فصل: التوكيد وعلاماته

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: دلائل الإعجاز **


 التوكيد وعلاماته

واعلم أن مما أغمض الطريق إلى معرفة ما نحن بصدده أن هاهنا فروقاً خفية تجهلها العامة وكثير من الخاصة ليس أنهم يجهلونها في موضع ويعرفونها في آخر بل لا يدرون أنها هي ولا يعلمونها في جملة ولا تفصيل‏.‏

روي عن ابن الأنباري أنه قال‏:‏ ركب الكندي المتفلسف إلى أبي العباس وقال له‏:‏ إني لأجد في كلام العرب حشواً‏:‏ فقال أبو العباس‏:‏ في أي موضع وجدت ذلك‏.‏

فقال‏:‏ أجد العرب يقولون‏:‏ عبد الله قائم‏.‏

ثم يقولون‏:‏ إن عبد الله قائم ثم يقولون‏:‏ إن عبد الله لقائم فالألفاظ متكررة والمعنى واحد‏.‏

فقال أبو لعباس‏:‏ بل المعاني مختلفة لاختلاف الألفاظ فقولهم‏:‏ عبد الله قائم إخبارعن قيامه وقولهم‏:‏ إن عبد الله قائم جواب عن سؤال سائل‏.‏

وقولهم‏:‏ إن عبد الله لقائم جواث عن إنكار منكر قيامه فقد تكررت الألفاظ لتكرر المعاني‏.‏

قال‏:‏ فما أحار المتفلسف جواباً‏.‏

وإذا كان الكندي يذهب هذا عليه حتى يركب فيه ركوب مستفهم أومعترض فما ظنك بالعامة ومن هو في عداد العامة ممن لا يخطر شبه هذا بباله‏.‏

واعلم أن هاهنا دقائق لو أن الكندي استقرأ وتصفح وتتبع مواقع إن ثم ألطف النظر وكثر التدبر لعلم علم ضرورة أن ليس سواء دخولها وأن لا تدخل‏.‏

فأؤل ذلك وأعجبه ما قدمت لك بكرا صاحبي قبل الهجير إن ذاك النجاح في التبكير وما أنشدته معه من قول بعض العرب‏:‏ فغنها وهي لك الفداء إن غناء الإبل الحداء وذلك أنه هل شيء أبين في الفائدة وأدل على أن ليس سواء دخولها وأن لا تدخل من أنك ترى الجملة إذا هي دخلت ترتبط بما قبلها وتأتلف معه وتتحد به‏.‏

حتى كأن الكلامين قد أفرغا إفراغاً واحداً وكأن أحدهما قد سبك في الآخر‏.‏

هذه هي الصورة حتى إذا جئت إلى إن فأسقطتها رأيت الثاني منهما قد نبا عن الأول وتجافى معناه عن معناه ورأيته لا يتصل به ولا يكون منه بسبيل حتى تجيء بالفاء فتقول‏:‏ بكرا صاحبي قبل الهجير فذاك النجاح في التبكير وغنها وهي لك الفداء فغناء الإبل الحداء‏.‏

ثم لا ترى الفاء تعيد الجملتين إلى ما كانتا عليه من الألفة ولا ترد عليك الذي كنت تجد بإن من المعنى‏.‏

وهذا الضرب كثير في التنزيل جداً من ذلك قوله تعالى‏:‏ ‏"‏ يا أيها الناس اتقوا ربكم إن زلزلة الساعة شيء عظيم ‏"‏ وقوله عز اسمه‏:‏ ‏"‏ يا بني أقم الصلاة وأمر بالمعروف وانه عن المنكر واصبر على ما أصابك إن ذلك من عزم الأمور ‏"‏ وقوله سبحانه‏:‏ ‏"‏ خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها وصل عليهم إن صلاتك سكن لهم ‏"‏ ومن أبين ذلك وقوله تعالى‏:‏ ‏"‏ ولا تخاطبني في الذين ظلموا إنهم مغرقون ‏"‏ وقد يتكرر في الآية الواحدة كقوله عز اسمه‏:‏ ‏"‏ وما أبرئ نفسي إن النفس لأمارة بالسوء إلا ما رحم ربي إن ربي غفور رحيم ‏"‏ وهي على الجملة من الكثرة بحيث لا يدركها الإحصاء‏.‏

ومن خصائصها أنك ترى لضمير الأمر والشأن معها من الحسن واللطف ما لا تراه إذا هي لم تدخل عليه بل تراه لا يصلح حيث صلح إلا بها وذلك في مثل قوله تعالى‏:‏ ‏"‏ إنه من يتق ويصبر فإن الله لا يضيع أجر المحسنين ‏"‏ وقوله‏:‏ ‏"‏ أنه من يحادد الله ورسوله فأن له نار جهنم ‏"‏ وقوله‏:‏ ‏"‏ أنه من عمل منكم سوءاً بجهالة ثم تاب ‏"‏ وقوله‏:‏ ‏"‏ إنه لا يفلح الكافرون ‏"‏‏.‏

ومن ذلك قوله‏:‏ ‏"‏ فإنها لا تعمى الأبصار ‏"‏‏.‏

وأجاز أبو الحسن فيها وجهاً آخر وهو أن يكون الضمير في إنها للأبصار أضمرت قبل الذكر على شريطة التفسير‏.‏

لحاجة في هذا الوجه أيضاً إلى إن قائمة كما كانت في الوجه الأول فإنه لا يقال‏:‏ هي تعمى الأبصار كما لا يقال‏:‏ هو من يتق ويصبر فإن الله لا يضيع‏.‏

فإن قلت‏:‏ أوليس قد جاء ضمير الأمر مبتدأ به معرى من العوامل في قوله تعالى‏:‏ ‏"‏ قل هو الله أحد ‏"‏ قيل‏:‏ وإن جاء هاهنا فإنه لا يكاد يوجد مع الجملة من الشرط والجزاء بل تراه لا يجيء إلا بإن‏.‏

على أنهم قد أجازوا في ‏"‏ قل هو الله أحد ‏"‏ أن لا يكون الضمير للأمر‏.‏

ومن لطيف ما جاء في هذا الباب ونادره ما تجده في آخر هذه الأبيات التي أنشدها الجاحظ لبعض الحجازيين من الطويل‏:‏ إذا طمع يوماً عراني قريته كتائب يأس كرها وطرادها أكد ثمادي والمياه كثيرة أعالج منها حفرها واكتدادها وأرضى بها من بحرآخر إنه هو الري أن ترضى النفوس ثمادها المقصود قوله‏:‏ إنه هو الري وذلك أن الهاء في إنه تحتمل أمرين‏:‏ أحدهما أن تكون ضمير الأمر ويكون قوله هو ضمير أن ترضى وقد أضمر قبل الذكر على شريطة التفسير‏.‏

الأصل‏:‏ أن الأمر أن ترضى النفوس ثمادها الري ثم أضمر قبل الذكر كما أضمرت الأبصار في ‏"‏ فإنها لا تعمى الأبصار ‏"‏ على مذهب أبي الحسن ثم أتى بالمضمر مصرحاً به في آخر الكلام فعلم بذلك أن الضمير السابق له وأنه المراد به‏.‏

والثاني أن تكون الهاء في إنه ضمير أن ترضى قبل الذكر ويكون هو فصلاً ويكون أصل الكلام‏:‏ إن أن ترضى النفوس ثمادها هو الري ثم أضمر على شريطة التفسير‏.‏

وأي الأمرين كان فإنه لا بد فيه من إن ولا سبيل إلى إسقاطها لأنك إن أسقطتها أفضى ذلك بك إلى شيء شنيع وهو أن تقول‏:‏ وأرضى بها من بحر آخر وهو الري أن ترضى النفوس ثمادها‏.‏

هذا وفي إن هذه شيء آخر يوجب الحاجة إليها وهو أنها تتولى من ربط الجملة بما قبلها نحوا مما ذكرت لك في بيت بشار‏.‏

ألا ترى أنك لو أسقطت إن والضميرين معاً واقتصرت على ذكر ما يبقى من الكلام لم تقله إلا بالفاء كقولك‏:‏ وأرضى بها من بحر آخر فالري أن ترضى النفوس ثمادها‏.‏

فلو أن الفيلسوف قد كان تتبع هذه المواضع لما ظن الذي ظن‏.‏

هذا وإذا كان خلف الأحمر وهو القدوة ومن يؤخذ عنه ومن هو بحيث يقول الشعر فينحله الفحول والجاهليين فيخفى ذلك له‏.‏

ويجوز أن يشتبه ما نحن فيه عليه حتى يقع له أن ينتقد على بشار‏.‏

فلا غرو أن تدخل الشبهة في ذلك على الكندي‏.‏

ومما تصنعه إن في الكلام أنك تراها تهيىء النكرة وتصلحها لأن يكون لها حكم المبتدأ أعني أن تكون محدثاً عنها بحديث من بعدها‏.‏

ومثال ذلك قوله من مخلع البسيط‏:‏ إن شواء ونشوة وخبب البازل الأمون قد ترى حسنها وصحة المعنى معها ثم إنك إن جئت بها من غير إن فقلت‏:‏ شواء ونشوة وخبب البازل الأمون لم يكن كلاماً‏.‏

فإن كانت النكرة موصوفة وكانت لذلك تصلح أن يبتدأ بها فإنك تراها مع إن أحسن وترى المعنى حينئذ أولى بالصحة وأمكن‏.‏

أفلا ترى إلى قوله من الخفيف‏:‏ ليس بخفي وإن كان يستقيم أن تقول‏:‏ دهر يلف شملي بسعدى دهر صالح‏:‏ أن ليس الحالان على سواء‏.‏

وكذلك ليس يخفى أنك لو عمدت إلى قوله من مشطور المديد‏:‏ إن أمراً فادحاً عن جوابي شغلك فأسقطت منه إن لعدمت منه الحسن والطلاوة والتمكن الذي أنت واجده الآن ووجدت ضعفاً وفتوراً‏.‏

ومن تأثير إن في الجملة أنها تغني إذا كانت فيها عن الخبر في بعض الكلام‏.‏

ووضع صاحب الكتاب في ذلك باباً فقال‏:‏ هذا باب ما يحسن عليه السكوت في الأحرف الخمسة لإضمارك ما يكون مستقراً لها وموضعاً لو أضمرته وليس هذا المضمر بنفس المظهر‏.‏

وذلك إن مالاً وإن ولداً وإن عدداً أي‏:‏ إن لهم مالاً‏.‏

فالذي أضمرت هو لهم‏.‏

ويقول الرجل للرجل‏:‏ هل لكم أحد إن الناس ألب عليكم فيقول‏:‏ إن زيداً وإن عمراً أي لنا وقال من المنسرح‏:‏ إن محلا وإن مرتحلا وإن في السفر إن مضوا مهلا وتقول‏:‏ إن غيرها إبلا وشاء كأنه قال‏:‏ إن لنا أو عندنا غيرها‏.‏

قال‏:‏ وانتصب الإبل والشاء كانتصاب الفارس إذا قلت‏:‏ ما في الناس مثله فارساً‏.‏

وقال‏:‏ ومثل ذلك قوله من الرجز‏:‏ يا ليت أيام الصبا رواجعا قال‏:‏ فهذا كقولهم‏:‏ ألا ماء بارداً‏:‏ وكأنه قال‏:‏ ألا ماء لنا بارداً‏:‏ وكأنه قال‏:‏ يا ليت أيام الصبا أقبلت رواجع‏.‏

فقد أراك في هذا كله أن الخبر محذوف‏.‏

وقد ترى حسن الكلام وصحته مع حذفه وترك النطق به‏.‏

ثم إنك إن عمدت إلى إن فأسقطتها وجدت الذي كان حسن من حذف الخبر لا يحسن أولا يسوغ فلو قلت‏:‏ مال وعدد ومحل ومرتحل وغيرها إبلاً وشاء لم يكن شيئاً‏.‏

وذلك أن إن كانت السبب في أن حسن حذف الذي حذف من الخبر وأنها حاضنته والمترجم عنه والمتكفل بشأنه‏.‏

واعلم أن الذي قلنا في إن من أنها تدخل على الجملة من شأنها إذا هي أسقطت منها أن يحتاج فيها إلى الفاء لا يطرد في كل شيء وكل موضع بل يكون في موضع دون موضع وفي حال دون حال‏.‏

فإنك قد تراها قد دخلت على الجملة ليست هي مما يقتضي الفاء‏.‏

وذلك فيما لا يحصى كقوله تعالى‏:‏ ‏"‏ إن المتقين في مقام أمين‏.‏

في جنات وعيون ‏"‏ وذاك أن قبله ‏"‏ إن هذا ما كنتم به تمترون ‏"‏‏.‏

ومعلوم أنك لو قلت‏:‏ إن هذا ما كنتم به تمترون فالمتقون في جنات وعيون لم يكن كلاماً‏.‏

وكذلك قوله‏:‏ ‏"‏ إن الذين سبقت لهم منا الحسنى أولئك عنها مبعدون ‏"‏ لأنك لو قلت‏:‏ ‏"‏ لهم فيها زفير وهم فيها لا يسمعون ‏"‏‏.‏

فالذين سبقت لهم منا الحسنى لم تجد لإدخالك الفاء فيه وجهاً‏.‏

وكذا قوله‏:‏ ‏"‏ إن الذين أمنوا والذين هادوا والصابئين والنصارى والمجوس والذين أشركوا إن الله يفصل بينهم يوم القيامة ‏"‏ ‏"‏ الذين أمنوا ‏"‏ اسم إن وما بعده معطوف عليه وقوله‏:‏ ‏"‏ إن الله يفصل بينهم يوم القيامة ‏"‏ جملة في موضع الخبر‏.‏

ودخول الفاء فيها محال لأن الخبر لا يعطف على المبتدأ‏.‏

ومثله سواء ‏"‏ إن الذين أمنوا وعملوا الصالحات إنا لا نضيع أجر من أحسن عملاً ‏"‏ فإذا إنما يكون الذي ذكرنا في الجملة من حديث اقتضاء الفاء إذا كان مصدرها مصدر الكلام يصحح به ما قبله ويحتج له ويبين وجه الفائدة فيه‏.‏

ألا ترى أن الغرض من قوله‏:‏ إن ذاك النجاح في التكبير جله أن يبين المعنى في قوله لصاحبيه بكرا وأن يحتبج لنفسه الأمر بالتبكير ويبين وجه الفائدة فيه‏.‏

وكذلك الحكم في الآي التي تلوناها فقوله‏:‏ ‏"‏ إن زلزلة الساعة شيء عظيم ‏"‏ بيان للمعنى في قوله تعالى‏:‏ ‏"‏ يا أيها الناس اتقوا ربكم ‏"‏ ولم أمروا بأن يتقوا وكذلك قوله‏:‏ ‏"‏ إن صلاتك سكن ‏"‏ بيان للمعنى في أمر النبي صلى الله عليه وسلم بالصلاة أي بالدعاء لهم‏.‏

ولهذا سبيل كل ما أنت ترى فيه الجملة يحتاج فيها إلى الفاء‏.‏

فاعرف ذلك‏.‏

فأما الذي ذكر عن أبي العباس من جعله لها جواب سائل إذا كانت وحدها‏.‏

وجواب منكر إذا كان معها اللام‏.‏

فالذي يدل على أن لها أصلاً في الجواب أنا رأيناهم قد ألزموها الجملة من المبتدأ والخبر إذا كانت جواباً للقسم نحو‏:‏ والله إن زيداً منطلق‏.‏

وامتنعوا من أن يقولوا‏:‏ والله زيد منطلق‏.‏

ثم إنا إذا استقرينا الكلام وجدنا الأمر بيناً في الكثير من مواقعها أنه يقصد بها إلى الجواب كقوله تعالى‏:‏ ‏"‏ ويسألونك عن ذي القرنين قل سأتلو عليكم منه ذكراً‏.‏

إنا مكنا له في الأرض ‏"‏ وكقوله عز وجل في أول السورة‏:‏ ‏"‏ نحن نقص عليك نبأهم بالحق إنهم فتية آمنوا بربهم ‏"‏ وكقوله تعالى‏:‏ ‏"‏ فإن عصوك فقل إني بريء مما تعملون ‏"‏ وقوله تعالى‏:‏ ‏"‏ قل إني نهيت أن أعبد الذين تدعون من دون الله ‏"‏ وقوله‏:‏ وقل إني أنا النذير المبين ‏"‏ وأشباه ذلك مما يعلم به أنه كلام أمر النبي صلى الله عليه وسلم بأن يجيب به الكفار في بعض ما جادلوا وناظروا فيه‏.‏

وعلى ذلك قوله تعالى‏:‏ ‏"‏ فأتيا فرعون فقولا إنا رسول رب العالمين ‏"‏ وذاك أنه يعلم أن المعنى‏:‏ فاتياه فإذا قال لكما ما شأنكما وما جاء بكما وما تقولان فقولا‏:‏ إنا رسول رب العالمين‏.‏

وكذا قوله‏:‏ ‏"‏ وقال موسى يا فرعون إني رسول من رب العالمين ‏"‏ هذا سبيله‏.‏

ومن البين في ذلك قوله تعالى في قصة السحرة‏:‏ ‏"‏ قالوا إنا إلى ربنا منقلبون ‏"‏‏.‏

وذاك لأنه عيان أنه جواب فرعون عن قوله‏:‏ ‏"‏ أمنتم له قبل أن آذن لكم ‏"‏ فهذا هو وجه القول في نصرة هذه الحكاية‏.‏

ثم إن الأصل الذي ينبغي أن يكون عليه البناء هو الذي دون في الكتب من أنها للتأكيد‏.‏

وإذا كان قد ثبت ذلك فإذا كان الخبر بأمر ليس للمخاطب ظن في خلافه البتة ولا يكون قد عقد في نفسه أن الذي تزعم أنه كائن غير كائن وأن الذي تزعم أنه لم يكن كائن فأنت لا تحتاج هناك إلى إن وإنما تحتاج إليها إذا كان له ظن في الخلاف وعقد قلب على نفي ماتثبت أو إثبات ما تنفي‏.‏

ولذلك تراها تزداد حسناً إذا كان الخبر بأمر يبعد مثله في الظن وبشيء قد جرت عادة الناس بخلافه كقول أبي نواس من السريع‏:‏ إن غنى نفسك في الياس فقد ترى حسن موقعها وكيف قبول النفس لها وليس ذلك ألا لأن الغالب على الناس أنهم لا يحملون أنفسهم على اليأس ولا يدعون الرجاء والطمع ولا يعترف كل أحد ولا يسلم أن الغنى في اليأس‏.‏

فلما كان كذلك كان الموضع موضع إلى التأكيد فلذلك كان من حسنها ما ترى‏.‏

ومثله سواء قول محمد بن وهيب من الطويل‏:‏ أجارتنا إن التعفف بالياس وصبراً على استدرار دنيا بإبساس حريان أن لا يقذفا بمذلة كريماً وأن لا يحوجاه إلى الناس أجارتنا إن القداح كواذب وأكثر أسباب النجاح مع الياس هو كما لا يخفى كلام مع من لا يرى أن الأمر كما قال بل ينكره ويعتقد خلافه‏.‏

ومعلوم أنه لم يقله إلا والمرأة تحدوه وتبعثه على التعرض للناس وعلى الطلب‏.‏

ومن لطيف مواقعها أن يدعى على المخاطب ظن لم يظنه ولكن يراد التهكم به وأن يقال‏:‏ إن حالك والذي صنعت يقتضي أن تكون قد ظننت ذلك‏.‏

ومثال ذلك قول الأول من السريع‏:‏ جاء شقيق عارضاً رمحه إن بني عمك فيهم رماح يقول‏:‏ إن مجيئه هكذا مدلا بنفسه وبشجاعته قد وضع رمحه عرضاً دليل على إعجاب شديد وعلى اعتقاد منه أنه لا يقوم له أحد حتى كأن ليس مع أحد منا رمح يدفعه به وكأنا كلنا عزل‏.‏

وإذا كان كذلك وجب إذا قيل إنها جواب سائل أن يشترط فيه أن يكون للسائل ظن في المسؤول عنه على خلاف ما أنت تجيبه به فأما أن يجعل مجرد الجواب أصلاً فيه فلا لأنه يؤدي أن لا يستقيم لنا إذا قال الرجل‏:‏ كيف زيد أن تقول‏:‏ صالح‏.‏

وإذا قال‏:‏ أين هو أن تقول‏:‏ في الدار‏.‏

وأن لا يصح حتى تقول‏:‏ إنه صالح وإنه في الدار وذلك ما لا يقوله أحد‏.‏

وأما جعلها إذا جمع بينها وبين اللام نحو‏:‏ إن عبد الله لقائم للكلام مع المنكر فجيد لأنه إذا كان الكلام مع المنكر كانت الحاجة إلى التأكيد أشد وذلك أنك أحوج ما تكون إلى الزيادة في تثبيت خبرك إذا كان هناك من يدفعه وينكر صحته‏.‏

إلا أنه ينبغي أن يعلم أنه كما يكون للإنكار قد كان من السامع فإنه يكون للإنكار أو يرى أن يكون من السامعين‏.‏

وجملة الأمر أنك لا تقول‏:‏ إنه لكذلك حتى تريد أن تضع كلامك وضع من يزع فيه عن الإنكار‏.‏

واعلم أنها قد تدخل للدلالة على أن الظن قد كان منك أيها المتكلم في الذي كان إنه لا يكون‏.‏

وذلك قولك للشيء‏:‏ هو بمرأى من المخاطب ومسمع إنه كان من الأمر ما ترى وكان مني إلى فلان إحسان ومعروف ثم إنه جعل جزائي ما رأيت‏.‏

فتجعلك كأنك ترد على نفسك ظنك الذي ظننت وتبين الخطأ الذي توهمت‏.‏

وعلى ذلك والله أعلم قوله تعالى حكاية عن أم مريم رضي الله عنها‏:‏ ‏"‏ قالت رب إني وضعتها أنثى والله أعلم بما وضعت ‏"‏ وكذلك قوله عز وجل حكاية عن نوح عليه السلام‏:‏ ‏"‏ قال رب إن قومي كذبون ‏"‏‏.‏

وليس الذي يعرض بسبب هذا الحرف من الدقائق والأمور الخفية يدرك بالهوينا ونحن نقتصر الآن على ما ذكرنا ونأخذ في القول عليها إذا اتصلت بها ما‏.‏

 مسائل إنما

قال الشيخ أبو علي في الشيرازيات‏:‏ يقول ناس من النحويين في نحو قوله تعالى‏:‏ ‏"‏ قل إنما حرم ربي الفواحش ما ظهر منها وما بطن ‏"‏‏:‏ إن المعنى‏:‏ ما حرم ربي الا الفواحش‏.‏

قال‏:‏ وأصبت ما يدل على صحة قولهم في هذا وهو قول الفرزدق من الطويل‏:‏ أنا الذائد الحامي الذمار وإنما يدافع عن أحسابهم أنا أو مثلي فليس يخلو هذا الكلام من أن يكون موجباً أو منفياً‏.‏

فلو كان المراد به الإيجاب لم يستقم‏.‏

ألا ترى أنك لا تقول‏:‏ يدافع أنا ولا يقاتل أنا وإنما تقول‏:‏ أدافع وأقاتل‏.‏

ألا أن المعنى لما كان‏:‏ ما يدافع إلا أنا فصلت الضمير كما تفصله مع النفي إذا ألحقت معه إلا حملاً على المعنى‏.‏

وقال أبو إسحاق الزجاج في قوله تعالى‏:‏ ‏"‏ إنما حرم عليكم الميتة والدم ‏"‏ النصب في الميتة هو القراءة ويجوز‏:‏ إنما حرم عليكم‏.‏

قال أبو إسحاق‏:‏ والذي أختاره أن تكون ما هي التي تمنع إن من العمل ويكون المعنى‏:‏ ما حرم عليكم إلا الميتة لأن إنما تأتي إثباتاً لما يذكر بعدها ونفياً لما سواه وقول الشاعر‏:‏ وإنما يدافع عن أحسابهم أنا أو مثلي المعنى‏:‏ ما يدافع عن أحسابهم إلا أنا أو مثلي‏.‏

انتهى كلام أبي علي‏.‏

اعلم أنهم وإن كانوا قد قالوا‏:‏ هذا الذي كتبته لك فإنهم لم يعنوا بذلك أن المعنى في هذا هو المعنى في ذلك بعينه وأن سبيلهما سبيل اللفظين يوضعان لمعنى واحد‏.‏

وفرق بين أن يكون في الشيء معنى الشيء وبين أن يكون الشيء للشيء على الإطلاق‏.‏

يبين لك أنهما لا يكونان سواء أنه ليس كل كلام يصلح فيه ما وإلا يصلح فيه إنما ألا ترى أنها لا تصلح في مثل قوله تعالى‏:‏ ‏"‏ وما من إله إلا الله ‏"‏ ولا في نحو قولنا‏:‏ ما أحد إلا وهو يقول ذاك‏.‏

إذ لو قلت‏:‏ إنما من إله الله وإنما أحد وهو يقول ذاك قلت ما لا يكون له معنى‏.‏

فإن قلت‏:‏ إن سبب ذلك أن أحداً لا يقع إلا في النفي وما يجري مجرى النفي من النهي والاستفهام وأن من المزيدة في ما من إله إلا الله كذلك لا تكون إلا في النفي‏.‏

قيل‏:‏ ففي هذا كفاية بأنه اعتراف بأن ليسا سواء لأنهما لو كانا سواء لكان ينبغي أن يكون في إنما من النفي مثل ما يكون في ما وإلا‏.‏

وكما وجدت إنما لا تصلح فيما ذكرنا تجد ما وإلا لا تصلح في ضرب من الكلام قد صلحت فيه إنما وذلك في مثل قولك‏:‏ إنما هو درهم لا دينار‏.‏

لو قلت ما هو إلا درهم لا دينار لم يكن شيئاً‏.‏

وإذ قد بان بهذه الجملة أنهم حين جعلوا إنما في معنى ما وإلا لم يعنوا أن المعنى فيهما واحد على الإطلاق وأن يسقطوا الفرق فإني أبين لك أمرها وما هو أصل في كل واحد منهما بعون الله وتوفيقه‏.‏

اعلم أن موضوع إنما على أن تجيء لخبر لا يجهله المخاطب ولا يدفع صحته أو لما ينزل هذه المنزلة‏.‏

تفسير ذلك أنك تقول للرجل‏:‏ إنما هو أخوك وإنما هو صاحبك القديم لا تقوله لمن يجهل ذلك ويدفع صحته ولكن لمن يعلمه ويقر به‏.‏

إلا أنك تريد أن تنبهه للذي يجب عليه من حق الأخ وحرمة الصاحب‏.‏

ومثله قول الآخر من الخفيف‏:‏ إنما أنت والد والأب القا طع أحنى من واصل الأولاد لم يرد أن يعلم كافوراً أنه والد ولا ذاك مما يحتاج كافور فيه إلى الإعلام ولكنه أراد أن يذكره بالأمر المعلوم لينبني عليه استدعاء ما يوجبه كونه بمنزلة الوالد‏.‏

ومثل ذلك قولهم‏:‏ إنما يعجل من يخشى الفوت‏.‏

وذلك أن من المعلوم الثابت في النفوس أن من لم يخش الفوت لم يعجل‏.‏

ومثاله من التنزيل قوله تعالى‏:‏ ‏"‏ إنما يستجيب الذين يسمعون ‏"‏ وقوله تعالى‏:‏ ‏"‏ إنما تنذر من اتبع الذكر وخشي الرحمن بالغيب ‏"‏ وقوله تعالى‏:‏ ‏"‏ إنما أنت منذر من يخشاها ‏"‏‏.‏

كل ذلك تذكير بأمر ثابت معلوم‏.‏

وذلك أن كل عاقل يعلم أنه لا تكون استجابة إلا ممن يسمع ويعقل ما يقال له ويدعى إليه‏.‏

وأن من لم يسمع ولم يعقل لم يستجب‏.‏

وكذلك معلوم أن الإنذار إنما يكون إنذاراً ويكون له تأثير إذا كان مع من يؤمن بالله ويخشاه ويصدق بالبعث والساعة‏.‏

فأما الكافر الجاهل فالإنذار معه واحد‏.‏

فهذا مثال الخبر فيه خبر بأمر يعلمه المخاطب ولا ينكره بحال‏.‏

وأما مثال ما ينزل هذه المنزلة فكقوله من الخفيف‏:‏ إنما مصعب شهاب من الل ه تجلت عن وجهه الظلماء ادعى في كون الممدوح بهذه الصفة أنه أمر ظاهر معلوم للجميع على عادة الشعراء إذا مدحوا أن يدعوا في الأوصاف التي يذكرون بها الممدوحين أنها ثابتة لهم وأنهم قد شهروا بها وأنهم لم يصفوا إلا بالمعلوم الظاهر الذي لا يدفعه أحد كما قال‏:‏ وتعذلني أفناء سعد عليهم وما قلت إلا بالذي علمت سعد لا أدعي لأبي العلاء فضيلة حتى يسلمها إليه عداه ومثله قولهم‏:‏ إنما هو أسد وإنما هو نار وإنما هو سيف صارم‏.‏

إذا أدخلوا إنما جعلوا في حكم الظاهر المعلوم الذي لا ينكر ولا يدفع ولا يخفى‏.‏

وأما الخبر بالنفي والإثبات نحو ما هذا إلا كذا وإن هو إلا كذا فيكون للأمر ينكره المخاطب ويشك فيه‏.‏

فإذا قلت‏:‏ ما هو إلا مصيب أو‏:‏ ما هو إلا مخطىء قلته لمن يدفع أن يكون الأمر على ما قلته‏.‏

وإذا رأيت شخصاً من بعيد فقلت‏:‏ ما هو إلا زيد لم تقله إلا وصاحبك يتوهم أنه ليس بزيد وأنه إنسان آخر ويجد في الإنكار أن يكون زيداً‏.‏

وإذا كان الأمر ظاهراً كالذي مضى لم تقله كذلك فلا تقول للرجل ترققه على أخيه وتنبهه للذي يجب عليه من صلة الرحم ومن حسن التحاب‏:‏ ما هو إلا أخوك‏.‏

وكذلك لا يصلح في‏:‏ إنما أنت والد ما أنت إلا والد‏.‏

فأما نحو‏:‏ إنما مصعب شهاب فيصلح فيه أن تقول‏:‏ ما مصعب إلا شهاب‏.‏

لأنه ليس من المعلوم على الصحة وإنما ادعى الشاعر فيه أنه كذلك‏.‏

وإذا كان هذا هكذا جاز أن تقوله بالنفي والإثبات‏.‏

إلا أنك تخرج المدح حينئذ عن أن يكون على حد المبالغة من حيث لا تكون قد ادعيت فيه أنه معلوم وأنه بحيث لا ينكره منكر ولا يخالف فيه مخالف‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏"‏ إن أنتم إلا بشر مثلنا تريدون أن تصدونا عما كان يعبد آباؤنا ‏"‏‏.‏

إنما جاء والله أعلم بإن وإلا دون إنما فلم يقل‏:‏ إنما أنتم بشر مثلنا لأنهم جعلوا الرسل كأنهم بادعائهم النبوة قد أخرجوا أنفسهم عن أن يكونوا بشراً مثلهم وادعوا أمراً لا يجوز أن يكون لمن هو بشر‏.‏

ولما كان الأمر كذلك أخرج اللفظ مخرجه حيث يراد إثبات أمر يدفعه المخاطب ويدعي خلافه‏.‏

ثم جاء الجواب من الرسل الذي هو قوله تعالى‏:‏ ‏"‏ قالت لهم رسلهم إن نحن إلا بشر مثلكم ‏"‏ كذلك بإن وإلا دون إنما لأن من حكم من ادعى عليه خصمه الخلاف في أمر هو لا يخالف فيه أن يعيد كلام الخصم على وجهه ويجيء به على هيئته ويحكيه كما هو‏.‏

فإذا قلت للرجل‏:‏ أنت من شأنك كيت وكيت‏.‏

قال‏:‏ نعم أنا من شأني كيت وكيت ولكن لا ضير علي ولا يلزمني من أجل ذلك ما ظننت أنه يلزم‏.‏

فالرسل صلوات الله عليهم كأنهم قالوا‏:‏ إن ما قلتم من أنا بشر مثلكم كما قلتم‏:‏ لسنا ننكر ذلك ولا نجهله ولكن ذلك لا يمنعنا من أن يكون الله تعالى قد من علينا وأكرمنا بالرسالة‏.‏

وأما قوله تعالى‏:‏ ‏"‏ قل إنما أنا بشر مثلكم ‏"‏‏.‏

فجاء بإنما لأنه ابتداء كلام قد أمر النبي صلى الله عليه وسلم بأن يبلغه إياهم ويقوله معهم وليس هو جواباً لكلام سابق قد قيل فيه‏:‏ إن أنت إلا بشر مثلنا‏.‏

فيجب أن يؤتى به على وفق ذلك الكلام ويراعى فيه حذوه كما كان ذلك في الآية الأولى‏.‏

وجملة الأمر أنك متى رأيت شيئاً هو من المعلوم الذي لا يشك فيه قد جاء بالنفي فذلك لتقدير معنى صار به في حكم المشكوك فيه‏.‏

فمن ذلك قوله‏.‏

تعالى‏:‏ ‏"‏ وما أنت بمسمع من في القبور إن أنت إلا نذير ‏"‏ إنما جاء والله أعلم بالنفي والإثبات لأنه لما قال تعالى‏:‏ ‏"‏ وما أنت بمسمع من في القبور ‏"‏‏.‏

وكان المعنى في ذلك أن يقال للنبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ إنك لن تستطيع أن تحول قلوبهم عما هي عليه من الإباء ولا تملك أن توقع الإيمان في نفوسهم مع إصرارهم على كفرهم واستمرارهم على جهلهم وصدهم بأسماعهم عما تقوله لهم وتتلوه عليهم‏.‏

كان اللائق بهذا أن يجعل حال النبي صلى الله عليه وسلم حال من قد ظن أنه يملك ذلك ومن لا يعلم يقيناً أنه ليس في وسعه شيء أكثر من أن ينذر ويحذر‏.‏

فأخرج اللفظ مخرجه إذ كان الخطاب مع من يشك فقيل‏:‏ ‏"‏ إن أنت إلا نذير ‏"‏ ويبين ذلك أنك تقول للرجل يطيل مناظرة الجاهل ومقاولته‏:‏ إنك لا تستطيع أن تسمع الميت وأن تفهم الجماد وأن تحول الأعمى بصيراً وليس بيدك إلا أن تبين وتحتج ولست تملك أكثر من ذلك لا تقول هاهنا‏.‏

فإنما الذي بيدك أن تبين وتحتج‏.‏

ذلك لأنك لم تقل له‏:‏ إنك لا تستطيع أن تسمع الميت حتى جعلته بمثابة من يظن أنه يملك وراء الاحتجاج والبيان شيئاً‏.‏

وهذ واضح فاعرفه‏.‏

ومثل هذا في أن الذي تقدم من الكلام اقتضى أن يكون اللفظ كالذي تراه من كونه بإن وإلا قوله تعالى‏:‏ ‏"‏ قل لا أملك لنفسي نفعاً ولا ضراً إلا ما شاء الله ولو كنت أعلم الغيب لاستكثرت من الخير وما مسني السوء إن أنا إلا نذير وبشير لقوم يؤمنون ‏"‏‏.‏

اعلم أنها تفيد في الكلام بعدها إيجاب الفعل لشيء ونفيه عن غيره‏.‏

فإذا قلت‏:‏ إنما جاءني زيد عقل منه أنك أردت أن تنفي أن يكون الجائي غيره‏.‏

فمعنى الكلام معها شبية لمعنى في قولك‏:‏ جاءني زيد لا عمرو إلا أن لها مزية وهي أنك تعقل معها إيجاب الفعل لشيء ونفيه عن غيره دفعة واحدة وفي حال واحدة‏.‏

وليس كذلك الأمر في‏:‏ جاءني زيد لا عمرو‏.‏

فإنك تعقلهما في حالين‏.‏

ومزية ثانية وهي أنها تجعل الأمر ظاهراً في أن الجائي زيد ولا يكون هذا الظهور إذا جعلت الكلام بلا فقلت‏:‏ جاءني زيد لا عمرو‏.‏

ثم اعلم أن قولنا في لا العاطفة‏:‏ إنها تنفي عن الثاني ما وجب للأول ليس المراد به أنها تنفي عن الثاني أن يكون قد شارك الأول في الفعل بل إنها تنفي أن يكون فعل الذي قلت إنه كان من الأول قد كان من الثاني دون الأول‏.‏

ألا ترى أن ليس المعنى في قولك‏:‏ جاءني زيد لا عمرو أنه لم يكن من عمرو مجيء إليك مثل ما كان من زيد حتى كأنه عكس قولك‏:‏ جاءني زيد وعمرو‏.‏

بل المعنى أن الجائي هو زيد لا عمرو فهو كلام تقوله مع من يغلط في الفعل قد كان من هذا فيتوهم أنه كان من ذلك‏.‏

والنكتة أنه لا شبهة في أن ليس هاهنا جائيان وأنه ليس إلا جاء واحد وإنما الشبهة في أن ذلك الجائي زيد أم عمرو‏.‏

فأنت تحقق على المخاطب بقولك‏:‏ جاءني زيد لا عمرو أنه زيد وليس بعمرو‏.‏

ونكتة أخرى وهي أنك لا تقول‏:‏ جاءني زيد لا عمرو حتى يكون قد بلغ المخاطب أنه كان مجيء إليك من جاء‏.‏

إلا أنه ظن أنه كان من عمرو فأعلمته أنه لم يكن من عمرو ولكن من زيد‏.‏

وإذ قد عرفت هذه المعاني في الكلام بلا العاطفة فاعلم أنها بجملتها قائمة لك في الكلام بإنما فإذا قلت‏:‏ إنما جاءني زيد‏.‏

لم يكن غرضك أن تنفي أن يكون قد جاء مع زيد غيره ولكن أن تنفي أن يكون المجيء الذي قلت إنه كان منه كان من عمرو‏.‏

وكذلك تكون الشبهة مرتفعة في أن ليس هاهنا جائيان وأن ليس إلا جاء واحد‏.‏

وإنما تكون الشبهة في أن ذلك الجائي زيد أم عمرو‏.‏

فإذا قلت‏:‏ إنما جاءني زيد‏.‏

حتى يكون قد بلغ المخاطب أن قد جاءك جاء ولكنه ظن أنه عمرو مثلاً فأعلمته أنه زيد‏.‏

فإن قلت‏:‏ فإنه قد يصح أن تقول‏:‏ إنما جاءني من بين القوم زيد وحده وإنما أتاني من جملتهم عمرو فقط‏.‏

فإن ذلك شيء كالتكلف والكلام هو الأول‏.‏

ثم الاعتبار به إذا أطلق فلم يقيد بوحده وما في معناه‏.‏

ومعلوم أنك إذا قلت‏:‏ إنما جاءني زيد ولم تزد على ذلك أنه لا يسبق إلى القلب من المعنى إلا ما قدمنا شرحه من أنك أردت النص على زيد أنه الجائي وأن تبطل ظن المخاطب أن المجيء لم يكن منه ولكن كان من عمرو حسب ما يكون إذا قلت‏:‏ جاءني زيد لا عمرو فاعرفه‏.‏

وإذ قد عرفت هذه الجملة فإنا نذكر جملة من القول في ما وإلا وما يكون من حكمهما‏.‏

اعلم أنك إذا قلت‏:‏ ما جاءني إلا زيد احتمل أمرين أحدهما‏:‏ أن تريد اختصاص زيد بالمجيء وأن تنفيه عمن عداه‏.‏

وأن يكون كلاماً تقوله لا لأن بالمخاطب حاجة إلى أن تعلم أن زيداً قد جاءك ولكن لأن به حاجة إلى أن يعلم أنه لم يجئ إليك غيره‏.‏

والثاني‏:‏ أن تريد الذي ذكرناه في إنما ويكون كلاماً تقوله ليعلم أن الجائي زيد لا غيره‏.‏

فمن ذلك قولك للرجل يدعي أنك قلت قولاً ثم قلت خلافه ما قلت اليوم إلا ما قلته أمس بعينه‏.‏

ويقول‏:‏ لم تر زيداً وإنما رأيت فلاناً‏.‏

فتقول‏:‏ بل لم أر إلا زيداً‏.‏

وعلى ذلك قوله تعالى‏:‏ ‏"‏ ما قلت لهم إلا ما أمرتني به أن اعبدوا الله ربي وربكم ‏"‏ لأنه ليس المعنى أني لم أزد على ما أمرتني به شيئاً ولكن المعنى أني لم أدع ما أمرتني به أن أقوله لهم وقلت خلافه‏.‏

ومثال ما جاء في الشعر من ذلك قوله من السريع‏:‏ قد علمت سلمى وجاراتها ما قطر الفارس إلا أنا المعنى‏:‏ أنا الذي قطر الفارس وليس المعنى على أنه يريد أن يزعم أنه انفرد بأن قطره وأنه لم يشركه فيه غيره‏.‏

وهاهنا كلام ينبغي أن تعلمه إلا أني أكتب لك من قبله مسألة لأن فيها عوناً عليه‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏"‏ إنما يخشى الله من عباده العلماء ‏"‏ في تقديم اسم الله عز وجل معنى خلاف ما يكون لو أخر‏.‏

وإنما يبين لك ذلك إذا اعتبرت الحكم في ما وإلا وحصلت الفرق بين أن تقول‏:‏ ما ضرب زيداً إلا عمرو وبين قولك‏:‏ ما ضرب عمرو إلا زيداً‏.‏

والفرق بينهما أنك إذا قلت‏:‏ ما ضرب زيداً إلا عمرو فقدمت المنصوب كان الغرض بيان الضارب من هو والإخبار بأنه عمرو خاصة دون غيره‏.‏

وإذا قلت‏:‏ ما ضرب عمرو إلا زيداً فقدمت المرفوع كان الغرض بيان المضروب من هو والإخبار بأنه زيد خاصة دون غيره‏.‏

وإذ قد عرفت ذلك فاعتبر به الآية‏.‏

وإذا اعتبرتها به علمت أن تقديم اسم الله تعالى إنما كان لأجل أن الغرض أن يبين الخاشون من هم ويخبر بأنهم العلماء خاصة دون غيرهم‏.‏

ولو أخر ذكر اسم الله وقدم العلماء فقيل‏:‏ إنما يخشى العلماء الله لصار المعنى على ضد ما هو عليه الآن ولصار الغرض بيان المخشي من هو والإخبار بأنه الله تعالى دون غيره‏.‏

ولم يجب حينئذ أن تكون الخشية من الله تعالى مقصورة على العلماء وأن يكونوا مخصوصين بها كما هو الغرض في الآية‏.‏

بل كان يكون المعنى أن غير العلماء يخشون الله تعالى أيضاً إلا أنهم مع خشيتهم الله تعالى يخشون معه غيره والعلماء لا يخشون غير الله تعالى‏.‏

وهذا المعنى وإن كان قد جاء في التنزيل في غير هذه الآية كقوله تعالى‏:‏ ‏"‏ ولا يخشون أحداً إلا الله ‏"‏ فليس هو الغرض في الآية ولا اللفظ بمحتمل له البتة‏.‏

ومن أجاز حملها عليه كان قد أبطل فائدة التقديم وسوى بين قوله تعالى‏:‏ ‏"‏ إنما يخشى الله من عباده العلماء ‏"‏ وبين أن يقال‏:‏ إنما يخشى العلماء الله‏.‏

وإذا سوى بينهما لزمه أن يسوي بين قولنا‏:‏ ما ضرب زيداً إلا عمرو وبين‏:‏ ما ضرب عمرو إلا زيداً‏.‏

وذلك ما لا شبهة في امتناعه‏.‏

فهذه هي المسألة‏.‏

وإذ قد عرفتها فالأمر فيها بين أن الكلام بما وإلا قد يكون في معنى الكلام بإنما‏.‏

ألا ترى إلى وضوح الصورة في قولك‏:‏ ما ضرب زيداً إلا عمرو وما ضرب عمرو إلا زيداً أنه في الأول لبيان من الضارب‏.‏

وفي الثاني لبيان من المضروب وإن كان تكلفاً أن تحمله على نفي الشركة فتريد بما ضرب زيداً إلا عمرو أنه لم يضربه اثنان وبما ضرب عمرو إلا زيداً أنه لم يضرب اثنين‏.‏

ثم اعلم أن السبب في أن لم يكن تقديم المفعول في هذا كتأخيره ولم يكن ما ضرب زيداً إلا عمرو وما ضرب عمرو إلا زيداً سواء في المعنى أن الاختصاص يقع في واحد من الفاعل والمفعول ولا يقع فيهما جميعاً‏.‏

ثم إنه يقع في الذي يكون بعد إلا منهما دون الذي قبلها لاستحالة أن يحدث معنى الحرف في الكلمة قبل أن يجيء الحرف‏.‏

وإذا كان الأمر كذلك وجب أن يفترق الحال بين أن تقدم المفعول على إلا فتقول‏:‏ ما ضرب زيداً إلا عمرو وبين أن تقدم الفاعل فتقول‏:‏ ما ضرب عمرو إلا زيداً‏.‏

لأنا إن زعمنا أن الحال لا يفترق جعلنا المتقدم كالمتأخر في جواز حدوثه فيه‏.‏

وذلك يقتضي المحال الذي هو أن يحدث معنى إلا في الاسم من قبل أن تجيء بها فاعرفه‏.‏

وإذ قد عرفت أن الاختصاص معنى إلا يقع في الذي تؤخره من الفاعل والمفعول فكذلك يقع مع إنما في المؤخر منهما دون المقدم‏.‏

فإذا قلت‏:‏ إنما ضرب زيداً عمرو كان الاختصاص في الضارب‏.‏

وإذا قلت‏:‏ إنما ضرب عمرو زيداً كان الاختصاص في المضروب‏.‏

وكما لا يجوز أن يستوي الحال بين التقديم والتأخير مع إلا كذلك لا يجوز مع إنما‏.‏

وإذا استبنت هذه الجملة عرفت منها أن الذي صنعه الفرزدق في قوله‏:‏ ‏.‏

‏.‏

‏.‏

‏.‏

‏.‏

‏.‏

‏.‏

‏.‏

‏.‏

‏.‏

‏.‏

‏.‏

‏.‏

‏.‏

‏.‏

‏.‏

‏.‏

‏.‏

‏.‏

‏.‏

‏.‏

وإنما يدافع عن أحسابهم أنا أو مثلي شيء لو لم يصنعه لم يصح له المعنى‏.‏

ذاك لأن غرضه أن يخص المدافع لا المدافع عنه‏.‏

وأنه لا يزعم أن المدافعة منه تكون عن أحسابهم لا عن أحساب غيرهم كما يكون إذا قال‏:‏ وما أدافع إلا عن أحسابهم‏.‏

وليس ذلك معناه إنما معناه أن يزعم أن المدافع هو غيره فاعرف ذلك فإن الغلط كما أظن يدخل على كثير ممن تسمعهم يقولون‏:‏ إنه فصل الضمير للحمل على المعنى‏.‏

فيرى أنه لو لم يفصله لكان يكون معناه مثله الآن‏.‏

هذا ولا يجوز أن ينسب فيه إلى الضرورة فيجعل مثلاً نظير قول الآخر من الهزج‏:‏ كأنا يوم قرى إن نما نقتل إيانا لأنه ليس به ضرورة إلى ذلك من حيث إن أدافع ويدافع واحد في الوزن فاعرف هذا أيضاً‏.‏

وجملة الأمر أن الواجب أن يكون اللفظ على وجه يجعل الاختصاص فيه للفرزدق وذلك لا يكون إلا بأن يقدم الأحساب على ضميره وهو لو قال‏:‏ وإنما أدافع عن أحسابهم استكن ضميره في الفعل فلم يتصور تقديم الأحساب عليه ولم يقع الأحساب إلا مؤخراً عن ضمير الفرزدق‏.‏

وإذا تأخرت انصرف الاختصاص إليها لا محالة‏.‏

فإن قلت‏:‏ إنه كان يمكنه أن يقول‏:‏ وإنما أدافع عن أحسابهم أنا فيقدم الاحساب على أنا‏.‏

قيل إنه إذا قال‏:‏ أدافع كان الفاعل الضمير المستكن في الفعل وكان أنا الظاهر تأكيداً له أعني للمستكن‏.‏

والحكم يتعلق بالمؤكد دون التأكيد لأن التأكيد كالتكرير فهو يجيء من بعد نفوذ الحكم ولا يكون تقديم الجار مع المجرور الذي هو قوله عن أحسابهم على الضمير الذي هو تأكيد تقديماً له على الفاعل لأن تقديم المفعول على الفاعل إنما يكون إذا ذكرت المفعول قبل أن تذكر الفاعل‏.‏

ولا يكون لك إذا قلت‏:‏ وإنما أدافع عن أحسابهم سبيل إلى أن تذكر المفعول قبل أن تذكر الفاعل لأن ذكر الفاعل هاهنا هو ذكر الفعل من حيث إن الفاعل مستكن في الفعل فكيف يتصور تقديم شيء عليه فاعرفه‏.‏

واعلم أنك إن عمدت إلى الفاعل والمفعول فأخرتهما جميعاً إلى ما بعد إلا فإن الاختصاص يقع حينئذ في الذي يلي إلا منهما‏.‏

فإذا قلت‏:‏ ما ضرب إلا عمرو زيداً كان الاختصاص في الفاعل وكان المعنى أنك قلت‏:‏ إن الضارب عمرو لا غيره‏.‏

وإن قلت‏:‏ ما ضرب إلا زيداً عمرو كان الاختصاص في المفعول وكان المعنى أنك قلت‏:‏ إن المضروب زيد لا من سواه‏.‏

وحكم المفعولين حكم الفاعل والمفعول فيما ذكرت لك‏.‏

تقول‏:‏ لم يكس إلا زيداً جبة‏.‏

فيكون المعنى أنه خص الجبة من أصناف الكسوة‏.‏

وكذلك الحكم حيث يكون بدل أحد المفعولي جار ومجرور كقول السيد الحميري من السريع‏:‏ لو خير المنبر فرسانه ما اختار إلا منكم فارسا الاختصاص في منكم دون فارساً‏.‏

ولو قلت‏:‏ ما اختار إلا فارساً منكم صار الاختصاص في فارساً‏.‏

واعلم أن الأمر في المبتدأ والخبر إن كانا بعد إنما على العبرة التي ذكرت لك في الفاعل والمفعول إذا أنت قدمت أحدهما على الآخر‏.‏

معنى ذلك أنك إن تركت الخبر في موضعه فلم تقدمه على المبتدأ كان الاختصاص فيه‏.‏

وإن قدمته على المبتدأ صار الاختصاص الذي كان فيه في المبتدأ‏.‏

تفسير هذا أنك تقول‏:‏ إنما هذا لك‏.‏

فيكون الاختصاص في لك بدلالة أنك تقول‏:‏ إنما هذا لك لا لغيرك‏.‏

وتقول‏:‏ إنما لك هذا‏.‏

فيكون الاختصاص في لك بدلالة أنك تقول‏:‏ إنما هذا لك لا لغيرك وتقول‏:‏ إنما لك هذا فيكون الاختصاص في هذا بدلالة أنك تقول‏:‏ إنما لك هذا لا ذاك‏:‏ والاختصاص يكون أبداً في الذي إذا جئت بلا العاطفة كان العطف عليه‏.‏

وإن أردت أن يزداد ذلك عندك وضوحاً فانظر إلى قوله تعالى‏:‏ ‏"‏ فإنما عليك البلاغ وعلينا الحساب ‏"‏ وقوله عز وعلا‏:‏ ‏"‏ إنما السبيل على الذين يستأذنونك ‏"‏‏.‏

فإنك ترى الأمر ظاهراً أن الاختصاص في الآية الأولى في المبتدأ الذي هو البلاغ والحساب دون الخبر الذي هو عليك وعلينا وأنه في الآية الثانية في الخبر الذي هو على الذين دون المبتدأ الذي هو السبيل‏.‏

واعلم أنه إذا كان الكلام بما وإلا كان الذي ذكرته من أن الاختصاص يكون في الخبر إن لم تقدمه وفي المبتدأ إن قدمت الخبر أوضح وأبين تقول‏:‏ ما زيد إلا قائم فيكون المعنى أنك اختصصت القيام من بين الأوصاف التي يتوهم كون زيد عليها بجعله صفة له‏.‏

وتقول‏:‏ ما قائم إلا زيد فيكون المعنى أنك اختصصت زيداً بكون موصوفاً بالقيام‏.‏

فقد قصرت في الأول الصفة على الموصوف وفي الثاني الموصوف على الصفة‏.‏

واعلم أن قولنا في الخبر إذا أخر نحو ما زيد إلا قائم أنك اختصصت القيام من بين الأوصاف التي يتوهم كون زيد عليها ونفيت ما عدا القيام عنه‏.‏

فإنما نعني أنك نفيت عنه الأوصاف التي تنافي القيام نحو أن يكون جالساً أو مضطجعاً أو متكئاً أو ما شاكل ذلك‏.‏

ولم نرد أنك نفيت ما ليس من القيام بسبيل إذ لسنا ننفي عنه بقولنا‏:‏ ما هو إلا قائم أن يكون أسود أو أبيض أو طويلاً أو قصيراً أو عالماً أو جاهلاً‏.‏

كما إنا إذا قلنا‏:‏ ما قائم إلا زيد لم نرد أنه ليس في الدنيا قائم سواه وإنما نعني ما قائم حيث نحن وبحضرتنا وما أشبه ذلك‏.‏

واعلم أن الأمر بين في قولنا‏:‏ ما زيد إلا قائم أن ليس المعنى على نفي الشركة ولكن على نفي أن لا يكون المذكور ويكون بدله شيء آخر‏.‏

ألا ترى أن ليس المعنى أنه ليس له مع القيام صفة أخرى بل المعنى أن ليس له بدل القيام صفة ليست بالقيام وأن ليس القيام منفياً عنه وكائناً مكانه فيه القعود أو الإضطجاع أو نحوهما‏.‏

فإن قلت‏:‏ فصورة المعنى إذا صورته إذا وضعت الكلام بإنما فقلت‏:‏ إنما هو قائم‏.‏

ونحن نرى أنه يجوز في هذا أن تعطف بلا فتقول‏:‏ إنما هو قائم لا قاعد ولا نرى ذلك جائزاً مع ما وإلا إذ ليس من كلام الناس أن يقولوا‏:‏ ما زيد إلا قائم لا قاعد فإن ذلك إنما لم يجز من حيث إنك إذا قلت‏:‏ ما زيد إلا قائم فقد نفيت عنه كل صفة تنافي القيام‏.‏

وصرت كأنك قلت‏:‏ ليس هو بقاعد ولا مضطجع ولا متكىء‏.‏

وهكذا حتى لا تدع صفة يخرج بها من القيام‏.‏

فإذا قلت من بعد ذلك‏:‏ لا قاعد كنت قد نفيت بلا العاطفة شيئاً قد بدأت فنفيته وهي موضوعة لأن تنفي بها ما بدأت فأوجبته لا لأن تفيد بها النفي في شيء قد نفيته‏.‏

ومن ثم لم يجز أن تقول‏:‏ ما جاءني أحد لا زيد على أن تعمد إلى بعض ما دخل في النفي بعموم أحد فتنفيه على الخصوص بل كان الواجب إذا أردت ذلك أن تقول‏:‏ ما جاءني أحد ولا زيد فتجيء بالواو من قبل لا حتى تخرج بذلك عن أن تكون عاطفة فاعرف ذلك‏.‏

وإذ قد عرفت فساد أن تقول‏:‏ ما زيد إلا قائم لا قاعد فإنك تعرف بذلك امتناع أن تقول‏:‏ ما جاءني إلا زيد لا عمرو وما ضربت إلا زيداً لا عمراً وما شاكل ذلك‏.‏

وذلك أنك إذا قلت‏:‏ ما جاءني إلا زيد فقد نفيت أن يكون قد جاءك أحد غيره‏.‏

فإذا قلت‏:‏ لا عمرو كنت قد طلبت أن تنفي بلا العاطفة شيئاً قد تقدمت فنفيته وذلك كما عرفتك خروج بها عن المعنى الذي وضعت له إلى خلافه‏.‏

فإن قيل‏:‏ فإنك إذا قلت‏:‏ إنما جاءني زيد فقد نفيت فيه أيضاً أن يكون المجيء قد كان من غيره فكان ينبغي أن لا يجوز فيه أيضاً أن تعطف بلا فتقول‏:‏ إنما جاءني زيد لا عمرو قيل‏:‏ إن الذي قلته من أنك إذا قلت‏:‏ إنما جاءني زيد فقد نفيت فيه أيضاً المجيء عن غيره غير مسلم لك على حقيقته وذلك أنه ليس معك إلا قولك‏:‏ جاءني زيد وهو كلام كما تراه مثبت ليس فيه نفي البتة كما كان في قولك‏:‏ ما جاءني إلا زيد‏.‏

وإنما فيه أنك وضعت يدك على زيد فجعلته الجائي‏.‏

وذلك وإن أوجب انتفاء المجيء عن غيره فليس يوجبه من أجل أن كان ذلك إعمال نفي في شيء‏.‏

وإنما أوجبه من حيث كان المجيء الذي أخبرت به مجيئاً مخصوصاً إذا كان لزيد لم يكن لغيره‏.‏

والذي أبيناه أن تنفي بلا العاطفة عن ونظير هذا أنا نعقل من قولنا‏:‏ زيد هو الجائي‏.‏

أن هذا المجيء لم يكن من غيره ثم لا يمنع ذلك من أن تجيء فيه بلا العاطفة فتقول‏:‏ زيد هو الجائي لا عمرو‏.‏

لأنا لم نعقل عقلناه من انتفاء المجيء عن غيره بنفي أوقعناه على شيء ولكن بأنه لما كان المجيء المقصود مجيئاً واحداً كان النص على زيد بأنه فاعله وإثباته له نفياً له عن غيره ولكن من طريق المعقول لا من طريق أن كان في الكلام نفي كما كان ثم فاعرفه‏.‏

فإن قيل فإنك إذا قلت‏:‏ ما جاءني إلا زيد‏.‏

ولم يكن غرضك أن تنفي أن يكون قد جاء معه واحد آخر كان المجيء أيضاً مجيئاً واحداً‏.‏

قيل‏:‏ إنه وإن كان واحداً فإنك إنما تثبت أن زيداً الفاعل له بأن نفيت المجيء عن كل من سوى زيد كما تصنع إذا أردت أن تنفي أن يكون قد جاء معه جاء آخر‏.‏

وإذا كان كذلك كان ما قلناه من أنك إن جئت بلا العاطفة فقلت‏:‏ جاءني إلا زيد لا عمرو كنت قد نفيت الفعل عن شيء قد نفيته عنه مرة صحيحاً ثابتاً كما قلنا فاعرفه‏.‏

واعلم أن حكم غير في جميع ما ذكرنا حكم إلا فإذا قلعت‏:‏ ما جاءني غير زيد احتمل أن تريد نفي أن يكون قد جاء معه إنسان آخر وأن تريد نفي أن لا يكون جاء وجاء مكانه واحد آخر‏.‏

ولا يصح أن تقول‏:‏ ما جاءني غير زيد لا عمرو‏.‏

كما لم يجز ما جاءني إلا زيد لا عمرو‏.‏

اعلم أن الذي ذكرناه من أنك تقول‏:‏ ما ضرب إلا عمرو زيداً‏.‏

فتوقع الفاعل والمفعول جميعاً بعد إلا ليس بأكثر الكلام وإنما الأكثر أن تقدم المفعول على إلا نحو ما ضرب زيداً إلا عمرو‏.‏

حتى إنهم ذهبوا فيه أعني في قولك‏:‏ ما ضرب إلا عمرو زيداً إلى أنه على كلامين وأن زيداً منصوب بفعل مضمر حتى كأن المتكلم بذلك أبهم في أول أمره فقال‏:‏ ما ضرب إلا عمرو‏.‏

ثم قيل له‏:‏ من ضرب فقال‏:‏ ضرب زيداً‏.‏

وهاهنا إذا تأملت معنى لطيف يوجب ذلك وهو أنك إذا قلت‏:‏ ما ضرب زيداً إلا عمرو كان غرضك أن تختص عمراً بضرب زيد لا بالضرب على الإطلاق‏.‏

وإذا كان كذلك وجب أن تعدي الفعل إلى المفعول من قبل أن تذكر عمراً الذي هو الفاعل لأن السامع لا يعقل عنك أنك اختصصته بالفعل معدى حتى تكون قد بدأت فعديته‏.‏

أعني‏:‏ لا يفهم عنك أنك أردت أن تختص عمراً بضرب زيد حتى تذكره له معى إلى زيد‏.‏

فأما إذا ذكرته غير معدى فقلت‏:‏ ما ضرب إلا عمرو‏.‏

فإن الذي يقع في نفسه أنك أردت أن تزعم أنه لم يكن من أحد غير عمرو ضرب وأنه ليس هاهنا مضروب إلا وضاربه عمرو فاعرفه أصلاً في شأن التقديم والتأخير‏.‏