فصل: التقديم والتأخير

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: دلائل الإعجاز **


 التقديم والتأخير

هو باب كثير الفوائد جم المحاسن واسع التصرف بعيد الغاية‏.‏

لا يزال يفتر لك عن بديعة ويفضي بك إلى لطيفة‏.‏

ولا تزال ترى شعراً يروقك مسمعه ويلطف لديك موقعه ثم تنظر فتجد سبب أن راقك ولطف عندك أن قدم فيه شيء وحول اللفظ عن مكان إلى مكان‏.‏

واعلم أن تقديم الشيء على وجهين‏:‏ تقديم يقال إنه على نية التفخير وذلك في كل شيء أقررته مع التقديم على حكمه الذي كان عليه وفي جنسه الذي كان فيه كخبر المبتدأ إذا قدمته على المبتدأ والمفعول إذا قدمته على الفاعل كقولك‏:‏ منطلق زيد وضرب عمراً زيد‏.‏

معلوم أن منطلق وعمراً لم يخرجا بالتقديم عما كانا عليه من كون هذا خبر مبتدأ ومرفوعاً بذلك وكون ذلك مفعولاً ومنصوباً من أجله‏.‏

كما يكون إذا أخرت‏.‏

وتقديم لا على نية التأخير ولكن على أن تنقل الشيء عن حكم إلى حكم وتجعل له باباً غير بابه وإعراباً غير إعرابه وذلك أن تجيء إلى اسمين يحتمل كل واحد منهما يكون مبتدأ ويكون الآخر خبراً له فتقدم تارة هذا على ذاك وأخرى ذاك على هذا‏.‏

ومثاله ما تصنعه بزيد والمنطلق حيث تقول مرة‏:‏ زيد المنطلق‏.‏

وأخرى‏:‏ المنطلق زيد‏.‏

فأنت في هذا لم تقدم المنطلق على أن يكون متروكاً على حكمه الذي كان عليه مع التأخير فيكون خبر مبتدأ كما كان بل على أن تنقله عن كونه خبراً إلى كونه مبتدأ‏.‏

وكذلك لم تؤخر زيداً على أن يكون مبتدأ كما كان بل على أن تخرجه عن كونه مبتدأ إلى كونه خبراً‏.‏

وأظهر من هذا قولنا‏:‏ ضربت زيداً وزيد ضربته‏.‏

لم تقدم زيداً على أن يكون مفعولاً منصوباً بالفعل كما كان ولكن على أن ترفعه بالابتداء وتشغل الفعل بضميره وتجعله في موضع الخبر له وإذ قد عرفت هذا التقسيم فإني أتبعه بجملة من الشرح‏.‏

واعلم أنا لم نجدهم اعتمدوا فيه شيئاً يجري مجرى الأصل غير العناية والاهتمام‏.‏

قال صاحب الكتاب وهو يذكر الفاعل والمفعول‏:‏ كأنهم يقدمون الذي بيانه أهم لهم وهم بشأنه أعنى وإن كانا جميعاً يهمانهم ويعنيانهم‏.‏

ولم يذكر في ذلك مثالاً‏.‏

وقال النحويون إن معنى ذلك أنه قد تكون أغراض الناس في فعل ما أن يقع بإنسان بعينه ولا يبالون من أوقعه كمثل ما يعلم من حالهم في حال الخارجي يخرج فيعيث ويفسد ويكثر في الأذى أنهم يريدون قتله ولا يبالون من كان القتل منه ولا يعنيهم منه شيء فإذا قتل وأراد مريد الإخبار بذلك فإنه يقدم ذكر الخارجي زيد فيقول‏:‏ قتل الخارجي زيد‏.‏

ولا يقول‏:‏ قتل زيد الخارجي‏.‏

لأنه يعلم أن ليس للناس في أن يعلموا أن القاتل له زيد جدوى وفائدة‏.‏

فيعنيهم ذكره ويهمهم ويتصل بمسرتهم ويعلم من حالهم أن الذي هم متوقعون له ومتطلعون إليه متى يكون وقوع القتل بالخارجي المفسد وأنهم قد كفوا شره وتخلصوا منه‏.‏

ثم قالوا‏:‏ فإن كان رجل ليس له بأس ولا يقدر فيه أنه يقتل فقتل رجلاً وأراد المخبر أن يخبر بذلك فإنه يقدم ذكر القاتل فيقول‏:‏ قتل زيد رجلاً ذاك لأن الذي يعنيه ويعني الناس من شأن هذا القتل طرافته وموضع الندرة فيه وبعده كان من الظن‏.‏

ومعلوم أنه يكن نادراً وبعيداً من حيث كان واقعاً بالذي وقع به ولكن من حيث كان واقعاً من الذي وقع منه فهذا جيد بالغ‏.‏

إلا أن الشأن في أنه ينبغي أن يعرف في كل شيء قدم في موضع من الكلام مثل هذا المعنى ويفسر وجه العناية فيه هذا التفسير‏.‏

وقد وقع في ظنون الناس يكفي أن يقال‏:‏ إنه قدم للعناية ولأن ذكره أهم من غير أن يذكر من أين كانت تلك العناية وبم كان أهم ولتخيلهم ذلك قد صغر أمر التقديم والتأخير في نفوسهم وهونوا الخطب فيه‏.‏

حتى إنك لترى أكثرهم يرى تتبعه وكذلك صنعوا في سائر الأبواب فجعلوا لا ينظرون في الحذف والتكرار والإظهار والإضمار والفصل والوصل ولا في نوع من أنواع الفروق والوجوه إلا نظرك فيما غيره أهم لك بل فيما إن لم تعلمه لم يضرك‏.‏

لا جرم أن ذلك قد ذهب بهم عن معرفة البلاغة ومنعهم أن يعرفوا مقاديرها وصد أوجههم عن الجهة التي هي فيها والشق الذي يحويها والمداخل التي تدخل منها الآفة على الناس في شأن العلم‏.‏

ويبلغ الشيطان مراده منهم في الصد عن طلبه وإحراز فضيلته كثيرة‏.‏

وهذه من أعجبها إن وجدت متعجباً وليت شعري إن كانت هذه أموراً هينة وكان المدى فيها قريباً والجدا يسيراً من أين كان نظم أشرف من نظم وبم عظم التفاوت واشتد التباين وترقى الأمر إلى الإعجاز وإلى أن يقهر أعناق الجبابرة أو هاهنا أمور أخر نحيل في المزية عليها ونجعل الإعجاز كان بها فتكون تلك الحوالة لنا عذراً في ترك النظر في هذه التي معنا والإعراض عنها وقلة المبالاة بها أو ليس هذا التهاون إن نظر العاقل خيانة منه لعقله ودينه ودخولاً فيما يزري بذي الخطر‏.‏

ويغض من قدر ذوي القدر وهل يكون أضعف رأياً وأبعد من حسن التدبر منك إذا أهمك أن تعرف الوجوه في ‏"‏ أأنذرتهم ‏"‏ والإمالة في ‏"‏ رأى القمر ‏"‏ وتعرف الصراط والزراط وأشباه ذلك مما لا يعدو علمك فيه اللفظ وجرس الصوت ولا يمنعك إن لم تعلمه بلاغة ولا يدفعك عن بيان ولا يدخل عليك شكاً ولا يغلق دونك باب معرفة ولا يفضي بك إلى تحريف وتبديل وإلى الخطأ في تأويل وإلى ما يعظم المعاب عليك ويطيل لسان القادح فيك ولا يعنيك ولا يهمك أن تعرف ما إذا جهلته عرضت نفسك لكل ذلك وحصلت فيما هنالك‏.‏

وكان أكثر كلامك في التفسير وحيث تخوض في التأويل كلام من لا يبني الشيء على أصله ولا يأخذه من مأخذه ومن ربما وقع في الفاحش من الخطأ الذي يبقى عاره وتشنع آثاره‏.‏

ونسأل الله العصمة من الزلل والتوفيق لما هو أقرب إلى رضاه من القول والعمل‏.‏

واعلم أن من الخطأ أن يقسم الأمر في تقديم الشيء وتأخيره قسمين فيجعل مفيداً في بعض الكلام وغير مفيد في بعض‏.‏

وأن يعلل تارة بالعناية وأخرى بأنه توسعة علم الشاعر والكاتب حتى تطرد‏.‏

لهذا قوافيه ولذاك سجعه‏.‏

ذاك لأن من البعيد أن يكون في جملة النظم ما يدل تارة ولا يدل أخرى‏.‏

فمتى ثبت في تقديم المفعول مثلاً على الفعل في كثير من الكلام أنه قد اختص بفائدة لا تكون تلك الفائدة مع التأخير فقد وجب أن تكون تلك قضية في كل شيء وكل حال‏.‏

ومن سبيل من يجعل التقديم وترك التقديم سواء أن يدعي أنه كذلك في عموم الأحوال‏.‏

فأما أن يجعله بين بين فيزعم أنه للفائدة في بعضها وللتصرف في اللفظ من غير معنى في بعض فمما ينبغي أن يرغب عن القول به‏.‏

وهذه مسائل لا يستطيع أحد أن يمتنع من التفرقة بين تقديم ما قدم فيها وترك تقديمه‏.‏

ومن أبين شيء في ذلك الاستفهام بالهمزة فإن موضع الكلام على أنك إذا قلت‏:‏ أفعلت فبدأت بالفعل كان الشك في الفعل نفسه وكان غرضك من استفهامك أن تعلم وجوده‏.‏

وإذا قلت‏:‏ أأنت فعلت فبدأت بالاسم كان الشك في الفاعل من هو وكان التردد فيه‏.‏

ومثال ذلك أنك تقول‏:‏ أبنيت الدار التي كنت على أن تبنيها أقلت الشعر الذي كان في نفسك أن تقوله أفرغت من الكتاب الذي كنت تكتبه تبدأ في هذا ونحوه بالفعل لأن السؤال عن الفعل نفسه والشك فيه لأنك في جميع ذلك متردد في وجود الفعل وانتفائه مجوز أن يكون قد كان وأن يكون لم يكن‏.‏

وتقول‏:‏ أ أنت بنيت هده الدار أ أنت قلت هذا الشعر أ أنت كتبت هذا الكتاب فتبدأ في ذلك كله بالاسم‏.‏

ذلك لأنك لم تشك في الفعل أنه كان وكيف وقد أشرت إلى الدار مبنية والشعر مقولاً والكتاب مكتوباً وإنما شككت في الفاعل من هو‏.‏

فهذا من الفرق لا يدفعه دافع ولا يشك فيه شاك‏.‏

ولا يخفى فساد أحدهما في موضع الآخر‏.‏

فلو قلت‏:‏ أ أنت بنيت الدار التي كنت على أن تبنيها أ أنت قلت الشعر الذي كان في نفسك أن تقوله أأنت فرغت من الكتاب الذي كنت تكتبه خرجت من كلام الناس‏.‏

وكذلك لو قلت‏:‏ أبنيت هذه الدار أقلت هذا الشعر أكتبت هذا الكتاب قلت ما ليس بقول ذاك لفساد أن تقول في الشيء المشاهد الذي هو نصب عينيك‏:‏ أموجود أم لا ومما يعلم به ضرورة أنه لا تكون البداية بالفعل كالبداية بالاسم أنك تقول‏:‏ أقلت شعراً قط أرأيت اليوم إنساناً فيكون كلاماً مستقيماً ولو قلت‏:‏ أ أنت قلت شعراً قط أ أنت رأيت إنساناً أخطأت وذاك أنه لا معنى للسؤال عن الفاعل من هو في مثل هذا لأن ذلك إنما يتصور إذا كانت الإشارة إلى فعل مخصوص نحو أن تقول‏:‏ من قال هذا الشعر‏.‏

ومن بنى هذه الدار ومن أتاك اليوم ومن أذن لك في الذي فعلت وما أشبه ذلك مما يمكن أن ينص فيه على معين‏.‏

فأما قيل شعر على الجملة ورؤية إنسان على الإطلاق فمحال ذلك فيه لأنه ليس مما يختص بهذا دون ذاك حتى يسأل عن عين فاعله‏.‏

ولو كان تقديم الاسم لا يوجب ما ذكرنا من أن يكون السؤال عن الفاعل من هو وكان يصح أن يكون سؤالاً عن الفعل أكان أم لم يكن لكان ينبغي أن يستقيم ذلك‏.‏

واعلم أن هذا الذي ذكرت لك في الهمزة وهي للاستفهام قائم فيها إذا كانت هي للتقرير‏.‏

فإذا قلت‏:‏ أأنت فعلت ذاك كان غرضك أن تقرره بأنه الفاعل‏.‏

يبين ذلك قوله تعالى حكاية عن قول نمرود‏:‏ ‏"‏ أأنت فعلت هذا بآلهتنا يا إبراهيم ‏"‏ لا شهة في أنهم لم يقولوا ذلك له عليه السلام وهم يريدون أن يقر لهم بأن كسر الأصنام قد كان ولكن أن يقر بأنه منه كان‏.‏

وقد أشاروا له إلى الفعل في قولهم‏:‏ أأنت فعلت هذا‏.‏

وقال هو عليه السلام في الجواب‏:‏ ‏"‏ بل فعله كبيرهم هذا ‏"‏‏.‏

ولو كان التقرير بالفعل لكان الجواب‏:‏ فعلت أو لم أفعل‏.‏

فإن قلت‏:‏ أو ليس إذا قال‏:‏ أفعلت فهو يريد أيضاً أن يقرره بأن الفعل كان منه بأنه كان على الجملة‏.‏

فأي فرق بين الحالين فإنه إذا قال‏:‏ أفعلت فهو يقرره بالفعل من غير أن يردده بينه وبين غيره وكان كلامه كلام من يوهم أنه لا يدري أن ذلك الفعل كان على الحقيقة‏.‏

وإذا قال‏:‏ أأنت فعلت كان قد ردد الفعل بينه وبين غيره ولم يكن منه في نفي الفعل تردد‏.‏

ولم يكن كلامه كلام من يوهم أنه لا يدري أكان الفعل أم لم يكن بدلالة أنك تقول ذلك والفعل ظاهر موجود مشار إليه كما رأيت في الآية‏.‏

واعلم أن الهمزة فيما ذكرنا تقرير بفعل قد كان وإنكار له لم كان وتوبيخ لفاعله عليه‏.‏

ولها مذهب آخر وهو أن يكون لإنكار أن يكون الفعل قد كان من أصله‏.‏

ومثاله قوله تعالى‏:‏ ‏"‏ أفأصفاكم ربكم بالبنين واتخذ من الملائكة إناثاً إنكم لتقولون قولاً عظيماً ‏"‏ وقوله عز وجل‏:‏ ‏"‏ أصطفى البنات على البنين‏.‏

ما لكم كيف تحكمون ‏"‏‏.‏

فهذا رد على المشركين وتكذيب لهم في قولهم ما يؤدي إلى هذا الجهل العظيم‏.‏

وإذا قدم الاسم في هذا صار الإنكار في الفاعل ومثاله قولك للرجل قد انتحل شعراً‏:‏ أ أنت قلت هذا الشعر كذبت لست ممن يحسن مثله‏.‏

أنكرت أن يكولن القائل ولم تنكر الشعر‏.‏

وقد تكون إذ يراد إنكار الفعل من أصله ثم يخرج اللفظ مخرجه إذا كان الإنكار في الفاعل مثال ذلك قوله تعالى‏:‏ ‏"‏ قل الله أذن لكم ‏"‏ الإذن راجع إلى قوله‏:‏ ‏"‏ قل أرأيتم ما أنزل الله لكم من رزق فجعلتم منه حراماً وحلالاً ‏"‏‏.‏

ومعلوم أن المعنى على إنكار أن يكون قد كان من الله تعالى إذن فيما قالوه من غير أن يكون هذا الإذن قد كان من غير الله فأضافوه إلى الله‏.‏

إلا أن اللفظ أخرج مخرجه إذا كان الأمر كذلك لأن يجعلوا في صورة من غلط فأضاف إلى الله تعالى إذناً كان من غير الله فإذا حقق عليه ارتدع‏.‏

ومثال ذلك قولك للرجل يدعي أن قولاً كان ممن تعلم أنه لا يقوله‏:‏ أهو قال ذاك حقيقة أم أنت تغلط تضع الكلام وضعه إذا كنت علمت أن ذلك القول قد كان من قائل لينصرف الإنكار إلى الفاعل فيكون أشد لنفي ذلك وإبطاله‏.‏

ونظير هذا قوله تعالى‏:‏ ‏"‏ قل الذكرين حرم أم الأنثيين أما اشتملت عليه أرحام الأنثيين ‏"‏ أخرج اللفظ مخرجه إذا كان ثبت تحريم في أحد أشياء ثم أريد معرفة عين المحرم مع أن المراد إنكار التحريم من أصله ونفي أن يكون قد حرم شيء مما ذكروا أنه محرم‏.‏

وذلك أن كان الكلام وضع على أن يجعل التحريم كأنه قد كان ثم يقال لهم‏:‏ أخبرونا عن هذا التحريم الذي زعمتم فيم هو أفي هذا أم ذاك أم في الثالث ليتبين بطلان قولهم ويظهر مكان الفرية منهم على تعالى‏.‏

ومثل ذلك قولك للرجل يدعي أمراً وأنت تنكره‏:‏ متى كان هذا أفي ليل أم نهار تضع الكلام وضع من سلم أن ذلك قد كان ثم تطالبه ببيان وقته لكي يتبين كذبه إذا لم يقدر أن يذكر له وقتاً ويفتضح‏.‏

ومثله قولك‏:‏ من أمرك بهذا منا وأينا أذن لك فيه وأنت لا تعني أن أمراً قد كان بذلك من واحد منكم إلا أنك تضع الكلام هذا الوضع لكي تضيق عليه وليظهر كذبه حين لا يستطيع أن يقول‏:‏ فلان وأن يحيل على واحد‏.‏

وإذ قد بينا الفرق بين تقديم الفعل وتقديم الاسم والفعل ماض فينبغي أن ينظر فيه والفعل مضارع‏.‏

والقول في ذلك أنك إذا قلت‏:‏ أتفعل وأ أنت تفعل لم يخل من أن تريد الحال أو الاستقبال‏.‏

فإن أردت الحال كان المعنى شبيهاً بما مضى في الماضي فإذا قلت‏:‏ أتفعل كان المعنى على أنك أردت أن تقرره بفعل هو يفعله وكنت كمن يوهم أنه يعلم بالحقيقة أن الفعل كائن‏.‏

وإذا قلت‏:‏ أ أنت تفعل كان المعنى على أنك تريد أن تقرره بأنه الفاعل‏.‏

وكان أمر الفعل في وجوده ظاهراً وبحيث لا يحتاج إلى الإقرار بأنه كائن‏.‏

وإن أردت ب تفعل المستقبل كان المعنى‏:‏ إذا بدأت بالفعل على أنك تعمد بالإنكار إلى الفعل نفسه وتزعم أنه لا يكون أو أنه لا ينبغي أن يكون‏.‏

فمثال الأول من الطويل‏:‏ ايقتلني والمشرفي مضاجعي ومسنونة زرق كأنياب أغوال فهذا تكذيب منه لإنسان تهدده بالقتل وإنكار أن يقدر على ذلك ويستطيعه‏.‏

ومثله أن يطمع طامع في أمر لا يكون مثله فتجهله في طمعه فتقول‏:‏ أيرضى عنك فلان وأنت مقيم على ما يكره أتجد عنده ما تحب وقد فعلت وصنعت وعلى ذلك قوله تعالى‏:‏ ‏"‏ أنلزمكموها وأنتم لها كارهون ‏"‏ ومثال الثاني قولك للرجل يركب الخطر‏:‏ أتخرج في هذا الوقت أتذهب في غير الطريق أتغرر بنفسك وقولك للرجل يضيع الحق‏:‏ أتنسى قديم إحسان فلان أتترك صحبته وتتغير عن حالك معه لأن تغير الزمان كما قال من الطويل‏:‏ أأترك إن قلت دراهم خالد زيارته إني إذاً للئيم جملة الأمر أنك تنحو بالإنكار نحو الفعل فإن بدأت بالاسم فقلت‏:‏ أ أنت تفعل أو قلت‏:‏ أهو يفعل كنت وجهت الإنكار إلى نفس المذكور وأبيت أن تكون بموضع أن يجيء منه الفعل وممن يجيء منه وأن يكون بتلك المثابة‏.‏

تفسير ذلك أنك إذا قلت‏:‏ أأنت تمنعني أ أنت تأخذ على يدي صرت كأنك قلت‏:‏ إن غيرك الذي يستطيع منعي لأخذ على يدي ولست بذاك ولقد وضعت نفسك في غير موضعك‏.‏

هذا إذا جعلته لا يكون منه الفعل للعجز ولأنه ليس في وسعه‏.‏

وقد يكون أن تجعله لا يجيء منه لأنه لا يختاره ولا يرتضيه وأن نفسه نفس تأبى مثله وتكرهه‏.‏

ومثاله أن تقول‏:‏ أهو يسأل فلانا هو أرفع همة من ذلك‏.‏

أهو يمنع الناس حقوقهم هو أكرم من ذاك وقد يكون أن تجعله لا يفعله لصغر قدره وقصر همته وأن نفسه نفس لا تسمو وذلك قولك‏:‏ أهو يسمح بمثل هذا أهو يرتاح للجميل هو أقصر همة من ذلك وأقل وجملة الامر أن تقديم الاسم يقتضي أنك عمدت بالإنكار إلى ذات من قيل إنه يفعل أو قال هو‏:‏ إني أفعل‏.‏

وأردت ما تريده إذا قلت‏:‏ ليس هو بالذي يفعل وليس مثله يفعل‏.‏

لا يكون هذا المعنى إذا بدأت بالفعل فقلت‏:‏ أتفعل ألا ترى أن المحال أن تزعم أن معنى في قول الرجل لصاحبه‏:‏ أتخرج في هذا الوقت أتغرر بنفسك‏.‏

أتمضي في غير الطريق أنه أنكر أن يكون بمثابة من يفعل ذلك وبموضع من يجيء منه ذاك‏.‏

ذاك لأن العلم محيط بأن الناس لا يريدونه وأنه لا يليق بالحال التي يستعمل فيها هذا الكلام‏.‏

وكذلك محال أن يكون المعنى في قوله جل وعلا‏:‏ ‏"‏ أنلزمكموها وأنتم لها كارهون ‏"‏ أنا لسنا بمثابة من يجيء منه هذا الإلزام وأن غيرنا من يفعله جل الله تعالى وقد يتوهم المتوهم في الشيء من ذلك أنه يحتمل فإذا نظر لم يحتمل فمن ذلك قوله‏:‏ أيقتلني والمشرفي مضاجعي وقد يظن الظان أنه يجوز أن يكون في معنى أنه ليس بالذي يجيء منه أن يقتل مثلي ويتعلق بأنه قال قبل‏:‏ يغط غطيط البكر شد خناقه ليقتلني والمرء ليس بقتال ولكنه إذا نظر علم أنه لا يجوز وذاك لأنه قال‏:‏ والمشرفي مضاجعي فذكر ما يكون منعاً من الفعل‏.‏

ومحال أن يقول هو ممن لا يجيء منه الفعل ثم يقول‏:‏ إني أمنعه لأن المنع يتصور فيمن يجيء منه الفعل ومع من يصح منه لا من هو منه محال ومن هو نفسه عنه عاجز فاعرفه‏.‏

واعلم أنا وإن كنا نفسر الاستفهام في مثل هذا بالإنكار فإن الذي هو محض المعنى أنه لتنبيه السامع حتى يرجع إلى نفسه فيخجل ويرتدع ويعيا بالجواب إما لأنه قد ادعى القدرة على فعل لا يقدر عليه‏.‏

فإذا ثبت على دعواه قيل‏:‏ فافعل فيفضحه ذلك‏.‏

وإما لأنه هم بأن يفعل ما لا يستصوب فعله فإذا روجع فيه تنبه وعرف الخطأ‏.‏

وإما لأنه جوز وجود أمر لا يوجد مثله فإذا ثبت على تجويزه وبخ على تعنته وقيل له‏:‏ فأرناه في موضع وفي حال‏.‏

وأقم شاهداً على أنه كان في وقت‏.‏

ولو كان يكون للإنكار وكان المعنى فيه من بدء الأمر لكان ينبغي أن لا يجيء فيما لا يقول عاقل‏:‏ إنه يكون حتى ينكر عليه كقولهم‏:‏ أتصعد إلى السماء أتستطيع أن تنقل الجبال أ إلى رد ما مضى سبيل وإذ قد عرفت ذلك فإنه لا يقرر بالمحال وبما لا يقول أحد‏:‏ إنه يكون إلا على سبيل التمثيل وعلى أن يقال له إنك في دعواك ما ادعيت بمنزلة من يدعي هذا المحال وإنك في طمعك في الذي طمعت فيه بمنزلة من يطمع في الممتنع‏.‏

وإذ قد عرفت هذا فمما هو من هذا الضرب قونه تعالى‏:‏ ‏"‏ أفأنت تسمع الصم أو تهدي العمي ‏"‏‏.‏

ليس إسماع الصم مما يدعيه أحد فيكون ذلك للإنكار‏.‏

وإنما المعنى فيه التمثيل والتشبيه وأن ينزل الذي يظن بهم أنهم يسمعون أو أنه يستطيع إسماعهم منزلة من يرى أنه يسمع الصم ويهدي العمي‏.‏

ثم المعنى في تقديم الاسم وأن لم يقل‏:‏ أتسمع الصم‏.‏

هو أن يقال للنبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏ أ أنت خصوصاً قد أوتيت أن تسمع الصم ‏"‏ وأن يجعل في ظنه أنه يستطيع إسماعهم بمثابة من يظن أنه قد أوتي قدرة على إسماع الصم‏.‏

ومن لطيف ذلك قول ابن أبي عيينة من الكامل‏:‏ فدع الوعيد فما وعيدك ضائري أطنين أجنحة الذباب يضير جعله كأنه قد ظن أن طنين أجنحة الذباب بمثابة ما يضير حتى ظن أن وعيده يضير‏.‏

واعلم أن حال المفعول فيما ذكرنا كحال الفاعل أعني تقديم إسم المفعول يقتضي أن يكون الإنكار في طريق الإحالة والمنع من أن يكون بمثابة أن يوقع به مثل ذلك الفعل‏.‏

فإذا قلت‏:‏ أزيداً تضربظ كنت قد أنكرت أن يكون زيد بمثابة أن يضرب أو بموضع أن يجترأ عليه ويستجاز ذلك فيه ومن أجل ذلك قدم غير في قوله تعالى‏:‏ ‏"‏ قل أغير الله أتخذ ولياً ‏"‏ وقوله عز وجل‏:‏ ‏"‏ قل أرأيتكم إن أتاكم عذاب الله أو أتتكم الساعة أغير الله تدعون ‏"‏ وكان له من الحسن والمزية والفخامة ما علم أنه لا يكون لو أخر فقيل‏:‏ قل أتتخذ غير الله ولياً وأتدعون غير الله وذلك لأنه قد حصل بالتقديم معنى قولك‏:‏ أيكون غير الله بمثابة أن يتخذ ولياً وأيرضى عاقل من نفسه أن يفعل ذلك‏.‏

وأيكون جهل أجهل وعمى أعمى من ذلك ولا يكون شيء من ذلك إذا قيل‏:‏ أ أتخذ غير الله ولياً وذلك لأنه حينئذ يتناول الفعل أن يكون فقط ولا يزيد على ذلك فاعرفه‏.‏

وكذلك الحكم في قوله تعالى‏:‏ ‏"‏ فقالوا أبشراً منا واحداً نتبعه ‏"‏‏.‏

وذلك لأنهم بنوا كفرهم على أن من كان مثلهم بشراً لم يكن بمثابة أن يتبع ويطاع وينتهى إلى ما يأمر ويصدق أنه مبعوث من الله تعالى وأنهم مأمورون بطاعته كما جاء في الأخرى‏:‏ ‏"‏ إن أنتم إلا بشر مثلنا تريدون أن تصدونا ‏"‏ وكقوله عز وجل‏:‏ ‏"‏ ما هذا إلا بشر مثلكم يريد أن يتفضل عليكم ولو شاء الله لأنزل ملائكة ‏"‏ فهذا هو القول في الضرب الأول وهو يكون يفعل بعد الهمزة لفعل لم يكن‏.‏

وأما الضرب الثاني وهو أن يكون يفعل لفعل موجود فإن تقديم الاسم يقتضي شبهاً بما اقتضاه في الماضي من الأخذ بأن يقر أنه الفاعل أو الإنكار أن يكون الفاعل‏.‏

فمثال الأول قولك للرجل يبغي ويظلم‏:‏ أ أنت تجيء إلى الضعيف فتغصب ماله أ أنت تزعم أن الأمر كيت وكيت وعلى ذلك قوله تعالى‏:‏ ‏"‏ أفأنت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين ‏"‏ ومثال والثاني ‏"‏ أهم يقسمون رحمة ربك ‏"‏‏.‏

وإذ قد عرفت هذه المسائل في الاستفهام فهذه مسائل في النفي‏.‏

إذا قلت‏:‏ ما فعلت‏.‏

كنت نفيت عنك فعلاً لم يثبت أنه مفعول‏.‏

وإذا قلت‏:‏ ما أنا فعلت‏.‏

كنت نفيت عنك فعلاً ثبت أنه مفعول‏.‏

تفسير ذلك أنك إذا قلت‏:‏ ما قلت هذا‏.‏

كنت نفيت أن تكون قد ذاك وكنت نوظرت في شيء ثبت أنه مقول‏.‏

وكذلك إذا قلت‏:‏ ما ضربت زيداً‏.‏

كنت نفيت عنك ضربه ولم يجب أن يكون قد ضرب بل يجوز أن يكون قد ضربه غيرك وأن كون قد ضرب أصلاً‏.‏

وإذا قلت‏:‏ ما أنا ضربت زيداً‏:‏ لم تقله إلا وزيد مضروب وكان القصد أن تنفي أن تكون أنت الضارب‏.‏

ومن أجل ذلك صلح في الوجه الأول أن يكون المنفي عاماً كقولك‏:‏ ما قلت شعراً قط وما أكلت اليوم شيئاً وما رأيت أحداً من الناس‏.‏

ولم يصلح في الوجه الثاني فكان خلفاً أن تقول‏:‏ ما أنا قلت شعراً قط وما أنا أكلت اليوم شيئاً وما أنا رأيت أحداً من الناس وذلك لأنه يقتضي المحال وهو أن يكون هاهنا إنسان قد قال كل شعر في الدنيا وأكل كل شيء يؤكل ورأى كل أحد من الناس‏.‏

فنفيت أن تكونه‏.‏

ومما هو مثال بين في أن تقديم الاسم يقتضي وجود الفعل قوله من المتقارب‏:‏ وما أنا أسقمت جسمي به ولا أنا أضرمت في القلب نارا المعنى‏:‏ كما لا يخفى على أن السقم ثابت موجود وليس القصد بالنفي إليه ولكن إلى أن يكون ومثله في الوضوح قوله من الطويل‏:‏ وما أنا وحدي قلت ذا الشعر كله الشعر مقول على القطع والنفي لأن يكون هو وحده القائل له‏.‏

وهاهنا أمران يرتفع معهما الشك في وجوب هذا الفرق ويصير العلم به كالضرورة‏.‏

أحدهما أنه يصح لك أن تقول‏:‏ ما قلت هذا ولا قاله أحد من الناس‏.‏

وما ضربت زيداً ولا ضربه أحد سواي‏.‏

ولا يصح ذلك في الوجه الأخر‏.‏

فلو قلت‏:‏ ما أنا قلت هذا ولا قاله أحد من الناس‏.‏

وما أنا ضربت زيداً ولا ضربه أحد سواي كان خلفاً من القول وكان في التناقض بمنزلة أن تقول‏:‏ لست الضارب زيداً أمس‏.‏

فتثبت أنه قد ضرب ثم تقول من بعده‏:‏ ما ضربه أحد من الناس ولست القائل ذلك‏.‏

فتثبت أنه قد قيل ثم تجيء فتقول‏:‏ وما قاله أحد من الناس‏.‏

والثاني من الأمرين أنك تقول‏:‏ ما ضربت إلا زيداً فيكون كلاماً مستقيماً ولو قلت‏:‏ ما أنا ضربت إلا زيداً كان لغواً من القول وذلك لأن نقض النفي بإلا يقتضي أن تكون ضربت زيداً‏.‏

وتقديمك ضميرك وإيلاؤه حرف النفي يقتضي نفي أن تكون ضربته فهما يتدافعان فاعرفه‏.‏

ويجيء لك هذا الفرق على وجهه‏.‏

في تقديم المفعول وتأخيره‏.‏

فإذا قلت‏:‏ ما ضربت زيداً فقدمت الفعل كان المعنى أنك قد نفيت أن يكون قد وقع ضرب منك على زيد ولم تعرض في أمر غيره لنفي ولا إثبات وتركته مبهماً محتملاً‏.‏

وإذا قلت‏:‏ ما زيداً ضربت فقدمت المفعول كان المعنى على أن ضرباً وقع منك على إنسان وظن أن ذلك الإنسان زيد فنفيت أن يكون إياه‏.‏

فلك أن تقول في الوجه الأول‏:‏ ما ضربت زيداً ولا أحداً من وليس لك في الوجه الثاني فلو قلت‏:‏ ما زيداً ضربت ولا أحداً من الناس كان على مامضى في الفاعل‏.‏

ومما ينبغي أن تعلمه أنه يصح لك أن تقول‏:‏ ما ضربت زيداً ولكني أكرمته فتعقب الفعل المنفي بإثبات فعل هو ضده ولا يصح أن تقول‏:‏ ما زيداً ضربت ولكني أكرمته أنك لم تردد أن تقول‏:‏ لم يكن الفعل هذا ولكن ذاك ولكنك أردت أنه لم يكن المفعول هذا ولكن ذاك‏.‏

فالواجب إذاً أن تقول‏:‏ ما زيداً ضربت ولكن عمراً‏.‏

وحكم الجار مجرور في جميع ما ذكرنا حكم المنصوب‏.‏

فإذا قلت‏:‏ ما أمرتك بهذا كان المعنى على نفي أن تكون قد أمرته بذلك ولم يجب أن تكون قد أمرته بشيء آخر‏.‏

وإذا قلت‏:‏ ما بهذا أمرتك كنت قد أمرته بشيء غيره‏.‏

 التقديم والتأخير في الخبر المثبت

واعلم أن هذا الذي بان لك في الاستفهام والنفي من المعنى في التقديم قائم مثله خبر المثبت‏.‏

فإذا عمدت إلى الذي أردت أن تحدث عنه بفعل فقدمت ذكره ثم الفعل عليه فقلت‏:‏ زيد قد فعل وأنا فعلت وأنت فعلت اقتضى ذلك أن يكون القصد فاعل‏.‏

إلا أن المعنى في هذا القصد ينقسم قسمين‏:‏ أحدهما جلي لا يشكل وهو أن يكون الفعل فعلاً قد أردت أن تنص فيه على واحد فتجعله له وتزعم أنه فاعله دون آخر أو دون كل أحد‏.‏

ومثال ذلك أن تقول‏:‏ أنا كتبت في معنى فلان وأنا شفعت في بابه تريد أن تدعي الانفراد بذلك والاستبداد به وتزيل الاشتباه فيه وترد على من زعم ذلك كان من غيرك أو أن غيرك قد كتب فيه كما كتبت‏.‏

ومن البين في ذلك قولهم المثل‏:‏ أتعلمني بضب أنا حرشته‏.‏

والقسم الثاني أن لا يكون القصد إلى الفاعل على هذا المعنى ولكن على أنك أردت أن تحقق على السامع أنه قد فعل وتمنعه من الشك فأنت لذلك تبدأ بذكره وتوقعه أولاً ومن قبل أن تذكر الفعل في نفسه لكي تباعده بذلك في الشبهة وتمنعه من الإنكار أو من أن يظن بك الغلط أو التزيد ومثاله قولك‏:‏ هو يعطي الجزيل وهو يحب الثناء لا تريد أن تزعم أنه ليس هاهنا من يعطي الجزيل ويحب الثناء غيره ولا أن تعرض بانسان وتحطه عنه وتجعله لايعطي كما يعطي ولا يرغب كما يرغب‏.‏

ولكنك تريد أن تحقق على السامع أن إعطاء الجزيل وحب الثناء دأبه‏.‏

وأن تمكن ذلك في نفسه‏.‏

ومثاله في الشعر من الطويل‏:‏ لم يرد أن يدعي لهم هذه الصفة دعوى من يفردهم بها وينص عليهم فيها حتى كأنه يعرض بقوم آخرين فينفي أن يكونوا أصحابها هذا محال‏!‏ وإنما أراد أن يصفهم بأنهم فرسان يمتهدون صهوات الخيل وأنهم يقتعدون الجياد منها وأن ذلك دأبهم من غير أن يعرض لنفيه عن غيرهم إلا أنه بدأ بذكرهم لينبه السامع لهم ويعلم بدياً قصده إليهم بما في نفسه من الصفة ليمنعه بذلك من الشك ومن توهم أن يكون قد وصفهم بصفة ليست هي لهم أو أن يكون قد أراد غيرهم فغلط إليهم وعلى ذلك قول الآخر من الطويل‏:‏ هم يضربون الكبش يبرق بيضه على وجهه من الدماء سبائب لم يرد أن يدعي لهم الانفراد ويجعل هذا الضرب لا يكون إلا منهم‏.‏

ولكن أراد الذي ذكرت لك من تنبيه السامع لقصدهم بالحديث من قبل ذكر الحديث ليحقق الأمر ويؤكده ومن البين فيه قول عروة بن أذينة من الهزج‏:‏ سليمى أزمعت بينا فأين تقولها أينا وذلك أنه ظاهر معلوم أنه لم يرد أن يجعل هذا الإزماع لها خاصة ويجعلها من من جماعة ولم يزمع البين منهم أحد سواها‏.‏

هذا محال ولكنه أراد أن يحقق الأمر ويؤكده‏.‏

فأوقع ذكرها في سمع الذي كلم ابتداء ومن أول الأمر ليعلم قبل هذا الحديث أنه أرادها بالحديث فيكون ذلك هما يلبسان المجد أحسن لبسة شحيحان ما اسطاعاعليه كلاهما لا شبهة في أنه لم يرد أن يقصر هذه الصفة عليهما ولكن نبه لهما قبل الحديث عنهما‏.‏

وأبين من الجميع قوله تعالى‏:‏ ‏"‏ واتخذوا من دونه آلهة لا يخلقون شيئاً وهم يخلقون ‏"‏ وقوله عز وجل ‏"‏ وَإِذَا جَآؤُوكُمْ قَالُوَاْ آمَنَّا وَقَد دَّخَلُواْ بِالْكُفْرِ وَهُمْ قَدْ خَرَجُواْ بِهِ وَاللّهُ أَعْلَمُ بِمَا كَانُواْ يَكْتُمُونَ ‏"‏‏.‏

وهذا الذي قد ذكرت من أن تقديم ذكر المحدث عنه يفيد التنبيه له قد ذكره صاحب كتاب في المفعول إذا قدم فرفع بالابتداء وبني الفعل الناصب كان له عليه وعدي إلى ضميره فشغل به كقولنا في ضربت عبد الله‏:‏ عبد الله ضربته‏.‏

فقال‏:‏ وإنما قلت عبد الله فنبهته له ثم بنيت عليه الفعل ورفعته بالابتداء‏.‏

فإن قلت‏:‏ فمن أين وجب أن يكون تقديم ذكر المحدث عنه بالفعل آكد لإثبات ذلك الفعل له وأن يكون قوله‏:‏ هما يلبسان المجد أبلغ فى جعلهما يلبسانه من أن يقول‏:‏ يلبسان المجد‏.‏

فإن ذلك من أجل أنه لا يؤتى بالاسم معرى من العوامل إلا لحديث قد نوي إسناده إليه‏.‏

وإذا كان كذلك فإذا قلت‏:‏ عبدالله فقد أشعرت قلبه بذلك أنك قد أردت الحديث عنه‏.‏

فإذا جئت بالحديث فقلت مثلاً‏:‏ قام أو قلت‏:‏ خرج أو قلت‏:‏ قدم فقد علم ما جئت به وقد وطأت له وقدمت الإعلام فيه فدخل على القلب دخول المأنوس به وقبله قبول المتهيء له المطمئن إليه وذلك لا محالة أشد لثبوته وأنفى للشبهة وأمنع للشك وأدخل في وجملة الأمر أنه ليس إعلامك الشيء بغتة مثل إعلامك له بعد التنبيه عليه والتقدمة له لأن ذلك يجري مجرى تكرير الإعلام في التأكيد والإحكام ومن هاهنا قالوا‏:‏ إن الشيء إذا أضمر ثم فسر كان ذلك أفخم له من أن يذكر من غير تقدم إضمار ويدل على صحة ما قالوه أنا نعلم ضرورة في قوله تعالى‏:‏ ‏"‏ فإنها لا تعمى الأبصار ‏"‏ فخامة وشرفاً وروعة لا نجد منها شيئاً في قولنا‏:‏ فإن الأبصار لا تعمى‏.‏

وكذلك السبيل أبداً في كل كلام كان فيه ضمير قصة‏.‏

فقوله تعالى‏:‏ ‏"‏ إنه لا يفلح الكافرون ‏"‏ يفيد من القوة في نفي الفلاح عن الكافرين ما لو قيل‏:‏ إن الكافرين لا يفلحون لم يفد ذلك ولم يكن ذلك كذلك إلا لأنك تعلمه إياه من بعد تقدمة وتنبيه أنت به في حكم من بدأ وأعاد ووطد ثم بين ولوح ثم صرح‏.‏

ولا يخفى مكان المزية فيما طريقه هذا الطريق‏.‏

ويشهد لما قلنا من أن تقديم المحدث عنه يقتضي تأكيد الخبر وتحقيقه له أنا إذا تأملنا وجدنا هذا الضرب من الكلام يجيء فيما سبق فيه إنكار من منكر نحو أن يقول الرجل‏:‏ ليس لي علم بالذي تقول فتقول له‏:‏ أنت تعلم أن الأمر على ما أقول ولكنك تميل إلى خصمي‏.‏

وكقول الناس‏:‏ هو يعلم ذاك وإن أنكر وهو يعلم الكذب فيما قال وإن حلف عليه‏.‏

وكقوله له تعالى‏:‏ ‏"‏ ويقولون على الله الكذب وهم يعلمون ‏"‏ فهذا من أبين شيء وذاك أن الكاذب لا سيما في الدين لا يعترف بأنه كاذب وإذا لم يعترف بأنه كاذب كان أبعد من ذلك أن يعترف بالعلم بأنه كاذب أو يجيء فيما اعترض فيه شك نحو أن يقول الرجل‏:‏ كأنك لا تعلم ما صنع فلان ولم يبلغك فيقول‏:‏ أنا أعلم ولكني أداريه أو في تكذيب مدع كقوله عز وجل‏:‏ ‏"‏ وإذا جاؤوكم قالوا آمنا وقد دخلوا بالكفر وهم قد خرجوا به ‏"‏‏.‏

وذلك أن قولهم‏:‏ آمنا دعوى منهم أنهم لم يخرجوا بالكفر كما دخلوا به فالموضع موضع تكذيب‏.‏

أو فيما القياس في مثله أن لا يكون كقوله تعالى‏:‏ ‏"‏ واتخذوا من دونه آلهة لا يخلقون شيئاً وهم يخلقون ‏"‏ وذلك أن عبادتهم لها تقتضي أن لا تكون مخلوقة‏.‏

وكذلك في كل شيء كان خبراً على خلاف العادة وعما يستغرب من الأمر نحو أن نقول‏:‏ ألا تعجب من فلان يدعي العظيم وهو يعيا باليسير ويزعم أنه شجاع وهو يفزع من أدنى شيء‏.‏

ومما يحسن ذلك فيه ويكثر الوعد والضمان كقول الرجل‏:‏ أنا أعطيك أنا أكفيك أنا أقوم بهذا الأمر‏.‏

وذلك أن من شأن من تعده وتضمن له أن يعترضه الشك في تمام الوعد وفي الوفاء به فهو من أحوج شيء إلى التأكيد‏.‏

وكذلك يكثر في المدح كقولك‏:‏ أنت تعطي الجزيل أنت تقري في المحل أنت تجود حين لا يجود أحد‏.‏

وكما قال من الكامل‏:‏ ولأنت تفري ما خلقت وبع ض القوم يخلق ثم لا يفري وكقول الآخر من الرمل‏:‏ وذلك أن من شأن المادح أن يمنع السامعين من الشك فيما يمدح به ويباعدهم من الشبهة وكذلك المفتخر‏.‏

ويزيدك بياناً أنه إذا كان الفعل مما لا يشك فيه ولا ينكر بحال لم يكد يجيء على هذا الوجه ولكن يؤتى به غير مبني على اسم‏.‏

فإذا أخبرت بالخروج مثلاً عن رجل من عاداته أن يخرج في كل غداة قلت‏:‏ قد خرج‏.‏

ولم تحتج إلى أن تقوول هو قد خرج ذاك لأنه ليس بشيء يشك فيه السامع فتحتاج أن تحققه وإلى أن تقدم فيه ذكر المحدث عنه‏.‏

وكذلك إذا علم السامع من حال رجل أنه على نية الركوب والمضي إلى موضع ولم يكن شك وتردد أنه يركب أو لا يركب كان خبرك فيه أن تقول‏:‏ قد ركب ولا تقول‏:‏ هو قد ركب‏.‏

فإن جئت بمثل هذا في صلة كلام ووضعته بعد واو الحال حسن حينئذ‏.‏

وذلك قولك‏:‏ جئته وهو قد ركب‏.‏

وذاك أن الحكم يتغير إذا صارت الجملة في مثل هذا الموضع ويصير الأمر بمعرض الشك‏.‏

وذاك أنه إنما يقول هذا من ظن أنه يصادفه في منزله وأن يصل إليه من قبل أن يركب‏.‏

فإن قلت فإنك قد تقول‏:‏ جئته وقد ركب بهذا المعنى ومع هذا الشك‏.‏

فإن الشك لا يقوى حينئذ قوته في الوجه الأول‏.‏

أفلا ترى أنك إذا استبطأت إنساناً فقلت‏:‏ أتانا والشمس قد طلعت كان ذلك أبلغ في استبطائك له من تقول‏:‏ أتانا وقد طلعت الشمس وعكس هذا أنك إذا قلت‏:‏ أتى والشمس لم تطلع كان أقوى في وصفك به بالعجلة والمجيء قبل الوقت الذي ظن أنه يجيء فيه من أن تقول‏:‏ أتى ولم تطلع الشمس بعد‏.‏

هذ وهو كلام لا يكاد يجيء إلا نابياً وإنما الكلام البليغ هو أن تبدأ بالاسم وتبني الفعل عليه كقوله من الكامل‏:‏ قد أغتدي والطير لم تكلم فإذا كان الفعل فيما بعد هذه الواو التي يراد بها الحال مضارعاً لم يصلح إلا مبنياً على اسم كقولك‏:‏ رأيته وهو يكتب ودخلت عليه وهو يملي الحديث‏.‏

وكقوله من الطويل‏:‏ تمززتها والديك يدعو صباحه إذا ما بنو نعش دنوا فتصوبوا ليس يصلح شيء من ذلك إلا على ما تراه لو قلت‏:‏ رأيته ويكتب ودخلت عليه ويملي الحديث وتمززتها ويدعو الديك صباحه‏.‏

لم يكن شيئاً‏.‏

ومما هو بهذه المنزلة في أنك تجد المعنى لا يستقيم إلا على ما جاء عليه من بناء الفعل على الاسم قوله تعالى‏:‏ ‏"‏ إن وليي الله الذي نزل الكتاب وهو يتولى الصالحين ‏"‏ ‏"‏ وقالوا أساطير الأولين اكتتبها فهي تملى عليه بكرة وأصيلاً ‏"‏ وقوله تعالى‏:‏ ‏"‏ وحشر لسليمان جنوده من الجن والإنس والطير فهم يوزعون ‏"‏ فإنه لا يخفى على من له ذوق أنه لو جيء في ذلك بالفعل غير مبني على الاسم فقيل‏:‏ إن وليي الله الذي نزل الكتاب ويتولى الصالحين واكتتبها فتملى عليه وحشر لسليمان جنوده من الجن والإنس والطير فيوزعون لوجد اللفظ قد نبا عن المعنى والمعنى قد واعلم أن هذا الصنيع يقتضي في الفعل المنفي ما اقتضاه في المثبت فإذا قلت‏:‏ أنت لا تحسن هذا كان أشد لنفي إحسان ذلك عنه من أن تقول‏:‏ لا تحسن هذا‏.‏

ويكون الكلام في الأول مع من هو أشد إعجاباً بنفسه وأعرض دعوى في أنه يحسن حتى إنك لو أتيت بأنت فيما بعد تحسن فقلت‏:‏ لا تحسن أنت لم يكن له تلك القوة‏.‏

وكذلك قوله تعالى‏:‏ ‏"‏ والذين هم بربهم لا يشركون ‏"‏ يفيد من التأكيد في نفي الإشراك عنهم ما لو قيل‏:‏ والذين لا يشركون بربهم أو بربهم لا يشركون لم يفد ذلك وكذا قوله تعالى‏:‏ ‏"‏ لقد حق القول على أكثرهم فهم لا يؤمنون ‏"‏ وقوله تعالى‏:‏ ‏"‏ فعميت عليهم الأنباء يومئذ فهم لا يتساءلون ‏"‏ و ‏"‏ إن شر الدواب عند الله الذين كفروا فهم لا يؤمنون ‏"‏‏.‏