فصل: إنما وظن

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: دلائل الإعجاز **


 إنما وظن

إن قيل‏:‏ مضيت في كلامك كله على أن إنما للخبر لا يجهله المخاطب ولا يكون ذكرك له لأن تفيده إياه‏.‏

وإنا لنراها في كثير من الكلام‏.‏

والقصد بالخبر بعدها أن تعلم السامع أمراً قد غلط فيه بالحقيقة واحتاج إلى معرفته كمثل ما ذكرت في أول الفصل الثاني من قولك‏:‏ إنما جاءني زيد لا عمرو‏.‏

وتراها كذلك تدور في الكتب للكشف عن معان غير معلومة ودلالة المتعلم منها على ما لا يعلم‏.‏

قيل‏:‏ أما ما يجيء في الكلام من نحو‏:‏ إنما جاء زيد لا عمرو فإنه وإن كان يكون إعلاماً لأمر لا يعلمه السامع فإنه لا بد مع ذلك من أن يدعى هناك فضل انكشاف وظهور في أن الأمر كالذي ذكر‏.‏

وقد قسمت في أول ما افتتحت القول فيها فقلت إنها تجيء للخبر لا يجهله السامع ولا ينكر صحته أو لما تنزل هذه المنزلة‏.‏

وأما ما ذكرت من أنها تجيء في الكتب لدلالة المتعلم على ما لم يعلمه فإنك إذا تأملت مواقعها وجدتها في الأمر الأكثر قد جاءت لأمر قد وقع العلم بموجبه وشيء يدل عليه‏.‏

مثال ذلك أن صاحب الكتاب قال في باب كان‏:‏ إذا قلت‏:‏ كان زيد فقد ابتدأت بما هو معروف عنده مثله عندك وإنما ينتظر الخبر‏.‏

فإذا قلت‏:‏ حليماً فقد أعلمته‏.‏

مثل ما علمت‏.‏

وإذا قلت‏:‏ كان حليماً فإنما ينتظر أن تعرفه صاحب الصفة‏.‏

وذاك أنه إذا كان معلوماً أنه لا يكون مبتدأ من غير خبر ولا خبر من غير مبتدأ كان معلوماً أنك إذا قلت‏:‏ كان زيد‏.‏

فالمخاطب ينتظر الخبر‏.‏

وإذا قلت‏:‏ كان حليماً أنه ينتظر الاسم فلم يقع إذاً بعد إنما إلا شيء كان معلوماً للسامع من قبل أن ينتهي إليه‏.‏

ومما الأمر فيه بين قوله في باب ظننت‏:‏ وإنما تحكي بعد قلت ما كان كلاماً لا قولاً وذلك أنه معلوم أنك لا تحكي بعد قلت إذا كنت تنحو نحو المعنى إلا ما كان جملة مفيدة‏.‏

فلا تقول‏:‏ قال فلان‏:‏ زيد وتسكت اللهم إلا أن تريد أنه نطق بالاسم على هذه الهيئة كأنك تريد أنه ذكره مرفوعاً‏.‏

ومثل ذلك قولهم‏:‏ إنما يحذف الشيء إذا كان في الكلام دليل عليه‏.‏

إلى أشباه ذلك مما لا يحصى‏.‏

فإن رأيتها قد دخلت على كلام هو ابتداء إعلام بشيء لم يعلمه السامع فلأن الدليل عليه حاضر منعه والشيء بحيث يقع العلم به عن كثب‏.‏

واعلم أنه ليس يكاد ينتهي ما يعرض بسبب هذا الحرف من الدقائق‏.‏

ومما يجب أن يعلم أنه إذا كان الفعل بعدها فعلاً لا يصح إلا من المذكور ولا يكون من غيره كالتذكر الذي يعلم أنه لا يكون إلا من أولي الألباب لم يحسن العطف بلا فيه كما يحسن فيما لا يختص بالمذكور ويصح من غيره‏.‏

تفسير هذا أنه لا يحسن أن تقول‏:‏ إنما يتذكر أولو الألباب لا الجهال‏.‏

كما يحسن أن تقول‏:‏ إنما يجيء زيد لا عمرو‏.‏

ثم إن النفي فيما يجيء فيه النفي يتقدم تارة ويتأخر أخرى‏.‏

فمثال التأخير ما تراه في قولك‏:‏ إنما يجيء زيد لا عمرو‏.‏

وكقول لبيد من الرمل‏:‏ إنما يجزي الفتى ليس الجمل ومثال التقديم قولك‏:‏ ما جاءني زيد وإنما جاءني عمرو‏.‏

وهذا مما أنت تعلم به مكان الفائدة فيها وذلك أنك تعلم ضرورة أنك لو لم تدخلها وقلت‏:‏ ما جاءني زيد وجاءني عمرو لكان الكلام مع من ظن أنهما جاءاك جميعاً وأن المعنى الآن مع دخولها أن كلام مع من غلط في عين الجائي فظن أنه كان زيداً لا عمراً‏.‏

وأمر آخر وهو ليس ببعيد أن يظن الظان أنه ليس في انضمام ما إلى إن فائدة أكثر من أنها تبطل عملها حتى ترى النحويين لا يزيدون في أكثر كلامهم على أنها كافة‏.‏

ومكانها هاهنا يزيل هذا الظن ويبطله‏.‏

وذلك أنك ترى أنك لو قلت‏:‏ ما جاءني زيد وإن عمراً جاءني لم يعقل منه أنك أردت أن الجائي عمرو لا زيد بل يكون دخول إن كالشيء الذي لا يحتاج إليه ووجدت المعنى ينبو عنه‏.‏

ثم اعلم أنك إذا استقريت وجدتها أقوى ما تكون وأعلق ما ترى بالقلب إذا كان لا يراد بالكلام بعدها نفس معناه ولكن التعريض بأمر هو مقتضاه نحو أنا نعلم أن ليس الغرض من قوله تعالى‏:‏ ‏"‏ إنما يتذكر أولو الألباب ‏"‏ أن يعلم السامعون ظاهر معناه ولكن أن يذم الكفار وأن ئقال‏:‏ إنهم من فرط العناد‏.‏

ومن غلبة الهوى عليهم في حكم من ليس بذي عقل‏.‏

وإنكم إن طمعتم منهم في أن ينظروا ويتذكروا كنتم كمن طمع في ذلك من غير أولي الألباب‏.‏

وكذلك قوله‏:‏ ‏"‏ إنما أنت منذر من يخشاها ‏"‏ وقوله عز اسمه‏:‏ ‏"‏ إنما تنذر الذين يخشون ربهم بالغيب ‏"‏ المعنى على أن من لم تكن له هذه الخشية فهو كأنه ليس له أذن تسمع وقلب يعقل‏.‏

فالإنذار معه كلا إنذاز‏.‏

ومثال ذلك من الشعر قوله من مجزوء الرمل‏:‏ أنا لم أرزق محبتها إنما للعبد ما رزقا الغرض أن يفهمك من طريق التعريض أنه قد صار ينصح نفسه ويعلم أنه ينبغي له أن يقطع الطمع من وصلها وييأس من أن يكون منها إسعاف‏.‏

ومن ذلك قوله من البسيط‏:‏ وإنما يعذر العشاق من عشقا يقول‏:‏ إنه ليس ينبغي للعاشق أن يلوم من يلومه في عشقه وأنه ينبغي أن لا ينكر ذلك منه فإنه لا يعلم كنه البلوى في العشق‏.‏

ولو كان ابتلي به لعرف ما هو فيه فعذره‏.‏

وقوله من الكامل‏:‏ ما أنت بالسبب الضعيف وإنما نجح الأمور بقوة الأسباب فاليوم حاجتنا إليك وإنما يدعى الطبيب لساعة الأوصاب يقول في البيت الأول‏:‏ إنه ينبغي أن أنجح في أمري حين جعلتك السبب إليه‏.‏

ويقول في الثاني‏:‏ إنا قد وضعنا الشيء في موضعه وطلبنا الأمر من جهته حين استعنا بك فيما عرض من الحاجة وعولنا على فضلك‏.‏

كما أن من عول على الطبيب فيما يعرض له من السقم كان قد أصاب بالتعويل موضعه وطلب الشيء من معدنه‏.‏

ثم إن العجب في أن هذا التعريض الذي ذكرت لك لا يحصل من دون إنما فلو قلت‏:‏ يتذكر أولو الألباب لم يدل على ما دل عليه في الآية وإن كان الكلام لم يتغير في نفسه وليس إلا أنه ليس فيه إنما‏.‏

والسبب في ذلك أن هذا التعريض إنما وقع بأن كان من شأن إنما أن تضمن الكلام معنى النفي من بعد الإثبات والتصريح بامتناع التذكر ممن لا يعقل‏.‏

وإذا اسقطت من الكلام فقيل‏:‏ يتذكر أولو الألباب كان مجرد وصف لأولي الألباب بأنهم يتذكرون‏.‏

ولم يكن فيه معنى نفي للتذكر عمن ليس منهم‏.‏

ومحال أن يقع تعرض لشيء ليس له في الكلام ذكر ولا فيه دليل عليه‏.‏

فالتعريض بمثل هذا أعني بأن يقول‏:‏ يتذكر أولو الألباب بإسقاط إنما يقع إذاً إن وقع بمدح إنسان بالتيقظ وبأنه فعل ما فعل وتنبه لما تنبه له لعقله ولحسن تمييزه كما يقال‏:‏ كذلك يفعل العاقل وهكذا يفعل كريم‏.‏

وهذا موضع فيه دقة وغموض وهو مما لا يكاد يقع في نفس أحد أنه ينبغي أن يتعرف سببه ويبحث عن حقيقة الأمر فيه‏.‏

ومما يجب لك أن تجعله على ذكر منك من معاني إنما ما عرفتك أولاً من أنها قد تدخل في الشيء على أن يخيل فيه المتكلم أنه معلوم ويدعي أنه من الصحة بحيث يدفعه دافع كقوله‏:‏ إنما مصعب شهاب من الله ومن اللطيف في ذلك قول قتب بن حصن من الطويل‏:‏ ألا أيها الناهي فزارة بعدما أجدت لغزو إنما أنت حالم ومن ذلك قوله تعالى حكاية عن اليهود‏:‏ ‏"‏ وإذا قيل لهم لا تفسدوا في الأرض قالوا إنما نحن مصلحون ‏"‏ دخلت إنما لتدل على أنهم حين ادعوا لأنفسهم أنهم مصلحون أظهروا أنهم يدعون من ذلك أمراً ظاهراً معلوماً‏.‏

وكذلك أكد الأمر في تكذيبهم والرد عليهم فجمع بين الاالذي هو للتنبيه وبين إن الذي هو للتأكيد فقال‏:‏ ‏"‏ ألا إنهم هم المفسدون ولكن لا يشعرون ‏"‏‏.‏

 المحاكاة والنظم

أعلم أنه لا يصح تقدير الحكاية في النظم والترتيب بل لن تعدو الحكاية الألفاظ وأجراس الحروف وذلك أن الحاكي هو من يأتي بمثل ما أتى به المحكي عنه ولا بد أن تكون حكايته فعلاً له وأن يكون بها عاملاً عملاً مثل عمل المحكي عنه نحو أن يصوغ إنسان خاتماً فيبدع فيه صنعة ويأتي في صناعته بخاصة تستغرب فيعمد واحد آخر فيعمل خاتماً على تلك الصورة والهيئة ويجيء بمثل صنعته فيه ويؤديها كما هي فيقال عند ذلك‏:‏ إنه قد حكى عمل فلان وصنعة فلان‏.‏

والنظم والترتيب في الكلام كما بينا عمل يعمله مؤلف الكلام في معاني الكلم لا في ألفاظها‏.‏

وهو بما يصنع في سبيل من يأخذ الأصباغ المختلفة فيتوخى فيها ترتيباً يحدث عنه ضرب من النقش والوشي‏.‏

وإذا كان الأمر كذلك فإنا إن تعدينا بالحكاية الألفاظ إلى النظم والترتيب أدى ذلك إلى المحال وهو أن يكون المنشد شعر امرىء القيس قد عمل في المعاني وترتيبها واستخراج النتائج والفوائد مثل عمل امرىء القيس وأن يكون حاله إذا أنشد قوله من الطويل‏:‏ فقلت له لما تمطى بصلبه وأردف أعجازاً وناء بكلكل حال الصائغ ينظر إلى صورة قد عملها صائغ من ذهب له أو فضة فيجيء بمثلها في ذهبه وفضته‏.‏

وذلك يخرج بمرتكب إن ارتكبه إلى أن يكون الراوي مستحقاً لأن يوصف بأنه استعار وشبه وأن يجعل كالشاعر في كل ما يكون به ناظماً فيقال إنه جعل هذا فاعلاً وذاك مفعولاً وهذا مبتدأ وذاك خبراً‏.‏

وجعل هذا حالاً وذاك صفة‏.‏

وأن يقال نفى كذا وأثبت كذا وأبدل كذا من كذا وأضاف كذا إلى كذا وعلى هذا السبيل كما يقال ذاك في الشاعر‏.‏

وإذا قيل ذاك لزم منه أن يقال فيه‏:‏ صدق وكذب كما يقال في المحكي عنه وكفى بهذا بعداً وإحالة‏.‏

ويجمع هذا كله أنه يلزم منه أن يقال إنه قال شعراً كما يقال فيمن حكى صنعة الصائغ في خاتم قد عمله‏:‏ إنه قد صاغ خاتماً‏.‏

وجملة الحديث أنا نعلم ضرورة أنه لا يتأتى لنا أن ننظم كلاماً من غير روية وفكر فإن كان راوي الشعر ومنشده يحكي نظم الشاعر على حقيقته فينبغي أن لا يتأتى له رواية شعره إلا بروية وإلا بأن ينظر في جميع ما نظر فيه الشاعر من أمر النظم وهذا ما لا يبقى معه موضع عذر للشاك‏.‏

هذا وسبب دخول الشبهة على من دخلت عليه أنه لما رأى المعاني لا تتجلى للسامع إلا من الألفاظ وكان لا يوقف على الأمور التي بتوخيها يكون النظم إلا بأن ينظر إلى الألفاظ مرتبة على الأنحاء التي يوجبها ترتيب المعاني في النفس‏.‏

وجرت العادة بأن تكون المعاملة مع الألفاظ فيقال‏:‏ قد نظم ألفاظاً فأحسن نظمها وألف كلماً فأجاد تأليفها جعل الألفاظ الأصل في النظم وجعله يتوخى فيها أنفسها وترك أن يفكر في الذي بيناه من أن النظم هو توخي معاني النحو في معاني الكلم وأن توخيها في متون الألفاظ محال فلما جعل هذا في نفسه ونشب هذا الاعتقاد به خرج له من ذلك أن الحاكي إذا أدى ألفاظ الشعر على النسق الذي سمعها عليه كان قد حكى نظم الشاعر كما حكى لفظه وهذه شبهة قد ملكت قلوب الناس وعششت في صدورهم وتشربتها نفوسهم حتى إنك لترى كثيراً منهم وهو من حلولها عندهم محل العلم الضروري بحيث إن أومأت له إلى شيء مما ذكرناه اشمأز لك وسك سمعه دونك وأظهر التعجب منك وتلك جريرة ترك النظر وأخذ الشيء من غير معدنه‏.‏

ومن الله التوفيق‏.‏

 ضرورة ترتيب الكلام ونسبته إلى صاحبه

اعلم أنا إذا أضفنا الشعر أو غير الشعر من ضروب الكلام إلى قائله لم تكن إضافتنا له من حيث هو كلم وأوضاع لغة ولكن من حيث توخي فيها النظم الذي بينا أنه عبارة عن توخي معاني النحو في معاني الكلم وذاك أن من شأن الإضافة الاختصاص فهي تتناول الشيء من الجهة التي تختص منها بالمضاف إليه‏.‏

فإذا قلت‏:‏ غلام زيد تناولت الإضافة للغلام من الجهة التي يختص منها بزيد وهو كونه مملوكاً وإذا كان الأمر كذلك فينبغي لنا أن ننظر في الجهة التي يختص منها الشعر بقائله‏.‏

وإذا نظرنا وجدناه يختص به من جهة توخيه في معاني الكلم التي ألفه منها ما توخاه من معاني النحو‏.‏

ورأينا أنفس الكلم بمعزل عن الإختصاص ورأينا حالها معها حال الإبريسم مع الذي ينسج منه الديباج وحال الفضة والذهب مع من يصوغ منهما الحلي فكما لا يشتبه الأمر في أن الديباج لايختص بناسجه من حيث الإبريسم والحلي بصائغها من حيث الفضة والذهب ولكن من جهة العمل والصنعة كذلك ينبغي أن لا يشتبه أن الشعر لايختص بقائله من جهة أنفس الكلم وأوضاع اللغة‏.‏

ويزداد تبيناً لذلك بأن ينظر في القائل إذا أضفته إلى الشعر فقلت‏:‏ امرؤ القيس قائل هذا الشعر‏.‏

من أين جعلته قائلاً له من حيث نطق بالكلم وسمعت ألفاظها من فيه أم من حيث صنع في معانيها ما صنع وتوخى فيها ما توخى فإن زعمت أنك جعلته قائلاً له من حيث إنه نطق بالكلم وسمعت ألفاظها من فيه على النسق المخصوص فاجعل راوي الشعر قائلاً له فإنه ينطق بها ويخرجها من فيه على الهيئة والصورة التي نطق بها الشاعر وذلك ما لا سبيل لك إليه‏.‏

فإن قلت‏:‏ إن الراوي وإن كان نطق بألفاظ الشعر على الهيئة والصورة التي نطق بها الشاعر فإنه لم يبتدىء فيها النسق والترتيب وإنما ذلك شيء ابتدأه الشاعر‏.‏

فلذلك جعلته القائل له دون الراوي‏.‏

قيل لك‏:‏ خبرنا عنك أترى أنه يتصور أن يجب لألفاظ الكلم التي تراها في قوله من الطويل‏:‏ قفا نبك من ذكرى حبيب ومنزل هذا الترتيب من غير أن يتوخى في معانيها ما تعلم أن امرأ القيس توخاه من كون نبك جواباً للأمر وكون من معدية له إلى ذكرى وكون ذكرى مضافة إلى حبيب وكون منزل معطوفاً على حبيب أم ذلك محال فإن شككت في استحالته لم تكلم وإن قلت‏:‏ نعم هو محال‏.‏

قيل لك‏:‏ فإذا كان محالاً أن يجب في الألفاظ ترتيب من غير أن يتوخى في معانيها معاني النحو كان قولك‏:‏ إن الشاعر ابتدأ فيها ترتيباً قولاً بما لا يتحصل‏.‏

وجملة الأمر أنه لا يكون ترتيب في شيء حتى يكون هناك قصد إلى صورة وصنعة إن لم يقدم فيه ما قدم ولم يؤخر ما أخر وبدىء بالذي ثني به أو ثني بالذي ثلث به لم تحصل لك تلك الصورة وتلك الصنعة‏.‏

وإذا كان كذلك فينبغي أن ينظر إلى الذي يقصد واضع الكلام أن يحصل له من الصورة والصنعة‏:‏ أفي الألفاظ يحصل له ذلك أم في معاني الألفاظ وليس في الإمكان أن يشك عاقل إذا نظر أن ليس ذلك في الألفاظ وإنما الذي يتصور أن يكون مقصوداً في الألفاظ هو الوزن وليس هو من كلامنا في شيء لأنا نحن فيما لا يكون الكلام إلا به وليس للوزن مدخل في ذلك‏.‏

 ضرورة ربط اللفظ بالمعنى

واعلم أني على طول ما أعدت وأبدأت وقلت وشرحت في هذا الذي قام في أوهام الناس من حديث اللفظ لربما ظننت أني لم أصنع شيئاً وذاك أنك ترى الناس كأنه قد قضي عليهم أن يكونوا في هذا الذي نحن بصدده على التقليد البحت وعلى التوهم والتخيل‏.‏

وإطلاق اللفظ من غير معرفة بالمعنى قد صار ذاك الدأب والديدن واستحكم الداء منه الاستحكام الشديد‏.‏

وهذا الذي بيناه وأوضحناه كأنك ترى أبداً حجاباً بينهم وبين أن يعرفوه وكأنك تسمعهم منه شيئاً تلفظه أسماعهم وتنكره نفوسهم‏.‏

وحتى كأنه كلما كان الأمر أبين وكانوا عن العلم به أبعد وفي توهم خلافه أقعد وذاك لأن الاعتقاد الأول قد نشب في قلوبهم وتأشب لأ فيها ودخل بعروقه في نواحيها وصار كالنبات السوء الذي كلما قلعته عاد فنبت‏.‏

والذي له صاروا كذلك أنهم حين رأوهم يفردون اللفظ عن المعنى ويجعلون له حسناً على حدة ورأوهم قد قسموا الشعر فقالوا‏:‏ إن منه ماحسن لفظه ومعناه ومنه ما حسن لفظه دون معناة ومنه ما حسن معناه دون لفظه ورأوهم يصفون اللفظ بأوصاف لا يصفون بها المعنى ظنوا أن للفظ من حيث هو لفظ حسناً ومزية ونبلاً وشرفاً وأن الأوصاف التي نحلوه إياها هي أوصافه على الصحة‏.‏

وذهبوا عما قدمنا شرحه من أن لهم في ذلك رأياً وتدبيراً وهو أن يفصلوا بين المعنى الذي هو الغرض وبين الصورة التي يخرج فيها فنسبوا ما كان من الحسن والمزية في صورة المعنى إلى اللفظ ووصفوه في ذلك بأوصاف هي تخبر عن أنفسها أنها ليست له كقولهم إنه حلي المعنى وإنه كالوشي عليه وإنه قد كسب المعنى دلا وشكلاً وإنه رشيق أنيق وإنه متمكن وإنه على قدر المعنى لا فاضل ولا مقصر إلى أشباه ذلك مما لا يشك أنه لا يكون وصفاً له من حيث هو لفظ وصدى صوت‏.‏

إلا أنهم كأنهم رأوا بسلاً حراماً أن يكون لهم في ذلك فكر وروية وأن يميزوا فيه قبيلاً من دبير‏.‏

ومما الصفة فيه للمعنى وإن جرى في ظاهر المعاملة على اللفظ إلا أنه يبعد عند الناس كل البعد أن يكون الأمر فيه كذلك وأن لا يكون من صفة اللفظ بالصحة والحقيقة وصفنا اللفظ بأنه مجاز‏.‏

وذاك أن العادة قد جرت بأن يقال في الفرق بين الحقيقة والمجاز‏:‏ الحقيقة أن يقر اللفظ على أصله في اللغة والمجاز أن يزال عن موضعه ويستعمل في غير ما وضع له فيقال‏:‏ أسد ويراد شجاع‏.‏

وبحر ويراد جواد‏.‏

وهو وإن كان شيئاً قد تحكم في النفوس حتى إنك ترى الخاصة فيه كالعامة فإن الأمر بعد فيه على خلافه‏.‏

وذاك أنا إذا حققنا لم نجد لفظ أسد قد استعمل على القطع والبت في غير ما وضع له‏.‏

ذاك لأنه يجعل في معنى شجاع على الإطلاق ولكن جعل الرجل بشجاعته أسداً فالتجوز في أن ادعيت للرجل أنه في معنى الأسد وأنه كأنه هو في قوة قلبه وشدة بطشه وفي أن الخوف لا يخامره والذعر لا يعرض له‏.‏

وهذا إن أنت حصلت تجوز منك في معنى اللفظ وإنما يكون اللفظ مزالاً بالحقيقة عن موضعه ومنقولاً عما وضع له أن لو كنت تجد عاقلاً يقول‏:‏ هو أسد وهو لا يضمر في نفسه تشبيهاً له بالأسد ولا يريد إلا ما يريده إذا قال شجاع وذلك ما لا يشك في بطلانه‏.‏

وليس العجب إلا أنهم لا يذكرون شيئاً من المجاز إلا قالوا‏:‏ إنه أبلغ من الحقيقة فليت شعري إن كان لفظ أسد قد نقل عما وضع له في اللغة وأزيل عنه وجعل يراد به شجاع هكذا غفلاً ساذجاً‏.‏

فمن أين يجب أن يكون قولنا‏:‏ أسد أبلغ من قولنا شجاع وهكذا الحكم في الاستعارة هي وإن كانت في ظاهر المعاملة من صفة اللفظ وكنا نقول‏:‏ هذه لفظة مستعارة وقد استعير له اسم الأسد إن مآل الأمر إلى أن القصد بها إلى المعنى‏.‏

يدلك على ذلك أنا نقول‏:‏ جعله أسداً وجعله بدراً وجعله بحراً‏.‏

فلو لم يكن القصد بها إلى المعنى لم يكن لهذا الكلام وجه لأن جعل لا تصلح إلا حيث يراد إثبات صفة للشيء‏.‏

كقولنا‏:‏ جعلته أميراً وجعلته واحد دهره تريد‏:‏ أثبت له ذلك‏.‏

وحكم جعل إذا تعدى إلى مفعولين حكم صير فكما لا تقول‏:‏ صيرته أميراً إلا على معنى أنك أثبت له صفة الإمارة كذلك لا يصح أن تقول‏:‏ جعلته أسداً إلا على معنى أنك جعلته في معنى الأسد‏.‏

ولا يقال‏:‏ جعلته زيداً‏.‏

بمعنى سميته زيداً ولا يقال للرجل‏:‏ اجعل ابنك زيداً بمعنى سمه زيداً وولد لفلان ابن فجعله زيداً‏.‏

وإنما يدخل الغلط في ذلك على من لا يحصل‏.‏

فأما قوله تعالى‏:‏ ‏"‏ وجعلوا الملائكة الذين هم عباد الرحمن إناثاً ‏"‏ فإنما جاء على الحقيقة التي وصفتها وذاك أن المعنى على أنهم أثبتوا للملائكة صفة الإناث واعتقدوا وجودها فيهم‏.‏

وعن هذا الاعتقاد صدر عنهم ما صدر من الاسم أعني إطلاق اسم البنات‏.‏

وليس المعنى أنهم وضعوا لها لفظ الإناث أو لفظ البنات اسماً من غير اعتقاد معنى وإثبات صفة‏.‏

هذا محال لا يقوله عاقل أما تسمع قول الله تعالى‏:‏ ‏"‏ أشهدوا خلقهم ستكتب شهادتهم ويسألون ‏"‏ فإن كانوا لم يزيدوا على أن أجروا الاسم على الملائكة ولم يعتقدوا إثبات صفة ومعنى بإجرائه عليهم فأي معنى لأن يقال‏:‏ أشهدوا خلقهم هذا ولو كانوا لم يقصدوا إثبات صفة ولم يزيدوا على أن وضعوه اسماً لما استحقوا إلا اليسير من الذم ولما كان هذا القول منهم كفراً والأمر في ذلك أظهر من أن يخفى‏.‏

وجملة الأمر أنه إن قيل‏:‏ إنه ليس في الدنيا علم قد عرض للناس فيه من فحش الغلط ومن قبيح التورط من الذهاب مع الظنون الفاسدة ما عرض لهم في هذا الشأن ظننت أن لا يخشى على من يقوله الكذب‏.‏

وهل عجب أعجب من قوم عقلاء يتلون قول الله تعالى‏:‏ ‏"‏ قل لئن اجتمعت الانس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيراً ‏"‏ ويؤمنون به ويدينون بأن القرآن معجز ثم يصدون بأوجههم عن برهان الإعجاز ودليله ويسلكون غير سبيله‏.‏

ولقد جنوا لو دروا ذاك عظيماً‏.‏

واعلم أنه وإن كانت الصورة في الذي أعدنا وأبدأنا فيه من أن لا معنى للنظم غير توخي معاني النحو فيما بين الكلم قد بلغت في الوضوح والظهور والانكشاف إلى أقصر الغاية وإلى أن تكون الزيادة عليه كالتكلف لما لا يحتاج إليه فإن النفس تنازع إلى تتبع كل ضرب من الشبهة يرى أنه يعرض للمسلم نفسه عند اعتراض الشك‏.‏

وإنا لنرى أن في الناس من إذا رأى أنه يجري في القياس وضرب المثل أن تشبه الكلم في ضم بعضها إلى بعض بضم غزل الإبريسم بعضه إلى بعض ورأى أن الذي ينسج الديباج ويعمل النقش والوشي لا يصنع بالإبريسم الذي ينسج منه شيئاً غير أن يضم بعضه إلى بعض ويتخير للأصباغ المختلفة المواقع التي يعلم أنه إذا أوقعها فيها حدث له في نسجه ما يريد من النقش والصورة جرى في ظنه أن حال الكلم في ضم بعضها إلى بعض وفي تخير المواقع لها حال خيوط الإبريسم سواء ورأيت كلامه كلام من لا يعلم أنه لا يكون الضم فيها ضماً ولا الموقع موقعاً حتى يكون قد توخى فيها معاني النحو وأنك إن عمدت إلى ألفاظ فجعلت تتبع بعضها بعضاً من غير أن تتوخى فيها معاني النحو لم تكن صنعت شيئاً تدعى به مؤلفاً وتشبه معه بمن عمل نسجاً أو صنع على الجملة صنيعاً ولم يتصور أن تكون قد تخيرت لها المواقع‏.‏

وفساد هذا وشبيهه من الظن وإن كان معلوماً ظاهراً فإن هاهنا استدلالاً لطيفاً تكثر بسببه الفائدة وهو أنه يتصور أن يعمد عامد إلى نظم كلام بعينه فيزيله عن الصورة التي أرادها الناظم له ويفسدها عليه من غير أن يحول منه لفظاً عن موضعه أو يبدله بغيره أو يغير شيئاً من ظاهر أمره على حال‏.‏

مثال ذلك أنك إن قدرت في بيت أبي تمام من الطويل‏:‏ لعاب الأفاعي القاتلات لعابه وأري الجنى اشتارته أيد عواسل أن لعاب الأفاعي مبتدأ ولعابه خبر كما يوهمه الظاهر أفسدت عليه كلامه وأبطلت الصورة التي أرادها فيه وذلك أن الغرض أن يشبه مدار قلمه بلعاب الأفاعي على معنى أنه إذا كتب في إقامة السياسات وكذلك الغرض أن يشبه مداده بأري الجني على معنى أنه إذا كتب في العطايا والصلات أوصل به إلى النفوس ما تحلو مذاقته عندها وأدخل السرور واللذة عليها‏.‏

وهذا المعنى إنما يكون إذا كان لعابه مبتدأ ولعاب الأفاعي خبراً‏.‏

فأما تقديرك أن يكون لعاب الأفاعي مبتدأ و لعابه خبراً فيبطل ذلك ويمنع منه البتة ويخرج بالكلام إلى ما لا يجوز أن يكون مراداً في مثل غرض أبي تمام وهو أن يكون أراد أن يشبه لعاب الأفاعي بالمداد ويشبه كذلك الأري به‏.‏

فلو كان حال الكلم في ضم بعضها إلى بعض كحال غزل الإبريسم لكان ينبغي أن لا تتغير الصورة الحاصلة من نظم كلم حتى تزال عن مواضعها‏.‏

كما لا تتغير الصورة الحادثة عن ضم غزل الإبريسم بعضه إلى بعض حتى تزال الخيوط عن مواضعها‏.‏

لعاب الأفاعي القاتلات لعابه سبيل قولهم‏:‏ عتابك السيف‏.‏

وذلك أن المعنى في بيت أبي تمام على أنك تشبه شيئاً بشيء لجامع بينهما في وصف‏.‏

وليس المعنى في عتابك السيف على أنك تشبه عتابه بالسيف ولكن على أن تزعم أنه يجعل السيف بدلاً من العتاب‏.‏

أفلا ترى أنه يصح أن تقول‏:‏ مداد قلمه قاتل كسم الأفاعي ولا يصح أن تقول‏:‏ عتابك كالسيف‏.‏

اللهم إلا أن خرج إلى باب آخر وشيء ليس هو غرضهم بهذا الكلام فتريد أنه قد عاتب عتاباً خشناً مظلماً‏.‏

ثم إنك إن قلت‏:‏ السيف عتابك خرجت به إلى معنى ثالث وهو أن تزعم أن عتابه‏.‏

قد بلغ في إيلامه وشدة تأثيره مبلغاً صار له السيف كأنه ليس بسيف‏.‏

واعلم أنه إن نظر ناظر في شأن المعاني والألفاظ إلى حال السامع فإذا رأى المعاني تقع في نفسه من بعد وقوع الألفاظ في سمعه ظن لذلك أن المعاني تبع للألفاظ في ترتيبها‏.‏

فإن هذا الذي بيناه يريه فساد هذا الظن‏.‏

وذلك أنه لو كانت المعاني تكون تبعاً للألفاظ في ترتيبها لكان محالاً أن تتغير المعاني والألفاظ بحالها لم تزل عن ترتيبها فلما رأينا المعاني قد جاز فيها التغير من غير أن تتغير الألفاظ وتزول عن أماكنها علمنا أن الألفاظ هي التابعة والمعاني هي المتبوعة‏.‏

واعلم أنه ليس من كلام يعمد واضعه فيه إلى معرفتين فيجعلهما مبتدأ وخبراً ثم يقدم الذي هو الخبر إلا أشكل الأمر عليك فيه فلم تعلم أن المقدم خبر حتى ترجع إلى المعنى وتحسن التدبر‏.‏

أنشد الشيخ أبو علي في التذكرة من الخفيف‏:‏ نم وإن لم أنم كراي كراكا ثم قال‏:‏ ينبغي أن يكون كراي خبراً مقدماً ويكون الأصل كراك كراي أي نم وإن لم أنم فنومك نومي‏.‏

كما تقول‏:‏ قم وإن جلست فقيامك قيامي‏.‏

هذا هو عرف الاستعمال في نحوه‏.‏

ثم قال‏:‏ وإذا كان كذلك فقد قدم الخبر وهو معرفة وهو ينوي به التأخير من حيث كان خبراً‏.‏

قال‏:‏ فهو كبيت الحماسة من الطوبل‏:‏ بنونا بنو أبنائنا وبناتنا بنوهن أبناء الرجال الأباعد فقدم خبر المبتدأ وهو معرفة‏.‏

وإنما دل على أنه ينوي التأخير المعنى ولولا ذلك لكانت المعرفة إذا قدمت هي المبتدأ لتقدمها فافهم ذلك‏.‏

هذا كله لفظه‏.‏

واعلم أن الفائدة تعظم في هذا الضرب من الكلام إذا أنت أحسنت النظر فيما ذكرت لك من أنك تستطيع أن تنقل الكلام في معناه عن صورة إلى صورة من غير أن تغير من لفظه شيئاً أو تحول كلمة عن مكانها إلى مكان آخر وهو الذي وسع مجال التأويل والتفسير حتى صاروا يتأولون في الكلام الواحد تأويلين أو أكثر ويفسرون البيت الواحد عدة تفاسير وهو على ذاك الطريق المزلة الذي ورط كثيراً من الناس في الهلكة‏.‏

وهو مما يعلم به العاقل شدة الحاجة إلى هذا العلم وينكشف معه عوار الجاهل به ويفتضح عنده المظهر الغنى عنه‏.‏

ذاك لأنه قد يدفع إلى الشيء لا يصح إلا بتقدير غير ما يريه الظاهر‏.‏

ثم لا يكون له سبيل إلى معرفة ذلك التقدير إذا كان جاهلاً بهذا العلم فيتسكع عند ذلك في العمى ويقع في الضلال‏.‏

مثال ذلك أن من نظر إلى قوله تعالى‏:‏ ‏"‏ قل ادعوا الله أو ادعوا الرحمن أيا ما تدعوا فله الأسماء الحسنى ‏"‏‏.‏

ثم لم يعلم أن ليس المعنى في ادعوا الدعاء ولكن الذكر بالاسم كقولك‏:‏ هو يدعى زيداً ويدعى الأمير‏.‏

وأن في الكلام محذوفاً وأن التقدير‏:‏ قل أدعوه الله أو ادعوه الرحمن أيا ما تدعوا فله الأسماء الحسنى كان بعرض أن يقع في الشرك من حيث إنه إن جرى في خاطره أن الكلام على ظاهره خرج ذلك به والعياذ بالله تعالى إلى إثبات مدعوين تعالى عن أن يكون له شريك‏.‏

وذلك من حيث كان محالاً أن تعمد إلى اسمين كلاهما اسم شيء واحد فتعطف أحدهما على الآخر فتقول مثلاً‏:‏ ادع لي زيداً الأمير والأمير هو زيد‏.‏

وكذلك محال أن تقول‏:‏ أيا تدعو وليس هناك إلا مدعو واحد لأن من شأن أي أن تكون أبداً واحداً من اثنين أو جماعة ومن لم يكن له بد من الاضافة إما لفظاً وإما تقديراً‏.‏

وهناك باب واسع من المشكل فيه قراءة من قرأ ‏"‏ وقالت اليهود عزير ابن الله ‏"‏ بغير تنوين وذلك أحدهما أن يكون القارىء له أراد التنوين ثم حذفه لالتقاء الساكنين ولم يحركه كقراءة من قرأ‏:‏ ‏"‏ قل هو الله أحد الله الصمد ‏"‏ بترك التنوين من أحد‏:‏ وكما حكي عن عمارة بن عقيل أنه قرأ ‏"‏ ولا الليل سابق النهار ‏"‏ بالنصب فقيل له‏:‏ ماتريد فقال أريد سابق النهار‏.‏

قيل‏:‏ فهلا قلته‏.‏

فقال‏:‏ فلو قلته لكان أوزن‏.‏

وكما جاء في الشعر من قوله من المتقارب‏:‏ فألفيته غير مستعتب ولا ذاكر الله إلا قليلاً إلى نظائر ذلك‏.‏

فيكون المعنى في هذه القراءة مثله في القراءة الآخرى سواء‏.‏

والوجه الثاني‏:‏ أن يكون الابن صفة ويكون التنوين قد سقط على حد سقوطه في قولنا‏:‏ جاءني زيد بن عمرو ويكون في الكلام محذوف‏.‏

ثم اختلفوا في المحذوف فمنهم من جعله مبتدأ فقدر وقالت اليهود هو عزير ابن الله ومنهم من جعله خبراً فقدر وقالت اليهود‏:‏ عزير ابن الله معبودنا وفي هذا أمر عظيم‏.‏

وذلك أنك إذا حكيت عن قائل كلاماً أنت تريد أن تكذبه فيه فإن التكذيب ينصرف إلى ما كان فيه خبراً دون ما كان صفة‏.‏

تفسير هذا أنك إذا حكيت عن إنسان أنه قال‏:‏ زيد بن عمرو سيد ثم كذبته فيه ولم تكن قد أنكرت بذلك أن يكون زيد بن عمرو ولكن أن يكون سيداً‏.‏

وكذلك إذا قال‏:‏ زيد الفقية قد قدم فقلت له‏:‏ كذبت أو غلطت لم تكن قد أنكرت أن يكون زيد فقيهاً ولكن أن يكون قد قدم‏.‏

هذا ما لا شبهة فيه وذلك أنك إذا كذبت قائلاً في كلام أو صدقته فإنما ينصرف التكذيب منك والتصديق إلى إثباته ونفيه‏.‏

والإثبات والنفي يتناولان الخبر دون الصفة يدلك على ذلك أنك تجد الصفة ثابتة في حال النفي كثبوتها في حال الإثبات‏.‏

فإذا قلت‏:‏ ما جاءني زيد الظريف كان الظرف ثابتاً لزيد كثبوته إذا قلت‏:‏ جاءني زيد الظريف‏.‏

وذلك ليس ثبوت الصفة للذي هي صفة له بالمتكلم وبإثباته لها فتنتفي بنفيه‏.‏

وإنما ثبوتها بنفسها وبتقرر الوجود فيها عند المخاطب مثله عند المتكلم لأنه إذا وقعت الحاجة في العلم إلى الصفة كان الاحتياج إليها من أجل خيفة اللبس على المخاطب‏.‏

تفسير ذلك أنك إذا قلت جاءني زيد الظريف فإنك إنما تحتاج إلى أن تصفه بالظريف إذا كان فيمن يجيء إليك واحد آخر يسمى زيداً‏.‏

فأنت تخشى إن قلت‏:‏ جاءني زيد ولم تقل الظريف أن يلتبس على المخاطب فلا يدري‏:‏ أهذا عنيت أم ذاك وإذا كان الغرض من ذكر الصفة إزالة اللبس والتبيين كان محالاً أن تكون غير معلومة عند المخاطب وغير ثابتة‏.‏

لأنه يؤدي إلى أن تروم تبيين الشيء للمخاطب بوصف هولا يعلمه في ذلك الشيء وذلك ما لا غاية وراءه في الفساد‏.‏

وإذا كان الأمر كذلك كان جعل الابن صفة في الآية مؤدياً إلى الأمر العظيم وهو إخراجه عن موضع النفي والإنكار إلى موضع الثبوت والاستقرار‏.‏

جل الله تعالى عن شبه المخلوقين وعن جميع ما يقول الظالمون علواً كبيراً‏.‏

فإن قيل‏:‏ إن هذه قراءة معروفة والقول بجواز الوصفية في الابن كذلك معروف ومدون في الكتب وذلك يقتضي أن يكونوا قد عرفوا في الآية تأويلاً يدخل به الابن في الإنكار مع تقدير الوصفية فيه قيل‏:‏ إن القراءة كما ذكرت معروفة والقول بجواز أن يكون الابن صفة مثبت مسطور في الكتب كما قلت‏.‏

ولكن الأصل الذي قدمناه من أن الإنكار إذا لحق الخبر دون الصفة ليس بالشيء الذي يعترض فيه شك أو تتسلط عليه شبهة‏.‏

فليس يتجه أن يكون الابن صفة ثم يلحقه الإنكار مع ذلك إلا على تأويل غامض وهو أن يقال‏:‏ إن الغرض الدلالة على أن اليهود قد كان بلغ من جهلهم ورسوخهم في هذا الشرك أنهم كانوا يذكرون عزيراً هذا الذكر‏.‏

كما تقول في قوم تريد أن تصفهم بأنهم قد استهلكوا في أمر صاحبهم وغلوا في تعظيمه‏:‏ إني أراهم قد اعتقدوا أمراً عظيماً فهم يقولون أبداً زيد الأمير تريد أنه كذلك يكون ذكرهم إذا ذكروه إلا أنه إنما يستقيم هذا التأويل فيه إذا أنت لم تقدر له خبراً معيناً ولكن تريد أنهم كانوا لا يخبرون عنه بخبر إلا كان ذكرهم له هكذا‏.‏

ومما هو من هذا الذي نحن فيه قوله تعالى‏:‏ ‏"‏ ولا تقولوا ثلاثة انتهوا خيراً لكم ‏"‏‏.‏

وذلك أنهم قد ذهبوا في رفع ثلاثة إلى أنها خبر مبتدأ محذوف وقالوا‏:‏ إن التقدير ولا تقولوا آلهتنا ثلاثة وليس ذلك بمستقيم‏.‏

وذلك أنا إذا قلنا‏:‏ ولا تقولوا آلهتنا ثلاثة ذلك والعياذ بالله شبه الإثبات أن هاهنا آلهة من حيث إنك إذا نفيت فإنما تنفي المستفاد من الخبر عن المبتدأ ولا تنفي معنى المبتدأ‏.‏

فإذا قلت‏:‏ ما زيد منطلقاً نفيت الانطلاق الذي هو معنى الخبر عن زيد ولم تنف معنى زيد ولم توجب عدمه‏.‏

كان ذلك كذلك فإذا قلنا‏:‏ ولا تقولوا آلهتنا ثلاثة كنا قد نفينا أن تكون عدة الآلهة ولم ننف أن تكون آلهة جل الله تعالى عن الشريك والنظير كما أنك إذا قلت‏:‏ أمراؤنا ثلاثة كنت قد نفيت أن تكون عدة الأمراء ثلاثة ولم تنف أن يكون لكم أمراء ما لا شبهة فيه‏.‏

وإذا أدى هذا التقدير إلى هذا الفساد وجب أن يعدل عنه إلى غيره‏.‏

والوجه والله أعلم أن تكون ثلاثة صفة مبتدأ لا خبر مبتدأ ويكون التقدير‏:‏ ولا تقولوا لنا ثلاثة أو في الوجود آلهة ثلاثة ثم حذف الخبر الذي هو لنا أو في الوجود كما حذف من ‏"‏ لا إله إلا الله ‏"‏ و ‏"‏ ما من إله إلا الله ‏"‏ فبقي‏:‏ ولا تقولوا‏:‏ آلهة ثلاثة ثم حذف الموصوف الذي هو آلهة فبقي ولا تقولوا ثلاثة‏.‏

وليس في حذف ما قدرنا حذفه ما يتوقف في صحته أما حذف الخبر الذي قلنا إنه لنا أو في الوجود فمطرد في كل ما معناه التوحيد ونفي أن يكون مع الله تعالى عن ذلك إله‏.‏

وأما حذف الموصوف بالعدد فكذلك شائع‏.‏

وذلك أنه كما يسوغ أن تقول‏:‏ عندي ثلاثة وأنت تريد ثلاثة أثواب‏.‏

ثم تحذف لعلمك أن السامع يعلم ما تريد‏.‏

كذلك يسوغ أن تقول‏:‏ عندي ثلاثة وأنت تريد أثواب ثلاثة لأنه لا فصل بين أن تجعل المقصود بالعدد مميزاً وبين أن تجعله موصوفاً بالعدد في أنه يحسن حذفه إذا علم المراد‏.‏

ويبين ذلك أنك ترى المقصود بالعدد قد ترك ذكره ثم لا تستطيع أن تقدره إلا موصوفاً وذلك في قولك عندي اثنان وعندي واحد يكون المحذوف هاهنا موصوفاً لا محالة نحو‏:‏ عندي رجلان اثنان وعندي درهم واحد‏.‏

ولا يكون مميزاً البتة من حيث كانوا قد رفضوا إضافة الواحد والاثنين إلى الجنس فتركوا أن يقولوا‏:‏ واحد رجال واثنان رجال على حذف رجال‏.‏

ولذلك كان قول الشاعر من الرجز‏:‏ ظرف عجوز فيه ثنتا حنظل شاذاً‏.‏

هذا ولا يمتنع أن تجعل المحذوف من الآية في موضع التمييز دون موضع الموصوف فتجعل التقدير‏:‏ ولا تقولوا ثلاثة آلهة ثم يكون الحكم في الخبر على ما مضى ويكون المعنى والله أعلم ولا تقولوا لنا أو في الوجود ثلاثة آلهة‏.‏

فإن قلت‏:‏ فلم صار لا يلزم على هذا التقدير ما لزم على قول من قدر‏:‏ ولا تقولوا آلهتنا ثلاثة فذاك لأنا إذا جعلنا التقدير‏:‏ ولا تقولوا لنا أو في الوجود آلهة ثلاثة أو ثلاثة آلهة كنا قد نفينا الوجود عن الآلهة كما نفيناه في ‏"‏ لا إله إلا الله ‏"‏ و ‏"‏ وما من إله إلا الله ‏"‏‏.‏

وإذا زعموا أن التقدير ولا تقولوا آلهتنا ثلاثة كانوا قد نفوا أن تكون عدة الآلهة ثلاثة ولم ينفوا وجود الآلهة‏.‏

فإن قيل‏:‏ فإن يلزم على تقديرك الفساد من وجه آخر وذاك أنه يجوز إذا قلت‏:‏ ليس لنا أمراء ثلاثة أن يكون المعنى ليس لنا أمراء ثلاثة ولكن لنا أميران اثنان‏.‏

وإذا كان كذلك كان تقديرك وتقديرهم جميعاً خطأ‏.‏

قيل‏:‏ إن هاهنا أمراً قد غفلته وهو أن قولهم آلهتنا‏:‏ يوجب ثبوت آلهة جل الله تعالى عما يقول الظالمون علواً كبيراً‏.‏

وقولنا‏:‏ ليس لنا آلهة لا يوجب ثبوت اثنين البتة‏.‏

فإن قلت‏:‏ إن كان لا يوجبه فإنه لا بنفيه‏.‏

فقيل‏:‏ ينفيه ما بعده من قوله تعالى‏:‏ ‏"‏ إنما الله إله واحد ‏"‏‏.‏

فإن قيل‏:‏ فإنه كما ينفي الإلهين كذلك ينفي الآلهة‏.‏

وإذا كان كذلك وجب أن يكون تقديرهم صحيحاً كتقديرك‏.‏

قيل‏:‏ هو كما قلت‏:‏ ينفي الآلهة‏.‏

ولكنهم إذا زعموا أن التقدير ولا تقولوا آلهتنا ثلاثة وكان ذلك والعياذ بالله من الشرك يقتضي إثبات آلهة كانوا قد دفعوا هذا النفي وخالفوه وأخرجوه إلى المناقضة‏.‏

فإذا كان كذلك كان محالاً أن يكون للصحة سبيل إلى ما قالوه وليس كذلك الحال فيما قدرناه لأنا لم نقدر شيئاً يقتضي إثبات إلهين تعالى الله حتى يكون حالنا حال من يدفع ما يوجبه هذا الكلام من نفيهما‏.‏

يبين لك ذلك أنه يصح لنا أن نتبع ما قدرناه نفي الاثنين ولا يصح لهم‏.‏

تفسير ذلك أنه يصح أن تقول‏:‏ ولا تقولوا لنا آلهة ثلاثة ولا إلهان لأن ذلك يجري مجرى أن تقول‏:‏ ليس لنا آلهة ثلاثة ولا إلهان وهذا صحيح‏.‏

ولا يصح لهم أن يقولوا‏:‏ ولا تقولوا آلهتنا ثلاثة ولا إلهان لأن ذلك يجري مجرى أن يقولوا‏:‏ ولا تقولوا آلهتنا إلهان وذلك فاسد فاعرفه وأحسن تأمله‏.‏

ثم إن هاهنا طريقاً آخر وهو أن تقدر‏:‏ ولا تقولوا الله والمسيح وأمه ثلاثة‏.‏

أي نعبدهما كما نعبد الله‏.‏

يبين ذلك قوله تعالى‏:‏ ‏"‏ لقد كفر الذين قالوا إن الله ثالث ثلاثة ‏"‏ وقد استقر في العرف أنهم إذا أرادوا إلحاق اثنين بواحد في وصف من الأوصاف وأن يجعلوهما شبيهين له قالوا‏:‏ هم ثلاثة‏.‏

كما يقولون إذا أرادوا إلحاق واحد بآخر وجعله في معناه‏:‏ هما اثنان‏.‏

على هذا السبيل كأنهم يقولون‏:‏ هم يعدون معداً واحداً‏.‏

ويوجب لهم التساوي والتشارك في الصفة والرتبة وما شاكل ذلك‏.‏

واعلم أنه لا معنى لأن يقال‏:‏ إن القول حكاية‏.‏

وإنه إذا كان حكاية لم يلزم منه إثبات الآلهة لأنه يجري مجرى أن تقول‏:‏ إن من دين الكفار أن يقولوا الآلهة ثلاثة‏.‏

وذلك لأن الخطاب في الآية للنصارى أنفسهم ألا ترى إلى قوله تعالى‏:‏ ‏"‏ يا أهل الكتاب لا تغلوا في دينكم ولا تقولوا على الله إلا الحق إنما المسيح عيسى ابن مريم رسول الله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه فآمنوا بالله ورسله ولا تقولوا ثلاثة انتهوا خيراً لكم ‏"‏‏.‏

وإذا كان الخطاب للنصارى كان تقدير الحكاية محالاً فتقولوا إذاً في معنى لا تعتقدوا‏.‏

وإذا كان في معنى الاعتقاد لزم إذا قدر ولا تقولوا آلهتنا ثلاثة ما قلنا إنه يلزم من إثبات الآلهة وذلك لأن الاعتقاد يتعلق بالخبر لا بالمخبر عنه‏.‏

فإذا قلت‏:‏ لا تعتقد أن الأمراء ثلاثة نهيته عن أن يعتقد كون الأمراء على هذه العدة لا عن أن يعتقد أن هاهنا أمراء‏.‏

هذا ما لا يشك فيه عاقل وإنما يكون النهي عن ذلك إذا قلت‏:‏ لا تعتقد أن هاهنا أمراء لأنك حينئذ تصير كأنك قلت‏:‏ لا تعتقد وجود أمراء‏.‏

هذا ولو كان الخطاب مع المؤمنين لكان تقدير الحكاية لا يصح أيضاً‏.‏

ذاك لأنه لا يجوز أن يقال‏:‏ إن المؤمنين نهوا عن أن يحكوا عن النصارى مقالتهم ويخبروا عنهم بأنهم يقولون كيت وكيت كيف وقد قال الله تعالى‏:‏ ‏"‏ وقالت اليهود عزير ابن الله وقالت النصارى المسيح ابن الله ‏"‏‏.‏

ومن أين يصح النهي عن حكاية قول المبطل وفي ترك حكايته ترك له وكفر وامتناع من النفي عليه والإنكار لقوله والاحتجاج عليه وإقامة الدليل على بطلانه‏.‏

لأنه لا سبيل إلى شيء من ذلك إلا من بعد حكاية القول والإفصاح به فاعرفه‏.‏