فصل: الفصل السابع: جمع القرآن وكتابته:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: المدخل إلى علوم القرآن الكريم



.الفصل السابع: جمع القرآن وكتابته:

استعمل القرآن كلمة الجمع بمعنى الحفظ، وأطلقت لفظة جمّاع القرآن على حفاظ القرآن، وتوفي النبي صلى الله عليه وسلم وكان القرآن محفوظا في الصدور ولم يكن مجموعا في مصحف أو مرتبا في سور متتابعة، وعلل الخطابي عدم جمع النبي صلى الله عليه وسلم القرآن في المصحف لما كان يترقبه من ورود ناسخ لبعض أحكامه أو تلاوته، فلما انقضى نزوله بوفاته ألهم الله الخلفاء الراشدين ذلك، وفاء بوعده الصادق بضمان حفظه على هذه الأمة.
ولفظة (حفظ القرآن) يراد بها أحد معنيين:
المعنى الأول: الجمع بمعنى الحفظ في الصدور.
المعنى الثاني: الجمع بمعنى الكتابة، سواء كانت كتابة مفرقة أو مرتبة.
وشاع استعمال لفظة جمع القرآن للدلالة على الكتابة والتدوين وترتيب الآيات والسور في مصحف واحد.
المعنى الأول: الجمع بمعنى الحفظ:
اتجهت همة النبي صلى الله عليه وسلم بعد أن أخذ القرآن يتنزل عليه إلى حفظ آياته واستظهارها خشية أن يفلت منها شيء فينساه، أداء منه صلى الله عليه وسلم للأمانة الملقاة عليه، وكان قلق النفس بسبب ذلك، حتى نزلت عليه الآية القرآنية التي دعته إلى الاطمئنان، ووعدته بأن الله تعالى تكفل بحفظ القرآن وبيانه، قال تعالى: {لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ (16) إِنَّ عَلَيْنا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ (17) فَإِذا قَرَأْناهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ (18) ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنا بَيانَهُ} [القيامة]، وقال أيضا: {وَلا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضى إِلَيْكَ وَحْيُهُ وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْماً} [طه: 114].
وكان النبي صلى الله عليه وسلم يقرأ القرآن ويعيد قراءته، ويقرئه لأصحابه، ويحضهم على حفظه في الصدور، وروت السيدة عائشة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «كان جبريل يعارضني القرآن في كل سنة مرة».
وكانت مجالس الصحابة هي مجالس قرآن، يتدارسون القرآن، ويحفظونه، فهو بالنسبة إليهم كل شيء، ولا شيء غيره في حياتهم، يخاطبهم ويعلمهم، وكانت الأنظار ترقب نزوله، وسرعان ما تنطلق الحناجر بشغف وحب تردد الآيات الجديدة وتحفظها، حتى أصبحت المساجد تضج بأصوات الصحابة وهم يقرءون القرآن.
روى الشيخان عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إني لأعرف أصوات رفقة الأشعريين بالليل حين يدخلون، وأعرف منازلهم من أصواتهم بالقرآن بالليل، وإن كنت لم أر منازلهم حين نزلوا بالنهار».
وروى البخاري ومسلم أن ابن مسعود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «اقرأ عليّ القرآن، قلت: يا رسول الله أقرأ عليك وعليك أنزل، قال: إني أحب أن أسمعه من غيري، فقرأت عليه سورة النساء حتى إذا جئت إلى هذه الآية: {فكيف إذا جئنا من كل أمة بشهيد وجئنا بك على هؤلاء شهيدا} قال: حسبك الآن، فالتفت إليه فإذا عيناه تذرفان».
وكان إذا هاجر رجل دفعه النبي صلى الله عليه وسلم إلى رجل من الصحابة يعلّمه القرآن، وكان يسمع لمسجد رسول الله ضجة بتلاوة القرآن حتى أمرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يخفضوا أصواتهم لئلا يتغالطوا.
وقال ابن الجزري صاحب كتاب النشر في القراءات العشر المتوفى سنة 533 هـ: (ثم إن الاعتماد في نقل القرآن على حفظ القلوب والصدور لا على خط المصاحف والكتب، وهذه أشرف خصيصة من الله تعالى لهذه الأمة).
وهذا يؤكد لنا أن الأساس في حفظ القرآن هو حفظه في الصدور، وبخاصة أن معظم الصحابة كانوا أميين لا يقرءون ولا يكتبون، وليس من اليسير عليهم أن يكتبوا القرآن، واعتمدوا على الحفظ في الصدور، وتكرار ذلك، حتى أصبحت آيات القرآن في صدر كل صحابي محفوظة يستشهد بها في كل مناسبة ويقرؤها في كل صلاة.
قال الزركشي في البرهان في بيان من جمع القرآن حفظا في عهده صلى الله عليه وسلم:
(حفظه في حياته جماعة من الصحابة، وكل قطعة منه كان يحفظها جماعة كثيرة أقلهم بالغون حد التواتر).
المعنى الثاني: الجمع بمعنى الكتابة:
إذا أطلقت كلمة جمع القرآن أريد بها كتابة القرآن في مصحف، وهي التي قام بها أبو بكر الصديق في عهد خلافته، ثم أتمها عثمان بن عفان... واعتمد الجمع الذي تم في عهد أبي بكر على كتاب الوحي الذين كانوا يكتبون الوحي بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ونستطيع أن نحدد مراحل الكتابة القرآنية بثلاث مراحل:
المرحلة الأولى: الكتابة في عصر النبوة:
أراد النبي صلى الله عليه وسلم أن يوثق ما نزل عليه من القرآن بكتابته، بالإضافة إلى حفظه في الصدور، واختار بعض الصحابة الذين يحسنون الكتابة لكي يكتبوا القرآن.
قال الحاكم في المستدرك: جمع القرآن ثلاث مرات، إحداها بحضرة النبي صلى الله عليه وسلم، ثم أخرج بسند على شرط الشيخين عن زيد بن ثابت قال: «كنا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم نؤلف القرآن من الرقاع».
وقال الإمام الحارث بن أسد المحاسبي المتوفى سنة 243 هـ في كتابه فهم السنن: كتابة القرآن ليست محدثة فإنه صلى الله عليه وسلم كان يأمر بكتابته، ولكنه كان مفرّقا في الرقاع والأكتاف والعسب، وإنما أمر الصديق بنسخها من مكان إلى مكان، وكان ذلك بمنزلة أوراق وجدت في بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيها القرآن منتشر، فجمعها جامع، وربطها بخيط حتى لا يضيع منها شيء.
فإن قيل: كيف وقعت الثقة بأصحاب الرقاع وصدور الرجال؟ قيل: لأنهم كانوا يبدون عن تأليف معجز ونظم معروف، وقد شاهدوا تلاوته من النبي صلى الله عليه وسلم عشرين سنة، فكان تزويد ما ليس منه مأمونا، وإنما كان الخوف من ذهاب شيء من صحيحه.
ومن أهم كتاب الوحي الخلفاء الأربعة، ومعاوية بن أبي سفيان، وزيد بن ثابت وأبي بن كعب، وخالد بن الوليد، وثابت بن قيس.
روي عن ابن عباس أنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا نزلت عليه سورة دعا بعض من يكتب فقال: ضعوا هذه السورة في الموضع الذي يذكر فيه كذا وكذا.
قال الترمذي: هذا حديث حسن، وقال الحاكم: صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه.
واشتهر بجمع القرآن على عهد النبي صلى الله عليه وسلم أربعة من الصحابة من الأنصار هم:
أبي بن كعب ومعاذ بن جبل وزيد بن ثابت وأبو زيد.
وروى البخاري عن قتادة قال سألت أنس بن مالك: من جمع القرآن على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: أربعة كلهم من الأنصار: أبي بن كعب ومعاذ بن جبل وزيد بن ثابت وأبو زيد، وفي رواية: مات النبي صلى الله عليه وسلم ولم يجمع القرآن غير أربعة: أبو الدرداء ومعاذ بن جبل وزيد بن ثابت وأبو زيد، وقال البيهقي في كتاب المدخل: الرواية الأولى أصح، ثم أسند عن ابن سيرين قال: جمع القرآن على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم أربعة لا يختلف فيهم، معاذ بن جبل وأبي بن كعب وزيد وأبو زيد، واختلفوا في رجلين من ثلاثة: أبو الدرداء وعثمان، وقيل:
عثمان وتميم الداري..
وتكلم القاضي أبو بكر في كتاب الانتصار عن حملة القرآن في حياة النبي صلى الله عليه وسلم، وأقام الدليل على أنهم كانوا أضعاف هذا العدد، ويشهد لذلك كثرة المقتولين من القراء يوم اليمامة، وعلل الروايات التي حددت القراء بأربعة باضطراب تلك الروايات، أو المراد بها أن هؤلاء هم الذين جمعوا القرآن على جميع الأوجه والأحرف والقراءات.
وكانوا يكتبون القرآن على الوسائل المتاحة في ذلك العصر، وهي العسب واللخاف والرقاع وقطع الأديم وعظام الأكتاف والأقتاب.
والروايات الواردة تؤكد حقائق أساسية تلقي الضوء على كيفية حفظ القرآن وجمعه وكتابته في عهد النبي صلى الله عليه وسلم.
الحقيقة الأولى: الاعتماد على الحفظ في الصدور، وكان هذا الحفظ عاما لدى جميع الصحابة، يتسابقون إليه، ويجتمعون في المساجد لقراءة القرآن وحفظه، ولا يمكن تصور صحابي لا يحفظ بعض آيات القرآن، ويتفاوتون في مدى ذلك الحفظ، فمنهم الحفاظ ومنهم القراء، ومنهم كتاب الوحي، ومنهم من يحفظ القليل أو الكثير مما تيسر له.
الحقيقة الثانية: تأكيد كتابة القرآن في عهد النبي صلى الله عليه وسلم وبين يدي رسول الله، عقب نزول القرآن، وكان يختص بذلك كتاب الوحي، وأسماؤهم معروفة، والروايات تؤكد أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يأمر بكتابة القرآن، وكان الصحابة يكتبون، ونهاهم عن كتابة السنة لئلا يقع الالتباس عليهم فيما كتبوه، حرصا منه صلى الله عليه وسلم على سلامة النص القرآني.
الحقيقة الثالثة: ليس هناك شيء من القرآن لم يكن مكتوبا، فكل القرآن مكتوب، وكتاب الوحي متعددون، بحيث إذا غاب البعض عن مجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم تولى الآخرون الكتابة، ولا يتصور غياب الجميع، وبخاصة أن كتاب الوحي كانوا من أقرب الناس لرسول الله، ومنهم الخلفاء الأربعة.
الحقيقة الرابعة: لم يكن القرآن مجموعا في مصحف وفق ترتيب واحد، وكان كتاب الوحي يحتفظون بما كتبوه، بحيث يسهل على من أراد جمع القرآن أن يقوم بذلك، والسبب في عدم الجمع هو استمرار نزول الوحي حتى الأيام الأخيرة من حياته صلى الله عليه وسلم، ولم تكن الحاجة ملحة لجمع القرآن، لوضوح نصوصه محفوظة في الصدور، ولثبوت نصوصه مدونة في الرقاع لدى كتاب الوحي ولدى غيرهم ممن كان يحرص على كتابة القرآن.
الحقيقة الخامسة: لا مجال للشك في ثبوت النصوص القرآنية، وما قام به أبو بكر فيما بعد لا يتعدى حدود الجمع، وتوثيق ذلك الجمع والاطمئنان إلى سلامة النص القرآني، ومطابقة النصوص المكتوبة بما هو محفوظ في صدور القراء الذين اشتهروا بالحفظ والدقة.
المرحلة الثانية: الجمع في عهد أبي بكر:
بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم توقف الوحي، واستقرت نصوص القرآن، فلم يعد ينسخ منها شيء، ولا يضاف إليها جديد، وتولى أبو بكر الخلافة، واتجهت أنظار الصحابة إلى حفظ القرآن وجمعه في مصحف موحد، خشية أن يضيع منه شيء أو يضاف إليه ما ليس منه، إذا وقع التقاعس في جمعه في وقت مبكر، وبخاصة بعد معالم فتنة تبدو في الأفق، متمثلة في حركة الردة التي هزت المجتمع الإسلامي الوليد، وأيقظته على واقع جديد مليء بالتحديات والمواجهات.
وفي معركة اليمامة استشهد عدد كبير من حفظة القرآن، وصل عددهم إلى سبعين صحابيا، وبعضهم قال أكثر من ذلك، وخشي عمر بن الخطاب- وكان رجل دولة بعيد النظر واسع الرؤية قوي الحجة شجاعا في قراراته، غيورا على الإسلام- أن يضيع بعض القرآن أو يلتبس الأمر على المسلمين في شأن بعض آياته بعد موت الكثير من الحفاظ، فعرض الأمر على أبي بكر، وتردد الخليفة في قبول ذلك، خشية أن يفعل شيئا لم يفعله الرسول صلى الله عليه وسلم، وبعد تردد شرح الله صدره لذلك.
روى البخاري في صحيحه أن زيد بن ثابت رضي الله عنه قال:
أرسل إلى أبو بكر مقتل أهل اليمامة، فإذا عمر بن الخطاب عنده، قال أبو بكر رضي الله عنه: إن عمر أتاني فقال: إن القتل قد استحرّ يوم اليمامة بقراء القرآن، وإني أخشى أن يستمر القتل بالقراء بالمواطن، فيذهب كثير من القرآن، وإني أرى أن تأمر بجمع القرآن، قلت لعمر: كيف نفعل ما لم يفعله رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال عمر: هو والله خير، فلم يزل عمر يراجعني حتى شرح الله صدري لذلك، ورأيت في ذلك الذي رأى عمر قال زيد: قال أبو بكر: إنك رجل شاب عاقل لا نتهمك، وقد كنت تكتب الوحي لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فتتبع القرآن فاجمعه، فو الله لو كلفوني نقل جبل من الجبال ما كان أثقل عليّ مما أمرني به من جمع القرآن. قلت: كيف تفعلون شيئا لم يفعله رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: هو والله خير، فلم يزل أبو بكر يراجعني حتى شرح الله صدري للذي شرح له صدر أبي بكر وعمر فتتبعت القرآن أجمعه من العسب واللخاف وصدور الرجال، حتى وجدت آخر سورة التوبة مع أبي خزيمة الأنصاري لم أجدها مع أحد غيره، لقد جاءكم رسول من أنفسكم عزيز عليه ما عنتم حتى خاتمة براءة، فكانت الصحف عند أبي بكر حتى توفاه الله، ثم عند عمر حياته، ثم عند حفصة بنت عمر.
وأخرج أبو داود بسند صحيح عن عبد خير قال: سمعت عليا يقول: أعظم الناس في المصاحف أجرا أبو بكر، رحمة الله على أبي بكر، هو أول من جمع كتاب الله. وشرع زيد في جمع القرآن، وطلب من حفاظ القرآن وكتابه، أن يأتوا بما لديهم من القرآن، واشترط لقبول ذلك أن يشهد شاهدان على صحة ما يأتيه، مبالغة في الاحتياط، وروى ابن أبي داود قال: قدم عمر، فقال: من كان تلقى من رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئا من القرآن فليأت به، وكانوا يكتبون ذلك في الصحف والألواح والعسب، وكان لا يقبل من أحد شيئا حتى يشهد شهيدان.
وفي رواية أخرى أن أبا بكر قال لعمر ولزيد: اقعدا على باب المسجد، فمن جاءكما بشاهدين على شيء من كتاب الله فاكتباه.
وفسر ابن حجر المراد بالشاهدين الحفظ والكتابة، وقال السخاوي في جمال القراء: المراد أنهما يشهدان على أن ذلك المكتوب كتب بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم أو المراد أنهما يشهدان على ذلك من الوجوه التي نزل بها القرآن.
ونقل السيوطي عن أبي شامة المقدسي صاحب كتاب الروضتين أنه قال:
وكان غرضهم ألا يكتب إلا من عين ما كتب بين يدي النبي صلى الله عليه وسلم لا من مجرد الحفظ، ولذلك قال في آخر سورة التوبة لم أجدها مع غيره أي لم أجدها مكتوبة مع غيره، لأنه كان لا يكتفي بالحفظ دون الكتابة.
وفسر السيوطي في الإتقان معنى الشهادة أن المراد أنهما يشهدان على أن ذلك مما عرض على النبي صلى الله عليه وسلم عام وفاته.
وهذه الروايات الكثيرة تؤكد الوقائع التي أدت إلى جمع القرآن في عهد أبي بكر، وأن هذا الجمع أحيط بضوابط دقيقة لكي يكون القرآن في موطن الثقة واليقين.
وتجلت عوامل الدقة فيما يلي:
العامل الأول: الاعتماد على الحفظ والكتابة التي تمت بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويؤكد هذا مشاركة الصحابة جميعا في هذا الجمع عن طريق تزويد زيد بكل ما هو مكتوب.
العامل الثاني: تفويض أمر الجمع إلى زيد بن ثابت، وقد كان في موطن الثقة، ولم يطعن أحد بكفاءته ونزاهته وقدرته على القيام بهذه المهمة.
العامل الثالث: توثيق النص القرآني بشاهدين، يشهدان على أن الكتابة تمت بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم.
العامل الرابع: تأكيد ما هو محفوظ في صدور الصحابة لما هو موضوع في الرقاع والعسب وقطع الأديم.
ولما اكتمل الجهد، وتكامل الجمع، قال أبو بكر: سموه أو التمسوا له اسما، روى ابن شهاب قال: لما جمعوا القرآن فكتبوه على الورق قال أبو بكر:
التمسوا له اسما، فقال بعضهم: السفر، وقال بعضهم: المصحف فإن الحبشة يسمونه المصحف، وكان أبو بكر أول من جمع كتاب الله وسماه المصحف.
واستقبل هذا المصحف الذي تم جمعه في عهد أبي بكر من الصحابة، بالتقدير والتنويه، اعترافا بعظمة هذا العمل، وتأكيدا على سلامة منهج الجمع الذي نال ثقة الصحابة، وحظي بموافقتهم، وأجمعوا على قبوله والإشادة به.
المرحلة الثالثة: الجمع في عهد عثمان:
في عهد الخليفة الثالث عثمان بن عفان اتسعت رقعة الدولة الإسلامية، وامتد سلطانها، وتباعدت أرجاؤها، واختلطت شعوبها، وتداخلت لغاتها، وتناثر ذلك الجمع المبارك من صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم من حفاظ القرآن في تلك البقاع البعيدة، وأخذ كل إقليم يلتف حول رمز من رموز الإسلام من صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم يتعلم منهم القرآن، ويسمع منهم ما حفظوه من السنة، وما اختزنوه في ذاكرتهم من أيام الإسلام الأولى في عصر النبوة.
وكان من الطبيعي أن تتعدد القراءات وتتباعد اللهجات، ويقع الاختلاف في ترتيب الآيات والسور وبخاصة في ظل مصاحف مكتوبة، احتفظ بها أصحابها، لا تختلف من حيث الآيات عن مصحف أبي بكر، لأن ذلك مما وقع الإجماع عليه.
ولم يكن من اليسير مراقبة تلك المصاحف الفردية، وتتبع ترتيبها، وضبط تلاوتها ورسمها، لتباعد الأمصار الإسلامية عن المدينة، وخشي بعض الصحابة أن تتسع دائرة الخلاف، ويقع الاختلاف في القرآن، وطلبوا من الخليفة وهو المؤتمن على القرآن أن يتدارك الأمر قبل أن يستفحل، وأن يوحد المصحف، وأن يضع في كل بلد مصحفا معتمدا يرجع إليه عند الاختلاف، واستجاب عثمان لذلك الطلب، وحققت خطوته الموفقة أهدافها في توحيد المصحف، وكان هذا من توفيق الله وحفظه لكتابه.
روى البخاري في صحيحه أن أنس بن مالك حدثه أن حذيفة بن اليمان قدم على عثمان، وكان يغازي أهل الشام في فتح أرمينيا وأذربيجان مع أهل العراق، فأفزع حذيفة اختلافهم في القراءة، فقال حذيفة لعثمان: يا أمير المؤمنين أدرك هذه الأمة قبل أن يختلفوا في الكتاب اختلاف اليهود والنصارى، فأرسل عثمان إلى حفصة أن أرسلي إلينا بالصحف ننسخها في المصاحف، ثم نردها إليك، فأرسلت بها حفصة إلى عثمان، فأمر زيد بن ثابت وعبد الله بن الزبير وسعيد بن العاص وعبد الرحمن بن الحارث بن هشام، فنسخوها في المصاحف، وقال عثمان للرهط القرشيين الثلاثة: إذا اختلفتم أنتم وزيد بن ثابت في شيء من القرآن فاكتبوه بلسان قريش، فإنه إنما نزل بلسانهم ففعلوا حتى إذا نسخوا الصحف في المصاحف، ردّ عثمان الصحف إلى حفصة، وأرسل إلى كل أفق بمصحف مما نسخوا، وأمر بما سواه من القرآن في كل صحيفة أو مصحف أن يحرق.
قال زيد: فقدت آية من الأحزاب حين نسخنا المصحف، قد كنت أسمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ بها، فالتمسناها فوجدناها مع خزيمة بن ثابت الأنصاري مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجالٌ صَدَقُوا ما عاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فألحقناها في سورتها في المصحف.
قال ابن حجر: وكان ذلك سنة خمس وعشرين.
وأخرج ابن أشتة عن أبي قلابة أن أنس بن مالك قال: (اختلفوا في القراءة على عهد عثمان حتى اقتتل الغلمان والمصلحون، فبلغ ذلك عثمان بن عفان، فقال: عندي تكذبون به وتلحنون فيه، فمن نأى عني كان أشد تكذيبا وأكثر لحنا، يا أصحاب محمد، اجتمعوا فاكتبوا للناس إماما، فاجتمعوا فكتبوا، فكانوا إذا اختلفوا وتدارءوا في آية قالوا: هذه أقرأها رسول الله صلى الله عليه وسلم فلانا، فيرسل إليه وهو على رأس ثلاث من المدينة، فيقال له: كيف أقرأك رسول الله صلى الله عليه وسلم آية كذا وكذا، فيقول: كذا وكذا، فيكتبونها، وقد تركوا لذلك مكانا).
قال ابن التين وغيره:
(الفرق بين جمع أبي بكر وجمع عثمان، أن جمع أبي بكر كان لخشية أن يذهب من القرآن شيء بذهاب حملته، لأنه لم يكن مجموعا في موضع واحد، فجمعه في صحائف مرتبا لآيات سوره على ما وقفهم عليه النبي صلى الله عليه وسلم، وجمع عثمان كان لما كثر الاختلاف في وجوه القراءة، حتى قرءوه بلغاتهم على اتساع اللغات، فأدى ذلك بعضهم إلى تخطئة بعض، فخشي من تفاقم الأمر في ذلك، فنسخ تلك الصحف في مصحف واحد مرتبا لسوره، واقتصر من سائر اللغات على لغة قريش، محتجا بأنه نزل بلغتهم، وإن كان قد وسع قراءته بلغة غيرهم، رفعا للحرج والمشقة في ابتداء الأمر، فرأى أن الحاجة إلى ذلك قد انتهت، فاقتصر على لغة واحدة).
وقال القاضي أبو بكر الباقلاني صاحب الإعجاز في كتابه الانتصار:
(لم يقصد عثمان قصد أبي بكر في جمع نفس القرآن بين لوحين، وإنما قصد جمعهم على القراءات الثابتة المعروفة عن النبي صلى الله عليه وسلم، وإلغاء ما ليس كذلك، وأخذهم بمصحف لا تقديم فيه ولا تأخير، ولا تأويل أثبت مع تنزيل، ولا منسوخ كتب مع مثبت رسمه ومفروض قراءته وحفظه، خشية دخول الفساد والشبهة على من يأتي بعد).
وقال الحارث المحاسبي:
(المشهور عند الناس أن جامع القرآن عثمان، وليس كذلك، إنما حمل عثمان الناس على القراءة بوجه واحد على اختيار وقع بينه وبين من شهده من المهاجرين والأنصار، لما خشي الفتنة عند اختلاف أهل العراق والشام في حروف القراءات، فأما قبل ذلك فقد كانت المصاحف بوجوه من القراءات المطلقات على الحروف السبعة التي نزل بها القرآن، فأما السابق إلى جمع الجملة فهو الصديق).
وقال أبو الحسين بن فارس في المسائل الخمس:
جمع القرآن على ضربين:
أحدها: تأليف السور، كتقديم السبع الطوال وتعقيبها بالمئين، فهذا الضرب هو الذي تولته الصحابة.
وأما الجمع الآخر: وهو جمع الآيات في السور فهو توفيقي تولاه النبي صلى الله عليه وسلم.
وهذه النصوص واضحة الدلالة على تتابع الجهد وتكامل العمل، في رحلة جمع القرآن، وتوثيقه وتوحيد المصحف، وحسم الخلاف، وجمع كلمة المسلمين على مصحف موحد معتمد موثق لا يأتيه الباطل من بين يديه، ولا من خلفه، معتمدين في ذلك على ما كتبه كتاب الوحي بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، وما حفظه الصحابة في صدورهم.
ويلاحظ في جمع عثمان للقرآن ما يلي:
أولا: اعتماده الكلي على مصحف أبي بكر الذي كان محفوظا لدى السيدة حفصة، ومصحف أبي بكر أعدته لجنة مختصة من حفاظ القرآن، ووقع الإجماع عليه، ولو وقع أي خلاف بين المصحفين لما ارتضاه المسلمون.
ثانيا: كلف عثمان لجنة رباعية أحد أفرادها زيد بن ثابت الذي قام بجمع القرآن في عهد أبي بكر.
ثالثا: هناك إشارة إلى أن جمع عثمان للقرآن كان يستهدف كتابة القرآن ورسم القرآن وتوحيد القراءة، (فاكتبوه بلسان قريش) وهذا دليل على أن أي خلاف لا يمكن أن يتعلق بنص القرآن، وإنما يتعلق بلغة القرآن وكتابة القرآن، وحدد لهم عثمان أنه إذا وقع أي خلاف بينهم وبين زيد فليكتبوه بلسان قريش، فإنما نزل بلسانهم، وهذا يؤكد ما ذهب إليه الباقلاني من أن ما قصد إليه عثمان هو جمع المسلمين على القراءات الثابتة المعروفة، وإلغاء ما ليس كذلك، وأخذهم بمصحف لا تقديم فيه ولا تأخير.
وهكذا يتبين لنا أن جمع أبي بكر كان يستهدف جمع القرآن في مصحف واحد بعد أن كان مفرقا في الرقاع، وجمع عثمان كان يستهدف توحيد القراءة، لئلا يقع اختلاف بين القراء في قراءة القرآن، والأحاديث التي رواها البخاري في سبب الجمع الأول والجمع الثاني واضحة الدلالة على الأسباب التي دفعت أبا بكر للقيام بجمع القرآن، والأسباب التي دفعت عثمان للقيام بتوحيد القراءة القرآنية لكي تكون موافقة للغة قريش.
ويبدو أن بعض المستشرقين هالهم هذا الجهد المحكم الذي قام به الصحابة في وقت مبكر من تاريخ الإسلام، منطلقين في ذلك من إيمانهم بالقرآن، مدركين واجبهم في حماية نصوصه، متطلعين لمرضاة الله، فانطلقوا كعادتهم في مثل هذه المواقف يشككون في كل رواية، ويلتمسون لأنفسهم عذرا في طعن مقدسات الإسلام، مفسرين الأحداث والمواقف تفسيرا مريبا، فتارة يكتشفون صراعا بين المكيين والمدنيين، وتارة يفسرون ظاهرة عادية بما يحقق أغراضهم من إثارة الشبهات.
وأفضل رد على هؤلاء تجاهل ما يثيرونه من شبهات، وبخاصة تلك الشبهات التي لا يقوم عليها دليل، ولا تؤيدها حجة، لأن غايتهم الأولى من إثارة تلك الشبهات إشغال المسلمين بالرد عليها، وأنهاكهم بتتبعها، وإيصال صداها إلى المجتمعات الإسلامية لكي تكون في موطن النقاش والجدال.
والروايات التي نقلناها عن أئمة في العلم دالّة على وضوح مراحل الجمع، وسلامة تلك المراحل، وقبول الصحابة لذلك، وليس هناك ما يثير الشك والريبة في الجمع الأول والثاني، فالجمع الأول اعتمد على قرآن مكتوب في الرقاع والأكتاف والعسب، وأكد هذا الحارث المحاسبي (كتابة القرآن ليست محدثة) وأمر الصديق بنسخها من مكان إلى مكان، وفسر السخاوي مهمة الشاهدين الذين اشترط أبو بكر على زيد ألا يقبل شيئا من القرآن إلا بعد شهادتهما بقوله:
المراد أنهما يشهدان على أن ذلك المكتوب كتب بين يدي رسول الله، والجمع الثاني كما أكدته الروايات المنقولة كان جمعا قصد به توحيد القراءات القرآنية، ومنع الاختلاف فيها، تأكيدا لوحدة لغة القرآن.
واختلف العلماء في عدد مصاحف عثمان، ونقل الزركشي في (البرهان) عن أبي عمرو الداني في المقنع قال:
(أكثر العلماء على أن عثمان لما كتب المصاحف جعله على أربع نسخ، وبعث إلى كل ناحية واحدا، الكوفة والبصرة والشام، وترك واحدا عنده، وقد قيل: إنه جعله سبع نسخ، وزاد: إلى مكة وإلى اليمن وإلى البحرين، قال: والأول أصح وعليه الأئمة).
وكانت مصاحف عثمان مجردة من كل ما هو خارج عن القرآن، لئلا يختلط القرآن بغيره، ويدخل بعض التفسير فيه، وكانت المصاحف التي كتبها بعض الصحابة قبل ذلك تشتمل على بعض الكلمات التفسيرية الموضحة لبعض معاني القرآن، وكان يمكن لتلك الكلمات مع مرور الزمن أن يقع الالتباس فيها، ويظن بأنها من القرآن، ولذلك أمر عثمان بإحراق المصاحف الفردية التي كانت موجودة لدى البعض، لئلا يقع الاختلاف في القرآن، وبخاصة في ظل كتابة قرآنية خالية من النقط والشكل، ويمكن أن تقرأ الكلمات المتشابهة في الرسم بألفاظ عدة.
ولا شك أن إحراق المصاحف الفردية كان اجتهادا موفقا من خليفة المسلمين، ولقي ترحيبا من معظم الصحابة، لأنه أدى إلى توحيد المصحف، وقطع دابر أي خلاف في آياته، من حيث القراءة والرسم، ومن اليسير علينا نحن اليوم أن نكتشف عظمة هذا الإنجاز وعظيم أثره، ولو بقيت المصاحف الفردية قائمة بيد أصحابها لكان من اليسير أن يتعصب كل صاحب مصحف لما كتبه وجمعه، ولاعتبر مصحفه هو الأصح والأدق، ومن الصعب بعد ذلك ضبط الأمور وإعادة اللحمة إلى ما تفرق من الآراء، وبخاصة في ظل عصر بدأت معالم الفتنة تطل عليه من بعيد، منذرة متوعدة، ومن حسن الحظ أن خطوة توحيد المصحف قد اكتملت قبل أن تتفجر الأحداث، وأصبح في كل إقليم من أقاليم الدولة الإسلامية مصحفا معتمدا، هو الأساس لكل المصاحف، يوحد الكلمة، ويوحي بالثقة، ويجعل القرآن فوق كل الشبهات، مطوقا بحفظ الله ورعايته.
ولو صح أن خلافا حقيقيا وقع في مصحف عثمان، أو نزاعا بين الصحابة نشب بسبب إحراق المصاحف لما خفي هذا الخلاف والنزاع، ولارتفعت أصوات المعارضين عالية محتجة رافضة منددة بما فعل (عثمان)، وبخاصة في أواخر عهده، حيث أخذت أصوات الاحتجاج تتعالى مدينة بعض جوانب سياسته وإدارته.
وحاول بعض خصوم القرآن إثارة شكوك حول قطعية ثبوت النص القرآني، واعتمدوا في ذلك على روايات شاذة وحكايات موضوعة تؤكد ظنونهم، وتدعم ما أخذوا أنفسهم به من هدم هذا الصرح الكبير الذي أجمع المسلمون على صحته، وتكاتفوا في سبيل حفظه، ولا تخلو أية رواية من الروايات الشاذة من نقد واضح الدلالة على ضعفها وتهفتها، أو سوء تفسيرها، سواء تعلقت بشبهات حول سقوط شيء من القرآن بسبب نسيان، أو إضافة إليه.
ولا نهاية لمثل هذا المنهج الذي يعتمد التشكيك في القرآن، ولا سبيل لإيقاف النفوس المريضة التي أخذت تتتبع ما سقط من الأقوال، وما نبذ من الروايات، إلا بتجاهل هذا المنهج ورفضه، وعدم الخوض فيه، فما أجمعت عليه الأمة، لا يمكن أن يكون في موطن الظن، وأن يخضع لمعايير نقدية أخذ بها من ران على قلبه مرض، أفقده الإحساس بحرارة الإيمان، وبإشراقة القرآن في النفس، فما تعهد الله بحفظه لا سبيل لبشر عليه، وكلام الله أسمى من أن يختلط بكلام البشر.