فصل: تفسير الآيات (62- 63):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الكشاف عن حقائق التنزيل وعيون الأقاويل في وجوه التأويل



.تفسير الآيات (62- 63):

{وَتَرَى كَثِيرًا مِنْهُمْ يُسَارِعُونَ فِي الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (62) لَوْلَا يَنْهَاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ عَنْ قَوْلِهِمُ الْإِثْمَ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَصْنَعُونَ (63)}
الإثم الكذب بدليل قوله تعالى: {عَن قَوْلِهِمُ الإثم}. {والعدوان} الظلم. وقيل: الإثم كلمة الشرك. وقولهم عزير ابن الله. وقيل: الإثم ما يختص بهم. والعدوان: ما يتعداهم إلى غيرهم. والمسارعة في الشيء الشروع فيه بسرعة {السحت لَبِئْسَ مَا كَانُواْ يَصْنَعُونَ} كأنهم جعلوا آثم من مرتكبي المناكير لأن كل عامل لا يسمى صانعاً، ولا كل عمل يسمى صناعة حتى يتمكن فيه ويتدرّب وينسب إليه، وكأن المعنى في ذلك أن مواقع المعصية معه الشهوة التي تدعوه إليها وتحمله على ارتكابها، وأما الذي ينهاه فلا شهوة معه في فعل غيره، فإذا فرط في الإنكار كان أشدّ حالاً من المواقع. ولعمري إن هذه الآية مما يقد السامع وينعي على العلماء توانيهم.
وعن ابن عباس رضي الله عنهما: هي أشدّ آية في القرآن.
وعن الضحاك: ما في القرآن آية أخوف عندي منها.

.تفسير الآية رقم (64):

{وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْيَانًا وَكُفْرًا وَأَلْقَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ كُلَّمَا أَوْقَدُوا نَارًا لِلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللَّهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ (64)}
غل اليد وبسطها مجاز عن البخل والجود، ومنه قوله تعالى: {وَلاَ تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إلى عُنُقِكَ وَلاَ تَبْسُطْهَا كُلَّ البسط} [الإسراء: 29] ولا يقصد من يتكلم به إثبات يد ولا غل ولا بسط، ولا فرق عنده بين هذا الكلام وبين ما وقع مجازاً عنه لأنهما كلامان متعقبان على حقيقة واحدة، حتى أنه يستعمله في ملك لا يعطي عطاء قط ولا يمنعه إلا بإشارته من غير استعمال يد وبسطها وقبضها، ولو أعطى الأقطع إلى المنكب عطاء جزيلاً لقالوا: ما أبسط يده بالنوال، لأن بسط اليد وقبضها عبارتان وقعتا متعاقبتين للبخل والجود، وقد استعملوهما حيث لا تصحّ اليد كقوله:
جَادَ الْحِمَى بَسْطُ الْيَدَيْنِ بِوَابِل ** شَكَرَتْ نَدَاهُ تِلاَعُه وَوِهَادُهُ

ولقد جعل لبيد للشمال يداً في قوله:
إذْ أَصْبَحَتْ بِيَدِ الشِّمَالِ زِمَامُهَا

ويقال بسط اليأس كفيه في صدري، فجعلت لليأس الذي هو من المعاني لا من الأعيان كفان. ومن لم ينظر في علم البيان عمي عن تبصر محجة الصواب في تأويل أمثال هذه الآية، ولم يتخلص من يد الطاعن إذا عبثت به.
فإن قلت: قد صحّ أن قولهم: {يَدُ الله مَغْلُولَةٌ} عبارة عن البخل. فما تصنع بقوله: {غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ}؟ ومن حقه أن يطابق ما تقدمه وإلا تنافر الكلام وزل عن سننه؟ قلت: يجوز أن يكون معناه الدعاء عليهم بالبخل والنكد، ومن ثم كانوا أبخل خلق الله وأنكدهم. ونحوه بيت الأشتر:
بَقِيتُ وَفْرى وَانْحَرَفْتُ عَنِ الْعُلا ** وَلَقِيتُ أَضْيَافِي بِوَجْهِ عَبُوسِ

ويجوز أن يكون دعاء عليهم بغل الأيدي حقيقة، يغللون في الدنيا أسارى، وفي الآخرة معذبين بأغلال جهنم: والطباق من حيث اللفظ وملاحظة أصل المجاز، كما تقول: سبني سب الله دابره، أي قطعه؛ لأنَّ السَّب أصله القطع.
فإن قلت: كيف جاز أن يدعو الله عليهم بما هو قبيح وهو البخل والنكد؟ قلت: المراد به الدعاء بالخذلان الذي تقسو به قلوبهم، فيزيدون بخلاً إلى بخلهم ونكداً إلى نكدهم، أو بما هو مسبب عن البخل والنكد من لصوق العار بهم وسوء الأحدوثة التي تخزيهم وتمزق أعراضهم.
فإن قلت: لم ثنيت اليد في قوله تعالى: {بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ} وهي مفردة في {يَدُ الله مَغْلُولَةٌ}؟ قلت: ليكون ردّ قولهم وإنكاره أبلغ وأدل على إثبات غاية السخاء له ونفي البخل عنه. وذلك أنّ غاية ما يبذله السخي بماله من نفسه أن يعطيه بيديه جميعاً فبني المجاز على ذلك. وقرئ: {ولعنوا} بسكون العين. وفي مصحف عبد الله: {بل يداه بسطان}. يقال: يده بسط بالمعروف. ونحوه مشية شحح وناقة صرح {يُنفِقُ كَيْفَ يَشَاء} تأكيد للوصف بالسخاء، ودلالة على أنه لا ينفق إلا على مقتضى الحكمة والمصلحة.
روي أن الله تبارك وتعالى كان قد بسط على اليهود حتى كانوا من أكثر الناس مالاً، فلما عصوا الله في محمد صلى الله عليه وسلم وكذبوه كف الله تعالى ما بسط عليهم من السعة، فعند ذلك قال فنحاص ابن عازوراء: يد الله مغلولة، ورضي بقوله الآخرون فأشركوا فيه {وَلَيَزِيدَنَّ} أي يزدادون عند نزول القرآن لحسدهم تمادياً في الجحود وكفروا بآيات الله {وَأَلْقَيْنَا بَيْنَهُمُ العداوة} فكلمهم أبداً مختلف، وقلوبهم شتى، لا يقع اتفاق بينهم ولا تعاضد {كُلَّمَا أَوْقَدُواْ نَاراً} كلما أرادوا محاربة أحد غلبوا وقهروا ولم يقم لهم نصر من الله على أحد قط، وقد أتاهم الإسلام في ملك المجوس. وقيل: خالفوا حكم التوراة فبعث الله عليهم بختنصر ثم أفسدوا فسلط الله عليهم فطرس الرومي ثم أفسدوا فسلط الله عليهم المجوس، ثم أفسدوا فسلط عليهم المسلمين. وقيل: كلما حاربوا رسول الله صلى الله عليه وسلم نصر عليهم.
وعن قتادة رضي الله عنه لا تلقى اليهود ببلدة إلا وجدتهم من أذل الناس {وَيَسْعَوْنَ} ويجتهدون في الكيد للإسلام ومحو ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم من كتبهم.

.تفسير الآيات (65- 66):

{وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ آَمَنُوا وَاتَّقَوْا لَكَفَّرْنَا عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلَأَدْخَلْنَاهُمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ (65) وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُوا التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ لَأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ مِنْهُمْ أُمَّةٌ مُقْتَصِدَةٌ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ سَاءَ مَا يَعْمَلُونَ (66)}
{وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الكتاب} مع ما عددنا من سيآتهم {ءامَنُواْ} برسول الله صلى الله عليه وسلم وبما جاء به. وقرنوا إيمانهم بالتقوى التي هي الشريطة في الفوز بالإيمان {لَكَفَّرْنَا عَنْهُمْ} تلك السيئات ولم نؤاخذهم بها {ولأدخلناهم} مع المسلمين الجنة. وفيه إعلام بعظهم معاصي اليهود والنصارى وكثرة سيآتهم، ودلالة على سعة رحمة الله تعالى وفتحه باب التوبة على كل عاص وإن عظمت معاصيه وبلغت مبالغ سيئات اليهود والنصارى، وأن الإيمان لا ينجي ولا يسعد إلا مشفوعاً بالتقوى، كما قال الحسن: هذا العمود فأين الإطناب {وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُواْ التوراة والإنجيل} أقاموا أحكامهما وحدودهما وما فيهما من نعت رسول الله صلى الله عليه وسلم {وَمَا أُنزِلَ إِلَيْهِمْ} من سائر كتب الله، لأنهم مكلفون الإيمان بجميعها، فكأنها أنزلت إليهم؛ وقيل: هو القرآن. لوسع الله عليهم الرزق وكانوا قد قحطوا. وقوله: {لأَكَلُواْ مِن فَوْقِهِمْ وَمِن تَحْتِ أَرْجُلِهِم} عبارة عن التوسعة. وفيه ثلاث أوجه: أن يفيض عليهم بركات السماء وبركات الأرض وأن يكثر الأشجار المثمرة والزروع المغلة أن يرزقهم الجنان اليانعة الثمار يجتنون ما تهدل منها من رؤوس الشجر، ويلتقطون ما تساقط على الأرض من تحت أرجلهم {مّنْهُمْ أُمَّةٌ مُّقْتَصِدَةٌ} طائفة حالها أمم في عداوة رسول الله صلى الله عليه وسلم وقيل: هي الطائفة المؤمنة عبد الله بن سلام وأصحابه وثمانية وأربعون من النصارى، و{سَاء مَا يَعْمَلُونَ} فيه معنى التعجب، كأنه قيل: وكثير منهم ما أسوأ عملهم، وقيل: هم كعب بن الأشرف وأصحابه والروم.

.تفسير الآية رقم (67):

{يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ (67)}
{بَلّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ} جميع ما أنزل إليك وأي شيء أنزل إليك غير مراقب في تبليغه أحداً، ولا خائف أن ينالك مكروه {وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ} وإن لم تبلغ جميعه كما أمرتك {فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ} وقرئ: {رسالاته}، فلم تبلغ إذاً ما كلفت من أداء الرسالات، ولم تؤدّ منها شيئاً قط، وذلك أن بعضها ليس بأولى بالأداء من بعض، وإن لم تؤدّ بعضها فكأنك أغفلت أداءها جميعاً، كما أن من لم يؤمن ببعضها كان كمن لم يؤمن بكلها، لإدلاء كل منها بما يدليه غيرها. وكونا كذلك في حكم شيء واحد. والشيء الواحد لا يكون مبلغاً غير مبلغ، مؤمناً به غير مؤمن به.
وعن ابن عباس رضي الله عنهما: إن كتمت آية لم تبلغ رسالاتي.
وروي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: «بعثني الله برسالاته فضقت بها ذرعاً، فأوحى الله إليّ إن لم تبلغ رسالاتي عذبتك. وضمن لي العصمة فقويت» فإن قلت: وقوع قوله: {فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ} جزاء للشرط ما وجه صحته؟ قلت: فيه وجهان، أحدهما: أنه إذا لم يمتثل أمر الله في تبيلغ الرسالات وكتمها كلها كأنه لم يبعث رسولاً كان أمراً شنيعاً لاخفاء بشناعته، فقيل: إن لم تبلغ منها أدنى شيء وإن كان كلمة واحدة، فأنت كمن ركب الأمر الشنيع الذي هو كتمان كلها، كما عظم قتل النفس بقوله: {فَكَأَنَّمَا قَتَلَ الناس جَمِيعاً} [المائدة: 32] والثاني: أن يراد: فإن لم تفعل فلك ما يوجبه كتمان الوحي كله من العقاب فوضع السبب موضع المسبب، ويعضده قوله عليه الصلاة والسلام: «فأوحى الله إليّ إن لم تبلغ رسالاتي عذبتك» {والله يَعْصِمُكَ} عدة من الله بالحفظ والكلاءة والمعنى: والله يضمن لك العصمة من أعدائك، فما عذرك في مراقبتهم؟ فإن قلت: أين ضمان العصمة؟ وقد شجّ في وجهه يوم أحد وكسرت رباعيته صلوات الله عليه؟ قلت: المراد أنه يعصمه من القتل. وفيه: أن عليه أن يحتمل كل ما دون النفس في ذات الله، فما أشدّ تكليف الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، وقيل: نزلت بعد يوم أحد، والناس الكفار بدليل قوله: {إِنَّ الله لاَ يَهْدِى القوم الكافرين} ومعناه أنه لا يمكنهم مما يريدون إنزاله بك من الهلاك.
وعن أنس: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحرس حتى نزلت، فأخرج رأسه من قبة أدم وقال: «انصرفوا يا أيها الناس فقد عصمني الله من الناس».

.تفسير الآية رقم (68):

{قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَسْتُمْ عَلَى شَيْءٍ حَتَّى تُقِيمُوا التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْيَانًا وَكُفْرًا فَلَا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ (68)}
{لَسْتُمْ على شَيْء} أي على دين يعتد به حتى يسمى شيئاً لفساده وبطلانه، كما تقول: هذا ليس بشيء تريد تحقيره وتصغير شأنه. وفي أمثالهم: أقل من لا شيء {فَلاَ تَأْسَ} فلا تتأسف عليهم لزيادة طغيانهم وكفرهم، فإن ضرر ذلك راجع إليهم لا إليك، وفي المؤمنين غنى عنهم.

.تفسير الآية رقم (69):

{إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئُونَ وَالنَّصَارَى مَنْ آَمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (69)}
{والصابئون} رفع على الابتداء وخبره محذوف، والنية به التأخير عما في حيز إن من اسمها وخبرها، كأنه قيل: إن الذين آمنوا والذين هادوا والنصارى حكمهم كذا، والصابئون كذلك، وأنشد سيبويه شاهداً له:
وإلاَّ فَاعْلَمُوا أَنَّا وَأَنْتُم ** بُغَاةٌ مَا بَقِيْنَا فِي شِقَاقِ

أي فاعلموا أنا بغاة وأنتم كذلك، فإن قلت: هلا زعمت أن ارتفاعه للعطف على محل إن واسمها؟ قلت: لا يصحّ ذلك قبل الفراغ من الخبر، لا تقول: إن زيداً وعمرو منطلقان. فإن قلت لم لا يصحّ والنية به التأخير، فكأنك قلت: إن زيداً منطلق وعمرو؟ قلت: لأني إذا رفعته رفعته عطفاً على محل إن واسمها، والعامل في محلهما هو الابتداء، فيجب أن يكون هو العامل في الخبر لأن الابتداء ينتظم الجزأين في عمله كما تنتظمها (إن) في عملها؛ فلو رفعت الصابئون المنويّ به التأخير بالابتداء وقد رفعت الخبر بأنّ، لأعملت فيهما رافعين مختلفين.
فإن قلت: فقوله والصابئون معطوف لابد له من معطوف عليه فما هو؟ قلت: هو مع خبره المحذوف جملة معطوفة على جملة قوله: {إِنَّ الذين ءامَنُواْ...} الخ ولا محل لها، كما لا محل للتي عطفت عليها، فإن قلت: ما التقديم والتأخير إلا لفائدة، فما فائدة هذا التقديم؟ قلت: فائدته التنبيه على أن الصابئين يتاب عليهم إن صحّ منهم الإيمان والعمل الصالح، فما الظنّ بغيرهم. وذلك أن الصابئين أبين هؤلاء المعدودين ضلالاً وأشدّهم غياً، وما سموا صابئين إلا لأنهم صبئوا عن الأديان كلها، أي خرجوا، كما أن الشاعر قدم قوله: (وأنتم) تنبيهاً على أن المخاطبين أوغل في الوصف بالبغاة من قومه، حيث عاجل به قبل الخبر الذي هو (بغاة) لئلا يدخل قومه في البغي قبلهم، مع كونهم أوغل فيه منهم وأثبت قدماً فإن قلت: فلو قيل: والصابئين وإياكم لكان التقديم حاصلاً.
قلت: لو قيل: هكذا لم يكن من التقديم في شيء، لأنه لا إزالة فيه عن موضعه، وإنما يقال مقدّم ومؤخر للمزال لا للقارّ في مكانه. ومجرى هذه الجملة مجرى الاعتراض في الكلام، فإن قلت: كيف قال: {الذين آمنوا} ثم قال: {مَنْ ءامَنَ}؟ قلت: فيه وجهان، أحدهما: أن يراد بالذين آمنوا: الذين آمنوا بألسنتهم وهم المنافقون وأن يراد بمن آمن. من ثبت على الإيمان واستقام ولم يخالجه ريبة فيه.
فإن قلت: ما محل من آمن قلت: إما الرفع على الابتداء وخبره {فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ} والفاء لتضمن المبتدأ معنى الشرط ثم الجملة كما هي خبر إن، وإما النصب على البدل من اسم إن وما عطف عليه، أو من المعطوف عليه.
فإن قلت: فأين الراجع إلى اسم إن؟ قلت: هو محذوف تقديره من آمن منهم، كما جاء في موضع آخر. وقرئ: {والصابيون}، بياء صريحة، وهو من تخفيف الهمزة، كقراءة من قرأ: {يستهزيون}. {والصابون}: وهو من صبوت، لأنهم صبوا إلى اتباع الهوى والشهوات في دينهم ولم يتبعوا أدلة العقل والسمع. وفي قراءة أبيّ رضي الله عنه: {والصابئين}، بالنصب. وبها قرأ ابن كثير.
وقرأ عبد الله: {يا أيها الذين آمنوا والذين هادوا والصابئون}.