فصل: تفسير الآية رقم (94):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الكشاف عن حقائق التنزيل وعيون الأقاويل في وجوه التأويل



.تفسير الآية رقم (94):

{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَتَبَيَّنُوا وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلَامَ لَسْتَ مُؤْمِنًا تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَعِنْدَ اللَّهِ مَغَانِمُ كَثِيرَةٌ كَذَلِكَ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلُ فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَتَبَيَّنُوا إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا (94)}
{فَتَبَيَّنُواْ} وقرئ: {فتثبتوا}، وهما التفعل بمعنى الاستفعال. أي اطلبوا بيان الأمر وثباته ولا تتهوكوا فيه من غير روية. وقرئ: {السلم}. و {السلام} وهما الاستسلام. وقيل: الإسلام. وقيل: التسليم الذي هو تحية أهل الإسلام {لَسْتَ مُؤْمِناً} وقرئ {مؤمناً} بفتح الميم من آمنه، أي لا نؤمنك، وأصله: أن مرداس بن نهيك رجلاً من أهل فدك أسلم ولم يسلم من قومه غيره، فغزتهم سرية لرسول الله صلى الله عليه وسلم كان عليها غالب بن فضالة الليثي، فهربوا وبقي مرداس لثقته بإسلامه، فلما رأى الخيل ألجأ غنمه إلى عاقول من الجبل وصعد، فلمَّا تلاحقوا وكبروا كبر ونزل وقال: لا إله إلا الله محمد رسول الله، السلام عليكم، فقتله أسامة بن زيد واستاق غنمه، فأخبروا رسول الله صلى الله عليه وسلم فوجد وجداً شديداً وقال: قتلتموه إرادة ما معه، ثم قرأ الآية على أسامة، فقال: يا رسول الله استغفر لي. قال: فكيف بلا إله إلا الله، قال أسامة: فما زال يعيدها حتى وددت أن لم أكن أسلمت إلا يومئذٍ، ثم استغفر لي وقال: أعتق رقبة {تَبْتَغُونَ عَرَضَ الحياة الدنيا} تطلبون الغنيمة التي هي حطام سريع النفاد، فهو الذي يدعوكم إلى ترك التثبت وقلة البحث عن حال من تقتلونه {فَعِنْدَ الله مَغَانِمُ كَثِيرَةٌ} يغنمكموها تغنيكم عن قتل رجل يظهر الإسلام ويتعوّذ به من التعرض له لتأخذوا ماله {كذلك كُنتُمْ مّن قَبْلُ} أول ما دخلتم في الإسلام سمعت من أفواهكم كلمة الشهادة، فحصنت دماءكم وأموالكم من غير انتظار الاطلاع على مواطأة قلوبكم لألسنتكم {فَمَنَّ الله عَلَيْكُمْ} بالاستقامة والاشتهار بالإيمان والتقدم، وإن صرتم أعلاماً فعليكم أن تفعلوا بالداخلين في الإسلام كما فعل بكم، وأن تعتبروا ظاهر الإسلام في المكافة، ولا تقولوا إن تهليل هذا لاتقاء القتل لا لصدق النية، فتجعلوه سلماً إلى استباحة دمه وماله وقد حرمهما الله وقوله: {فَتَبَيَّنُواْ} تكرير للأمر بالتبين ليؤكد عليهم {إِنَّ الله كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيراً} فلا تتهافتوا في القتل وكونوا محترزين محتاطين في ذلك.

.تفسير الآيات (95- 96):

{لَا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ دَرَجَةً وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى وَفَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ أَجْرًا عَظِيمًا (95) دَرَجَاتٍ مِنْهُ وَمَغْفِرَةً وَرَحْمَةً وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (96)}
{غَيْرُ أُوْلِى الضرر} قرئ بالحركات الثلاث، فالرفع صفة للقاعدون، والنصب استثناء منهم أو حال عنهم، والجرّ صفة للمؤمنين. والضرر: المرض، أو العاهة من عمى أو عرج أو زمانة أو نحوها.
وعن زيد بن ثابت: كنت إلى جنب رسول الله صلى الله عليه وسلم فغشيته السكينة، فوقعت فخذه على فخذي حتى خشيت أن ترضها، ثم سري عنه فقال: اكتب فكتبت في كتف {لاَّ يَسْتَوِى القاعدون مِنَ المؤمنين} {والمجاهدون} فقال ابن أمّ مكتوم وكان أعمى: يا رسول الله، وكيف بمن لا يستطيع الجهاد من المؤمنين. فغشيته السكينة كذلك، ثم قال: اقرأ يا زيد، فقرأت {لاَّ يَسْتَوِى القاعدون مِنَ المؤمنين} فقال (غير أولي الضرر). قال زيد: أنزلها الله وحدها، فألحقتها. والذي نفسي بيده لكأني أنظر إلى ملحقها عند صدع في الكتف.
وعن ابن عباس: لا يستوي القاعدون عن بدر والخارجون إليها.
وعن مقاتل: إلى تبوك.
فإن قلت: معلوم أن القاعد بغير عذر والمجاهد لا يستويان، فما فائدة نفي الاستواء؟ قلت: معناه الإذكار بما بينهما من التفاوت العظيم والبون البعيد، ليأنف القاعد ويترفع بنفسه عن انحطاط منزلته، فيهتز للجهاد ويرغب فيه وفي ارتفاع طبقته، ونحوه {هَلْ يَسْتَوِى الذين يَعْلَمُونَ والذين لاَ يَعْلَمُونَ} [الزمر: 9] أريد به التحريك من حمية الجاهل وأنفته ليهاب به إلى التعلم، ولينهض بنفسه عن صفة الجهل إلى شرف العلم {فَضَّلَ الله المجاهدين} جملة موضحة لما نفي من استواء القاعدين والمجاهدين كأنه قيل: ما لهم لا يستوون، فأجيب بذلك. والمعنى على القاعدين غير أولي الضرر لكون الجملة بياناً للجملة الأولى المتضمنة لهذا الوصف {وَكُلاًّ} وكل فريق من القاعدين والمجاهدين {وَعَدَ الله الحسنى} أي المثوبة الحسنى وهي الجنة وإن كان المجاهدون مفضلين على القاعدين درجة.
وعن النبي صلى الله عليه وسلم: «لقد خلفتم بالمدينة أقواماً ما سرتم مسيراً ولا قطعتم واديا إلا كانوا معكم» وهم الذين صحت نياتهم ونصحت جيوبهم وكانت أفئدتهم تهوى إلى الجهاد، وبهم ما يمنعهم من المسير من ضرر أو غيره.
فإن قلت: قد ذكر الله تعالى مفضلين درجة ومفضلين درجات، فمن هم؟ قلت: أما المفضلون درجة واحدة فهم الذين فضلوا على القاعدين الأضراء وأما المفضلون درجات فالذين فضلوا على القاعدين الذين أذن لهم في التخلف اكتفاء بغيرهم، لأن الغزو فرض كفاية.
فإن قلت: لم نصب (درجة) و(أجراً) و(درجات)؟ قلت: نصب قوله: (درجة) لوقوعها موقع المرة من التفضيل، كأنه قيل فضلهم تفضيلة واحدة. ونظيره قولك: ضربه سوطاً، بمعنى ضربه ضربة. وأما (أجراً) فقد انتصب بفضل، لأنه في معنى أجرهم أجراً ودرجات، ومغفرة، ورحمة: بدل من أجر. أو يجوز أن ينتصب (درجات) نصب درجة. كما تقول: ضربه أسواطاً بمعنى ضربات، كأنه قيل: وفضله تفضيلات. ونصب {أَجْراً عَظِيماً} على أنه حال عن النكرة التي هي درجات مقدمة عليها، وانتصب مغفرة ورحمة بإضمار فعلهما بمعنى: وغفر لهم ورحمهم، مغفرة ورحمة.

.تفسير الآيات (97- 99):

{إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيرًا (97) إِلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ لَا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلَا يَهْتَدُونَ سَبِيلًا (98) فَأُولَئِكَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَكَانَ اللَّهُ عَفُوًّا غَفُورًا (99)}
{توفاهم} يجوز أن يكون ماضياً كقراءة من قرأ: {توفتهم}. ومضارعاً بمعنى تتوفاهم، كقراءة من قرأ: {توفاهم}، على مضارع وفيت، بمعنى أن الله يوفى الملائكة أنفسهم فيتوفونها. أي يمكنهم من استيفائها فيستوفونها {ظَالِمِى أَنفُسِهِمْ} في حال ظلمهم أنفسهم {قَالُواْ} قال الملائكة للمتوفين {فِيمَ كُنتُمْ} في أي شيء كنتم من أمر دينكم. وهم ناس من أهل مكة أسلموا ولم يهاجروا حين كانت الهجرة فريضة.
فإن قلت: كيف صح وقوع قوله: {كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الأرض} جواباً عن قولهم: {فِيمَ كُنتُمْ}؟ وكان حق الجواب أن يقولوا: كنا في كذا أو لم نكن في شيء؟ قلت: معنى {فِيمَ كُنتُمْ} التوبيخ بأنهم لم يكونوا في شيء من الدين، حيث قدروا على المهاجرة ولم يهاجروا، فقالوا: كنا مستضعفين اعتذاراً مما وبخوا به واعتلالاً بالاستضعاف، وأنهم لم يتمكنوا من الهجرة حتى يكونوا في شيء، فبكتتهم الملائكة بقوله: {أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ الله واسعة فتهاجروا فِيهَا} أرادوا أنكم كنتم قادرين على الخروج من مكة إلى بعض البلاد التي لا تمنعون فيها من إظهار دينكم ومن الهجرة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم كما فعل المهاجرون إلى أرض الحبشة. وهذا دليل على أن الرجل إذا كان في بلد لا يتمكن فيه من إقامة أمر دينه كما يحب، لبعض الأسباب والعوائق عن إقامة الدين لا تنحصر، أو علم أنه في غير بلده أقوم بحق الله وأدوم على العبادة حقت عليه المهاجرة.
وعن النبي صلى الله عليه وسلم: «من فرّ بدينه من أرض إلى أرض وإن كان شبراً من الأرض استوجبت له الجنة، وكان رفيق أبيه إبراهيم ونبيه محمد عليهما الصلاة والسلام» اللَّهم إن كنت تعلم أن هجرتي إليك لم تكن إلا للفرار بديني فاجعلها سبباً في خاتمة الخير ودرك المرجوّ من فضلك والمبتغى من رحمتك وصل جواري لك بعكوفي عند بيتك، بجوارك في دار كرامتك يا واسع المغفرة، ثم استثنى من أهل الوعيد المستضعفين الذين لا يستطيعون حيلة في الخروج لفقرهم وعجزهم ولا معرفة لهم بالمسالك.
وروي: أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث بهذه الآية إلى مسلمي مكة، فقال جندب بن ضمرة أو ضمرة بن جندب لبنيه: احملوني، فإني لست من المستضعفين، وإني لأهتدي الطريق، والله لا أبيت الليلة بمكة. فحملوه على سرير متوجهاً إلى المدينة وكان شيخاً كبيراً فمات بالتنعيم.
فإن قلت: كيف أدخل الولدان في جملة المستثنين من أهل الوعيد، كأنهم كانوا يستحقون الوعيد مع الرجال والنساء لو استطاعوا حيلة واهتدوا سبيلاً؟ قلت: الرجال والنساء قد يكونون مستطيعين مهتدين وقد لا يكونون كذلك.
وأما الولدان فلا يكونون إلا عاجزين عن ذلك، فلا يتوجه عليهم وعيد، لأن سبب خروج الرجال والنساء من جملة أهل الوعيد إنما هو كونهم عاجزين، فإذا كان العجز متمكناً في الولدان لا ينفكون عنه، كانوا خارجين من جملتهم ضرورة. هذا إذا أريد بالولدان الأطفال ويجوز أن يراد المراهقون منهم الذين عقلوا ما يعقل الرجال والنساء فيلحقوا بهم في التكليف. وإن أريد بهم العبيد والإماء البالغون فلا سؤال.
فإن قلت: الجملة التي هي {لاَ يَسْتَطِيعُونَ} ما موقعها؟ قلت: هي صفة للمستضعفين أو للرجال والنساء والولدان. وإنما جاز ذلك والجمل نكرات، لأن الموصوف وإن كان فيه حرف التعريف فليس لشيء بعينه، كقوله:
وَلَقَدْ أَمُرُّ عَلَى اللَّئِيمِ يَسُبُّنِي

فإن قلت: لم قيل {عَسَى الله أَن يَعْفُوَ عَنْهُمْ} بكلمة الإطماع؟ قلت: للدلالة على أن ترك الهجرة أمر مضيق لا توسعة فيه، حتى أن المضطر البين الاضطرار من حقه أن يقول عسى الله أن يعفو عني، فكيف بغيره.

.تفسير الآية رقم (100):

{وَمَنْ يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَجِدْ فِي الْأَرْضِ مُرَاغَمًا كَثِيرًا وَسَعَةً وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِرًا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (100)}
{مُرَاغَماً} مهاجراً وطريقاً يراغم بسلوكه قومه، أي يفارقهم على رغم أنوفهم. والرغم: الذلّ والهوان. وأصله لصوق الأنف بالرغام- وهو التراب- يقال: راغمت الرجل إذا فارقته وهو يكره مفارقتك لمذلة تلحقه بذلك. قال النابغة الجعدي.
كَطَوْدٍ يُلاَذُ بِأَرْكَانِهِ ** عَزِيزِ الْمَرَاغِمِ وَالْمَذْهَبِ

وقرئ {مرغماً}. وقرئ {ثُمَّ يُدْرِكْهُ الموت} بالرفع على أنه خبر مبتدأ محذوف. وقيل: رفع الكاف منقول من الهاء كأنه أراد أن يقف عليها، ثم نقل حركة الهاء إلى الكاف، كقوله:
مِنْ عَنَزِيٍّ سَبَّنِي لَمْ أَضْرِبُهْ

وقرئ {يدركه} بالنصب على إضمار أن، كقوله:
وَأَلْحَقُ بِالْحِجَازِ فَأَسْتَرِيحَا

{فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلىَ الله} فقد وجب ثوابه عليه: وحقيقة الوجوب: الوقوع والسقوط {فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا} [الحج: 36] ووجبت الشمس: سقط قرصها. والمعنى: فقد علم الله كيف يثيبه وذلك واجب عليه. وروى في قصة جندب بن ضمرة: أنه لما أدركه الموت أخذ يصفق بيمينه على شماله ثم قال: اللَّهم هذه لك، وهذه لرسولك، أبايعك على ما بايعك عليه رسولك. فمات حميداً فبلغ خبره أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: لو توفي بالمدينة لكان أتم أجراً، وقال المشركون وهم يضحكون: ما أدرك هذا ما طلب. فنزلت. وقالوا: كل هجرة لغرض ديني- من طلب علم، أو حج، أو جهاد، أو فرار إلى بلد يزداد فيه طاعة أو قناعة وزهداً في الدنيا، أو ابتغاء رزق طيب- فهي هجرة إلى الله ورسوله. وإن أدركه الموت في طريقه، فأجره واقع على الله.

.تفسير الآية رقم (101):

{وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلَاةِ إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنَّ الْكَافِرِينَ كَانُوا لَكُمْ عَدُوًّا مُبِينًا (101)}
الضرب في الأرض: هو السفر، وأدنى مدة السفر الذي يجوز فيه القصر عند أبي حنيفة: مسيرة ثلاثة أيام ولياليهنّ سير الإبل ومشي الأقدام على القصد، ولا اعتبار بإبطاء الضارب وإسراعه. فلو سار مسيرة ثلاثة أيام ولياليهنّ في يوم، قصر. ولو سار مسيرة يوم في ثلاثة أيام، لم يقصر. وعند الشافعي أدنى مدة السفر أربعة برد مسيرة يومين. وقوله: {فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَقْصُرُواْ مِنَ الصلاة} ظاهره التخيير بين القصر والإتمام، وأن الإتمام أفضل. وإلى التخيير ذهب الشافعي.
وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم: «أنه أتم في السفر» وعن عائشة رضي الله عنها: «اعتمرت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم من المدينة إلى مكة حتى إذا قدمت مكة قلت يا رسول الله، بأبي أنت وأمي، قصرت وأتممت، وصمت وأفطرت. فقال: أحسنت يا عائشة وما عاب عليّ» وكان عثمان رضي الله عنه يتم ويقصر. وعند أبي حنيفة رحمه الله: القصر في السفر عزيمة غير رخصة لا يجوز غيره.
وعن عمر رضي الله عنه: «صلاة السفر ركعتان تمام غير قصر على لسان نبيكم.» وعن عائشة رضي الله عنها: «أول ما فرضت الصلاة فرضت ركعتين ركعتين، فأقرت في السفر، وزيدت في الحضر» فإن قلت: فما تصنع بقوله: {فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَقْصُرُواْ}؟ قلت: كأنهم ألفوا الإتمام فكانوا مظنة لأن يخطر ببالهم أن عليهم نقصاناً في القصر فنفى عنهم الجناح لتطيب أنفسهم بالقصر ويطمئنوا إليه. وقرئ: {تقصروا} من أقصر. وجاء في الحديث: «إقصار الخطبة بمعنى تقصيرها» وقرأ الزهري {تقصِّروا} بالتشديد. والقصر ثابت بنص الكتاب في حال الخوف خاصة، وهو قوله: {إِنْ خِفْتُمْ أَن يَفْتِنَكُمُ الذين كَفَرُواْ} وأمّا في حال الأمن فبالسنة، وفي قراءة عبد الله: {من الصلاة أن يفتنكم} ليس فيها {إِنْ خِفْتُمْ} على أنه مفعول له، بمعنى: كراهة أن يفتنكم. والمراد بالفتنة: القتال والتعرّض بما يكره.