فصل: كتاب القَضَاء:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تيسير العلام شرح عمدة الأحكام



.باب النَّذر:

النذر لغة: الإيجاب.
وشرعا: إلزام المكلف نفسه عبادة لم تكن لازمة بأصل الشرع.
والأصل فيه، الكتاب، والسنة، والإجماع.
أما الكتاب فقوله تعالى: {يُوفُونَ بالنَّذرِ} {وَليُوفُوا نُذُورَهُمْ}.
وأما السنة: فقوله صلى الله عليه وسلم: «مَنْ نَذَرَ أنْ يُطِيعَ اللّه فيطعه وَمَنْ نَذَرَ أنْ يَعْصىَ الله فَلاَ يَعْصِهِ» رواه البخاري.
وقد أجمع المسلمون على صحته في الجملة.
وقرن العلماء بين اليمين والنذر، لأنهما متقاربان في الأحكام، فكل منهما يقصد به التأكيد.
لكن موجب اليمين البِر بيمينه أو الكفارة.
وأما موجب النذر، فهو الوفاء بما نذره، ما لم يقصد بالنَذر الحثَّ أو المنع، فيكون حكمه ومجراه مجرى اليمين، تحله كفارة اليمين.
وأما الفروق التي بينهما، فمجملها ما يأتي:
1- ما تقدم من أن النذر الشرعي لابد من الوفاء به ولا يقوم غيره مقامه.
وأما اليمين فتحله الكفارة.
2- أن النذر يقصد به مجرد التقرب وقد يكون الحاملُ حصولَ مطلوبٍ أو زوال مكروه.
وأما اليمين فيقصد به الحث على فعل شيء، أو المنع منه.
3- أن عقد النذر مكروه، وأما اليمين فمباح، وقد يشرع إذا دعت إليه الأسباب.
4- أن النذر يجب الوفاء به، وأما اليمين ففيه تفصيل يرجع إلى ما يترتب عليه.
فقد يكون التحلل منه مباحا، أو مكروها، أو مستحبا، أو واجباً، أومحرماً، حسب المصالح أو المفاسد المترتبة عليه.
الحديث الأول:
عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رضي الله عَنْهُ قالَ: قُلْتُ يَا رَسُولَ الله إني كُنْتُ نَذرْتُ فِي الْجَاهِلِيَّةِ أنْ أعْتَكِفَ لَيْلَةً.
وفي رواية: يَوْماً- في الْمَسْجِدِ الْحَرَام؟
قالَ: «فَأوْفِ بِنَذْرِكَ».
ما يستفاد من الحديث:
تّقدم شرح هذا الحديث في (باب الاعتكاف).
ونجمل- هنا- ما فيه من الأحكام بما يأتي:-
1- أن الاعتكاف عبادة لله تعالى، ولذا وجبت بالنذر.
2- أنه لا يشترط في الاعتكاف الصيام، إذ أمره أن يوفي بنذره اعتكاف ليلة، والليل ليس محلا للصوم، الجمع بينهما أكمل.
3- وجوب الوفاء بالنذر المطلق، وهو نذر الطاعة الذي لم يعلَّق على شيء. بل قصد به مجرد التبرر.
4- أن النذر من الكافر صحيح منعقد، يجب عليه الوفاء به.
الحديث الثاني:
عَنْ عَبْدِ اللَه بْنِ عمر رضي الله عَنْهُما عَنِ النَبي صلى الله عليه وسلم: أنه نهَى عَنِ النَذْرِ وَقَالَ: «إنَ النَذْرَ لا يأتي بِخَيْر، وإنما يُسْتَخْرَجُ بِهِ مِنَ الْبَخِيلِ».
المعنى الإجمالي:
نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن النذر، وعلل نهيه بأنه لا يأتي بخير، وذلك لما يترتب عليه من إيجاب الإنسان على نفسه شيئاً، هو في سعة منه، فيخشى أن يقصر في أدائه، فيتعرض للإثم، ولما فيه من إرادة المعاوضة مع اللَه تعالى في التزام العبادة معلقة على حصول المطلوب، أو زوال المكروه.
وربما ظن- والعياذ باللّه- أن الله تعالى أجاب طلبه، ليقوم بعبادته.
لهذه المحاذير وغيرها، نهى عنه النبي صلى الله عليه وسلم، إيثاراً للسلامة، وطمعاً في جود اللّه تعالى بلا دالَّةٍ ولا مشارطة، وإنما بالرجاء والدعاء.
وليس بالنذر فائدة، إلا أنه يستخرج به من البخيل، الذي لا يقوم إلا بما وجب عليه فعله وتحتم عليه أداؤه، فيأتي به مكرها، متثاقلا، فارغاً من أساس العمل، وهي النية الصالحة، والرغبة فيما عند الله تعالى.
ما يستفاد من الحديث:
1- النهى عن النذر، وأصل النهْى للتحريم، والذي صرفه عن التحريم، مدح الموفين به.
2- العلة في النهي (أنه لا يأتي بخير) لأنه لا يَرُد من قضاء الله شيئاً، ولئلا يظن الناذر أنه عوض حصول مطالبة.
والله تعالى غنيُّ عن الأعواض، وعن الخلق أجمعِن، فهم الفقراء، وطاعتهم لا تزيد في ملكه شيئا.
3- واللّه تبارك وتعالى قدًر الواجبات على العباد، بقدر طاقَتهم، وجعل لزائد نوافل، لأنها خارجة عما يحتملونه من العبادات.
والناذر خافت هذه الحكمة والتقدير، ولعله يعجز عن القيام بما نذر، فيكون آثماً مسَبباً في الإثم.
4- فائدة النذر، أنه يستخرج به من البخيل، الذي غايته القيام بالواجب ويثقل عليه ما عداه.
فالنذر وسيلة لقيامه بما لم يجب عليه بأصل الشرع.
5- هذا الباب من غرائب العلم.
فالأصل أن الوسائل لها أحكام المقاصد إلا النذر، فالوفاء به واجب، وعقده مكروه، فيكون مخالفاً لغيره. والحكمة ظاهرة كما تقدم.
6- يكره النذر إذا كان طاعة لله تعالى.
فأما النذر الذي يقدم للموتى والقبور، ويوفي به عند الأضرحة والقباب، أو يرضى به ويستخدم الشياطين، فهذا هو الشرك الذي كان يفعله المشركون لأصنامهم، ويقربونه لأوثانهم. وحكمه معروف. نعوذ باللّه من غضبه وعقابه.
7- ذكر الصنعاني أن هذا باب واسع، من تتبعه عرف أن العبد إذا أولج نفسه فيما لم يوجبه الله عليه كان معرضا لعدم الوفاء بتقصيره وتثبيط الشيطان له، وأنه لا يفي به إلا القليل، وهم المشار إليهم بقوله: {من المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه}.
الحديث الثالث:
عَنْ عقبة بْنِ عامر قَالَ: نَذَرَتْ أخْتِي أنْ تَمْشىَ إلى بَيْتِ الله الْحَرَام حَافِيَةً فأمرتني أن استفتي لَهَا رَسولَ الله صلى الله عليه وسلم فاستفتيته فَقالَ: «لتمَشي وَلْتَرْكَبْ».
ما يستفاد من الحديث:
1- أن من نذر المَشْيَ إلى المسجد الحرام، أو أحد المسجدين ماشياً، لا يجب عليه الوفاء به، لأن هذا ليس نذر عبادة مقصودة، وإنما هو نذر مباح، ونذر المباح، إن لم يَفِ به فعليه الكفارة.
2- أنه إذا اشتمل النذر في أمر مباح وعبادة، فلكل حكمه، فيؤمر بالعبادة، لأنها التي يجب الوفاء بها، إذ قد اشتمل أداؤها على المصلحة.
3- ومنها:- أنه لا يتعبد بما إلا شرعه اللّه تعالى من الطاعات.
فالأصل في العبادات الحظر، فلا يشرع إلا ما شرعه الله ورسوله. ومن زاد في الشرع، فقد أراد الاستدراك على الله تعالى ورسوله، صلى الله عليه وسلم.
4- في الحديث بيان لبعض العلل في كراهية الشارع للنذر، وهو العجز عن القيام بالمنذور.
فالظاهر أن هذه المرأة لما نذرت المشي، علمت من نفسها عدم القدرة، فاضطرت إلى الخروج من هذا المأزق.
الحديث الرابع:
عَنْ عَبدِ اللَه بن عباس رَضي اللَه عَنهمَا: أنَّهُ قالَ: اسْتَفْتى سَعْدُ ابْنُ عبادَةَ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم في نَذْر كان عَلَى أمه، تُوُفِّيَتْ قَبْلَ أنْ تَقضِيَهُ.
فَقَالَ رَسُولُ اللَه صلى الله عليه وسلم: «فاقضه عَنْهَا».
ما يستفاد من الحديث:
1- أن النذر عبادة، يجب الوفاء بها، وأداؤها.
2- أن من مات وعليه ننر، قضاه عنه وارثه.
3- لم يذكر في هذا الحديث نوع النذر: هل هو بدنيٌ أو مالٌي؟.
فأما المالي- ومنه الحج- فتدخله النيابة عند جمهور العلماء.
وقد تقدم أن الصحيح في الصيام أن النيابة تدخل البدني أيضاً، لحديث عائشة في الصحيحين مرفوعا: «من مات وعليه صوم صام عنه وليه».
ونذر أم سعد قيل، كان صوما. وقيل: عتقا، وقيل: صدقة، وقيل: نذراً مطلقاً. وكل من هذه الأقوال استدل أصحابها عليها بأحاديث.
وحديث الصوم والعتق، قد تكلم فيهما العلماء.
وأما حديث الصدقة، فليس صريحاً أنها نذرت ذلك.
وقال القاضي عياض: (والذي يظهر، أنه كان نذرها في المال أو مبهما).
وقال ابن حجر: (بل ظاهر حديث الباب أنه كان معينا عن سعد).
4- وفي الحديث بر الوالدين بعد وفاتهما.
وأعظم برهما وفاء ما عليهما من الديون أو الحقوق والواجبات، سواء كانت لله تعالى أو للآدميين.
الحديث الخامس:
عَنْ كَعْبِ بْن مَالِكٍ قالَ: قُلْتُ يَا رَسُولَ الله، إنَّ مِنْ تَوبَتِي أنْ أنْخَلِعَ مِنْ مَالي صَدَقَةً إلَى الله وَإلَى رَسُولِهِ.
فَقَالَ رَسُولُ اللّه صلى الله عليه وسلم: «أمْسِكْ عَلَيكَ بَعْضَ مَالِكَ، فَهُوَ خَير لَكَ»
المعنى الإجمالي:
كان كعب بن مالك الأنصاري رضي الله عنه أحد الثلاثة الذين خُلِّفُوا عن غزوة تبوك بلا نفاق ولا عذر.
فلما رجع النبي صلى الله عليه وسلم من تلك الغزوة، هجرهم، وأمر أصحابه بهجرهم.
وما زالوا مهجورين، حتى نزلت توبتهم ورضي الله عنهم، فرضي الرسول والصحابة.
فكان من شدة فرح كعب برضا الله عنه وقبول توبته، أن أراد أن ينخلع من كل ماله، ويخرج منه صدقة لوجه الله تعالى، فيكون إنفاقه فيما يرضي الله ورسوله.
فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: أمسك عليك، فالله تعالى لما علم صدق نيتك وحسن توبتك، غفر لك ذنبك، وتجاوز عنك.
ولو لم تفعل هذا، فالله لا يكلف نفساً إلا وسعها.
وقد أنفق بعض ماله، فرحا برضا الله تعالى، وليجد ثوابه مُدَّخراً عنده وأبقى بعضه، ليقوم بمصالحه ونفقاته الواجبة من مؤونة نفسه، ومؤونة من يعول. والله رؤوف بعباده.
ما يستفاد من الحديث:
1- أن من نذر الصدقة بماله كله، أبقى منه ما يكفيه ويكفي من يعول، وأخرج الباقي.
والمذهب عند الحنابلة، يخرج الثلث، ويمسك الباقي.
واستدلوا بأبي لبابة حين انخلع من ماله كله، فقد أمره النبي صلى الله عليه وسلم أن يسمك الثلث. رواه أحمد.
والقول الأول: أولى وأقرب إلى مفهوم الشارع في قصة كعب.
ولأنه لما نذر كل ماله، صار الذي بقدر نفقاته الواجبة، كالمستثنى شرعا، فلا يجوز التصرف فيه، كما لو نذر صيام سنة، فلن يدخل في نذره ما يجب فطره كالعيدين.
2- أن الأولى والأحسن، أن لا ينهك الإنسان ماله بالصدقات، لأن عليه نفقات واجبة، والني صلى الله عليه وسلم يقول: «ابدأ بنفسك ثم بمن تعول».
3- أن النفقة على النفس والزوجة والقريب، عبادة جليلة، وصدقة عظيمة مع النية الحسنة.
فالأحسن أن يتصدق بنية التقرب، وأن لا تطغى نية قضاء الشهرة والشفقة المجردة والمحبة، على نية العمل.
4- أن الصدقة سبب في مَحْوِ الذنوب، لما فيها من رضا الرب تبارك وتعالى والإحسان إلى الفقراء والمساكين، واستجلاب دعائهم.

.كتاب القَضَاء:

القضاء بالمد لغة: إحكام الأمر والفراغ منه. قال تعالى: {فَقَضَاهُنَّ سبْعَ سَموَات في يَوْمَيْن} يعنى أحكمهن وفرغ منهن.
وفى الشرع: تبيين الحكم الشرعي والإلزام به وفصل الخصومات.
والأصل في القضاء ومشروعيته، الكتاب، والسنة، والإجماع، والقياس.
فأما الكتاب: فمثل قوله تعالى: {فَاحْكُمْ بَيْنَ الناس بِالْحَق ولا تَتَّبع الْهَوَى} وقوله: {وأنِ احكم بَيْنَهُمْ بما أنزل الله} وغيرهما.
وأما السنة، فكثيرة، ومنها:- ما جاء في الصحيحين عن عمرو ابن العاص عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «إذا اجتهد الحاكم فأصاب فله أجران، وإذا اجتهد فاخطأ فله أجر».
وأجمع المسلمون على مشروعيته.
ويقتضيه القياس، فلا تستقيم ًالأحوال إلا به، وهو فرض كفاية.
قال في (المعنى): وفيه فضل عظيم لِمن قَوِىَ على القيام به، وأداء الحق فيه، ولذلك جعل الله فيه أجراً مع الخطأ، وأسقط عنه حكم الخطأ، ولأن فيه أمرا بالمعروف، ونصرة للمظلوم، وأداء الحق إلى مستحقه وردعاً للظالم عن ظلمه، وإصلاحا بين الناس، وتخليصا لبعضهم من بعض، وذلك من أبواب القرب.
ولذلك تولاه النبي صلى الله عليه وسلم والأنبياء قبله، فكانوا يحكمون لأممهم.
وبعث صلى الله عليه وسلم عَلِيا إلى اليمن قاضيا، وبعث مُعَاذاً قاضيا.
وقد روى عن ابن مسعود أنه قال: لأنْ أجلس قاضيا بين اثنين، أحب. إلى من عبادة سبعين سنة.
وفيه خطر عظيم ووزر كبير، لمن لم يؤدِّ الحق فيه. ولذلك كان السلف رحمة اللّه عليهم يمتنعون منه أشد الامتناع، ويخشون على أنفسهم خطره.
أما حكمته التشريعية: فيكفيك منها ما ذكره (صاحب المغنى).
ولا يمكن حصر ما فيه من حِكَمٍ وأسرار.
وقال الإمام أحمد: لابد للناس من حاكم، أتذهب حقوق الناس؟.
ولولا القضاء وفصل الخصومات، ورد المظالم، وتبيين الحق، لصارت الحياة فوضى. فيكفى أنه ضرورة من ضرورات الحياة:
الحديث الأول:
عَنْ عائشَةَ رضي اللّه عَنْها قَالَت: قَالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم: «مَنْ أحدَثَ فِي أمْرِنَا هذا ما ليسَ مِنْهُ فهُوَ رَدٌّ».
وفي لفظ: «مَنْ عَمِلَ عَمَلا لَيسَ عليه أمْرُنَا فَهوَ رَدٌّ».
المعنى الإجمالي:
هذا حديث جليل، وأصل عظيم في الشريعة، وقاعدة من قواعد الإسلام العظمى.
فقد أبان أن كل أمر ليس من شرع اللَه تعالى، وكل عمل لا يقوم على أمر الله، فهو مردود باطل، لا يعتد به ولا بما يترتب عليه، فهذا من جوامع كلمِهِ صلى الله عليه وسلم، جعله مقياساً لجميع الأمور والأعمال فما كان منها على مراد اللَه وشرعه، فهي المقبولة. وما كان على غيرِ أمره ولا شرعه، فهي المردودة.
ما يستفاد من الحديث:
1- قال النووي: وهذا الحديث قاعدة عظيمة من قواعد الإسلام، ومن جوامع كلمه صلى الله عليه وسلم.
2-و قال أيضاً: فإنه (أي: الحديث) صريح في رد كل البدع والمخترعات.
3- وقال أيضاً: وفي هذا الحديث دليل لمن يقول من الأصوليين إن النهي يقتضي الفساد.
4- وقال أيضا: وهذا الحديث ينبغي حفظه واستعماله في إبطال المنكرات وإشاعة الاستدلال به.
5- وفيه دليل على أن الأصل في العبادات الحظر، فلا يشرع منها ولا يزاد فيها إلا ما شرعه الله ورسوله.
6- قال النووي أيضاً: (فيه دليل على أن المأخوذ بالعقد الفاسد يجب رده على صاحبه ولا يملك).
ويدل عليه أيضا حديث (وإني أخبرت أن على ابني الرجم فافتديت منه بمائة شاة ووليدة).
فقال عليه الصلاة والسلام: «الوليدة والغنم رَدُّ عليك».
7- قال النووي أيضا: وفيه دليل على من ابتدع في الدين بدعة لا توافق الشرع فإثمها عليه، وعمله مردود عليه، وأنه يستحق الوعيد.
8- قال شيخنا عبد الرحمن بن سعدي: ووجه مناسبة هذا الحديث لهذا الباب: أنه لو تبين أن حكم القاضي مخالف لأمر الرسول فإنه يرد، وأن القضاء يترتب على أحكام الشرع، فلا يلتفت إلى ما يحدثه القضاة.
9- قال الصنعاني: يفيد أن كل عمل ليس عليه أمره صلى الله عليه وسلم مردود، والذي عليه هو كل ما دل عليه الكتاب والسنة، وليس محدثاً مبدعا في الدين، فإنه مردود على فاعله وكل أمر كان عليه أمره صلى الله عليه وسلم فإنه مقبول. فإن هذا الحديث نصف العلم، بل العلم كله، إذ منطوقه دال على رد كل عمل لم يكن عليه أمره صلى الله عليه وسلم، ومفهومه أفاد أن كل عمل كان عليه أمره صلى الله عليه وسلم مقبول.
قال شيخ الإسلام رحمه الله تعالى:
دعاوى التهم مثل القتل أو قطع الطريق أو السرقة والعدوان على الخلق بالضرب وغيره (تنقسم) إلى ثلاثة أقسام:
1- إن كان المتهم برا لم تجز عقوبته بالاتفاق.
2- أن يكون مجهول الحال لا يعرف ببر أو فجور، فهذا يحبس حتى تنكشف حاله عند عامة علماء الإسلام والحبس ليس هو السجن، وإنما هو تعويق الشخص ومنعه من التصرف بنفسه، سواء في بيت أو بتوكيل نفس الخصم عليه.
3- أن يكون المتهم معروفا بالفجور، فإذا جاز حبس المجهول فحبس المعروف بالفجور أولى، وما علمت أحدا من أئمة المسلمين قال: إن المدعى عليه في جميع هذه الدعاوى يحلف ويرسل بلا حبس ولا غيره. ومن زعم أن هذا على إطلاقه وعمومه هو الشرع فهو غالط غلطاً فاحشاً مخالفاً لنصوص رسول الله صلى الله عليه وسلم ولإجماع الأمة، وبمثل هذا الغلط الفاحش استجرأ الولاة على مخالفة الشرع واعتدوا حدود الله في ذلك، وتولد من جهل الفريقين بحقيقة الشرع خروج الناس عنه إلى أنواع من البدع السياسية.
الحديث الثاني:
عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عَنْهَا قالت: دَخَلَتْ هِنْدُ بِنْت عتْبَةَ امرأة أبي سُفْيَانَ، عَلى رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم فَقَالَتْ: يا رسول الله، إنَ أبَا سُفيَانَ رجل شَحِيح، لا يعطيني مِنَ النفَقَةِ مَا يكفيني وَيَكْفِى بَنىَّ، إلا ما أخَذْتُ مِنْ مَالِهِ بِغَيْرِ عِلْمِهِ، فَهَلْ عَلَيَّ في ذلكَ مِن جُنَاح؟
فَقَالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم: «خُذِي منْ مَالِهِ بِالْمَعْرُوفِ مَا يَكْفِيكِ ويَكْفي بَنِيكِ».
ما يستفاد من الحديث:
يؤخذ من هذا الحديث فوائد وأحكام، سألخصها من شرح الإمام النووي على صحيح مسلم وأزيد عليها ما تيسر نقله أو فهمه، وبالله التوفيق:
1- وجوب نفقة الزوجة والأولاد الفقراء والصغار.
2- أن النفقة تقدر بكفاية المنفق عليه وحاله.
3- جواز سماع كلام الأجنبية للحاجة. والله المستعان.
4 جواز ذكر الإنسان بما يكره للشكوى والفتيا، إذا لم يقصد الغيبة.
5- فيه مسألة الظفر وهى أن من كان له على إنسان حق فمنعه منه وتمكن من أخذه منه بغير علمه فهل له ذلك أو لا؟ المذاهب فيها ثلاثة:
1- المنع مطلقاً.
2- والجواز مطلقاً.
3- والتفصيل: وهو أنه من كان حقه ظاهرا كالنفقة جاز أن يأخذ بقدر حقه وإن كان سبب حقه خفيا، كوديعة، لم يجز له أن يأخذ شيئا لقوله عليه الصلاة والسلام: «ولا تخن من خانك» وفيه فتح باب للشر، وسد الذرائع مطلوب. وهذا التفصيل هو الصحيح من الأقوال.
6- اختلف العلماء: هل هذا الحكم من الني صلى الله عليه وسلم لهند قضاء أو فتوى؟ فيترتب عليهما ما يأتي؟:
إن كان قضاء، ففيه الحكم على الغائب، وإن كانت فتوى فليس فيه دليل.
إن كان قَضاء، ففيه أنه لا يجوز لغير هند أن تستقل بنفقة أولادها إلا بإذن القاضي، وإن كانت فتوى فيجوز الإنفاق لكل امرأة أشبهتها.
والصحيح أنها فتيا من النبي صلى الله عليه وسلم لا قضاء، ومذهبنا أنه قضاء.
7- وفيه اعتماد العرف في الأمور التي ليس فيها تحديد شرعي، فقد جعل لها من النفقة الكفاية، وهذا راجع إلى ما كان متعارفا في نفقة مثلها وأولادها.
الحديث الثالث:
عَنْ أم سَلَمةَ رَضيَ الله عَنْهَا: أنَّ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم سَمِعَ جَلَبَةَ خَصْمٍ بِبَابِ حُجْرَتِهِ، فَخَرَجَ إلَيْهمْ فَقَالَ: «ألا إنَّمَا أنَا بَشَرٌ مِثْلكُمْ وَإنَّمَا يَأتيني الْخَصْمُ، فَلَعَلِّ بَعْضَكُم أن يَكُونَ أبْلَغَ مِنْ بَعْض، فَأحْسَبُ أنهُ صَادِقٌ فَأقْضي لَهُ، فمَن قَضَيْتُ لَهُ بِحَق مسلم، فَإنَّمَا هِي قِطْعَةٌ مِنَ النًارِ فَلْيَحْمِلْهَا أوْ يَذرْهَا».
الغريب:
جلبة: بفتح الجيم واللام والباء الموحدة، وهي اختلاط الأصوات.
لِيَذرْهَا: ليتركها، و(أو) ليست للتخيير، بل للتهديد والوعيد.
المعنى الإجمالي:
سمع النبي صلى الله عليه وسلم أصوات خصوم مختلطة، لما بينهم من المنازعة والمشاجرة عند بابه فخرج إليهم ليقضي بينهم فقال:
إنما أنا بشر مثلكم، لا أعلم الغيب، ولا أخبر ببواطن الأمور، لأعلم الصادق منكم من الكاذب، وإنما يأتنيي الخصم لأحكم بينهم، وحكمي مبني على ما أسمعه من حجج الطرفين وبيِّناتهم وأيْمَانِهِم، فلعل بعضكم يكون أبلغ وأفصح وأبينَ من بعض فأحسب أنه صادق مُحِق، فأقضي له.
مع أن الحق- في الباطن- بجانب خصمه، فأعلموا أن حكمي في ظواهر الأمور لا بواطنها، فلن يحل حراما، ولذا فإن من قضيت له بحق غيره وهو يعلم أنه مبطل، فإنما أقطع له قطعة من النار، فليحملها إِن شاء، أو ليتركها. فعقاب ذلك راجع عليه، والله بالمرصاد للظالمين.
ما يستفاد من الحديث:
1- فيه أن النبي صلى الله عليه وسلم لا يعلم الغيب والأمور الباطنة إلا بتعليم الله له، ونبه على ذلك بقوله: «إنما أنا بشر».
فلا يجوز أن يرفع فوق قدره الرفيع، الذي جعله الله له، صلى الله عليه وسلم.
2- أنه يجوز عليه صلى الله عليه وسلم في أمور الأحكام، ما يجوز على غيره. فإنه إنما يحكم بين الناس بالظاهر، والله يتولى السرائر، فهو يحكم بالبينة واليمين ونحو ذلك من أحكام الظاهر، مع إمكان كونه في الباطن خلاف ذلك.
3- إنما كلف بالحكم بالظاهر، مع إمكان إطلاع الله إياه على الباطن، فيحكم بيقين نفسه من غير حجة أو يمين، ليكون قدوة وتشريعا لأمته.
4- فيه تسلية وعزاء للحكام.
فإنه إذا كان النبي صلى الله عليه وسلم قد يظن غير الصواب لقوة حجة الخصم فيحكم له، فإن غيره من باب أولى وأحرى.
5- اتفق الأصوليون على أنه صلى الله عليه وسلم لا يُقَر على خطأ. في الأحكام. فكيف التوفيق بين هذا الإجماع وهذا الحديث؟
قال النووي: والجواب: أنه لا تعارض، لأن مراد الأصوليين فيما حكم فيه باجتهاده.
وأما الذي في الحديث، فمعناه إذا حكم بغير اجتهاد كالبينة، فهذا إذا وقع منه ما يخالف ظاهره باطنه لا يسمى الحكم خطأ، بل الحكم صحيح بناء على ما استقر به التكليف، وهو وجوب العمل بالشاهدين مثلا، فإن كانا شاهدي زور أو نحو ذلك، فالتقصير منهما، بخلاف ما إذا أخطأ في الاجتهاد، فإن هذا الذي حكم به ليس هو حكم الشرع.
6- أن حكم الحاكم لا يحيل ما في الباطن، ولا يحل حراما، وهو مذهب جماهير علماء المسلمين، وفقهاء الأمصار، ومنهم الأئمة الثلاثة، مالك، والشافعي، وأحمد.
فإذا حكم له الحاكم بالزوجة التي يعلم أنه ليست له زوجة، فلا تحل له، أو بالمال الذي يعلم أنه مبطل في دعواه، فلا يحل له، ونحو ذلك.
7- التقييد ب (المسلم) خرج مخرج الغالب، وإلا فمثله الذمي والمعاهد.
8- قوله: «فليحملها أو ليذرها» فيه تهديد شديد ووعيد أكيد على من أخذ أموال الناس بالدعاوى الكاذبة والحيل المحرمة، فهذا التعبير شبيه بقوله تعالى {اعملوا ما شئتم}.
9- قال شيخ الإسلام: الصحابة إذا تكلموا باجتهادهم ينزهون شرع الرسول صلى الله عليه وسلم عن خطئهم وخطأ غيرهم كما قال ابن مسعود في المفوضة: أقول فيها برأي، فإن يكن صوابا فمن الله، وإن يكن خطأ فمني ومن الشيطان، والله. ورسوله بريئان منه وكذلك روي عن الصديق في الكلالة، وكذلك عن عمر.
الحديث الرابع:
عَنْ عَبْد الرَّحْمنِ بن أبي بَكْرَةَ قَالَ: كَتَبَ أبي وَكَتَبْتُ لهُ إلى ابنه عُبْد الله أبى بَكْرَةَ- وَهُوَ قَاض بِسِجِسْتَانَ-: أن لا تَحْكُمْ بَيْنَ اثْنَينِ وَأَنْتَ غَضْبَانُ، فَإني سَمعْتُ رسوُلَ اللّه صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: «لا يحَكُمْ أحد بَيْنَ اثْنَيْن وَهُوَ غَضْبَانُ».
وفي رواية: «لا يَقْضِيَنَّ حَكَمٌ بَيْنَ اثْنَيْن وَهُوَ غَضْبَانُ».
ما يستفاد من الحديث:
1- فيه أنه يحرم على القاضي أن يحكم بين الخصمين وهو غضبان. قال في (العدة شرح العمدة): لا نعلم بين أهل العلم خلافا في ذلك.
2- علة النهي أن الغضب يشوش على القاضي فيمنعه من سداد النظر في الدعوى، واستقامة الحال.
3- ألحق العلماء- لهذا المعنى- كل ما يمنع القاضي من حسن النظر في القضية ويشوش فكره من جوع مُقلِق، أو شبع مُفْرِط، أو هم مزعج، أو برد، أو حر شديدين، أو نحو ذلك مما يشغل الخاطر.
4- أنه إذا حكم في بعض هذه الأحوال فأصاب الحق، صح حكمه ونفذ.
5- في الحديث، النصح للمسلمين، لاسيما ولاة الأمر الذين- بصلاحهم واستقامة أحوالهم- يصلح المسلمون.
فنصحهم بالطرق الحسنة من أفضل القرَبِ والطاعات، ومن أرجى الوسائل لإصلاحهم.
الحديث الخامس:
عَنْ أبى بَكرْ رَضيَ اَللّه عَنْهُ قالَ: قَالَ رَسُول اللّه صلى الله عليه وسلم: «ألا أنبِّئُكُمْ بأكبرِ الْكبائِرِ»؟ ثَلاثاً: قُلْنَا: بَلَى يا رسول اللّه.
قَال: «الإشْرَاكُ بالله، وَعُقُوق الْوَالِدَيْنِ» وَكَانَ مُتَّكِئاً فَجَلَسَ فقال: «ألا وَقَوْلُ الَزُورِ؛ وشهادة الزُّورِ» فَمَا زَالَ يُكَرِّرُهَا حَتَّى قُلْنَا: لَيْتَهُ سَكَتَ.
المعنى الإجمالي:
يعظ النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه، مبينا لهم مهلكات الذنوب وموبقات المعاصي بطريق التنبيه، ليستعدوا لتلقي العلم وتتفتح أسماعهم لقبوله فقال: «ألا أنبئكم بأكبر الكبائر»؟ يكرر ذلك عليهم ثلاثا، ليشتاقوا إليه فيعلق بأذهانهم قلنا: بلى يا رسول اللّه. فابتدأ بأعظم الذنوب وأشدها خطرا، وهو الشرك بمن أسبغ عليك أنواع النعَم ودفع عنك أصناف النقَم.
فهل جزاؤه أن يشرك معه في عبادته غيره؟ فمن أشرك فجزاؤه الخلود في النار وبئس القرار.
ثم يُثَنَّى بحق أعظم الناس عليك مِنَةً. وأكبرهم حقاً، وهما الوالدان اللذان جعلهما الله السبب في وجودك في هذه الحياة، وأولياك من البر والعطف واللطف في ضعفك وصغرك، مالا تقدر على مكافأته.
فمن أكبر الكبائر، وأعظم الذنوب، جحد حقهما، وتناسى فضلهما، ومقابلة هذا الإحسان الكبير بالعقوق والكفران.
يحدث النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه بهذه المواعظ وهو متكئ.
فلما أراد أن يحذرهم من شهادة الزور، اهتم وتحفز، فاعتدل في جلسته لعظم الأمر وجلل الخطب فقال: «ألا وقول الزور، وشهادة، الزور».
فما زال يكررها ويحذر منها حتى اشتد به الأمر وتمنى الصحابة أن يسكت، لما حصل عنده من التأثر والتحمس عند ذكرها، لما في هذه الشهادة الآثمة من الأضرار الكثيرة والمفاسد الكبيرة، من تضليل الحكام عن صواب الحكم، ومن قطع حق المحق، ومن إدخال الظلم على المبطل، ومن الكذب عند القضاة وفي مقام الحكم، إلى غير ذلك من المفاسد التي يطول عدها، ولا يمكن حصرها. نسأل الله العافية منها.
ما يستفاد من الحديث:
1- تقسيم الذنوب إلى كبائر وصغائر، ويدل له أيضاً قوله تعالى: {إن تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَونَ عَنْهُ نُكَفِّر عَنْكُم سيِّئاتكم}.
2- اختلف العلماء في تمييز الكبيرة من الصغيرة.
وأحسن ما حدت به الكبيرة ما قاله شيخ الإسلام (ابن تيميه): إنها مافية حَد في الدنيا، أو وعيد في الآخرة، أو ختم بلعنة، أو غضب، أو نفي إيمان، أو دخول جنة فهو الكبيرة.
3- أن أعظم الذنوب الشرك بالله، لأنه جعله صدر الكبائر وقد قال تعالى {إن الله لا يَغْفِرُ أن يشرَكَ به وَيَغْفِرُ مَادونَ ذلِكَ لِمَنْ يشَاء} وهل هنا أشد من جحد نعم الرب تبارك وتعالى، بصرف شيء من عبادته إلى غيره؟!
4- عظم حقوق الوالدين، إذ قرن حقهما بحق الله تعالى.
وقد ذكر الله تعالى حقهما مع حقه في كثير من مواضع القرآن الكريم {أن اشكر لي وَلِوَاِلدَيْكَ} {وَقَضَى ربكَ أن لا تَعْبدوا إلا إياه وبالوالدين إحسانا}إلى غير ذلك من الآيات.
5- خطر شهادة الزور وقول الزور وتحريمه، فقد اهتم بهما النبي صلى الله عليه وسلم باعتدال هيئته، وتكرير التحذير منهما، لما فيهما من المفاسد العظيمة، من قطع حق صاحب الحق، وإدخال الظلم على المشهود له، والكذب، والبهتان، وتضليل القضاة، فيحكموا بما هو خلاف الحق في الباطن، إلى غير ذلك من المفاسد العظمى.
6- اهتم النبي صلى الله عليه وسلم لشهادة الزور، لأن الناس يتساهلون فيها فيجترئون عليها أكثر مما يجترئون على غيرها من المعاصي.
7- نصح النبي صلى الله عليه وسلم وتبليغه لأمته كل ما ينفعهم، وتحذيره مما يضرهم. فصلوات الله وسلامه عليه.
8- حسن تعليمه صلى الله عليه وسلم حينما ألقى عليهم هذه المسائل المهمة بطريق التنبيه، ليكون أعلق في أذهانهم، وأرسخ في قلوبهم.
9- يراد بعقوق الوالدين، كل ما يكرهان من الأقوال والأفعال. والنهىُ عن عقوقهما، يستلزم برهما، وهو القيام بما يحبانه- غير معصية الله- والبر بهما في الحياة وبعد وفاتهما.
وجاء النَهيُ عن عقوقهما بأقل مراتبه- وهو التأفف- إشارة إلى ما فوقه من أنواع الأذى.
الحديث السادس:
عَنْ ابْنِ عباس رَضيَ اللّه عَنْهُمَا: أنَّ النَّبي صلى الله عليه وسلم قَالَ: «لو يُعْطَى النَّاسُ بِدَعْوَاهُمْ لادَّعَى نَاسٌ دِمَاءَ رجال وأموالهم وَلكِنَّ الْيَمِين عَلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ».
المعنى الإجمالي:
يبيِّن النبي صلى الله عليه وسلم أن من ادَّعى على أحد، فعليه البينة لإثبات دعواه.
فإن لم يكن لديه بينة، فعلى المدَّعَى عليه اليمين لنفي ما ادُّعِىَ عليه من حق الدعوى، وصارت اليمين في جانبه، لأنها تكون مع الأقوى جانباً.
وقوى جانبه، لأن الأصل براءته مما وُجه إليه من الدعوى.
ثم ذكر النبي صلى الله عليه وسلم الحكمة في- كون البينة على المدعى واليمين على من أنكر، وهى أنه لو أعطي كل من ادعى دعوى ما ادعاه، لادَّعى من لا يراقب الله ولا يخشى عقابه- وما أكثرهم- على الأبرياء، دماء وأموالا يبهتونهم فيها.
ولكن الحكيم العليم جعل حدودا وأحكاماً لتخف وطأة الشر، ويقل الظلم وا لفساد.
ما يستفاد من الحديث:
1-قال ابن دقيق العيد: الحديث دليل على أنه لا يجوز الحكم إلا بالقانون الشرعي، الذي رتب، وإن غلب على الظن صدق المدعى.
2- أن اليمين على المدعى عليه. وفي رواية البيهقى: أن البينة على المدَّعى.
3- كون اليمين في جانب المدعى عليه لأنه أقوى، لأن الأصل براءة ذمته، فاكتفى منه باليمين.
4- الحكمة في عدم قبول دعوى المدعى إِلا بالبينة والاكتفاء من المدعى عليه باليمين ما نبه عليه النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: «لو يعطى الناس بدعواهم لادًعَى رجال دماء رجال وأموالهم».
5- بهذا تعلم أن هذا الحديث قاعدة عظمى من قواعد القضاء، فعليها يدور غالب الأحكام.
6- البينة: اسم لكل ما أبان الحق وأظهره، من الشهود وقرائن الحال، ووصف المدَعَى في نحو اللقطة.
قال ابن رجب: كل عين لم يدً عِهَا صاحب اليد، فمن جاء فوصفها بأوصافها الخفية فهي له. وفي هذه البيِّنات حيازة اليد.
فإن نازعه أحد ما في يده، فهي لصاحب اليد بيمينه، ما لم يأت المدعِى ببينة أقَوى من اليد.