فصل: تفسير الآيات (19- 21):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الكشاف عن حقائق التنزيل وعيون الأقاويل في وجوه التأويل



.تفسير الآيات (19- 21):

{إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ (19) ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ (20) مُطَاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ (21)}
{إِنَّهُ} الضمير للقرآن {لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ} هو جبريل صلوات الله عليه {ذِى قُوَّةٍ} كقوله تعالى: {شَدِيدُ القوى ذُو مِرَّةٍ} [النجم: 5- 6] لما كانت حال المكانة على حسب حال الممكن، قال: {عِندَ ذِى العرش} ليدل على عظم منزلته ومكانته {ثَمَّ} إشارة إلى الظرف المذكور، أعني: عند ذي العرش، على أنه عند الله مطاع في ملائكته المقرَّبين يصدرون عن أمره ويرجعون إلى رأيه. وقرئ (ثم) تعظيماً للأمانة. وبياناً لأنها أفضل صفاته المعدودة.

.تفسير الآية رقم (22):

{وَمَا صَاحِبُكُمْ بِمَجْنُونٍ (22)}
{وَمَا صَاحِبُكُم} يعني: محمداً صلى الله عليه وسلم {بِمَجْنُونٍ} كما تبهته الكفرة، وناهيك بهذا دليًلا على جلالة مكان جبريل عليه السلام وفضله على الملائكة، ومباينة منزلته لمنزلة أفضل الإنس محمد صلى الله عليه وسلم، إذا وازنت بين الذكرين حين قرن بينهما، وقايست بين قوله: {إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ ذِى قُوَّةٍ عِندَ ذِى العرش مَكِينٍ مُّطَاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ} وبين قوله: {وَمَا صَاحِبُكُم بِمَجْنُونٍ}.

.تفسير الآيات (23- 25):

{وَلَقَدْ رَآَهُ بِالْأُفُقِ الْمُبِينِ (23) وَمَا هُوَ عَلَى الْغَيْبِ بِضَنِينٍ (24) وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَيْطَانٍ رَجِيمٍ (25)}
{وَلَقَدْ رَءَاهُ} ولقد رأى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم جبريل {بالأفق المبين} بمطلع الشمس الأعلى {وَمَا هُوَ} وما محمد على ما يخبر به من الغيب من رؤية جبريل والوحي إليه وغير ذلك {بِضَنِينٍ} بمتهم من الظنة وهي التهمة وقرئ {بضنين} من الضنّ وهو البخل أي: لا يبخل بالوحي فيزوي بعضه غير مبلغه؛ أو يسأل تعليمه فلا يعلمه؛ وهو في مصحف عبد الله بالظاء، وفي مصحف أبيّ بالضاد، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ بهما. وإتقان الفصل بين الضاد والظاء: واجب. ومعرفة مخرجيهما مما لابد منه للقارئ، فإنّ أكثر العجم لا يفرّقون بين الحرفين وإن فرقوا ففرقا غير صواب، وبينهما بون بعيد؛ فإن مخرج الضاد من أصل حافة اللسان، وما يليها من الأضراس من يمين اللسان أو يساره، وكان عمر بن الخطاب رضي اللَّه عنه أضبط يعمل بكلتا يديه، وكان يخرج الضاد من جانبي لسانه، وهي أحد الأحرف الشجرية أخت الجيم والشين، وأما الظاء فمخرجها من طرف اللسان وأصول الثنايا العليا، وهي أحد الأحرف الذولقية أخت الذال والثاء. ولو استوى الحرفان لما ثبتت في هذه الكلمة قراءتان اثنتان واختلاف بين جبلين من جبال العلم والقراءة، ولما اختلف المعنى والاشتقاق والتركيب فإن قلت: فإن وضع المصلي أحد الحرفين مكان صاحبه.
قلت: هو كواضع الذال مكان الجيم، والثاء مكان الشين، لأن التفاوت بني الضاد والظاء كالتفاوت بين أخواتهما {وَمَا هُوَ} وما القرآن {بِقَوْلِ شيطان رَّجِيمٍ} أي بقول بعض المسترقة للسمع وبوحيهم إلى أوليائهم من الكهنة.

.تفسير الآيات (26- 29):

{فَأَيْنَ تَذْهَبُونَ (26) إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ (27) لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ (28) وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ (29)}
{فَأيْنَ تَذْهَبُونَ (26)} استضلال لهم كما يقال لتارك الجادّة اعتسافاً أو ذهاباً في بنيات الطريق: أين تذهب؛ مثلت حالهم بحاله في تركهم الحق وعدولهم عنه إلى الباطل {لِمَن شَآءَ مِنكُمْ} بدل من العالمين وإنما أبدلوا منهم لأنّ الذين شاؤا الاستقامة بالدخول في الإسلام هم المنتفعون بالذكر، فكأنه لم يوعظ به غيرهم وإن كانوا موعظين جميعاً {وَمَا تَشَآءُونَ} الاستقامة يامن يشاؤها إلا بتوفيق الله ولطفه. أو: وما تشاؤنها أنتم يامن لا يشاؤها إلا بقسر الله وإلجائه.
عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من قرأ سورة إذا الشمس كوّرت أعاذه الله أن يفضحه حين تنشر صحيفته».

.سورة الانفطار:

.تفسير الآيات (1- 5):

{إِذَا السَّمَاءُ انْفَطَرَتْ (1) وَإِذَا الْكَوَاكِبُ انْتَثَرَتْ (2) وَإِذَا الْبِحَارُ فُجِّرَتْ (3) وَإِذَا الْقُبُورُ بُعْثِرَتْ (4) عَلِمَتْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ وَأَخَّرَتْ (5)}
{انفطرت} انشقت {فُجِّرَتْ} فتح بعضها إلى بعض، فاختلط العذب بالمالح، وزال البرزخ الذي بينهما، وصارت البحار بحراً واحداً وروي أنّ الأرض تنشف الماء بعد امتلاء البحار، فتصير مستوية، وهو معنى التسجير عند الحسن، وقرئ {فجرت} بالتخفيف.
وقرأ مجاهد: فجرت على النباء للفاعل والتخفيف. بمعنى: بغت لزوال البرزخ نظراً إلى قوله تعالى: {لاَّ يَبْغِيَانِ} [الرحمن: 20] لأنّ البغي والفجور أخوان. بعثر وبحثر بمعنى، وهما مركبان من البعث والبحث مع راء مضمومة إليهما. والمعنى: يحثت وأخرج موتاها. وقيل: لبراءة المبعثرة لأنها بعثرت أسرار المنافقين.

.تفسير الآيات (6- 8):

{يَا أَيُّهَا الْإِنْسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ (6) الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ (7) فِي أَيِّ صُورَةٍ مَا شَاءَ رَكَّبَكَ (8)}
فإن قلت: ما معنى قوله: {مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الكريم} وكيف طابق الوصف بالكرم إنكار الاغترار به، وإنما يغتر بالكريم، كما يروى عن عليّ رضي اللَّه عنه أنه صاح بغلام له كرّات فلم يلبه، فنظر فإذا هو بالباب، فقال له: ما لك لم تجبني؟ قال: لثقتي بحلمك وأمني من عقوبتك، فاستحسن جوابه وأعتقه، وقالوا: من كرم الرجل سوء أدب غلمانه. قلت معناه أنّ حق الإنسان أن لا يغترّ بتكرم الله عليه، حيث خلقه حياً لينفعه، وبتفضله عليه بذلك حتى يطمع بعدما مكنه وكلفه فعصى وكفر النعمة المتفضل بها أن يتفضل عليه بالثواب وطرح العقاب، اغتراراً بالتفضل الأوّل، فإنه منكر خارج من حد الحكمة، ولهذا: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لما تلاها. «غرّه جهله» وقال عمر رضي الله عنه: غرّه حمقه وجهله. وقال الحسن: غره والله شيطانه الخبيث، أي: زين له المعاصي وقال له: أفعل ما شئت، فربك الكريم الذي تفضل عليك بما تفضل به أوّلا وهو متفضل عليك آخراً، حتى ورطه وقيل للفضيل ابن عياض: إن أقامك الله يوم القيامة وقال لك: {مَا غَرَّكَ بِرَبّكَ الكريم} ماذا تقول؟ قال أقول: غرّتني ستورك المرخاة. وهذا على سبيل الاعتراف بالخطأ في الاغترار بالستر، وليس باعتذار كما يظنه الطماع، ويطّن به قصاص الحشوية ويروون عن أئمتهم: إنما قال {بِرَبّكَ الكريم} دون سائر صفاته، ليلقن عبده الجواب حتى يقول: غرّني كرم الكريم.
وقرأ سعيد بن جبير: {ما أغرّك} إما على التعجب، وإما على الاستفهام؛ من قولك: غرّ الرجل فهو غارّ: إذا غفل، من قولك: بيتهم العدوّ وهم غارّون. وأغرّه غيره: جعله غاراً {فسواك} فجعلك سويا سالم الأعضاء {فَعَدَلَكَ} فصيرك معتدلاً متناسب الخلق من غير تفاوت فيه، فلم يجعل إحدى اليدين أطول، ولا إحدى العينين أوسع، ولا بعض الأعضاء أبيض وبعضها أسود، ولا بعض الشعر فاحماً وبعضه أشقر. أو جعلك معتدل الخلق تمشي قائماً لا كالبهائم. وقرئ {فعدلك} بالتخفيف وفيه وجهان، أحدهما: أن يكون بمعنى المشدّد، أي: عدل بعض أعضائك ببعض حتى اعتدلت والثاني {فَعَدَلَكَ} فصرفك. يقال: عدله عن الطريق يعني: فعدلك عن خلقة غيرك وخلقك خلقة حسنة مفارقة لسائر الخلق. أو فعدلك إلى بعض الأشكال والهيآت. {مَّا} في {مَّا شَآءَ} مزيدة، أي: ركبك في أيّ صورة اقتضتها مشيئته وحكمته من الصور المختلقة في الحسن والقبح والطول والقصر والذكورة والأنوثة، والشبه ببعض الأقارب وخلاف الشبه فإن قلت: هلا عطفت هذه الجملة كما عطف ما قبلها؟ قلت: لأنها بيان لعدلك.
فإن قلت: بم يتعلق الجار؟ قلت: يجوز أن يتعلق بركبك. على معنى: وضعك في بعض الصور ومكنك فيه، وبمحذوف أي ركبك حاصلاً في بعض الصور؛ ومحله النصب على الحال إن علق بمحذوف ويجوز أن يتعلق بعدلك، ويكون في (أي) معنى التعجب، أي فعدلك في صورة عجيبة، ثم قال: ما شاء ركبك. أي ركبك ما شاء من التراكيب، يعني تركيباً حسناً.

.تفسير الآيات (9- 12):

{كَلَّا بَلْ تُكَذِّبُونَ بِالدِّينِ (9) وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ (10) كِرَامًا كَاتِبِينَ (11) يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ (12)}
{كَلاَّ} ارتدعوا عن الاغترار بكرم الله والتسلق به. وهو موجب الشكر والطاعة، إلى عكسهما الذي هو الكفر والمعصية. ثم قال: {بَلْ تُكَذِّبُونَ بالدين} أصلا وهو الجزاء. أو دين الإسلام. فلا تصدّقون ثواباً ولا عقاباً وهو شرّ من الطمع المنكر {وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لحافظين} تحقيق لما يكذبون به من الجزاء، يعني أنكم تكذبون بالجزاء والكاتبون يكتبون عليكم أعمالكم لتجازوا بها. وفي تعظيم الكتبة بالثناء عليهم: تعظيم لأمر الجزاء، وأنه عند الله من جلائل الأمور؛ ولولا ذلك لما وكل بضبط ما يحاسب عليه، ويجازي به الملائكة الكرام الحفظة الكتبة. وفيه إنذار وتهويل وتشوير للعصاة ولطف للمؤمنين وعن الفضيل أنه كان إذا قرأها قال: ما أشدّها من أية على الغافلين.

.تفسير الآيات (13- 16):

{إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ (13) وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ (14) يَصْلَوْنَهَا يَوْمَ الدِّينِ (15) وَمَا هُمْ عَنْهَا بِغَائِبِينَ (16)}
{وَمَا هُمَ عَنْهَا بِغَآئِبِينَ} كقوله: {وَمَا هُم بخارجين مِنْهَا} [المائدة: 37]، ويجوز أن يراد: يصلون النار يوم الدين وما يغيبون عنها قبل ذلك، يعني: في قبورهم، وقيل: أخبر الله في هذه السورة أنّ لابن آدم ثلاث حالات: حال الحياة التي يحفظ فيها عمله، وحال الآخرة التي يجازى فيها، وحال البرزخ وهو قوله: {وَمَا هُمَ عَنْهَا بِغَآئِبِينَ (16)}.

.تفسير الآيات (17- 19):

{وَمَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ (17) ثُمَّ مَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ (18) يَوْمَ لَا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئًا وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ (19)}
يعني أن أمر يوم الدين بحيث لا تدرك دراية دار كنهه في الهول والشدّة وكيفما تصورّته فهو فوق ذلك وعلى أضعافه، والتكرير لزيادة التهويل، ثم أجمل القول في وصفه فقال {يَوْمَ لاَ تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئاً} أي لا تستطيع دفعاً عنها ولا نفعاً لها بوجه ولا أمر إلا لله وحده. من رفع فعلى البدل من يوم الدين، أو على: هو يوم لا تملك. ومن نصب فبإضمار يدانون؛ لأنّ الدين يدل عليه. أو بإضمار اذكر. ويجوز أن يفتح لإضافته إلى غير متمكن وهو في محل الرفع.
عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من قرأ إذا السماء انفطرت كتب الله له بعدد كل قطرة من السماء حسنة وبعدد كل قبر حسنة».

.سورة المطففين:

.تفسير الآيات (1- 6):

{وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ (1) الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ (2) وَإِذَا كَالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ (3) أَلَا يَظُنُّ أُولَئِكَ أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ (4) لِيَوْمٍ عَظِيمٍ (5) يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ (6)}
التطفيف: البخس في الكيل والوزن: لأنّ ما يبخس شيء طفيف حقير. وروى: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قدم المدينة وكانوا من أخبث الناس كيلا، فنزلت فأحسنوا الكيل. وقيل: قدمها وبها رجل يعرف بأبي جهينة ومعه صاعان: بكيل بأحدهما ويكتال بالآخر. وقيل: كان أهل المدينة تجاراً يطففون، وكانت بياعاتهم المنابذة والملامسة والمخاطرة، فنزلت فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم فقرأها عليهم. وقال: «خمس بخمس» قيل: يا رسول الله، وما خمس بخمس؟ قال: «ما نقض قوم العهد إلا سلط الله عليهم عدوّهم، وما حكموا بغير ما أنزل الله إلا فشا فيهم الفقر، وما ظهرت فيهم الفاحشة إلا فشا فيهم الموت، ولا طففوا الكيل إلا منعوا النبات وأخذوا بالسنين، ولا منعوا الزكاة إلا حبس عنهم القطر» وعن علي رضي الله عنه: أنه مر برجل يزن الزعفران وقد أرجح فقال له: أقم الوزن بالقسط، ثم أرجح بعد ذلك ما شئت. كأنه أمره بالتسوية أولا ليعتادها ويفصل الواجب من النفل.
وعن ابن عباس: إنكم معشر الأعاجم وليتم أمرين: بهما هلك من كان قبلكم: المكيال والميزان؛ وخص الأعاجم لأنهم يجمعون الكيل والوزن جميعاً وكانا مفرّقين في الحرمين: كان أهل مكة يزنون وأهل المدينة يكيلون، وعن ابن عمر أنه كان يمر بالبائع فيقول له: اتق الله وأوف الكيل، فإنّ المطففين يوقفون يوم القيامة لعظمة الرحمن حتى إن العرق ليلجمهم.
وعن عكرمة: أشهد أنّ كل كيال ووزان في النار. فقيل له: إنّ ابنك كيال أو وزان؛ فقال: أشهد أنه في النار.
وعن أبيّ رضي الله عنه: لا تلتمس الحوائج ممن رزقه في رؤوس المكاييل وألسن الموازين لما كان اكتيالهم من الناس اكتيالاً يضرهم ويتحامل فيه عليهم: أبدل (على) مكان (من) للدلالة على ذلك. ويجوز أن يتعلق (على) بيستوفون، ويقدم المفعول على الفعل لإفادة الخصوصية، أي: يستوفون على الناس خاصة؛ فأما أنفسهم فيستوفون لها؛ وقال الفراء (من) و (على) يعتقبان في هذا الموضع، لأنه حق عليه؛ فإذا قال اكتلت عليك، فكأنه قال: أخذت ما عليك؛ وإذا قال: اكتلت منك، فكقوله: استوفيت منك. والضمير في {كَالُوهُمْ أَوْ وَّزَنُوهُمْ} ضمير منصور راجع إلى الناس. وفيه وجهان: أن يراد كالوا لهم أو وزنوا لهم؛ فحذف الجار وأوصل الفعل، كما قال:
وَلَقَدْ جَنَيْتُكَ أَكْمُؤاً وَعَسَاقِلاً ** وَلَقَدْ نَهَيْتُكَ عَنْ نَبَاتِ الأوْبَرِ

والحريص يصيدك إلا الجواد، بمعنى: جنيت لك، ويصيد لك، وأن يكون على حذف المضاف وإقامة المضاف إليه مقامه، والمضاف هو المكيل أو الموزون، ولا يصح أن يكون ضميراً مرفوعاً للمطففين، لأنّ الكلام يخرج به إلى نظم فاسد؛ وذلك أنّ المعنى: إذا أخذوا من الناس استوفوا، وإذا أعطوهم أخسروا؛ وإن جعلت الضمير للمطففين انقلب إلى قولك: إذا أخذوا من الناس استوفوا، وإذا تولوا الكيل أو الوزن هم على الخصوص أخسروا، وهو كلام متنافر لأنّ الحديث واقع في الفعل لا في المباشر، والتعلق في إبطاله بخط المصحف، وأنّ الألف التي تكتب بعد واو الجمع غير ثابتة فيه: ركيك؛ لأنّ خط المصحف لم يراع في كثير منه حدّ المصطلح عليه في علم الخط، على أني رأيت في الكتب المخطوطة بأيدي الأئمة المتقنين هذه الألف مرفوضة لكونها غير ثابتة في اللفظ والمعنى جميعاً؛ لأن الواو وحدها معطية معنى الجمع، وإنما كتبت هذه الألف تفرقة بين واو الجمع وغيرها في نحو قولك: هم لم يدعوا، وهو يدعو؛ فمن لم يثبتها قال: المعنى كاف في التفرقة بينهما.
وعن عيسى بن عمر وحمزة: أنهما كانا يرتكبان ذلك، أي يجعلان الضميرين للمطففين، ويقفان عند الواوين وقيفة يبينان بها ما أرادا فإن قلت: هلا قيل: أو اتزنوا، كما قيل {أَوْ وَّزَنُوهُمْ}؟ قلت: كأن المطففين كانوا لا يأخذون ما يكال ويوزن إلا بالمكاييل دون الموازين لتمكنهم بالاكتيال من الاستيفاء والسرقة، لأنهم يدعدعون ويحتالون في الملء، وإذا أعطوا كالوا أو وزنوا لتمكنهم من البخس في النوعين جميعاً {يُخْسِرُونَ} ينقصون يقال: خسر الميزان وأخسره {أَلا يَظُنُّ} إنكار وتعجيب عظيم من حالهم في الاجتراء على التطفيف، كأنهم لا يخطرون ببالهم ولا يخمنون تخميناً {أَنَّهُمْ مَّبْعُوثُونَ} ومحاسبون على مقدار الذرّة والخردلة.
وعن قتادة: أوف يا ابن آدم كما تحب أن يوفى لك، وأعدل كما تحب أن يعدل لك.
وعن الفضيل: بخس الميزان سواد الوجه يوم القيامة.
وعن عبد الملك بن مروان: أن أعرابياً قال له: قد سمعت ما قال الله في المطففين: أراد بذلك أن المطفف قد توجه عليه الوعيد العظيم الذي سمعت به، فما ظنك بنفسك وأنت تأخذ أموال المسلمين بلا كيل ولا وزن وفي هذا الإنكار والتعجيب وكلمة الظن، ووصف اليوم بالعظم، وقيام الناس فيه لله خاضعين، ووصفه ذاته برب العالمين: بيان بليغ لعظم الذنب وتفاقم الإثم في التطفيف وفيما كان في مثل حاله من الحيف وترك القيام بالقسط، والعمل على السوية والعدل في كل أخذ وإعطاء، بل في كل قول وعمل، وقيل: الظنّ بمعنى اليقين، والوجه ما ذكر؛ ونصب {يَوْمَ يَقُومُ} بمبعوثون. وقرئ بالجر بدلاً من (يوم عظيم) وعن ابن عمر أنه قرأ هذه السورة فلما بلغ قوله: {يَوْمَ يَقُومُ الناس لِرَبّ العالمين (6)} بكى نحيباً وامتنع من قراءة ما بعده.