فصل: تفسير الآية رقم (88):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الكشاف عن حقائق التنزيل وعيون الأقاويل في وجوه التأويل



.تفسير الآية رقم (87):

{يَا بَنِيَّ اذْهَبُوا فَتَحَسَّسُوا مِنْ يُوسُفَ وَأَخِيهِ وَلَا تَيْئَسُوا مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِنَّهُ لَا يَيْئَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ (87)}
{فَتَحَسَّسُواْ مِن يُوسُفَ وَأَخِيهِ} فتعرّفوا منهما وتطلبوا خبرهما. وقرئ بالجيم، كما قرئ بهما في الحجرات، وهما تفعل من الإحساس وهو المعرفة {فَلَمَّا أَحَسَّ عيسى مِنْهُمُ الكفر} [آل عمران: 52] ومن الجس، وهو الطلب. ومنه قالوا لمشاعر الإنسان: الحواس، والجواس {مِن رَّوْحِ الله} من فرجه وتنفيسه.
وقرأ الحسن وقتادة: {من رُوح الله}، بالضم: أي من رحمته التي يحيا بها العباد.

.تفسير الآية رقم (88):

{فَلَمَّا دَخَلُوا عَلَيْهِ قَالُوا يَا أَيُّهَا الْعَزِيزُ مَسَّنَا وَأَهْلَنَا الضُّرُّ وَجِئْنَا بِبِضَاعَةٍ مُزْجَاةٍ فَأَوْفِ لَنَا الْكَيْلَ وَتَصَدَّقْ عَلَيْنَا إِنَّ اللَّهَ يَجْزِي الْمُتَصَدِّقِينَ (88)}
{الضر} الهزال من الشدّة والجوع {مُّزْجَاةٍ} مدفوعة يدفعها كل تاجر رغبة عنها واحتقاراً لها، من أزجيته إذا دفعته وطردته، والريح تزجي السحاب، قيل: كانت من متاع الأعراب صوفاً وسمناً. وقيل: الصنوبر وحبة الخضراء، وقيل: سويق المقل والأقط. وقيل: دراهم زيوفاً لا تؤخذ إلا بوضيعة {فَأَوْفِ لَنَا الكيل} الذي هو حقنا {وَتَصَدَّقْ عَلَيْنَا} وتفضل علينا بالمسامحة والإغماض عن رداءة البضاعة، أو زدنا على حقنا، فسموا ما هو فضل وزيادة لا تلزمه صدقة، لأنّ الصدقات محظورة على الأنبياء، وقيل كانت تحل لغير نبينا. وسئل ابن عيينة عن ذلك فقال: ألم تسمع {وَتَصَدَّقْ عَلَيْنَا} أراد أنها كانت حلالاً لهم. والظاهر أنهم تمسكنوا له وطلبوا إليه أن يتصدّق عليهم، ومن ثم رق لهم وملكته الرحمة عليهم، فلم يتمالك أن عرّفهم نفسه. وقوله: {إِنَّ الله يَجْزِى المتصدقين} شاهد لذلك لذكر الله وجزائه، والصدقة العطية التي تبتغي بها المثوبة من الله ومنه قول: الحسن لمن سمعه يقول اللهم تصدق عليّ:- إن الله تعالى لا يتصدق، إنما يتصدق الذي يبتغي الثواب، قل: اللهم أعطني، أو تفضل عليّ، أو ارحمني.

.تفسير الآية رقم (89):

{قَالَ هَلْ عَلِمْتُمْ مَا فَعَلْتُمْ بِيُوسُفَ وَأَخِيهِ إِذْ أَنْتُمْ جَاهِلُونَ (89)}
{قَالَ هَلْ عَلِمْتُمْ} أتاهم من جهة الدين وكان حليماً موفقاً، فكلمهم مستفهماً عن وجه القبح الذي يجب أن يراعيه التائب، فقال: هل علمتم قبح {مَّا فَعَلْتُم بِيُوسُفَ وَأَخِيهِ إِذْ أَنتُمْ جاهلون} لا تعلمون قبحه، فلذلك أقدمتم عليه، يعني: هل علمتم قبحه فتبتم إلى الله منه، لأنّ علم القبح يدعو إلى الاستقباح، والاستقباح يجرّ إلى التوبة، فكان كلامه شفقة عليهم وتنصحاً لهم في الدين، لا معاتبة وتثريباً؛ إيثاراً لحق الله على حق نفسه، في ذلك المقام الذي يتنفس فيه المكروب، وينفث المصدور، ويتشفى المغيظ المحنق، ويدرك ثأره الموتور، فلله أخلاق الأنبياء ما أوطأها وأسجحها ولله حصاً عقولهم ما أرزنها وأرجحها.
وقيل لم يرد نفي العلم عنهم، لأنهم كانوا علماء، ولكنهم لما لم يفعلوا ما يقتضيه العلم ولا يقدم عليه إلا جاهل، سماهم جاهلين. وقيل: معناه إذ أنتم صبيان في حد السفه والطيش قبل أن تبلغوا أوان الحلم والرزانة. روي أنهم لما قالوا: مسنا وأهلنا الضر، وتضرعوا إليه: ارفضت عيناه، ثم قال هذا القول. وقيل: أدوا إليه كتاب يعقوب: من يعقوب إسرائيل الله بن إسحاق ذبيح الله بن إبراهيم خليل الله، إلى عزيز مصر. أما بعد، فإنا أهل بيت موكل بنا البلاء: أما جدّي فشدّت يداه ورجلاه ورمي به في النار ليحرق فنجاه الله وجعلت النار عليه برداً وسلاماً، وأما أبي فوضع السكين على قفاه ليقتل ففداه الله. وأمّا أنا فكان لي ابن وكان أحبّ أولادي إليّ فذهب به إخوته إلى البرية ثم أتوني بقميصه ملطخاً بالدم وقالوا قد أكله الذئب، فذهبت عيناي من بكائي عليه، ثم كان لي ابن وكان أخاه من أمّه وكنت أتسلى به، فذهبوا به ثم رجعوا وقالوا: إنه سرق، وأنك حبسته لذلك، وإنا أهل بيت لا نسرق ولا نلد سارقاً، فإن رددته عليّ وإلا دعوت عليك دعوة تدرك السابع من ولدك والسلام. فلما قرأ يوسف الكتاب لم يتمالك وعيل صبره، فقال لهم ذلك وروي أنه لما قرأ الكتاب بكى وكتب الجواب: اصبر كما صبروا تظفر كما ظفروا.
فإن قلت: ما فعلهم بأخيه؟ قلت: تعريضهم إياه للغم والثكل بإفراده عن أخيه لأبيه وأمّه، وجفاؤهم به، حتى كان لا يستطيع أن يكلم أحداًمنهم إلا كلام الذليل للعزيز، وإيذاؤهم له بأنواع الأذى.

.تفسير الآيات (90- 93):

{قَالُوا أَئِنَّكَ لَأَنْتَ يُوسُفُ قَالَ أَنَا يُوسُفُ وَهَذَا أَخِي قَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ (90) قَالُوا تَاللَّهِ لَقَدْ آَثَرَكَ اللَّهُ عَلَيْنَا وَإِنْ كُنَّا لَخَاطِئِينَ (91) قَالَ لَا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ (92) اذْهَبُوا بِقَمِيصِي هَذَا فَأَلْقُوهُ عَلَى وَجْهِ أَبِي يَأْتِ بَصِيرًا وَأْتُونِي بِأَهْلِكُمْ أَجْمَعِينَ (93)}
قرئ: {أئنك} على الاستفهام. وأنك، على الإيجاب وفي قراءة أبيّ: {أئنك أو أنت يوسف}، على معنى أئنك يوسف أو أنت يوسف، فحذف الأوّل لدلالة الثاني عليه، وهذا كلام متعجب مستغرب لما يسمع، فهو يكرر الاستثبات فإن قلت: كيف عرفوه؟ قلت: رأوا في روائه وشمائله حين كلمهم بذلك ما شعروا به أنه هو، مع علمهم بأنّ ما خاطبهم به لا يصدر مثله إلا عن حنيف مسلم من سنخ إبراهيم، لا عن بعض أعزاء مصر. وقيل: تبسم عند ذلك فعرفوه بثناياه وكانت كاللؤلؤ المنظوم. وقيل: ما عرفوه حتى رفع التاج عن رأسه فنظروا إلى علامة بقرنه كانت ليعقوب وسارة مثلها، تشبه الشامة البيضاء.
فإن قلت: قد سألوه عن نفسه فلم أجابهم عنها وعن أخيه؟ عن أن أخاه كان معلوماً لهم.
قلت: لأنه كان في ذكر أخيه بيان لما سألوه عنه {مَن يَتَّقِ} من يخف الله وعقابه {وَيِصْبِرْ} عن المعاصي وعلى الطاعات {فَإِنَّ الله لاَ يُضِيعُ} أجرهم، فوضع المحسنين موضع الضمير لاشتماله على المتقين والصابرين {لَقَدْ ءَاثَرَكَ الله عَلَيْنَا} أي فضلك علينا بالتقوى والصبر وسيرة المحسنين. وإنّ شأننا وحالنا أنا كنا خاطئين متعمدين للإثم، لم نتق ولم نصبر، لا جرم أنّ الله أعزّك بالملك وأذلنا بالتمسكن بين يديك {لاَ تَثْرَيبَ عَلَيْكُمُ} لا تأنيب عليكم ولا عتب. وأصل التثريب من الثرب وهو الشحم الذي هو غاشية الكرش. ومعناه: إزالة الثرب، كما أن التجليد والتقريع إزالة الجلد والقرع، لأنه إذا ذهب كان ذلك غاية الهزال والعجف الذي ليس بعده، فضرب مثلا للتقريع الذي يمزق الأعراض ويذهب بماء الوجوه. فإن قلت بم تعلق اليوم؟ قلت: بالتثريب، أو بالمقدر في {عَلَيْكُمْ} من معنى الاستقرار. أو بيغفر. والمعنى: لا أثر بكم اليوم، وهو اليوم الذي هو مظنة التثريب، فما ظنكم بغيره من الأيام، ثم ابتدأ فقال {يَغْفِرُ الله لَكُمْ} فدعا لهم بمغفرة ما فرط منهم. يقال: غفر الله لك، ويغفر الله لك، على لفظ الماضي والمضارع جميعاً، ومنه قول المشمت (يهديكم الله ويصلح بالكم) و{اليوم يَغْفِرُ الله لَكُمْ} بشارة بعاجل غفران الله، لما تجدّد يومئذ من توبتهم وندمهم على خطيئتهم.
وروي: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أخذ بعضادتي باب الكعبة يوم الفتح، فقال لقريش: ما ترونني فاعلاً بكم؟ قالوا: نظن خيراً، أخ كريم وابن أخ كريم؛ وقد قدرت فقال: أقول ما قال أخي يوسف: لا تثريب عليكم اليوم.
وروي: أنّ أبا سفيان لما جاء ليسلم قال له العباس: إذا أتيت الرسول فاتل عليه {لاَ تَثْرَيبَ عَلَيْكُمُ} ففعل، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «غفر الله لك ولمن علمك» ويروى أن إخوته لما عرفوه وأرسلوا إليه: إنك تدعونا إلى طعامك بكرة وعشية، ونحن نستحي منك لما فرط منا فيك، فقال يوسف: إنّ أهل مصر وإن ملكت فيهم، فإنهم ينظرون إليّ بالعين الأولى ويقولون سبحان من بلغ عبداً بيع بعشرين درهماً ما بلغ، ولقد شرفت الآن بكم وعظمت في العيون حيث علم الناس أنكم إخوتي. وأني من حفدة إبراهيم {اذهبوا بِقَمِيصِى هذا} قيل هو القميص المتوارث الذي كان في تعويذ يوسف وكان من الجنة، أمره جبريل عليه السلام أن يرسله إليه فإنّ فيه ريح الجنة، لا يقع على مبتلى ولا سقيم إلا عوفي {يَأْتِ بَصِيرًا} يصر بصيراً، كقولك: جاء البناء محكماً، بمعنى صار. ويشهد له {فارتد بَصِيرًا} [يوسف: 96] أو يأت إليّ وهو بصير. وينصره قوله {وَأْتُونِى بِأَهْلِكُمْ أَجْمَعِينَ} أي يأتني أبي، ويأتني آله جميعاً وقيل: يهوذا هو الحامل، قال: أنا أحزنته بحمل القميص ملطوخاً بالدم إليه، فأفرّحه كما أحزنته، وقيل: حمله وهو حاف حاسر من مصر إلى كنعان، وبينهما مسيرة ثمانين فرسخاً.

.تفسير الآيات (94- 96):

{وَلَمَّا فَصَلَتِ الْعِيرُ قَالَ أَبُوهُمْ إِنِّي لَأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ لَوْلَا أَنْ تُفَنِّدُونِ (94) قَالُوا تَاللَّهِ إِنَّكَ لَفِي ضَلَالِكَ الْقَدِيمِ (95) فَلَمَّا أَنْ جَاءَ الْبَشِيرُ أَلْقَاهُ عَلَى وَجْهِهِ فَارْتَدَّ بَصِيرًا قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (96)}
{فَصَلَتِ العير} خرجت من عريش مصر، يقال: فصل من البلد فصولاً، إذا انفصل منه وجاوز حيطانه.
وقرأ ابن عباس: {فلما انفصل العير} {قَالَ} لولد ولده ومن حوله من قومه: {إِنِّى لأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ} أوجده الله ريح القميص حين أقبل من مسيرة ثمان. والتفنيد: النسبة إلى الفند، وهو الخرف وإنكار العقل من هرم. يقال: شيخ مفند، ولا يقال عجوز مفندة؛ لأنها لم تكن في شبيبتها ذات رأي فتفند في كبرها. والمعنى: لولا تفنيدكم إياي لصدقتموني {لَفِى ضلالك القديم} لفي ذهابك عن الصواب قدما في إفراط محبتك ليوسف، ولهجك بذكره، ورجائك للقائه، وكان عندهم أنه قد مات {ألقاه} طرح البشير القميص على وجه يعقوب. أو ألقاه يعقوب {فارتد بَصِيرًا} فرجع بصيراً. يقال: ردّه فارتد، وارتده إذا ارتجعه {أَلَمْ أَقُلْ لَّكُمْ} يعني قوله {إِنِّى لأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ} أو قوله: {وَلاَ تيأَسُواْ مِن رَّوْحِ الله} [يوسف: 87] وقوله: {إِنِي أَعْلَمُ} كلام مبتدأ لم يقع عليه القول، ولك أن توقعه عليه وتريد قوله: {إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّى وَحُزْنِى إِلَى الله وَأَعْلَمُ مِنَ الله مَا لاَ تَعْلَمُونَ} [يوسف: 86] وروي: أنه سأل البشير كيف يوسف؟ فقال: هو ملك مصر: فقال: ما أصنع بالملك؟ على أي دين تركته؟ قال: على دين الإسلام. قال: الآن تمت النعمة.

.تفسير الآيات (97- 98):

{قَالُوا يَا أَبَانَا اسْتَغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا إِنَّا كُنَّا خَاطِئِينَ (97) قَالَ سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّي إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (98)}
{سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ} قيل: أخر الاستغفار إلى وقت السحر. وقيل: إلى ليلة الجمعة ليتعمد به وقت الإجابة. وقيل: ليتعرّف حالهم. في صدق التوبة وإخلاصها.
وقيل أراد الدوام على الاستغفار لهم. فقد روي أنه كان يستغفر لهم كل ليلة جمعة في نيف وعشرين سنة. وقيل: قام إلى الصلاة في وقت السحر، فلما فرغ رفع يديه وقال: اللهم اغفر لي جزعي على يوسف وقلة صبري عنه، واغفر لولدي ما أتوا إلى أخيهم، فأوحى إليه: إنّ الله قد غفر لك ولهم أجمعين.
وروي أنهم قالوا له وقد علتهم الكآبة: ما يغني عنا عفوكما إن لم يعف عنا ربنا، فإن لم يوح إليك بالعفو فلا قرّت لنا عين أبداً، فاستقبل الشيخ القبلة قائماً يدعو، وقام يوسف خلفه يؤمّن، وقاموا خلفهما أذلة خاشعين عشرين سنة. حتى بلغ جهدهم وظنوا أنها الهلكة نزل جبريل عليه السلام فقال: إن الله قد أجاب دعوتك في ولدك، وعقد مواثيقهم بعدك على النبوّة، وقد اختلف في استنبائهم.

.تفسير الآيات (99- 100):

{فَلَمَّا دَخَلُوا عَلَى يُوسُفَ آَوَى إِلَيْهِ أَبَوَيْهِ وَقَالَ ادْخُلُوا مِصْرَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آَمِنِينَ (99) وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ وَخَرُّوا لَهُ سُجَّدًا وَقَالَ يَا أَبَتِ هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَعَلَهَا رَبِّي حَقًّا وَقَدْ أَحْسَنَ بِي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ وَجَاءَ بِكُمْ مِنَ الْبَدْوِ مِنْ بَعْدِ أَنْ نَزَغَ الشَّيْطَانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِمَا يَشَاءُ إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (100)}
{فَلَمَّا دَخَلُواْ على يُوسُفَ} قيل وجه يوسف إلى أبيه جهازاً ومائتي راحلة ليتجهز إليه بمن معه. وخرج يوسف والملك في أربعة آلاف من الجند والعظماء وأهل مصر بأجمعهم، فتلقوا يعقوب وهو يمشي يتوكأ على يهوذا، فنظر إلى الخيل والناس فقال: يا يهوذا، أهذا فرعون مصر؟ قال لا، هذا ولدك، فلما لقيه قال يعقوب عليه السلام: السلام عليك يا مذهب الأحزان. وقيل: إن يوسف قال له لما التقيا: يا أبت، بكيت عليّ حتى ذهب بصرك، ألم تعلم أن القيامة تجمعنا؟ فقال: بلى، ولكن خشيت أن تسلب دينك فيحال بيني وبينك، وقيل: إنّ يعقوب وولده دخلوا مصر وهم اثنان وسبعون، ما بين رجل وامرأة، وخرجوا منها مع موسى ومقاتلتهم ستمائة ألف وخمسمائة وبضعة وسبعون رجلاً سوى الذرية والهرمى، وكانت الذرّية ألف ألف ومائتي ألف {أَوَى إِلَيْه أَبَوَيْهِ} ضمهما إليه واعتنقهما. قال ابن أبي إسحاق: كانت أمّه تحيى، وقيل: هما أبوه وخالته. ماتت أمّه فتزوّجها وجعلها أحد الأبوين؛ لأنّ الرابة تدعى أمّاً، لقيامها مقام الأمّ، أو لأنّ الخالة أمّ كما أنّ العم أب. ومنه قوله: {وإله آبَائِكَ إبراهيم وإسماعيل وإسحاق} [البقرة: 133] فإن قلت: ما معنى دخولهم عليه قبل دخولهم مصر؟ قلت: كأنه حين استقبلهم نزل لهم في مضرب أو بيت ثم، فدخلوا عليه وضمّ إليه أبويه، ثم قال لهم {ادخلوا مِصْرَ إِن شَآءَ الله ءَامِنِينَ} ولما دخل مصر وجلس في مجلسه مستوياً على سريره واجتمعوا إليه، أكرم أبويه فرفعهما على السرير {وَخَرُّواْ لَهُ} يعني الإخوة الأحد عشر والأبوين {سُجَّدًا} ويجوز أن يكون قد خرج في قبة من قباب الملوك التي تحمل على البغال، فأمر أن يرفع إليه أبواه، فدخلا عليه القبة. فآواهما إليه بالضم والاعتناق وقرّبهما منه، وقال بعد ذلك: ادخلوا مصر.
فإن قلت: بم تعلقت المشيئة؟ قلت: بالدخول مكيفاً بالأمن، لأن القصد إلى اتصافهم بالأمن في دخولهم، فكأنه قيل لهم: اسلموا وأمنوا في دخولكم إن شاء الله. ونظيره قولك للغازي: ارجع سالماً غانماً إن شاء الله، فلا تعلق المشيئة بالرجوع مطلقاً، ولكن مقيداً بالسلامة والغنيمة، مكيفاً بهما. والتقدير: ادخلوا مصر آمنين إن شاء الله دخلتم آمنين، ثم حذف الجزاء لدلالة الكلام عليه، ثم اعترض بالجملة الجزائية بين الحال وذي الحال. ومن بدع التفاسير أن قوله {إِن شَاء الله} من باب التقديم والتأخير؛ وأن موضعها ما بعد قوله {سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبّى} [يوسف: 98] في كلام يعقوب، وما أدري ما أقول فيه وفي نظائره.
فإن قلت: كيف جاز لهم أن يسجدوا لغير الله؟ قلت: كانت السجدة عندهم جارية مجرى التحية والتكرمة، كالقيام، والمصافحة وتقبيل اليد.
ونحوها مما جرت عليه عادة الناس، من أفعال شهرت في التعظيم والتوقير. وقيل: ما كانت إلا انحناء دون تعفير الجباه، وخرورهم سجداً يأباه. وقيل: معناه وخرّوا لأجل يوسف سجداً لله شكراً. وهذا أيضاً فيه نبوة. يقال: أحسن إليه وبه، وكذلك أساء إليه وبه قال:
أَسِيئِي بَنَا أَوْ أَحْسِنِي لاَ مَلُومَةً

{مّنَ البدو} من البادية؛ لأنهم كانوا أهل عمد وأصحاب مواش ينتقلون في المياه والمناجع {نَّزغَ} أفسد بيننا وأغرى، وأصله من نخس الرائض الدابة وحمله على الجري. يقال: نزغه ونسغه، إذا نخسه {لَطِيفٌ لّمَا يَشَاء} لطيف التدبير لأجله، رفيق حتى يجيء على وجه الحكمة والصواب.
وروي أن يوسف أخذ بيد يعقوب فطاف به في خزائنه، فأدخله خزائن الورق والذهب، وخزائن الحليّ، وخزائن الثياب، وخزائن السلاح وغير ذلك، فلما أدخله خزانة القراطيس قال: يا بنيّ، ما أعقك: عندك هذه القراطيس وما كتبت إليّ على ثمان مراحل؟ قال: أمرني جبريل. قال أو ما تسأله؟ قال: أنت أبسط إليه مني فسله. قال جبريل عليه السلام: الله تعالى أمرني بذلك لقولك {وَأَخَافُ أَن يَأْكُلَهُ الذئب} [يوسف: 13] قال: فهلا خفتني؟ وروي أن يعقوب أقام معه أربعاً وعشرين سنة ثم مات. وأوصى أن يدفه بالشام إلى جنب أبيه إسحاق فمضى بنفسه ودفنه ثمة، ثم عاد إلى مصر، وعاش بعدأبيه ثلاثاً وعشرين سنة، فلما تم أمره وعلم أنه لا يدوم له، طلبت نفسه الملك الدائم الخالد، فتاقت نفسه إليه فتمنى الموت، وقيل: ما تمناه نبي قبله ولا بعده، فتوفاه الله طيباً طاهراً، فتخاصم أهل مصر وتشاحوا في دفنه: كل يحب أن يدفن في محلتهم حتى هموا بالقتال، فرأوا من الرأي أن عملوا له صندوقاً من مرمر وجعلوه فيه، ودفنوه في النيل بمكان يمرّ عليه الماء ثم يصل إلى مصر ليكونوا كلهم فيه شرعاً واحداً، وولد له: إفراثيم وميشاً، وولد لإفراثيم نون؛ ولنون يوشع فتى موسى، ولقد توارثت الفراعنة من العماليق بعده مصر، ولم يزل بنو إسرائيل تحت أيديهم على بقايا دين يوسف وآبائه. إلى أن بعث الله موسى صلى الله عليه وسلم.