فصل: تفسير الآيات (87- 88):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الكشاف عن حقائق التنزيل وعيون الأقاويل في وجوه التأويل



.تفسير الآيات (87- 88):

{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ (87) وَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ حَلَالًا طَيِّبًا وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ (88)}
{طيبات مَا أَحَلَّ الله لَكُمْ} ما طاب ولذ من الحلال. ومعنى {لاَ تُحَرّمُواْ} لا تمنعوها أنفسكم كمنع التحريم. أو لا تقولوا حرّمناها على أنفسنا مبالغة منكم في العزم على تركها تزهداً منكم وتقشفاً وروي: أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم وصف القيامة يوماً لأصحابه، فبالغ وأشبع الكلام في الإنذار، فرقوا واجتمعوا في بيت عثمان بن مظعون، واتفقوا على أن لا يزالوا صائمين قائمين، وأن لا يناموا على الفرش ولا يأكلوا اللحم والودك، ولا يقربوا النساء والطيب، ويرفضوا الدنيا ويلبسوا المسوح ويسيحوا في الأرض، ويجبوا مذاكيرهم فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال لهم: «إني لم أومر بذلك، إن لأنفسكم عليكم حقاً، فصوموا وأفطروا، وقوموا وناموا، فإني أقوم وأنام وأصوم وأفطر، وآكل اللحم والدسم، وآتي النساء، فمن رغب عن سنتي فليس مني» ونزلت.
وروي: أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يأكل الدجاج والفالوذ، وكان يعجبه الحلواء والعسل. وقال: «إن المؤمن حلو يحب الحلاوة»، وعن ابن مسعود أن رجلاً قال له: إني حرمت الفراش فتلا هذه الآية وقال: نم على فراشك وكفر عن يمينك.
وعن الحسن أنه دعي إلى طعام ومعه فرقد السنجيّ وأصحابه، فقعدوا على المائدة وعليها الألوان من الدجاج المسمن والفالوذ وغير ذلك، فاعتزل فرقد ناحية، فسأل الحسن: أهو صائم؟ قالوا: لا، ولكنه يكره هذه الألوان. فأقبل الحسن عليه وقال: يا فريقد، أترى لعاب النحل بلباب البرّ بخالص السمن يعيبه مسلم. وعنه أنه قيل له. فلان لا يأكل الفالوذ ويقول: لا أؤدّي شكره. قال: أفيشرب الماء البارد؟ قالوا: نعم. قال: إنه جاهل، إن نعمة الله عليه في الماء البارد أكثر من نعمته عليه في الفالوذ. وعنه أن الله تعالى أدّب عباده فأحسن أدبهم. قال الله تعالى: {لِيُنفِقْ ذُو سَعَةٍ مّن سَعَتِهِ} [الطلاق: 7] ما عاب الله قوماً وسع عليهم الدنيا فتنعموا وأطاعوا، ولا عذر قوماً زواهاً عنهم فعصوه {وَلاَ تَعْتَدُواْ} ولا تتعدوا حدود ما أحل الله لكم إلى ما حرّم عليكم. أو ولا تسرفوا في تناول الطيبات. أو جعل تحريم الطيبات اعتداء وظلماً، فنهى عن الاعتداء ليدخل تحته النهي عن تحريمها دخولاً أولياً لوروده على عقبه أو أراد ولا تعتدوا بذلك {وَكُلُواْ مِمَّا رَزَقَكُمُ الله} أي من الوجوه الطيبة التي تسمى رزقاً {حلالا} حال مما رزقكم الله {واتقوا الله} تأكيد للتوصية بما أمر به. وزاده تأكيداً بقوله: {الذى أَنتُم بِهِ مُؤْمِنُونَ} لأنّ الإيمان به يوجب التقوى في الانتهاء إلى ما أمر به وعما نهى عنه.

.تفسير الآية رقم (89):

{لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الْأَيْمَانَ فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ وَاحْفَظُوا أَيْمَانَكُمْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آَيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (89)}
اللغو في اليمين: الساقط الذي لا يتعلق به حكم: واختلف فيه، فعن عائشة رضي الله عنها أنها سئلت عنه فقالت: هو قول الرجل (لا والله، بلى والله) وهو مذهب الشافعي.
وعن مجاهد: هو الرجل يحلف على الشيء يرى أنه كذلك وليس كما ظن. وهو مذهب أبي حنيفة رحمه الله {بِمَا عَقَّدتُّمُ الأيمان} بتعقيدكم الأيمان وهو توثيقها بالقصد والنية.
وروي أن الحسن رضي الله عنه سئل عن لغو اليمين وكان عنده الفرزدق فقال: يا أبا سعيد، دعني أجب عنك فقال:
وَلَسْتُ بِمَأْخُوذِ بِلَغْوٍ تَقُولُه ** إِذَا لَمْ تَعَمَّدْ عَاقِدَاتِ الْعَزَائِمِ

وقرئ: {عقدتم}، بالتخفيف. {وعاقدتم}. والمعنى: ولكن يؤاخذكم بما عقدتم إذا حنثتم، فحذف وقت المؤاخذة. لأنه كان معلوماً عندهم، أو بنكث ما عقدتم. فحذف المضاف {فَكَفَّارَتُهُ} فكفارة نكثه. والكفارة: الفعلة التي من شأنها أن تكفر الخطيئة أي تسترها {مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ} من أقصده، لأنّ منهم من يسرف في إطعام أهله، ومنهم من يقتر وهو عند أبي حنيفة رحمه الله نصف صاع من برّ أو صاع من غيره لكل مسكين، أو يغديهم ويعشيهم. وعند الشافعي رحمه الله: مدّ لكل مسكين.
وقرأ جعفر بن محمد: {أهاليكم}، بسكون الياء، والأهالي: اسم جمع لأهل: كالليالي في جمع ليلة، والأراضي في جمع أرض. وقولهم: (أهلون) كقولهم (أرضون) بسكون الراء. وأما تسكين الياء في حال النصب فللتخفيف، كما قالوا: رأيت معد يكرب، تشبيها للياء بالألف {أَوْ كِسْوَتُهُمْ} عطف على محل (من أوسط) وقرئ بضم الكاف، ونحوه: قُدوة في قِدوة، وأسوة في إسوة، والكسوة ثوب يغطي العورة، وعن ابن عباس رضي الله عنه كانت العباءة تجزئ يومئذٍ.
وعن ابن عمر: إزار أو قميص أو رداء أو كساء.
وعن مجاهد: ثوب جامع.
وعن الحسن: ثوبان أبيضان.
وقرأ سعيد بن المسيب واليماني: {أو كأسوتهم}، بمعنى: أو مثل ماتطعمون أهليكم إسرافاً كان أو تقتيراً. لا تنقصونهم عن مقدار نفقتهم، ولكن تواسون بينهم وبينهم.
فإن قلت: ما محل الكاف؟ قلت: الرفع، تقديره: أو طعامهم كأسوتهم، بمعنى: كمثل طعامهم إن لم يطعموهم الأوسط {أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ} شرط الشافعي رحمه الله الإيمان قياساً على كفارة القتل. وأما أبو حنيفة وأصحابه، فقد جوّزوا تحرير الرقبة الكافرة في كل كفارة سوى كفارة القتل.
فإن قلت: ما معنى أو؟ قلت: التخيير وإيجاب إحدى الكفارات الثلاث على الاطلاق، بأيتها أخذ المكفر فقد أصاب {فَمَن لَّمْ يَجِدْ} إحداها {فَصِيَامُ ثلاثة أَيَّامٍ} متتابعات عند أبي حنيفة رحمه الله، تمسكاً بقراءة أبيّ وابن مسعود رضي الله عنهما: {فصيام ثلاثة أيام متتابعات}.
وعن مجاهد: كل صوم متتابع إلا قضاء رمضان، ويخير في كفارة اليمين {ذلك} المذكور {كَفَّارَةُ أيمانكم} ولو قيل: تلك كفارة أيمانكم، لكان صحيحاً بمعنى تلك الأشياء أو لتأنيث الكفارة.
والمعنى {إِذَا حَلَفْتُمْ} وحنثتم. فترك ذكر الحنث لوقوع العلم بأنّ الكفارة إنما تجب بالحنث في الحلف، لا بنفس الحلف، والتكفير قبل الحنث لا يجوز عند أبي حنيفة وأصحابه ويجوز عند الشافعي بالمال إذا لم يعص الحانث {واحفظوا أيمانكم} فبروا فيها ولا تحنثوا أراد الأيمان التي الحنث فيها معصية، لأن الأيمان اسم جنس يجوز إطلاقه على بعض الجنس وعلى كله. وقيل: احفظوها بأن تكفروها. وقيل: احفظوها كيف حلفتم بها، ولا تنسوها تهاوناً بها {كذلك} مثل ذلك البيان {يُبَيّنُ الله لَكُمْ آياته} أعلام شريعته وأحكامه {لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} نعمته فيما يعلمكم ويسهل عليكم المخرج منه.

.تفسير الآيات (90- 91):

{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (90) إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلَاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ (91)}
أكد تحريم الخمر والميسر وجوهاً من التأكيد منها تصدير الجملة بإنما، ومنها أنه قرنهما بعبادة الأصنام، ومنه قوله عليه الصلاة والسلام: «شارب الخمر كعابد الوثن» ومنها أنه جعلهما رجساً، كما قال تعالى: {فاجتنبوا الرجس مِنَ الأوثان} [الحج: 30] ومنها أنه جعلهما من عمل الشيطان، والشيطان لا يأتي منه إلا الشر البحت، ومنها أنه أمر بالاجتناب. ومنها أنه جعل الاجتناب من الفلاح، وإذا كان الاجتناب فلاحاً، كان الارتكاب خيبة ومحقة. ومنها أنه ذكر ما ينتج منهما من الوبال، وهو وقوع التعادي والتباغض من أصحاب الخمر والقمر، وما يؤدّيان إليه من الصدّ عن ذكر الله، وعن مراعاة أوقات الصلاة. وقوله: {فَهَلْ أَنْتُمْ مُّنتَهُونَ} من أبلغ ما ينهى عنه، كأنه قيل: قد تلي عليكم ما فيهما من أنواع الصوارف والموانع، فهل أنتم مع هذه الصوارف منتهون. أم أنتم على ما كنتم عليه، كأن لم توعظوا ولم تزجروا؟ فإن قلت: إلام يرجع الضمير في قوله: {فاجتنبوه}؟ قلت: إلى المضاف المحذوف، كأنه قيل: إنما شأن الخمر والميسر أو تعاطيهما أو ما أشبه ذلك. ولذلك قال: {رِجْسٌ مّنْ عَمَلِ الشيطان} فإن قلت: لم جمع الخمر والميسر مع الأنصاب والأزلام أولاً ثم أفردهما آخراً؟ قلت: لأن الخطاب مع المؤمنين. وإنما نهاهم عما كانوا يتعاطونه من شرب الخمر واللعب بالميسر، وذكر الأنصاب والأزلام لتأكيد تحريم الخمر والميسر، وإظهار أنّ ذلك جميعاً من أعمال الجاهلية وأهل الشرك، فوجب اجتنابه بأسره، وكأنه لا مباينة بين من عبد صنماً وأشرك بالله في علم الغيب، وبين من شرب خمراً أو قامر، ثم أفردهما بالذكر ليرى أن المقصود بالذكر الخمر والميسر. وقوله: {وَعَنِ الصلاة} اختصاص للصلاة من بين الذكر كأنه قيل: وعن الصلاة خصوصاً.

.تفسير الآية رقم (92):

{وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَاحْذَرُوا فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّمَا عَلَى رَسُولِنَا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ (92)}
{واحذروا} وكونوا حذرين خاشين، لأنهم إذا حذروا دعاهم الحذر إلى اتقاء كل سيئة وعمل كل حسنة. ويجوز أن يراد: واحذروا ما عليكم في الخمر ولميسر، أو في ترك طاعة الله والرسول {فَإِن تَوَلَّيْتُمْ فاعلموا} أنكم لم تضروا بتوليكم الرسول، لأنّ الرسول ما كلف إلا البلاغ المبين بالآيات، وإن ضررتم أنفسكم حين أعرضتم عما كلفتم.

.تفسير الآية رقم (93):

{لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا إِذَا مَا اتَّقَوْا وَآَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ ثُمَّ اتَّقَوْا وَآَمَنُوا ثُمَّ اتَّقَوْا وَأَحْسَنُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (93)}
رفع الجناح عن المؤمنين في أي شيء طعموه من مستلذات المطاعم ومشتهياتها {إِذَا مَا اتقوا} ما حرم عليهم منها {وَءامَنُواْ} وثبتوا على الإيمان والعمل الصالح وازدادوه {ثُمَّ اتَّقَواْ وَءامَنُواْ} ثم ثبتوا على التقوى والإيمان {ثُمَّ اتَّقَواْ وَّأَحْسَنُواْ} ثم ثبتوا على اتقاء المعاصي وأحسنوا أعمالهم، أو أحسنوا إلى الناس: واسوهم بما رزقهم الله من الطيبات.
وقيل لما نزل تحريم الخمر قالت الصحابة: يا رسول الله، فكيف بإخواننا الذين ماتوا وهم يشربون الخمر ويأكلون مال الميسر فنزلت. يعني أن المؤمنين لا جناح عليهم في أي شيء طعموه من المباحات إذا ما اتقوا المحارم، ثم اتقوا وآمنوا، ثم اتقوا وأحسنوا، على معنى: أنّ أولئك كانوا على هذه الصفة ثناء عليهم وحمداً لأحوالهم في الإيمان والتقوى والإحسان. ومثاله أن يقال لك: هل على زيد فيما فعل جناح؟ فتقول- وقد علمت أن ذلك أمر مباح-: ليس على أحد جناح في المباح، إذا اتقى المحارم، وكان مؤمناً محسناً، تريد: أن زيداً تقيّ مؤمن محسن؛ وأنه غير مؤاخذ بما فعل.

.تفسير الآية رقم (94):

{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَيَبْلُوَنَّكُمُ اللَّهُ بِشَيْءٍ مِنَ الصَّيْدِ تَنَالُهُ أَيْدِيكُمْ وَرِمَاحُكُمْ لِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَخَافُهُ بِالْغَيْبِ فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ (94)}
نزلت عام الحديبية ابتلاهم الله بالصيد وهم محرمون، وكثر عندهم حتى كان يغشاهم في رحالهم فيستمكنون من صيده، أخذاً بأيديهم وطعناً برماحهم {لِيَعْلَمَ الله مَن يَخَافُهُ بالغيب} ليتميز من يخاف عقاب الله وهو غائب منتظر في الآخرة فيتقي الصيد، ممن لا يخافه فيقدم عليه {فَمَنِ اعتدى} فصاد {بَعْدَ ذَلِكَ} الابتلاء فالوعيد لاحق به.
فإن قلت: ما معنى التقليل والتصغير في قوله: {بِشَيْء مّنَ الصيد}؟ قلت: قلل وصغر ليعلم أنه ليس بفتنة من الفتن العظام التي تدحض عندها أقدام الثابتين، كالابتلاء ببذل الأرواح والأموال، وإنما هو شبيه بما ابتلى به أهل أيلة من صيد السمك، وأنهم إذا لم يثبتوا عنده فكيف شأنهم عند ما هو أشدّ منه.
وقرأ إبراهيم: يناله، بالياء.

.تفسير الآية رقم (95):

{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّدًا فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ أَوْ كَفَّارَةٌ طَعَامُ مَسَاكِينَ أَوْ عَدْلُ ذَلِكَ صِيَامًا لِيَذُوقَ وَبَالَ أَمْرِهِ عَفَا اللَّهُ عَمَّا سَلَفَ وَمَنْ عَادَ فَيَنْتَقِمُ اللَّهُ مِنْهُ وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ (95)}
{حَرَّمَ} محرمون، جمع حرام، كردح في جمع رداح. والتعمد: أن يقتله وهو ذاكر لإحرامه، أو عالم أن ما يقتله مما يحرم عليه قتله، فإن قتله وهو ناس لإحرامه أو رمى صيداً وهو يظن أنه ليس بصيد فإذا هو صيد، أو قصد برميه غير صيد فعدل السهم عن رميته فأصاب صيداً فهو مخطئ.
فإن قلت: فمحظورات الإحرام يستوي فيها العمد والخطأ، فما بال التعمد مشروطاً في الآية؟ قلت: لأن مورد الآية فيمن تعمد؛ فقد روي أنه عنّ لهم في عمرة الحديبية حمار وحش، فحمل عليه أبو اليسر فطعنه برمحه فقتله، فقيل له: إنك قتلت الصيد وأنت محرم فنزلت ولأن الأصل فعل التعمد، والخطأ لاحق به للتغليظ. ويدل عليه قوله تعالى: {لّيَذُوقَ وَبَالَ أَمْرِهِ} {وَمَنْ عَادَ فَيَنْتَقِمُ الله مِنْهُ} وعن الزهري: نزل الكتاب بالعمد ووردت السنة بالخطأ وعن سعيد بن جبير: لا أرى في الخطأ شيئاً أخذاً باشتراط العمد في الآية.
وعن الحسن روايتان {فَجَزَاء مّثْلُ مَا قَتَلَ} برفع جزاء ومثل جميعاً، بمعنى: فعليه جزاء يماثل ما قتل من الصيد، وهو عند أبي حنيفة قيمة المصيد يقوّم حيث صيد. فإن بلغت قيمته ثمن هدى، تخير بين أن يهدي من النعم ما قيمته قيمة الصيد، وبين أن يشتري بقيمته طعاماً، فيعطي كل مسكين نصف صاع من برّ أو صاع من غيره، وإن شاء صام عن طعام كل مسكين يوماً، فإن فضل ما لا يبلغ طعام مسكين صام عنه يوماً أو تصدّق به. وعند محمد والشافعي رحمهما الله مثله نظيره من النعم، فإن لم يوجد له نظير من النعم عدل إلى قول أبي حنيفة رحمه الله.
فإن قلت: فما يصنع من يفسر المثل بالقيمة بقوله: {مِنَ النعم} وهو تفسير للمثل، وبقوله: هدياً بالغ الكعبة؟ قلت: قد خير من أوجب القيمة بين أن يشتري بها هدياً أو طعاماً أو يصوم، كما خير الله تعالى في الآية. فكان قوله: {مِنَ النعم} بياناً للهدى المشترى بالقيمة في أحد وجوه التخيير؛ لأن من قوم الصيد واشترى بالقيمة هدياً فأهداه، فقد جزى بمثل ما قتل من النعم. على أن التخيير الذي في الآية بين أن يجزي بالهدى أو يكفر بالإطعام أو بالصوم، إنما يستقيم استقامة ظاهرة بغير تعسف إذا قوّم ونظر بعد التقويم أيّ الثلاثة يختار، فأما إذا عمد إلى النظير وجعله الواجب وحده من غير تخيير- فإذا كان شيئاً لا نظير له قوّم حينئذٍ، ثم يخير بين الإطعام والصوم- ففيه نبوّ عما في الآية. ألا ترى إلى قوله تعالى: {أَوْ كَفَّارَةٌ طَعَامُ مساكين أَو عَدْلُ ذلك صِيَاماً} كيف خير بين الأشياء الثلاثة، ولا سبيل إلى ذلك إلا بالتقويم.
وقرأ عبد الله: فجزاؤه مثل ما قتل، وقرئ: فجزاء مثل ما قتل، على الإضافة، وأصله. فجزاء مثل ما قتل، بنصب مثل بمعنى: فعليه أن يجزى مثل ما قتل، ثم أضيف كما تقول: عجبت من ضرب زيد، وقرأ السلميّ على الأصل وقرأ محمد بن مقاتل، فجزاء مثل ما قتل، بنصبهما، بمعنى: فليجز جزاء مثل ما قتل.
وقرأ الحسن: من النعم. بسكون العين، استثقل الحركة على حرف الحلق فسكنه {يَحْكُمُ بِهِ} بمثل ما قتل {ذَوَا عَدْلٍ مّنْكُمْ} حكمان عادلان من المسلمين. قالوا: وفيه دليل على أن المثل القيمة، لأنّ التقويم مما يحتاج إلى النظر والاجتهاد دون الأشياء المشاهدة.
وعن قبيصة أنه أصاب ظبياً وهو محرم فسأل عمر، فشاور عبد الرحمن بن عوف، ثم أمره بذبح شاة، فقال قبيصة لصاحبه: والله ما علم أمير المؤمنين حتى سأل غيره، فأقبل عليه ضرباً بالدرّة وقال: أتغمص الفتيا وتقتل الصيد وأنت محرم. قال الله تعالى: {يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مّنْكُمْ} فأنا عمر، وهذا عبد الرحمن.
وقرأ محمد بن جعفر (ذو عدل منكم)، أراد يحكم به من يعدل منكم ولم يرد الوحدة.
وقيل أراد الإمام {هَدْياً} حال عن جزاء فيمن وصفه بمثل، لأنّ الصفة خصصته فقرّبته من المعرفة، أو بدل عن مثل فيمن نصبه، أو عن محله فيمن جرّه. ويجوز أن ينتصب حالاً عن الضمير في به. ووصف هدياً ب {بالغ الكعبة} لأن إضافته غير حقيقية. ومعنى بلوغه الكعبة أن يذبح بالحرم، فأما التصدّق به فحيث شئت عند أبي حنيفة، وعند الشافعي في الحرم.
فإن قلت: بم يرفع {كَفَّارَةٌ} من ينصب جزاء؟ قلت: يجعلها خبر مبتدأ محذوف، كأنه قيل: أو الواجب عليه كفارة. أو يقدر: فعليه أن يجزي جزاء أو كفارة. فيعطفها على أن يجزي. وقرئ: أو كفارة طعام مساكين على الإضافة، وهذه الإضافة مبينة، كأنه قيل: أو كفارة من طعام مساكين، كقولك: خاتم فضة، بمعنى خاتم من فضة.
وقرأ الأعرج: أو كفارة طعام مسكين. وإنما وحد، لأنه واقع موقع التبيين، فاكتفى بالواحد الدال على الجنس. وقرئ: أو عدل ذلك، بكسر العين. والفرق بينهما أن عدل الشيء ما عادله من غير جنسه، كالصوم والإطعام. وعدله ما عدل به في المقدار، ومنه عدلا الحمل، لأن كل واحد منهما عدل بالآخر حتى اعتدلا، كأن المفتوح تسمية المصدر، والمكسور بمعنى المفعول به، كالذبح ونحوه، ونحوهما الحمل والحمل. و{ذلك} إشارة إلى الطعام {وصياماً} تمييز للعدل كقولك: لي مثله رجلاً. والخيار في ذلك إلى قاتل الصيد عند أبي حنيفة وأبي يوسف. وعند محمد إلى الحكمين {لّيَذُوقَ} متعلق بقوله: (فجزاء) أي فعليه أن يجازي أو يكفر، ليذوق سوء عاقبة هتكه لحرمة الإحرام.
والوبال: المكروه والضرر الذي يناله في العاقبة من عمل سوء لثقله عليه، كقوله تعالى: {فأخذناه أَخْذاً وَبِيلاً} [المزمل: 16] ثقيلاً. والطعام الوبيل: الذي يثقل على المعدة فلا يستمرأ {عَفَا الله عَمَّا سَلَف} لكم من الصيد في حال الإحرام قبل أن تراجعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم وتسألوه عن جوازه. وقيل: عما سلف لكم في الجاهلية منه، لأنهم كانوا متعبدين بشرائع من قبلهم وكان الصيد فيها محرماً {وَمَنْ عَادَ} إلى قتل الصيد وهو محرم بعد نزول النهي {فَيَنْتَقِمُ الله مِنْهُ} ينتقم: خبر مبتدأ محذوف تقديره. فهو ينتقم الله منه، ولذلك دخلت الفاء. ونحوه {فَمَن يُؤْمِن بِرَبّهِ فَلاَ يَخَافُ} [الحجر: 13] يعني ينتقم منه في الآخرة. واختلف في وجوب الكفارة على العائد، فعن عطاء وإبراهيم وسعيد بن جبير والحسن: وجوبها، وعليه عامة العلماء.
وعن ابن عباس وشريح: أنه لا كفارة عليه تعلقاً بالظاهر، وأنه لم يذكر الكفارة.