فصل: تفسير الآية رقم (98):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الكشاف عن حقائق التنزيل وعيون الأقاويل في وجوه التأويل



.تفسير الآيات (94- 95):

{فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ مِمَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ فَاسْأَلِ الَّذِينَ يَقْرَءُونَ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكَ لَقَدْ جَاءَكَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ (94) وَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآَيَاتِ اللَّهِ فَتَكُونَ مِنَ الْخَاسِرِينَ (95)}
فإن قلت: كيف قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم: {فَإِن كُنتَ في شَكّ مّمَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ} مع قوله في الكفرة: {وَإِنَّهُمْ لَفِى شَكّ مّنْهُ مُرِيبٍ}.
قلت: فرق عظيم بين قوله: {إِنَّهُمْ لَفِى شَكٌّ مِنْهُ مُرِيبٍ} بإثبات الشكّ لهم على سبيل التأكيد والتحقيق، وبين قوله: {فَإِن كُنتَ فِي شَكّ} بمعنى الفرض والتمثيل، كأنه قيل: فإن وقع لك شك مثلاً وخيّل لك الشيطان خيالاً منه تقديراً {فَاسْأَلِ الذين يَقْرَؤونَ الكتاب} والمعنى: أنّ الله عزّ وجلّ قدم ذكر بني إسرائيل وهم قرأة الكتاب، ووصفهم بأنّ العلم قد جاءهم، لأنّ أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم مكتوب عندهم في التوراة والإنجيل، وهم يعرفونه كما يعرفون أبناءهم، فأراد أم يأكد علمهم بصحة القرآن وصحة نبوّة محمد عليه الصلاة و السلام، ويبالغ في ذلك، فقال: فإن وقع لك شكّ فرضاً وتقديراً وسبيل من خالجته شبهة في الدين أن يسارع إلى حّلها وإماطتها، إما بالرجوع إلى قوانين الدين وأدلته، وإما بمقادحة العلماء المنبهين على الحقّ فسل علماء أهل الكتاب، يعني: أنهم من الإحاطة بصحة ما أنزل إليك وقتلها علماً بحيث يصلحون لمراجعة مثلك ومساءلتهم فضلاً عن غيرك، فالغرض وصف الأحبار بالرسوخ في العلم بصحة ما أنزل الله إلى رسول الله، لا وصف رسول الله بالشكّ فيه، ثم قال: {لَقَدْ جَاءكَ الحق مِن رَّبّكَ} أي ثبت عندك بالآيات والبراهين القاطعة أنّ ما أتاك هو الحق الذي لا مدخل فيه للمرية {فَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الممترين وَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الذين كَذَّبُواْ بآيات الله} أي فاثبت ودم على ما أنت عليه من انتفاء المرية عنك والتكذيب بآيات الله. ويجوز أن يكون على طريقة التهييج والإلهاب، كقوله: {فَلاَ تَكُونَنَّ ظَهيراً للكافرين وَلاَ يَصُدُّنَّكَ عَنْ ءايات الله بَعْدَ إِذْ أُنزِلَتْ إِلَيْكَ} [القصص: 87] ولزيادة التثبيت والعصمة، ولذلك قال عليه السلام عند نزوله: «ولا أشك ولا أسأل بل أشهد أنه الحق» وعن ابن عباس رضي الله عنه: لا والله ما شكّ طرفة عين، ولا سأل أحداً منهم، وقيل: خوطب رسول الله صلى الله عليه وسلم والمراد خطاب أمته. فإن كنتم في شكّ مما أنزلنا إليكم، لقوله: {وَأَنزَلْنَا إِلَيْكُمْ نُوراً مُّبِيناً} [النساء: 174] وقيل: الخطاب للسامع ممن يجوز عليه الشكّ، كقول العرب: إذا عزّ أخوك فهن. وقيل: (إن) للنفي، أي: فما كنت في شك فاسأل، يعني: لا نأمرك بالسؤال لأنك شاك، ولكن لتزداد يقيناً، كما ازداد إبراهيم عليه السلام بمعاينة إحياء الموتى. وقرئ: {فاسأل الذين يقرؤون الكتب}.

.تفسير الآيات (96- 97):

{إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ (96) وَلَوْ جَاءَتْهُمْ كُلُّ آَيَةٍ حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ (97)}
{حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَةُ رَبّكَ} ثبت عليهم قول الله الذي كتبه في اللوح وأخبر به الملائكة أنهم يموتون كفاراً فلا يكون غيره. وتلك كتابة معلوم لا كتابة مقدّر ومراد تعالى الله عن ذلك.

.تفسير الآية رقم (98):

{فَلَوْلَا كَانَتْ قَرْيَةٌ آَمَنَتْ فَنَفَعَهَا إِيمَانُهَا إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آَمَنُوا كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ (98)}
{فَلَوْلاَ كَانَتْ} فهلا كانت {قَرْيَةٌ} واحدة من القرى التي أهلكناها، تابت عن الكفر وأخلصت الإيمان قبل المعاينة وقت بقاء التكليف، ولم تأخر كما أخر فرعون إلى أن أخذ بمخنقه {فَنَفَعَهَا إِيمَانُهَا} بأن يقبله الله منها لوقوعه في وقت الاختيار.
وقرأ أبيّ وعبد الله: {فهلا كانت} {إِلاَّ قَوْمَ يُونُسَ} استثناء من القرى؛ لأنّ المراد أهاليها، وهو استثناء منقطع بمعنى: ولكن قوم يونس لما آمنوا. ويجوز أن يكون متصلاً والجملة في معنى النفي، كأنه قيل: ما آمنت قرية من القرى الهالكة إلاّ قوم يونس، وانتصابه على أصل الاستثناء. وقرئ بالرفع على البدل، هكذا روي عن الجرمي والكسائي. روي أن يونس عليه السلام بعث إلى نينوى من أرض الموصل فكذبوه، فذهب عنهم مغاضباً، فلما فقدوه خافوا نزول العذاب. فلبسوا المسوح، وعجوا أربعين ليلة. وقيل: قال لهم يونس: إن أجلكم أربعون ليلة، فقالوا: إن رأينا أسباب الهلاك آمنا بك، فلما مضت خمس وثلاثون أغامت السماء غيماً أسود هائلاً يدخن دخاناً شديداً ثم يهبط حتى يغشى مدينتهم ويسوّد سطوحهم فلبسوا المسوح وبرزوا إلى الصعيد بأنفسهم ونسائهم وصبيانهم ودوابهم، وفرّقوا بين النساء والصبيان، وبين الذواب وأولادها، فحنّ بعضها على بعض، وعلت الأصوات والعجيج، وأظهروا الإيمان والتوبة وتضرعوا، فرحمهم الله وكشف عنهم، وكان يوم عاشوراء يوم الجمعة.
وعن ابن مسعود: بلغ من توبتهم أن ترادّوا المظالم، حتى إنّ الرجل كان يقتلع الحجر وقد وضع عليه أساس بنائه فيردّه، وقيل: خرجوا إلى شيخ من بقية علمائهم فقالوا: قد نزل بنا العذاب فما ترى؟ فقال لهم: قولوا: «يا حيّ حين لا حيّ، ويا حيّ محيي الموتى، ويا حيّ لا إله إلاّ أنت» فقالوها فكشف عنهم.
وعن الفضيل بنعياض: قالوا: «اللَّهم إن ذنوبنا قد عظمت وجلّت، وأنت أعظم منها وأجلّ، افعل بنا ما أنت أهله، ولا تفعل بنا ما نحن أهله».

.تفسير الآية رقم (99):

{وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآَمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ (99)}
{وَلَوْ شَاء رَبُّكَ} مشيئة القسر والإلجاء {لآمَنَ مَن فِي الأرض كُلُّهُمْ} على وجه الإحاطة والشمول {جَمِيعاً} على الإيمان مطبقين عليه لا يختلفون فيه. ألا ترى إلى قوله: {أَفَأَنتَ تُكْرِهُ الناس} يعني إنما يقدر على إكراههم واضطرارهم إلى الإيمان هو لا أنت. وإيلاء الاسم حرف الاستفهام، وللإعلام بأن الإكراه ممكن مقدور عليه، وإنما الشأن في المكره من هو؟ وما هو إلاّ هو وحده لا يشارك فيه، لأنه هو القادر على أن يفعل في قلوبهم ما يضطّرون عنده إلى الإيمان، وذلك غير مستطاع للبشر.

.تفسير الآية رقم (100):

{وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تُؤْمِنَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَيَجْعَلُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لَا يَعْقِلُونَ (100)}
{وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ} يعني من النفوس التي علم أنها تؤمن {إِلاَّ بِإِذْنِ الله} أي بتسهيله وهو منح الألطاف {وَيَجْعَلُ الرجس عَلَى الذين لاَ يَعْقِلُونَ} قابل بالإذن بالرجس وهو الخذلان، والنفس المعلوم إيمانها بالذين لا يعقلون وهم المصرون على الكفر، كقوله: {صُمٌّ بُكْمٌ عُمْىٌ فَهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ} وسمي الخذلان رجسا وهو العذاب لأنه سببه. وقرئ: {الرجز} بالزاي. وقرئ: {ونجعل} بالنون.

.تفسير الآية رقم (101):

{قُلِ انْظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا تُغْنِي الْآَيَاتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ (101)}
{مَاذَا فِي السموات والأرض} من الآيات والعبر {وَمَا تُغْنِى الآيات والنذر} والرسل المنذرون. أو الإنذارات {عَن قَوْمٍ لاَّ يُؤْمِنُونَ} لا يتوقع إيمانهم، وهم الذين لا يعقلون وقرئ: وما يغني بالياء، و (ما) نافية، أو استفهامية.

.تفسير الآيات (102- 103):

{فَهَلْ يَنْتَظِرُونَ إِلَّا مِثْلَ أَيَّامِ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِهِمْ قُلْ فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ (102) ثُمَّ نُنَجِّي رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آَمَنُوا كَذَلِكَ حَقًّا عَلَيْنَا نُنْجِ الْمُؤْمِنِينَ (103)}
{أَيَّامِ الذين خَلَوْاْ مِن قَبْلِهِمْ} وقائع الله تعالى فيهم. كما يقال: (أيام العرب) لوقائعها {ثُمَّ نُنَجّى رُسُلَنَا} معطوف على كلام محذوف يدلّ عليه قوله: {إِلاَّ مِثْلَ أَيَّامِ الذين خَلَوْاْ مِن قَبْلِهِمْ} كأنه قيل: نهلك الأمم ثم ننجي رسلنا، على حكاية الأحوال الماضية {والذين ءامَنُواْ} ومن آمن معهم، كذلك {نُنجِ المؤمنين} مثل ذلك الإنجاء ننجي المؤمنين منكم، ونهلك المشركين. و{حَقّاً عَلَيْنَا} اعتراض، يعني: حقّ ذلك علينا حقاً. وقرئ: {ننجّ} بالتشديد.

.تفسير الآية رقم (104):

{قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي شَكٍّ مِنْ دِينِي فَلَا أَعْبُدُ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ أَعْبُدُ اللَّهَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (104)}
{يا أَيُّهَا الناس} يا أهل مكة {إِن كُنتُمْ فِي شَكّ مّن دِينِى} وصحته وسداده، فهذا ديني فاسمعوا وصفه، واعرضوه على عقولكم، وانظروا فيه بعين الإنصاف، لتعلموا أنه دين لا مدخل فيه للشكّ، وهو أني لا أعبد الحجارة التي تعبدونها من دون من هو إلهكم وخالقكم {ولكن أَعْبُدُ الله الذى يَتَوَفَّاكُمْ} وإنما وصفه بالتوفي، ليريهم أنه الحقيق بأن يخاف ويتقي، فيعبدون دون ما لا يقدر على شيء {وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ المؤمنين} يعني أنّ الله أمرني بذلك، بما ركب فيّ من العقل، وبما أوحي إليّ في كتابه. وقيل: معناه إن كنتم من ديني ومما أنا عليه أثبت عليه أن تركه وأوافقكم فلا تحدّثوا أنفسكم بالمحال ولا تشكوا في أمري، واقطعوا عني أطماعكم، واعلموا أني لا أعبد الذين تعبدون من دون الله، ولا اختار الضلالة على الهدى، كقوله: {قُلْ يا أَيُّهَا الكافرون لا أعبد ما تعبدون} [الكافرون: 1- 2]. {أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ} أصله: بأن أكون، فحذف الجار، وهذا الحذف يحتمل أن يكون من الحذف المطرد الذي هو حذف الحروف الجارّة مع (إن) و (إن). وأن يكون من الحذف غير المطرد، وهو قوله: أمرتك الخير فاصدع بما تؤمر.

.تفسير الآية رقم (105):

{وَأَنْ أَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا وَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (105)}
فإن قلت: عطفُ قوله: {وَأَنْ أَقِمْ} على {أَنْ أَكُونَ} فيه إشكال، لأنّ (إن) لا تخلو من أن تكون التي للعبارة، أو التي تكون مع الفعل في تأويل المصدر، فلا يصح أن تكون للعبارة وإن كان الأمر مما يتضمن معنى القول، لأنّ عطفها على الموصولة يأبى ذلك. والقول بكونها موصولة مثل الأولى، لا بساعد عليه لفظ الأمر، وهو {أَقِمِ} لأنّ الصلة حقها أن تكون جملة تحتمل الصدق والكذب.
قلت: قد سوّغ سيبويه أن توصل (إن) بالأمر والنهي، وشبه ذلك بقزلهم: أنت الذي تفعل، على الخطاب؛ لأنّ الغرض وصلها بما تكون معه في معنى المصدر. والأمر والنهي دالان على المصدر دلالة غيرهما من الأفعال {أَقِمْ وَجْهَكَ} استقم إليه ولا تلتفت يمينا ولا شمالاً. و{حَنِيفاً} حال من الذين، أو من الوجه.

.تفسير الآية رقم (106):

{وَلَا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُكَ وَلَا يَضُرُّكَ فَإِنْ فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذًا مِنَ الظَّالِمِينَ (106)}
{فَإِن فَعَلْتَ} معناه: فإن دعوت من دون الله ما لا ينفعك ولا يضرّك، فكني عنه بالفعل إيجازاً {فَإِنَّكَ إِذًا مّنَ الظالمين} إذاً جزاء للشرط وجواب لسؤال مقدّر، كأن سائلاً سأل عن تبعة عبادة الأوثان. وجعل من الظالمين؛ لأنه لا ظلم أعظم من الشرك، {إِنَّ الشرك لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} [لقمان: 13].

.تفسير الآيات (107- 108):

{وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلَا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلَا رَادَّ لِفَضْلِهِ يُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (107) قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ (108)}
أتبع النهي عن عبادة الأوثان ووصفها بأنها لا تنفع ولا تضرّ، أنّ الله عزّ وجلّ هو الضارّ النافع، الذي إن أصابك بضرّ لم يقدر على كشفه إلاّ هو وحده دون كل أحد، فكيف بالجماد الذي لا شعور به. وكذلك إن أرادك بخير لم يرد أحد ما يريده بك من فضله وإحسانه، فكيف بالأوثان؟ فهو الحقيق إذاً بأن توجه إليه العبادة دونها، وهو أبلغ من قوله: {إِنْ أَرَادَنِىَ الله بِضُرّ هَلْ هُنَّ كاشفات ضُرّهِ أَوْ أَرَادَنِى بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ ممسكات رَحْمَتِهِ} [الزمر: 38].
فإن قلت: لم ذكر المسّ في أحدهما، والإرادة في الثاني؟ قلت: كأنه أراد أن يذكر الأمرين جميعاً: الإرادة والإصابة في كل واحد من الضرّ والخير، وأنه لا رادّ لما يريده منهما، ولا مزيل لما يصيب به منهما، فأوجز الكلام بأن ذكر المسّ وهو الإصابة في أحدهما، والإرادة في الآخر؛ ليدلّ بما ذكر على ما ترك، على أنه قد ذكر الإصابة بالخير في قوله تعالى: {يُصَيبُ بِهِ مَن يَشَاء مِنْ عِبَادِهِ} والمراد بالمشيئة: مشيئة المصلحة.
{قَدْ جَاءكُمُ الحق} فلم يبق لكم عذر ولا على الله حجّة، فمن اختار الهدى واتباع الحق فما نفع باختياره إلاّ نفسه، ومن آثر الضلال فما ضرّ إلاّ نفسه، واللام وعلى: دلا على معنى النفع والضرّ. وكل إليهم الأمر بعد إبانة الحق وإزاحة العلل. وفيه حثّ على إيثار الهدى واطراح الضلال مع ذلك {وَمَا أَنَاْ عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ} بحفيظ موكول إليّ أمركم وحملكم على ما أريد، إنما أنا بشير ونذير.