؟ قلت: بأنه مفعول له، أي ما ينبغي له أن يقتله لعلة من العلل إلا للخطأ وحده. ويجوز أن يكون حالاً بمعنى لا يقتله في حال من الأحوال إلا في حال الخطأ. وأن يكون صفة للمصدر إلا قتلاً خطأ. والمعنى أن من شأن المؤمن أن ينتفي عنه وجود قتل المؤمن ابتداء البتة، إلا إذا وجد منه خطأ من غير قصد، بأن يرمي كافراً فيصيب مسلماً، أو يرمي شخصاً على أنه كافر فإذا هو مسلم. وقرئ: {خطاء} بالمد و {خطا}، بوزن عمى- بتخفيف الهمزة- وروى: أنّ عياش بن أبي ربيعة- وكان أخا أبي جهل لأمّه- أسلم وهاجر خوفاً من قومه إلى المدينة، وذلك قبل هجرة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأقسمت أمه لا تأكل ولا تشرب ولا يؤويها سقف حتى يرجع. فخرج أبو جهل ومعه الحرث بن زيد بن أبي أنيسة فأتياه وهو في أطم ففتل منه أبو جهل في الذروة والغارب، وقال: أليس محمد يحثك على صلة الرحم، انصرف وبرَّ أمك وأنت على دينك، حتى نزل وذهب معهما، فلما فسحا عن المدينة كتفاه، وجلده كل واحد مائة جلدة. فقال للحارث: هذا أخي، فمن أنت يا حارث؟ لله عليّ إن وجدتك خالياً أن أقتلك، وقدما به على أمه، فحلفت لا يحل كتافه أو يرتد. ففعل ثم هاجر بعد ذلك وأسلم، وأسلم الحارث وهاجر، فلقيه عياش بظهر قباء ولم يشعر بإسلامه فأنحى عليه فقتله، ثم أخبر بإسلامه فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: قتلته ولم أشعر بإسلامه، فنزلت {فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ} فعليه تحرير رقبة. والتحرير: الإعتاق. والحر والعتيق: الكريم، لأن الكرم في الأحرار كما أن اللؤم في العبيد. ومنه: عتاق الخيل، وعتاق الطير لكرامها. وحرّ الوجه: أكرم موضع منه. وقولهم للئيم عبد. وفلان عبد الفعل: أي لئيم الفعل. والرقبة: عبارة عن النسمة، كما عبر عنها بالرأس في قولهم: فلان يملك كذا رأساً من الرقيق. والمراد برقبة مؤمنة: كل رقبة كانت على حكم الإسلام عند عامة العلماء.
وعن الحسن: لا تجزئ إلا رقبة قد صلت وصامت، ولا تجزئ الصغيرة. وقاس عليها الشافعي كفارة الظهار، فاشترط الإيمان. وقيل: لما أخرج نفساً مؤمنة عن جملة الأحياء لزمه أن يدخل نفساً مثلها في جملة الأحرار، لأنّ إطلاقها من قيد الرق كإحيائها من قبل أن الرقيق ممنوع من تصرف الأحرار {مُّسَلَّمَةٌ إلى أَهْلِهِ} مؤداة إلى ورثته يقتسمونها كما يقتسمون الميراث، لا فرق بينها وبين سائر التركة في كل شيء، يقضي منها الدين، وتنفذ الوصية وإن لم يبق وارثاً فهي لبيت المال، لأن المسلمين يقومون مقام الورثة كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أنا وارث من لا وارث له» وعن عمر رضي الله عنه: أنه قضى بدية المقتول، فجاءت امرأته تطلب ميراثها من عقله فقال: لا أعلم لك شيئاً، إنما الدية للعصبة الذين يعقلون عنه. فقام الضحاك بن سفيان الكلابي فقال: كتب إليّ رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمرني أن أورث امرأة أشيم الضبابي من عقل زوجها أشيم. فورّثها عمر، وعن ابن مسعود: يرث كل وارث من الدية غير القاتل.
وعن شريك: لا يقضي من الدية دين، ولا تنفذ وصية.
وعن ربيعة: الغرة لأم الجنين وحدها، وذلك خلاف قول الجماعة. (فإن قلت): على من تجب الرقبة والدية؟ قلت: على القاتل إلا أن الرقبة في ماله، والدية تتحملها عنه العاقلة، فإن لم تكن له عاقلة فهي في بيت المال، فإن لم يكن ففي ماله {إِلاَّ أَن يَصَّدَّقُواْ} إلا أن يتصدقوا عليه بالدية ومعناه العفو، كقوله: {إَّلا أَن يَعْفُونَ} [البقرة: 237] ونحوه {وَأَن تَصَدَّقُواْ خَيْرٌ لَّكُمْ} [البقرة: 280] وعن النبي صلى الله عليه وسلم: «كل معروف صدقة»، وقرأ أبيّ: {إلا أن يتصدقوا}.
فإن قلت: بم تعلق أن يصدقوا، وما محله؟ قلت: تعلق بعليه، أو بمسلمة، كأنه قيل: وتجب عليه الدية أو يسلمها، إلا حين يتصدقون عليه. ومحلها النصب على الظرف بتقدير حذف الزمان، كقولهم: اجلس ما دام زيد جالساً. ويجوز أن يكون حالاً من أهله بمعنى إلا متصدقين {مِن قَوْمٍ عَدُوّ لَّكُمْ} من قوم كفار أهل الحرب وذلك نحو رجل أسلم في قومه الكفار وهو بين أظهرهم لم يفارقهم، فعلى قاتله الكفارة إذا قتله خطأ وليس على عاقلته لأهله شيء. لأنهم كفار محاربون. وقيل: كان الرجل يسلم؛ ثم يأتي قومه وهم مشركون فيغزوهم جيش المسلمين، فيقتل فيهم خطأ لأنهم يظنونه كافراً مثلهم {وَإِن كَانَ مِن قَوْمٍ} كفرة لهم ذمة كالمشركين الذين عاهدوا المسلمين وأهل الذمة من الكتابيين، فحكمه حكم مسلم من مسلمين {فَمَن لَّمْ يَجِدْ} رقبة، بمعنى لم يملكها ولا ما يتوصل به إليه {ف} عليه {فصِيَامٍ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ تَوْبَةً مّنَ الله} قبولاً من الله ورحمة منه، من تاب الله عليه إذا قبل توبته يعني شرع ذلك توبة منه، أو نقلكم من الرقبة إلى الصوم توبة منه. هذه الآية فيها من التهديد والإيعاد والإبراق والإرعاد أمر عظيم وخطب غليظ.
ومن ثم روى عن ابن عباس ما روى من أن توبة قاتل المؤمن عمداً غير مقبولة.
وعن سفيان: كان أهل العلم إذا سئلوا قالوا: لا توبة له، وذلك محمول منهم على الاقتداء بسنة الله في التغليظ والتشديد، وإلا فكل ذنب ممحو بالتوبة. وناهيك بمحو الشرك دليلاً. وفي الحديث: «لزوال الدنيا أهون على الله من قتل امرئ مسلم» وفيه: «لو أن رجلاً قتل بالمشرق وآخر رضي بالمغرب لأشرك في دمه» وفيه: «إن هذا الإنسان بنيان الله. ملعون من هدم بنيانه» وفيه: «من أعان على قتل مؤمن بشطر كلمة جاء يوم القيامة مكتوب بين عينيه آيس من رحمة الله» والعجب من قوم يقرؤن هذه الآية ويرون ما فيها ويسمعون هذه الأحاديث العظيمة، وقول ابن عباس بمنع التوبة. ثم لا تدعهم أشعبيتهم وطماعيتهم الفارغة واتباعهم هواهم وما يخيل إليهم مناهم، أن يطمعوا في العفو عن قاتل المؤمن بغير توبة {أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ القرءان أَمْ على قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا} [محمد: 24] ثم ذكر الله سبحانه وتعالى التوبة في قتل الخطأ، لما عسى يقع من نوع تفريط فيما يجب من الاحتياط والتحفظ فيه حسم للأطماع وأي حسم، ولكن لا حياة لمن تنادي.
فإن قلت: هل فيها دليل على خلود من لم يتب من أهل الكبائر؟ قلت: ما أبين الدليل وهو تناول قوله: {وَمَن يَقْتُلْ} أيَّ قاتل كان، من مسلم أو كافر، تائب أو غير تائب، إلا أن التائب أخرجه الدليل. فمن ادعى إخراج المسلم غير التائب فليأت بدليل مثله.