فصل: تفسير الآية رقم (54):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الكشاف عن حقائق التنزيل وعيون الأقاويل في وجوه التأويل



.تفسير الآية رقم (54):

{فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ (54)}
{فاستخف قَوْمَهُ} فاستفزهم. وحقيقته: حملهم على أن يخفوا له ولما أراد منهم، وكذلك: استفز، من قولهم للخفيف: فز.

.تفسير الآيات (55- 56):

{فَلَمَّا آَسَفُونَا انْتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُمْ أَجْمَعِينَ (55) فَجَعَلْنَاهُمْ سَلَفًا وَمَثَلًا لِلْآَخِرِينَ (56)}
{ءَاسَفُونَا} منقول من أسف أسفاً إذا اشتد غضبه. ومنه الحديث في موت الفجأة: «رحمة للمؤمن وأخذة أسف للكافر» ومعناه: أنهم أفرطوا في المعاصي وعدوا طورهم، فاستوجبوا أن نعجل لهم عذابنا وانتقامنا، وأن لا نحلم عنهم. وقرئ {سلفا} جمع سالف، كخادم وخدم. وسلفا- بضمتين- جمع سليف، أي: فريق قد سلف. وسلفا: جمع سلفة، أي: ثلة قد سلفت. ومعناه: فجعلناهم قدوة للآخرين من الكفار، يقتدون بهم في استحقاق مثل عقابهم ونزوله بهم، لإتيانهم بمثل أفعالهم، وحديثاً عجيب الشأن سائراً مسير المثل، يحدثون به ويقال لهم: مثلكم مثل قوم فرعون.

.تفسير الآيات (57- 59):

{وَلَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلًا إِذَا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ (57) وَقَالُوا أَآَلِهَتُنَا خَيْرٌ أَمْ هُوَ مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلَّا جَدَلًا بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ (58) إِنْ هُوَ إِلَّا عَبْدٌ أَنْعَمْنَا عَلَيْهِ وَجَعَلْنَاهُ مَثَلًا لِبَنِي إِسْرَائِيلَ (59)}
لما قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم على قريش {إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ الله حَصَبُ جَهَنَّمَ} [الأنبياء: 98] امتعضوا من ذلك امتعاضاً شديداً، فقال عبد الله بن الزبعرىُ: يا محمد، أخاصة لنا ولآلهتنا أم لجميع الأمم؟ فقال عليه السلام: «هو لكم ولآلهتكم ولجميع الأمم»، فقال: خصمتك ورب الكعبة، ألست تزعم أنّ عيسى ابن مريم نبيّ وتثنى عليه خيراً وعلى أمه، وقد علمت أنّ النصارى يعبدونهما. وعزير يعبد. والملائكة يعبدون، فإن كان هؤلاء في النار فقد رضينا أن نكون نحن وآلهتنا معهم، ففرحوا وضحكوا، وسكت النبي صلى الله عليه وسلم، فأنزل الله تعالى: (إنّ الذين سبقت لهم منا الحسنى) ونزلت هذه الآية. والمعنى: ولما ضرب عبد الله بن الزبعري عيسى ابن مريم مثلاً، وجادل رسول الله صلى الله عليه وسلم بعبادة النصارى إياه {إِذَا قَوْمُكَ} قريش من هذا المثل {يَصِدُّونَ} ترتفع لهم جلبة وضجيج فرحاً وجزلاً وضحكاً بما سمعوا منه من إسكات رسول الله صلى الله عليه وسلم بجدله، كما يرتفع لغط القوم ولجبهم إذا تعيّوا بحجة ثم فتحت عليهم. وأمّا من قرأ {يصدّون} بالضم فمن الصدود، أي: من أجل هذا المثل يصدّون عن الحق ويعرضون عنه. وقيل: من الصديد وهو الجلبة، وأنهما لغتان نحو: يعكف ويعكف ونظائر لهما {وَقَالُواْ ءأَالِهَتُنَا خَيْرٌ أَمْ هُوَ} يعنون أنّ آلهتنا عندك ليست بخير من عيسى، إذا كان عيسى من حصب النار كان أمر آلهتنا هيناً {مَا ضَرَبُوهُ} أي ما ضربوا هذا المثل {لَكَ إِلاَّ جَدَلاَ} إلا لأجل الجدل والغلبة في القول، لا لطلب الميز بين الحق والباطل {بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ} لدّ شداد الخصومة دأبهم اللجاج، كقوله تعالى: {قَوْماً لُّدّاً} [مريم: 97] وذلك أنّ قوله تعالى: {إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ الله} [الأنبياء: 98] ما أريد به إلا الأصنام، وكذلك قوله عليه السلام: «هو لكم ولآلهتكم ولجميع الأمم» إنما قصد به الأصنام، ومحال أن يقصد به الأنبياء والملائكة، إلا أن ابن الزبعري بخبه وخداعه وخُبْثِ دُخْلَتِه لما رأى كلام الله ورسوله محتملاً لفظه وجه العموم، مع علمه بأنّ المراد به أصنامهم لا غير، وجد للحيلة مساغاً، فصرف معناه إلى الشمول والإحاطة بكل معبود غير الله، على طريقة المحك والجدال وحب المغالبة والمكابرة، وتوقح في ذلك فتوقر رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أجاب عنه ربه: {إِنَّ الذين سَبَقَتْ لَهُمْ مّنَّا الحسنى} [الأنبياء: 101] فدل به على أنّ الآية خاصة في الأصنام، على أنّ ظاهر قوله: (وما تعبدون) لغير العقلاء. وقيل: لما سمعوا قوله تعالى: {إِنَّ مَثَلَ عيسى عِندَ الله كَمَثَلِ آدَمَ} [آل عمران: 59] قالوا: نحن أهدى من النصارى؛ لأنهم عبدوا آدامياً ونحن نعبد الملائكة، فنزلت. وقوله: {ءَأَلِهَتُنَا خَيْرٌ أَمْ هُوَ} على هذا القول: تفضيل لآلهتهم على عيسى؛ لأنّ المراد بهم الملائكة وما ضربوه لك إلا جدلاً. معناه: وما قالوا هذا القول، يعني: ءآلهتنا خير أم هو. إلا للجدال، وقرئ: {أآلهتنا خير} بإثبات همزة الاستفهام وبإسقاطها، لدلالة أم العديلة عليها. وفي حرف ابن مسعود: خير أم هذا. ويجوز أن يكون جدلاً حالاً، أي: جدلين. وقيل: لما نزلت {إِنَّ مَثَلَ عيسى عِندَ الله} [آل عمران: 59] قالوا: ما يريد محمد بهذا إلا أن نعبده وأنه يستأهل أن يعبد وإن كان بشراً، كما عبدت النصارى المسيح وهو بشر. ومعنى {يَصِدُّونَ} يضجون ويضجرون. والضمير في {أَمْ هُوَ} لمحمد صلى الله عليه وسلم، وغرضهم بالموازنة بينه وبين آلهتهم: السخرية به والاستهزاء. ويجوز أن يقولوا لما أنكر عليهم قولهم: الملائكة بنات الله وعبدوهم ما قلنا بدعا من القول، ولما فعلنا نكراً من الفعل؛ فإنّ النصارى جعلوا المسيح ابن الله وعبدوه، ونحن أشف منهم قولاً وفعلاً، فإنا نسبنا إليه الملائكة وهم نسبوا إليه الأناسي، فقيل لهم: مذهب النصارى شرك بالله، ومذهبكم شرك مثله، وما تنصلكم مما أنتم عليه بما أوردتموه إلا قياس باطل بباطل، وما عيسى {إِلاَّ عَبْدٌ} كسائر العبيد {أَنْعَمْنَا عَلَيْهِ} حيث جعلناه آية: بأن خلقناه من غير سبب، كما خلقنا آدم وشرفناه بالنبوّة وصيرناه عبرة عجيبة كالمثل السائر لبنيَ إسرائيل.

.تفسير الآية رقم (60):

{وَلَوْ نَشَاءُ لَجَعَلْنَا مِنْكُمْ مَلَائِكَةً فِي الْأَرْضِ يَخْلُفُونَ (60)}
{وَلَوْ نَشآءُ} لقدرتنا على عجائب الأمور وبدائع الفطر {لَجَعَلْنَا مِنكُمْ} لولدنا منكم يا رجال {مَلَئِكَةٌ} يخلفونكم في الأرض كما يلخفكم أولادكم، كما ولدنا عيسى من أنثى من غير فحل، لتعرفوا تميزنا بالقدرة الباهرة، ولتعلموا أن الملائكة أجسام لا تتولد إلا من أجسام، وذات القديم متعالية عن ذلك.

.تفسير الآية رقم (61):

{وَإِنَّهُ لَعِلْمٌ لِلسَّاعَةِ فَلَا تَمْتَرُنَّ بِهَا وَاتَّبِعُونِ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ (61)}
{وَإِنَّهُ} وإن عيسى عليه السلام {لَعِلْمٌ لِّلسَّاعَةِ} أي شرط من أشراطها تعلم به، فسمى الشرط علماً لحصول العلم به.
وقرأ ابن عباس: لعلم، وهو العلامة. وقرئ {للعلم} وقرأ: أبيّ: لذكر، على تسمية ما يذكر به ذكراً، كما سمي ما يعلم به علماً. وفي الحديث: «أن عيسى عليه الصلاة والسلام ينزل على ثنية بالأرض المقدّسة: يقال لها أفيق وعليه ممصرتان، وشعر رأسه دهين، وبيده حربة، وبها يقتل الدجال، فيأتي بيت المقدس والناس في صلاة الصبح والإمام يؤم بهم، فيتأخر الإمام فيقدِّمه عيسى ويصلي خلفه على شريعة محمد عليه الصلاة والسلام، ثم يقتل الخنازير ويكسر الصليب، ويخرب البيع والكنائس، ويقتل النصارى إلا من آمن به» وعن الحسن: أن الضمير للقرآن، وأن القرآن به تعلم الساعة، لأن فيه الإعلان بها {فَلاَ تَمْتَرُنَّ بِهَا} من المرية وهي الشك {واتبعون} واتبعوا هداي وشرعي. أو رسولي. وقيل: هذا أمر لرسول الله أن يقوله: {هذا صراط مُّسْتَقِيمٌ} أي هذا الذي أدعوكم إليه. أو هذا القرآن إن جعل الضمير في {وَإِنَّهُ} للقرآن.

.تفسير الآية رقم (62):

{وَلَا يَصُدَّنَّكُمُ الشَّيْطَانُ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (62)}
{عَدُوٌّ مُّبِينٌ} قد بانت عداوته لكم: إذ أخرج أباكم من الجنة ونزع عنه لباس النور.

.تفسير الآيات (63- 65):

{وَلَمَّا جَاءَ عِيسَى بِالْبَيِّنَاتِ قَالَ قَدْ جِئْتُكُمْ بِالْحِكْمَةِ وَلِأُبَيِّنَ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي تَخْتَلِفُونَ فِيهِ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (63) إِنَّ اللَّهَ هُوَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ (64) فَاخْتَلَفَ الْأَحْزَابُ مِنْ بَيْنِهِمْ فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْ عَذَابِ يَوْمٍ أَلِيمٍ (65)}
{بالبينات} بالمعجزات. أو بآيات الإنجيل والشرائع البينات الواضحات {بالحكمة} يعني الإنجيل والشرائع.
فإن قلت: هلا بين لهم كل الذي يختلفون فيه ولكن بعضه؟ قلت: كانوا يختلفون في الديانات وما يتعلق بالتكليف وفيما سوى ذلك مما لم يتعبدوا بمعرفته والسؤال عنه، وإنما بعث ليبين لهم ما اختلفوا فيه مما يعنيهم من أمر دينهم {الأحزاب} الفرق المتحزبة بعد عيسى. وقيل: اليهود والنصارى {فَوَيْلٌ لّلَّذِينَ ظَلَمُواْ} وعيد للأحزاب.
فإن قلت: {مِن بَيْنِهِمْ} إلى من يرجع الضمير فيه؟ قلت: إلى الذين خاطبهم عيسى في قوله: {قَدْ جِئْتُكُم بالحكمة} وهم قومه المبعوث إليهم.

.تفسير الآيات (66- 73):

{هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا السَّاعَةَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (66) الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ (67) يَا عِبَادِ لَا خَوْفٌ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ وَلَا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ (68) الَّذِينَ آَمَنُوا بِآَيَاتِنَا وَكَانُوا مُسْلِمِينَ (69) ادْخُلُوا الْجَنَّةَ أَنْتُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ تُحْبَرُونَ (70) يُطَافُ عَلَيْهِمْ بِصِحَافٍ مِنْ ذَهَبٍ وَأَكْوَابٍ وَفِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ الْأَنْفُسُ وَتَلَذُّ الْأَعْيُنُ وَأَنْتُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (71) وَتِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (72) لَكُمْ فِيهَا فَاكِهَةٌ كَثِيرَةٌ مِنْهَا تَأْكُلُونَ (73)}
{أَن تَأْتِيَهُم} بدل من الساعة. والمعنى: هل ينظرون إلا إتيان الساعة.
فإن قلت: أما أدى قوله: {بَغْتَةً} مؤدّى قوله: {وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ} فيستغني عنه؟ قلت: لا، لأنّ معنى قوله تعالى: {وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ}: وهم غافلون لاشتغالهم بأمور دنياهم، كقوله تعالى: {تَأُخُذُهُمْ وَهُمْ يَخِصّمُونَ} [يس: 49] ويجوز أن تأتيهم بغتة وهم فطنون {يَوْمَئِذٍ} منصوب بعدوّ، أي: تنقطع في ذلك اليوم كل خلة بين المتخالين في غير ذات الله، وتنقلب عداوة ومقتا، إلا خلة المتصادقين في الله، فإنها الخلة الباقية المزدادة قوّة إذا رأوا ثواب التحاب في الله تعالى والتباغض في الله. وقيل: {إِلاَّ المتقين} إلا المجتنبين أخلاء السوء. وقيل: نزلت في أبيّ بن خلف، وعقبه بن أبي معيط {ياعباد} حكاية لما ينادى به المتقون المتحابون في الله يومئذٍ، و{الذين ءَامَنُواْ} منصوب المحل صفة لعبادي، لأنه منادى مضاف، أي: الذين صدّقوا {بئاياتنا وكَانُواْ مُسْلِمِينَ} مخلصين وجوههم لنا، جاعلين أنفسهم سالمة لطاعتنا. وقيل: إذا بعث الله الناس فزع كل أحد، فينادي مناد، يا عبادي فيرجوها الناس كلهم، ثم يتبعها الذين آمنوا فييأس الناس منها غير المسلمين. وقرئ {يا عباد} {تُحْبَرُونَ} تسرون سروراً يظهر حباره- أي: أثره- على وجوهكم، كقوله تعالى: {تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النعيم} [المطففين: 24] وقال الزجاج: تكرمون إكراماً يبالغ فيه. والحبرة: المبالغة فيما وصف بجميل. والكوب: الكوز لا عروة له {وَفِيهَا} الضمير للجنة. وقرئ {تشتهي} وتشتهيه. وهذا حصر لأنواع النعم، لأنها إما مشتهاة في القلوب، وإما مستلذة في العيون. {وَتِلْكَ} إشارة إلى الجنة المذكورة. وهي مبتدأ، و{الجنة} خبر. و{التى أُورِثْتُمُوهَا} صفة الجنة. أو الجنة صفة للمبتدأ الذي هو اسم الإشارة. والتي أورثتموها: خبر المبتدأ. أو التي أورثتموها: صفة، و{بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} الخبر، والباء تتعلق بمحذوف كما في الظروف التي تقع أخبار. وفي الوجه الأول تتعلق بأورثتموها. وشبهت في بقائها على أهلها بالميراث الباقي على الورثة. وقرئ {ورّثتموها} {مِّنْهَا تَأْكُلُونَ} من للتبعيض، أي: لا تأكلون إلا بعضها، وأعقابها باقية في شجرها، فهي مزينة بالثمار أبداً موقرة بها، لا ترى شجرة عريانة من ثمرها كما في الدنيا.
وعن النبي صلى الله عليه وسلم: «لا ينزع رجل في الجنة من ثمرها إلا نبت مكانها مثلاها».

.تفسير الآيات (74- 78):

{إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي عَذَابِ جَهَنَّمَ خَالِدُونَ (74) لَا يُفَتَّرُ عَنْهُمْ وَهُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ (75) وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا هُمُ الظَّالِمِينَ (76) وَنَادَوْا يَا مَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ قَالَ إِنَّكُمْ مَاكِثُونَ (77) لَقَدْ جِئْنَاكُمْ بِالْحَقِّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَكُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ (78)}
{لاَ يُفَتَّرُ عَنْهُمْ} لا يخفف ولا ينقص، من قولهم: فترت عنه الحمى إذا سكنت عنه قليلاً ونقص حرّها. والمبلس: اليائس الساكت سكوت يأس من فرج.
وعن الضحاك: يجعل المجرم في تابوت في نار ثم يردم عليه فيبقى فيه خالداً: لا يرى ولا يرى {هُمُ} فصل عند البصريين، عماد عند الكوفيين. وقرئ {وهم فيها} أي: في النار وقرأ علي وابن مسعود رضي الله عنهما: {با مال} بحذف الكاف للترخيم، كقول القائل:
وَالْحَقُّ يَا مَالِ غَيْرَ مَا تَصِفُ

وقيل لابن عباس: إن ابن مسعود قرأ {ونادوا يا مال} فقال: ما أشغل أهل النار عن الترخيم وعن بعضهم: حسن الترخيم أنهم يقتطعون بعض الاسم لضعفهم وعظم ما هم فيه.
وقرأ أبو السّرار الغنوي {يا مال} بالرفع كما يقال: يا حار {لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ} من قضى عليه إذا أماته {فَوَكَزَهُ موسى فقضى عَلَيْهِ} [القصص: 15] والمعنى: سل ربك أن يقضي علينا.
فإن قلت: كيف قال: {وَنَادَوْاْ يامالك} بعد ما وصفهم بالإبلاس؟ قلت: تلك أزمنة متطاولة وأحقاب ممتدة، فتختلف بهم الأحوال فيسكتون أوقاتاً لغلبة اليأس عليهم، وعلمهم أنه لا فرج لهم، ويغوّثون أوقاتاً لشدّة ما بهم {ماكثون} لابثون. وفيه استهزاء. والمراد: خالدون. عن ابن عباس رضي الله عنهما: إنما يجيبهم بعد ألف سنة.
وعن النبي صلى الله عليه وسلم: «يلقى على أهل النار الجوع حتى يعدل ما هم فيه من العذاب، فيقولون: ادعوا مالكاً، فيدعون يا مالك ليقض علينا ربك» {لَقَدْ جئناكم بالحق} كلام الله عز وجل: بدليل قراءة من قرأ: {لقد جئتكم} ويجب أن يكون في قال ضمير الله عز وجل. لما سألوا مالكاً أن يسأل الله تعالى القضاء عليهم: أجابهم الله بذلك {كارهون} لا تقبلونه وتنفرون منه وتشمئزون منه؛ لأنّ مع الباطل الدعة، ومع الحق التعب.