فصل: تفسير الآية رقم (65):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الكشاف عن حقائق التنزيل وعيون الأقاويل في وجوه التأويل



.تفسير الآية رقم (65):

{وَلَمَّا فَتَحُوا مَتَاعَهُمْ وَجَدُوا بِضَاعَتَهُمْ رُدَّتْ إِلَيْهِمْ قَالُوا يَا أَبَانَا مَا نَبْغِي هَذِهِ بِضَاعَتُنَا رُدَّتْ إِلَيْنَا وَنَمِيرُ أَهْلَنَا وَنَحْفَظُ أَخَانَا وَنَزْدَادُ كَيْلَ بَعِيرٍ ذَلِكَ كَيْلٌ يَسِيرٌ (65)}
وقرئ: {ردت إلينا} بالكسر، على أن كسرة الدال المدغمة نقلت إلى الراء، كما في: قيل وبيع، وحكى قطرب ضرب زيد. على نقل كسرة الراء فيمن سكنها إلى الضاد {مَا نَبْغِى} للنفي، أي: ما نبغي في القول، وما نتزيد فيما وصفنا لك من إحسان الملك وإكرامه، وكانوا قالوا له: إنا قدمنا على خير رجل، أنزلنا وأكرمنا كرامة لو كان رجلاً من آل يعقوب ما أكرمنا كرامته. أو ما نبتغي شيئاً وراء ما فعل بنا من الإحسان. أو على الاستفهام، بمعنى أي شيء نطلب وراء هذا؟ وفي قراءة ابن مسعود {ما تبغي}، بالتاء على مخاطبة يعقوب، معناه: أي شيء تطلب وراء هذا من الإحسان، أو من الشاهد على صدقنا؟ وقيل: معناه ما نريد منك بضاعة أخرى. وقوله {هذه بضاعتنا رُدَّتْ إِلَيْنَا} جملة مستأنفة موضحة لقوله: {مَا نَبْغِى} والجمل بعدها معطوفة عليها، على معنى: إن بضاعتنا ردّت إلينا، فنستظهر بها {وَنَمِيرُ أَهْلَنَا} في رجوعنا إلى الملك {وَنَحْفَظُ أَخَانَا} فما يصيبه شيء مما تخافه، ونزداد باستصحاب أخينا وسق بعير زائداً على أوساق أباعرنا، فأي شيء نبتغي وراء هذه المباغي التي نستصلح بها أحوالنا ونوسع ذات أيدينا: وإنما قالوا: {وَنَزْدَادُ كَيْلَ بَعِيرٍ} لما ذكرنا أنه كان لا يزيد للرجل على حمل بعير للتقسيط فإن قلت: هذا إذا فسرت البغي بالطلب، فأما إذا فسرته بالكذب والتزيد في القول، كانت الجملة الأولى وهي قوله: {هذه بضاعتنا رُدَّتْ إِلَيْنَا} بياناً لصدقهم وانتفاء التزيد عن قيلهم، فما تصنع بالجمل البواقي؟ قلت: أعطفها على قوله: {مَا نَبْغِى} على معنى: لا نبغي فيما نقول {وَنَمِيرُ أَهْلَنَا} ونفعل كيت وكيت. ويجوز أن يكون كلاماً مبتدأ، كقولك: وينبغي أن نمير أهلنا، كما تقول: سعيت في حاجة فلان، واجتهدت في تحصيل غرضه. ويجب أن أسعى، وينبغي لي أن لا أقصر. ويجوز أن يراد: ما نبغي وما ننطق إلا بالصواب فيما نشير به عليك من تجهيزنا مع أخينا، ثم قالوا: هذه بضاعتنا نستظهر بها ونمير أهلنا ونفعل ونصنع. بياناً لأنهم لا يبغون في رأيهم وأنهم مصيبون فيه، وهو وجه حسن واضح {ذلك كَيْلٌ يَسِيرٌ} أي ذلك مكيل قليل لا يكفينا، يعنون: ما يكال لهم. فأرادوا أن يزدادوا إليه ما يكال لأخيهم. أو يكون ذلك إشارة إلى كيل بعير، أي ذلك الكيل شيء قليل يجيبنا إليه الملك ولا يضايقنا فيه، أو سهل عليه متيسر لا يتعاظمه. ويجوز أن يكون من كلام يعقوب، وأن حمل بعير واحد شيء يسير لا يخاطر لمثله بالولد، كقوله {ذلك لِيَعْلَمَ} [يوسف: 52].

.تفسير الآية رقم (66):

{قَالَ لَنْ أُرْسِلَهُ مَعَكُمْ حَتَّى تُؤْتُونِ مَوْثِقًا مِنَ اللَّهِ لَتَأْتُنَّنِي بِهِ إِلَّا أَنْ يُحَاطَ بِكُمْ فَلَمَّا آَتَوْهُ مَوْثِقَهُمْ قَالَ اللَّهُ عَلَى مَا نَقُولُ وَكِيلٌ (66)}
{لَنْ أُرْسِلَهُ مَعَكُمْ} مناف لحالي وقد رأيت منكم ما رأيت- إرساله معكم {حتى تُؤْتُونِ مَوْثِقًا مّنَ الله} حتى تعطوني ما أتوثق به من عند الله، أراد أن يحلفو له بالله: وإنما جعل الحلف بالله موثقاً منه لأن الحلف به مما تؤكد به العهود وتشدّد. وقد أذن الله في ذلك فهو إذن منه {لَتَأْتُنَّنِى بِهِ} جواب اليمين؛ لأن المعنى: حتى تحلفوا لتأتنني به {إِلاَّ أَن يُحَاطَ بِكُمْ} إلا أن تغلبوا فلم تطيقوا الإتيان به. أو إلا أن تهلكوا.
فإن قلت: أخبرني عن حقيقة هذا الاستثناء ففيه إشكال؟ قلت: {أَن يُحَاطَ بِكُمْ} مفعول له، والكلام المثبت الذي هو قوله {لَتَأْتُنَّنِى بِهِ} في تأويل النفي. معناه: لا تمتنعون من الإتيان به إلا للإحاطة بكم، أي: لا تمتنعون منه لعلة من العلل إلا لعلة واحدة: وهي أن يحاط بكم، فهو استثناء من أعم العام في المفعول له، والاستثناء من أعم العام لا يكون إلا في النفي وحده، فلا بد من تأويله بالنفي. ونظيره من الإثبات المتأوّل بمعنى النفي قولهم: أقسمت بالله لما فعلت وإلا فعلت، تريد: ما أطلب منك إلا الفعل {على مَا نَقُولُ} من طلب الموثق وإعطائه {وَكِيلٌ} رقيب مطلع.

.تفسير الآيات (67- 68):

{وَقَالَ يَا بَنِيَّ لَا تَدْخُلُوا مِنْ بَابٍ وَاحِدٍ وَادْخُلُوا مِنْ أَبْوَابٍ مُتَفَرِّقَةٍ وَمَا أُغْنِي عَنْكُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَعَلَيْهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ (67) وَلَمَّا دَخَلُوا مِنْ حَيْثُ أَمَرَهُمْ أَبُوهُمْ مَا كَانَ يُغْنِي عَنْهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا حَاجَةً فِي نَفْسِ يَعْقُوبَ قَضَاهَا وَإِنَّهُ لَذُو عِلْمٍ لِمَا عَلَّمْنَاهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (68)}
وإنما نهاهم أن يدخلوا من باب واحد، لأنهم كانوا ذوي بهاء وشارة حسنة، اشتهرهم أهل مصر بالقربة عند الملك والتكرمة الخاصة التي لم تكن لغيرهم، فكانوا مظنة لطموح الأبصار إليهم من بين الوفود، وأن يشار إليهم بالأصابع. ويقال: هؤلاء أضياف الملك، انظروا إليهم ما أحسنهم من فتيان، وما أحقهم بالإكرام، لأمر مّا أكرمهم الملك وقرّبهم وفضلهم على الوافدين عليه، فخاف لذلك أن يدخلوا كوكبة واحدة، فيعانوا لجمالهم وجلالة أمرهم في الصدور، فيصيبهم ما يسوؤهم؛ ولذلك لم يوصهم بالتفرق في الكرّة الأولى، لأنهم كانوا مجهولين مغمورين بين الناس.
فإن قلت: هل للإصابة بالعين وجه تصحّ عليه؟ قلت: يجوز أن يحدث الله عز وجل عند النظر إلى الشيء والإعجاب به، نقصاناً فيه وخللا من بعض الوجوه، ويكون ذلك ابتلاء من الله وامتحاناً لعباده، ليتميز المحققون من أهل الحشو فيقول المحقق: هذا فعل الله، ويقول الحشوي: هو أثر العين، كما قال تعالى: {وَمَا جَعَلْنَا عِدَّتَهُمْ إِلاَّ فِتْنَةً لّلَّذِينَ كَفَرُواْ} [المدثر: 31] الآية.
وعن النبي صلى الله عليه وسلم: «أنه كان يعوّذ الحسن والحسين فيقول: أعيذكما بكلمات الله التامّة، من كل عين لامّة، ومن كل شيطان وهّامة» {وَمَا أُغْنِى عَنكُمْ مّنَ الله مِن شَيْء} يعني إن أراد الله بكم سوءاً لم ينفعكم ولم يدفع عنكم ما أشرت به عليكم من التفرق، وهو مصيبكم لا محالة {إِنِ الحكم إِلاَّ للَّهِ} ثم قال: {وَلَمَّا دَخَلُواْ مِنْ حَيْثُ أَمَرَهُمْ أَبُوهُم} أي متفرقين {مَّا كَانَ يُغْنِى عَنْهُمْ} رأي يعقوب ودخولهم متفرّقين شيئاً قط، حيث أصابهم ما ساءهم مع تفرّقهم، من إضافة السرقة إليهم وافتضاحهم بذلك، وأخذ أخيهم بوجدان الصواع في رحله، وتضاعف المصيبة على أبيهم {إِلاَّ حَاجَةً} استثناء منقطع. على معنى: ولكن حاجة {فِى نَفْسِ يَعْقُوبَ قَضَاهَا} وهي شفقته عليهم وإظهارها بما قاله لهم ووصاهم به {وَإِنَّهُ لَذُو عِلْمٍ} يعني قوله: {وَمَا أُغْنِى عَنكُمْ} وعلمه بأن القدر لا يغني عنه الحذر.

.تفسير الآية رقم (69):

{وَلَمَّا دَخَلُوا عَلَى يُوسُفَ آَوَى إِلَيْهِ أَخَاهُ قَالَ إِنِّي أَنَا أَخُوكَ فَلَا تَبْتَئِسْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (69)}
{آوَى إِلَيْهِ أَخَاهُ} ضم إليه بنيامين.
وروي أنهم قالوا له: هذا أخونا قد جئناك به، فقال لهم: أحسنتم وأصبتم، وستجدون ذلك عندي، فأنزلهم وأكرمهم، ثم أضافهم وأجلس كل اثنين منهم على مائدة فبقي بنيامين وحده فبكى وقال: لو كان أخي يوسف حياً لأجلسني معه، فقال يوسف: بقي أخوكم وحيداً، فأجلسه معه على مائدته وجعل يواكله، قال: أنتم عشرة فلينزل كل اثنين منكم بيتاً، وهذا لا ثاني له فيكون معي، فبات يوسف يضمه إليه ويشم رائحته حتى أصبح، وسأله عن ولده فقال: لي عشرة بنين اشتققت أسماءهم من اسم أخ لي هلك، فقال له: أتحب أن أكون أخاك بدل أخيك الهالك؟ قال: من يجد أخا مثلك، ولكن لم يلدك يعقوب ولا راحيل، فبكى يوسف وقام إليه وعانقه وقال له {إِنّى أَنَاْ أَخُوكَ} يوسف {فَلاَ تَبْتَئِسْ} فلا تحزن {بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ} بنا فيما مضى، فإن الله قد أحسن إلينا وجمعنا على خير، ولا تعلمهم بما أعلمتك.
وعن ابن عباس: تعرّف إليه وعن وهب: إنما قال له: أنا أخوك بدل أخيك المفقود، فلا تبتئس بما كنت تلقى منهم من الحسد والأذى فقد أمنتهم.
وروي أنه قال له: أنا لا أفارقك. قال: قد علمت اغتمام والدي بي، فإذا حبستك ازداد غمه، ولا سبيل إلى ذلك إلا أن أنسبك إلى ما لا يجمل. قال: لا أبالي فافعل ما بدا لك. قال: فإني أدس صاعي في رحلك، ثم أنادي عليك بأنك قد سرقته، ليتهيأ لي ردّك بعد تسريحك معهم. قال: افعل.

.تفسير الآيات (70- 72):

{فَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهَازِهِمْ جَعَلَ السِّقَايَةَ فِي رَحْلِ أَخِيهِ ثُمَّ أَذَّنَ مُؤَذِّنٌ أَيَّتُهَا الْعِيرُ إِنَّكُمْ لَسَارِقُونَ (70) قَالُوا وَأَقْبَلُوا عَلَيْهِمْ مَاذَا تَفْقِدُونَ (71) قَالُوا نَفْقِدُ صُوَاعَ الْمَلِكِ وَلِمَنْ جَاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ وَأَنَا بِهِ زَعِيمٌ (72)}
{السقاية} مشربة يسقى بها وهي الصواع. قيل: كان يسقى بها الملك، ثم جعلت صاعاً يكال به. وقيل: كانت الدواب تسقي بها ويكال بها. وقيل: كانت إناء مستطيلاً يشبه المكوك وقيل: هي المكوك الفارسي الذي يلتقي طرفاه تشرب به الأعاجم. وقيل: كانت من فضة مموّهة بالذهب، وقيل كانت من ذهب. وقيل: كانت مرصعة بالجواهر {ثُمَّ أَذَّنَ مُؤَذّنٌ} ثم نادى مناد. يقال: آذنه أعلمه. وأذن: أكثر الإعلام. ومنه المؤذن، لكثرة ذلك منه. روي: أنهم ارتحلوا وأمهلهم يوسف حتى انطلقوا، ثم أمر بهم فأدركوا وحبسوا، ثم قيل لهم ذلك. والعير: الإبل التي عليها الأحمال، لأنها تعير: أي تذهب وتجيء. وقيل: هي قافلة الحمير، ثم كثر حتى قيل لكل قافلة عير، كأنها جمع عير، وأصلها فعل كسقف وسقف، فعل به ما فعل ببيض وعيد، والمراد أصحاب العير كقوله: «يا خيل الله اركبي».
وقرأ ابن مسعود: {وجعل السقاية}، على حذف جواب لما، كأنه قيل: فلما جهزهم بجهازهم وجعل السقاية في رحل أخيه، أمهلهم حتى انطلقوا، ثم أذن مؤذن.
وقرأ أبو عبد الرحمن السلمي: {تفقدون} من أفقدته إذا وجدته فقيداً. وقرئ: {صواع}، {وصاع}، {وصوع}، {وصُوع} بفتح الصاد وضمها، والعين معجمة وغير معجمة {وَأَنَاْ بِهِ زَعِيمٌ} يقوله المؤذن، يريد: وأنا بحمل البعير كفيل، أُؤدّيه إلى من جاء به؛ وأراد وسق بعير من طعام جعلا لمن حصله.

.تفسير الآية رقم (73):

{قَالُوا تَاللَّهِ لَقَدْ عَلِمْتُمْ مَا جِئْنَا لِنُفْسِدَ فِي الْأَرْضِ وَمَا كُنَّا سَارِقِينَ (73)}
{تالله} قسم فيه معنى التعجب مما أضيف إليهم، وإنما قالوا {لَقَدْ عَلِمْتُمْ} فاستشهدوا بعلمهم. لما ثبت عندهم من دلائل دينهم وأمانتهم في كرّتي مجيئهم ومداخلتهم للملك، ولأنهم دخلوا وأفواه رواحلهم مكعومة لئلا تتناول زرعاً أو طعاماً لأحد من أهل السوق. ولأنهم ردّوا بضاعتهم التي وجدوها في رحالهم {وَمَا كُنَّا سارقين} وما كنا قط نوصف بالسرقة وهي منافية لحالنا.

.تفسير الآيات (74- 75):

{قَالُوا فَمَا جَزَاؤُهُ إِنْ كُنْتُمْ كَاذِبِينَ (74) قَالُوا جَزَاؤُهُ مَنْ وُجِدَ فِي رَحْلِهِ فَهُوَ جَزَاؤُهُ كَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ (75)}
{فَمَا جَزَاؤُهُ} الضمير للصواع، أي فما جزاء سرقته {إِن كُنتُمْ كاذبين} في جحودكم وادّعائكم البراءة منه {قَالُواْ جَزَاؤُهُ مَن وُجِدَ فِي رَحْلِهِ} أي جزاء سرقته أخذ من وجد في رحله، وكان حكم السارق في آل يعقوب أن يسترقّ سنة، فلذلك استفتوا في جزائه. وقولهم {فَهُوَ جَزَاؤُهُ} تقرير للحكم، أي: فأخذ السارق نفسه وهو جزاؤه لا غير، كقولك: حق زيد أن يكسى ويطعم وينعم عليه، فذلك حقه، أي: فهو حقه لتقرّر ما ذكرته من استحقاقه وتلزمه ويجوز أن يكون {جَزَاؤُهُ} مبتدأ، والجملة الشرطية كما هي خبره، على إقامة الظاهر فيها مقام المضمر. والأصل: جزاؤه من وجد في رحله فهو هو فوضع الجزاء موضع هو، كما تقول لصاحبك: من أخو زيد فيقول لك أخوه من يقعد إلى جنبه فهو هو يرجع الضمير الأول إلى من والثاني إلى الأخ، ثم تقول (فهو أخوه) مقيماً للمظهر مقام المضمر. ويحتمل أن يكون جزاؤه خبر مبتدأ محذوف، أي: المسؤل عنه جزاؤه، ثم أفتوا بقولهم: من وجد في رحله فهو جزاؤه، كما يقول: من يستفتى في جزاء صيد المحرم جزاء صيد المحرم، ثم يقول: {وَمَن قَتَلَهُ مِنكُم مُّتَعَمّداً فَجَزَاء مّثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النعم} [المائدة: 95].

.تفسير الآية رقم (76):

{فَبَدَأَ بِأَوْعِيَتِهِمْ قَبْلَ وِعَاءِ أَخِيهِ ثُمَّ اسْتَخْرَجَهَا مِنْ وِعَاءِ أَخِيهِ كَذَلِكَ كِدْنَا لِيُوسُفَ مَا كَانَ لِيَأْخُذَ أَخَاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ (76)}
{فَبَدَأَ بِأَوْعِيَتِهِمْ} قيل: قال لهم من وكل بهم: لابد من تفتيش أوعيتكم، فانصرف بهم إلى يوسف، فبدأ بتفتيش أوعيتهم قبل وعاء بنيامين لنفي التهمة حتى بلغ وعاءه فقال: ما أظنّ هذا أخذ شيئاً، فقالوا: والله لا نتركه حتى تنظر في رحله، فإنه أطيب لنفسك وأنفسنا، فاستخرجوه منه وقرأ الحسن: {وُعاء أخيه}، بضم الواو، وهي لغة.
وقرأ سعيد ابن جبير: {إعاء أخيه}، بقلب الواو همزة.
فإن قلت: لم ذكر ضمير الصواع مرّات ثم أنثه؟ قلت: قالوا رجع بالتأنيث على السقاية، أو أنث الصواع لأنه يذكر ويؤنث، ولعلّ يوسف كان يسميه سقاية وعبيده صواعاً، فقد وقع فيما يتصل به من الكلام سقاية، وفيما يتصل بهم منه صواعاً {كذلك كِدْنَا} مثل ذلك الكيد العظيم كدنا {لِيُوسُفَ} يعني علمناه إياه وأوحينا به إليه {مَا كَانَ لِيَأْخُذَ أَخَاهُ فِي دِينِ الملك} تفسير للكيد وبيان له، لأنه كان في دين ملك مصر، وما كان يحكم به في السارق أن يغرم مثلي ما أخذ، لا أن يلزم ويستعبد {إِلاَّ أَن يَشَاء الله} أي ما كان يأخذه إلا بمشيئة الله وإذنه فيه {نَرْفَعُ درجات مَّن نَّشَاء} في العلم كما رفعنا درجة يوسف فيه. وقرئ: {يرفع} بالياء. ودرجات بالتنوين {وَفَوْقَ كُلّ ذِى عِلْمٍ عَلِيمٌ} فوقه أرفع درجة منه في علمه، أو و فوق العلماء كلهم عليم هم دونه في العلم، وهو الله عز وعلا.
فإن قلت: ما أذن الله فيه يجب أن يكون حسناً، فمن أي وجه حسن هذا الكيد؟ وما هو إلا بهتان، وتسريق لمن لم يسرق، وتكذيب لمن لم يكذب، وهو قوله {إِنَّكُمْ لَسَارِقُونَ} [يوسف: 70]، {فَمَا جَزَاؤُهُ إِن كُنتُمْ كاذبين} [يوسف: 74]؟ قلت: هو في صورة البهتان وليس ببهتان في الحقيقة؛ لأنّ قوله: {إِنَّكُمْ لَسَارِقُونَ} [يوسف: 70] تورية عما جرى مجرى السرقة من فعلهم بيوسف. وقيل: كان ذلك القول من المؤذن لا من يوسف، وقوله: {إِن كُنتُمْ كاذبين} [يوسف: 74] فرض لانتفاء براءتهم. وفرض التكذيب لا يكون تكذيباً، على أنه لو صرَّح لهم بالتكذيب، كما صرّح لهم بالتسريق. لكان له وجه؛ لأنهم كانوا كاذبين في قولهم: {وَتَرَكْنَا يُوسُفَ عِندَ متاعنا فَأَكَلَهُ الذئب} [يوسف: 17] هذا وحكم هذا الكيد حكم الحيل الشرعية التي يتوصل بها إلى مصالح ومنافع دينية، كقوله تعالى لأيوب عليه السلام: {وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثاً} [ص: 44] ليتخلص من جلدها ولا يحنث، وكقول إبراهيم عليه السلام: هي أختي، لتسلم من يد الكافر. وما الشرائع كلها إلا مصالح وطرق إلى التخلص من الوقوع في المفاسد، وقد علم الله تعالى في هذه الحيلة التي لقنها يوسف مصالح عظيمة فجعلها سلماً وذريعة إليها، فكانت حسنة جميلة وانزاحت عنها وجوه القبح لما ذكرنا.