فصل: تفسير الآية رقم (36):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: النكت والعيون المشهور بـ «تفسير الماوردي»



.تفسير الآيات (34- 35):

{وَلِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنْسَكًا لِيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ فَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَلَهُ أَسْلِمُوا وَبَشِّرِ الْمُخْبِتِينَ (34) الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَالصَّابِرِينَ عَلَى مَا أَصَابَهُمْ وَالْمُقِيمِي الصَّلَاةِ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (35)}
قوله عز وجل: {وَلِكُلِّ أَمَّةٍ جَعَلْنَا مَنسَكاً} فيه ثلاثة تأويلات:
أحدها: يعني حجاً، وهو قول قتادة.
والثاني: ذبحاً، وهو قول مجاهد.
والثالث: عيداً، وهو قول الكلبي والفراء، والمنسك في كلام العرب هو الموضع المعتاد، ومنه تسمية مناسك الحج، لاعتياد مواضعها.
{لِّيَذْكُرُواْ اسْمَ اللَّهِ عَلَى مَا رَزَقَهُم مِّنْ بَهِيمَةِ الأَنْعَامِ} فيها وجهان:
أحدهما: أنها الهدي، إذا قيل إن المنسك الحج.
والثاني: الأضاحي، إذا قيل إن المنسك العيد.
قوله عز وجل: {وَبَشِّر الْمُخْبِتينَ} فيه تسعة تأويلات:
أحدها: المطمئنين إلى ذكر إلههم، وهو قول مجاهد، ومنه قوله تعالى: {فَتُخْبتْ لَهُ قُلُوبُهُم} [الحج: 54].
والثاني: معناه المتواضعين، وهو قول قتادة.
والثالث: الخاشعين، وهو قول الحسن. والفرق بين التواضع والخشوع أن التواضع في الأخلاق والخشوع في الأبدان.
والرابع: الخائفين، وهو معنى قول يحيى بن سلام.
والخامس: المخلصين، وهو قول إبراهيم النخعي.
والسادس: الرقيقة قلوبهم، وهو قول الكلبي.
والسابع: أنهم المجتهدون في العبادة، وهو قول الكلبي ومجاهد.
والثامن: أنهم الصالحون المطمئنون، وهو مروي عن مجاهد أيضاً.
والتاسع: هم الذين لا يظلمون، وإذا ظلمواْ لم ينتصرواْ، وهو قول الخليل بن أحمد.

.تفسير الآية رقم (36):

{وَالْبُدْنَ جَعَلْنَاهَا لَكُمْ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ لَكُمْ فِيهَا خَيْرٌ فَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا صَوَافَّ فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْقَانِعَ وَالْمُعْتَرَّ كَذَلِكَ سَخَّرْنَاهَا لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (36)}
قوله عز وجل: {وَالْبُدْنَ جَعَلْنَاهَا لَكُم مِّن شَعَائِرِ اللَّهِ} في البدن ثلاثة أقاويل:
أحدها: أنها الإِبل، وهو قول الجمهور.
والثاني: أنها الإِبل، والبقر، والغنم، وهو قول جابر، وعطاء.
والثالث: كل ذات خُفٍّ وحافر من الإِبل، والبقر، والغنم، وهو شاذ حكاه ابن الشجرة، وسميت بُدْناً لأنها مبدنة في السمن، وشعائر الله تعالى دينه في أحد الوجهين، وفروضه في الوجه الآخر.
وتعمق بعض أصحاب الخواطر فتأول البُدْن أن تطهر بدنك من البدع، والشعائر أن تستشعر بتقوى الله وطاعته، وهو بعيد.
{لَكُمْ فِيهَا خَيْرٌ} فيه تأويلان:
أحدهما: أي أجر، وهو قول السدي.
والثاني: منفعة فإن احْتِيجَ إلى ظهرها رُكبَ، وإن حُلِبَ لَبَنُها شُرِبَ، وهو قول إبراهيم النخعي.
{فَاذْكُرُواْ اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا صَوآفَّ} وهي قراءة الجمهور، وقرأ الحسن: صوافي، وقرأ ابن مسعود: صوافن.
فتأول صواف على قراءة الجمهور فيه ثلاثة أوجه:
أحدها: مصطفة، ذكره ابن عيسى.
والثاني: قائمة لتصفّد يديها بالقيود، وهو قول ابن عمر.
والثالث: معقولة، وهو قول مجاهد.
وتأويل صوافي، وهي قراءة الحسن: أي خالصة لله تعالى، مأخوذ من الصفوة.
وتأويل صوافن وهي قراءة ابن مسعود: أنها مصفوفة، وهو أن تَعقِل إحدى يديها حتى تقف على ثلاث، مأخوذ من صفن الفرس إذا ثنى إحدى يديه حتى يقف على ثلاث، ومنه قوله تعالى: {الصَّافِنَاتُ الْجِيَادُ} وقال الشاعر:
الف الصفون مما يزال كأنه ** مما يقوم على الثلاث كسيراً

{فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبهُا} أي سقطت جنوبها على الأرض، ومنه وجب الحائط إذا سقط، ووجبت الشمس إذا سقطت للغروب، وقال أوس بن حجر:
ألم تكسف الشمس ضوء النهار ** والبدر للجبل الواجب

{فَكُلُواْ مِنْهَا} فيه وجهان:
أحدهما: أن أكله منها واجب إذا تطوع بها، وهو قول أبي الطيب بن سلمة.
والثاني: وهو قول الجمهور أنه استحباب وليس بواجب، وإنما ورد الأمر به لأنه بعد حظر، لأنهم كانواْ في الجاهلية يحرمون أكلها على نفوسهم.
{وَأَطْعِمُواْ الْقَانِعَ والْمُعْتَرَّ} فيهم أربعة تأويلات:
أحدها: أن القانع السائل، والمعتر الذي يتعرض ولا يسأل، وهذا قول الحسن، وسعيد بن جبير، ومنه قول الشماخ:
لمالُ المرء يصلحه فيغني ** مفاقِرَه أعف من القُنُوع

أي من السؤال.
والثاني: أن القانع الذي يقنع ولا يسأل، والمعتر الذي يسأل، وهذا قول قتادة، ومنه قول زهير:
على مكثريهم رزق من يعتريهم ** وعند المقلين السماحةُ والبذلُ

والثالث: أن القانع المسكين الطوّاف، والمعتر: الصديق الزائر، وهذا قول زيد بن أسلم، ومنه قول الكميت:
إما اعتياداً وإما اعتراراً ** والرابع: أن القانع الطامع، والمعتر الذي يعتري البُدْنَ ويتعرض للحم لأنه ليس عنده لحم، وهذا قول عكرمة، ومنه قول الشاعر:

على الطارق المعتر يا أم مالك ** إذا ما اعتراني بين قدري وصخرتي

.تفسير الآية رقم (37):

{لَنْ يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلَا دِمَاؤُهَا وَلَكِنْ يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنْكُمْ كَذَلِكَ سَخَّرَهَا لَكُمْ لِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَبَشِّرِ الْمُحْسِنِينَ (37)}
قوله عز وجل: {لَن يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلاَ دِمَآؤُهَا} فيه وجهان:
أحدهما: لن يقبل الله الدماء وإنما يقبل التقوى، وهذا قول علي بن عيسى.
والثاني: معناه لن يصعد إلى الله لحومها ولا دماؤها، لأنهم كانوا في الجاهلية إذا ذبحوا بُدنهم استقبلوا الكعبة بدمائها فيضجعونها نحو البيت، فأراد المسلمون فعل ذلك، فأنزل الله تعالى: {لَنَ يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلاَ دِمَآؤُهَا وَلَكِن يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنكُم} أي يصعد إليه التقوى والعمل الصالح، وهذا قول ابن عباس.
{كَذَلِكَ سَخَّرَهَا لَكُمْ} أي ذللها لكم يعني الأنعام.
{لِتُكَبِّرُواْ اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ} يحتمل وجهين:
أحدهما: يعني التسمية عند الذبح.
والثاني: لتكبروا عند الإِحلال بدلاً من التلبية في الإِحرام.
{عَلَى مَا هَداكُمْ} أي ما أرشدكم إليه من حجكم.
{وَبَشِّرِ الْمُحْسِنِينَ} يحتمل وجهين:
أحدهما: بالقبول.
والثاني: بالجنة.

.تفسير الآيات (38- 41):

{إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آَمَنُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ (38) أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ (39) الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ (40) الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآَتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ (41)}
{إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ ءَامَنُواْ} فيه ثلاثة أوجه:
أحدها: بالكفار عن المؤمنين، وبالعصاة عن المطيعين، وبالجهال عن العلماء.
والثاني: يدفع بنور السنة ظلمات البدعة، قاله سهل بن عبد الله.
قوله عز وجل: {وَلَوْلاَ دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ} فيه ستة تأويلات:
أحدها: ولولا دفع الله المشركين بالمسلمين، وهذا قول ابن جريج.
الثاني: ولولا دفع الله عن الدين بالمجاهدين، وهذا قول ابن زيد.
والثالث: ولولا دفع الله بالنبيين عن المؤمنين، وهذا قول الكلبي.
والرابع: ولولا دفع الله بأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم عمن بعدهم من التابعين، وهذا قول علي بن أبي طالب كرم الله وجهه.
والخامس: ولولا دفع الله بشهادة الشهود على الحقوق، وهذا قول مجاهد.
والسادس: ولولا دفع الله على النفوس بالفضائل، وهذا قول قطرب.
ويحتمل عندي تأويلاً سابعاً: ولولا دفع الله عن المنكر بالمعروف.
{لَّهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ} فيه قولان:
أحدها: أنها صوامع الرهبان، وهذا قول مجاهد.
والثاني: أنها مصلى الصابئين، وهو قول قتادة.
وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «صَوْمَعَةُ المُؤْمِنِ بَيْتُه» وسميت صومعة لانضمام طرفيها، والمنصمع: المنضم، ومنه أذنٌ صمعاء.
{وَبِيَعٌ} فيها قولان: أحدهما: أنها بيع النصارى، وهو قول قتادة.
والثاني: أنها كنائس اليهود، وهو قول مجاهد، والبيعة اسم أعجمي مُعَرَّب.
{وَصَلَوَاتٌ} فيها قولان: أحدهما: أنها كنائس اليهود يسمونها: صلوتا، فعرب جمعها، فقيل صلوات، وهذا قول الضحاك.
والثاني: معناه: وتركت صلوات، ذكره ابن عيسى.
{وَمَسَاجِدُ} المسلمين، ثم فيه قولان:
أحدهما: لهدمها الآن المشركون لولا دفع الله بالمسلمين، وهو معنى قول الضحاك.
والثاني: لهدمت صوامع في أيام شريعة موسى، وبيع في أيام شريعة عيسى ومساجد في أيام شريعة محمد صلى الله عليه وسلم، وهذا قول الزجاج، فكان المراد بهدم كل شريعة، الموضع الذي يعبد الله فيه.

.تفسير الآيات (42- 46):

{وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَعَادٌ وَثَمُودُ (42) وَقَوْمُ إِبْرَاهِيمَ وَقَوْمُ لُوطٍ (43) وَأَصْحَابُ مَدْيَنَ وَكُذِّبَ مُوسَى فَأَمْلَيْتُ لِلْكَافِرِينَ ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ (44) فَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ فَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا وَبِئْرٍ مُعَطَّلَةٍ وَقَصْرٍ مَشِيدٍ (45) أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آَذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ (46)}
قوله عز وجل: {وَبِئْرٍ مُّعَطَّلَةٍ} فيها ثلاثة أوجه:
أحدها: يعني خالية من أهلها لهلاكها.
والثاني: غائرة الماء.
والثالث: معطلة من دلالتها وأرشيتها.
{وَقَصْرٍ مَّشِيدٍ} فيه ثلاثة أوجه:
أحدها: أن المشيد الحصين وهو قول الكلبي، ومنه قول امرئ القيس:
وتيماء لم يترك بها جذع نخلةٍ ** ولا أطماً إلا مشيراً بجندل

والثاني: أن المشيد الرفيع، وهو قول قتادة، ومنه قول عدي بن زيد:
شاده مرمراً وجلله كل ** ساً فللطير في ذراه وُكورُ

والثالث: أن المشيد المجصص، والشيد الجص، وهو قول عكرمة ومجاهد ومنه قول الطرماح:
كحية الماء بين الطين والشيد ** وفي الكلام مضمر محذوف وتقديره: وقصر مشيد مثلها معطل، وقيل إن القصر والبئر بحضرموت من أرض اليمن معروفان، وقصرِ مشرف على قلة جبل ولا يرتقى إليه بحال، والبئر في سفحه لا تقر الريح شيئاً سقط فيها إلا أخرجته، وأصحاب القصور ملوك الحضر، وأصحاب الآبار ملوك البوادي، أي فأهلكنا هؤلاء وهؤلاء.

قوله عز وجل: {أَفَلَمْ يَسِيرُواْ فِي الأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا} هذا يدل على أمرين: على أن العقل علم، ويدل على أن محله القلب.
وفي قوله: {يَعْقِلُونَ بِهَا} وجهان:
أحدهما: يعملون بها، لأن الأعين تبصر والقلوب تصير.
{أَوْ ءَاذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا} أي يفقهون بها ما سمعوه من أخبار القرون السالفة.
{فَإنَّهَا لاَ تَعْمَى الأَبْصَارُ وَلكِن تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي في الصُّدورِ} يحتمل عندي وجهين:
أحدهما: أنها لا تعمى الأبصار عن الهدى ولكن تعمى القلوب عن الاهتداء.
والثاني: فإنها لا تعمى الأبصار عن الاعتبار ولكن تعمى القلوب عن الادّكار.
قال مجاهد: لكل إنسان أربع أعين: عينان في رأسه لدنياه، وعينان في قلبه لآخرته، فإن عميت عينا رأسه وأبصرت عينا قلبه لم يضره عماه شيئاً، وإن أبصرت عينا رأسه وعميت عينا قلبه لم ينفعه نظره شيئاً.
قال قتادة: نزلت هذه الآية في ابن أم مكتوم الأعمى وهو عبد الله بن زائدة.