فصل: التحليل اللفظي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: روائع البيان في تفسير آيات الأحكام



.خاتمة البحث:

حكمة التشريع:
يقف الإنسان بين يدي هذه السورة الكريمة (سورة الفاتحة) وقفة العبد الخاشع، المعترف بالعجز، المقر بالتقصير، فإن هذه السورة وحي منزل من عند الله، وهي من كلام ربّ العالمين، وكلام الله فوق أن يحيط به عقل قاصر من بني الإنسان، أو يدرك أسراره العميقة بشر، مهما أوتي من النبوغ والذكاء، وسعة العلم والاطلاع.
وقُصارى ما يدركه الإنسان أن يحسّ من قرارة نفسه بروعة هذا القرآن الكريم، وسمو معانيه، وجمال ألفاظه، وأن يشعر بالعجز الكامل عن أن يأتي بمثل آية من آياته، فضلاً عن مثل الكتاب العزيز، فإن هذه السورة الكريمة على قصرها ووجازتها قد حوت معاني القرآن العظيم، واشتملت على مقاصده الأساسية بالإجمال، فهي تتناول أصول الدين وفروعه، تتناول العقيدة، والعبادة، والتشريع، والاعتقاد بالجزاء والحساب، والإيمان بصفات الله الحسنى، وإفراده بالعبادة، والاستعانة، والدعاء، والتوجه إليه جل وعلا بطلب الهداية إلى الدين الحق والصراط المستقيم، والتضرع إليه بالتثبيت على الإيمان ونهج سبيل الصالحين، وتجنب طريق المغضوب عليهم أو الضالّين إلى غير ما هنالك من مقاصد وأغراضٍ وأهداف.
قال العلامة القرطبي: (سميت الفاتحة "القرآن العظيم" لتضمنها جميع علومه، وذلك لأنها تشتمل على الثناء على الله عز وجل بأوصاف كماله وجلاله، وعلى الأمر بالعبادات والإخلاص فيها، والاعتراف بالعجز عن القيام بشيء منها إلاّ بإعانته تعالى، وعلى الابتهال إليه في الهداية إلى الصراط المستقيم، وكفاية أحوال الناكثين، وعلى بيان عاقبة الجاحدين، وهذه جملة المقاصد التي جاء بها القرآن العظيم).
يقول الشهيد الشيخ حسن البنا رحمه الله في رسالته القيّمة (مقدمة في التفسير) ما نصه:لا شك أن من تدبّر الفاتحة الكريمة- وكلّ مؤمن مطالب بتدبرها في تلاوته عامة، وفي صلاته خاصة- رأى من غزارة المعاني، وجمالها، وروعة التناسب، وجلاله، ما يأخذ بلبه، ويضيء جوانب قلبه. فهو يبتدئ ذاكراً تالياً متيمناً باسم الله الموصوف بالرحمة، التي تظهر آثار رحمته متجدّدة في كل شيء، مستشعراً أنّ أساس الصلة بينه وبين خالقه العظيم هو هذه الرحمة التي وسعت كل شيء. فإذا استشعر هذا المعنى، ووقر في نفسه انطلق لسانه بحمد هذا الإله "الرحمن الرحيم" وذكّره الحمد بعظيم نعمه، وكريم فضله، وعظيم آلائه البادية في تربيته للعوالم جميعاً، فأجال بصيرته في هذا المحيط الذي لا ساحل له، ثمّ تذكّر من جديد أنّ هذه النعم الجزيلة، والتربية الجليلة، ليست عن رغبة ولا رهبة، ولكنّها عن تفضل ورحمة، فنطق لسانه مرة ثانية بالرحمن الرحيم، ولكن من كمال هذا الإله العظيم أن يقرن "الرحمن" ب "العدل" ويذكّر بالحساب بعد الفضل، فهو مع رحمته السابغة المتجددة سيُدينُ عباده، ويحاسب خلقه يوم الدين {يَوْمَ لاَ تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئاً والأمر يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ} [الانفطار: 19].
فتربيته لخلقه قائمة على الترغيب بالرحمة، والترهيب بالعدالة، والحساب، وإذا كان الأمر كذلك، فقد أصبح العبد مكلفاً بتحري الخير، والبحث عن وسائل النجاة، وهو في هذا أشدّ ما يكون حاجة إلى من يهديه سواء السبيل، ويرشده إلى الصراط المستقيم، وليس أولى به في ذلك من خالقه ومولاه، فليلجأ إليه، وليعتمد عليه، وليخاطبه بقوله: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} وليسأله الهداية من فضله إلى الصراط المستقيم، صراط الذين أنعم عليهم بمعرفة الحق واتباعه، غير المغضوب عليهم بالسلب بعد العطاء، والنكوص بعد الاهتداء، وغير الضالين التائهين، الذين يضلون عن الحق، أو يريدون الوصول إليه فلا يوفقون للعثور عليه آمين.
ولا جرم أن "آمين" براعة مقطع في غاية الجمال والحسن، وأي شيء أولى بهذه البراعة من فاتحة الكتاب، والتوجه إلى الله بالدعاء؟ فهل رأيت تناسقاً أدق، أو ارتباطاً أوثق، مما تراه بين معاني هذه الآيات الكريمات؟ وتذكّر وأنت تهيم في أودية هذا الجمال ما يرويه رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ربه في الحديث القدسي الذي أوردناه آنفاً: «قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين ولعبدي ما سأل» إلخ وأدم هذا التدبر والإنعام، واجتهد أن تقرأ في الصلاة أو غيرها على مكث وتمهل، وخشوع وتذلّل، وأن تقف على رؤوس الآيات، وتعطي التلاوة حقها من التجويد أو النغمات، من غير تكلف ولا تطريب، واشتغال بالألفاظ عن المعاني، مع رفع الصوت المعتدل في التلاوة العادية، أو الصلاة الجهرية، فإنّ ذلك يعين على الفهم، ويثير ما غاض من شآبيب الدمع، وما نفع القلبَ شيء أفضل من تلاوةٍ في تدبر وخشوع.

.سورة البقرة:

.تفسير الآيات (101- 103):

{وَلَمَّا جَاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ نَبَذَ فَرِيقٌ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ كِتَابَ اللَّهِ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ كَأَنَّهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (101) وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَمَا أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولَا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلَا تَكْفُرْ فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ (102) وَلَوْ أَنَّهُمْ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَمَثُوبَةٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ خَيْرٌ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ (103)}
2- سورة البقرة:
[1] موقف الشريعة من السحر:

.التحليل اللفظي:

{نَبَذَ}: النبذ: الطرح والإلقاء قال تعالى: {فَنَبَذْنَاهُمْ فِي اليم} [القصص: 40] ومنه النبيذ للشيء المسكر، وسميَ نبيذاً، لأن الذي يتخذه يأخذ تمراً أو زبيباً فينبذه في وعاء أو سقاء، ويتركه حتى يصير مسكراً، والمنبوذُ: ولد الزنى، لأنهُ يُنْبذُ على الطريق، قال أبو الأسود.
وخبّرني من كنتُ أرسلتُ أنما ** أخذتَ كتابي معرضاً بشمالكا

نظرتَ إلى عنوانه فنبذتَه ** كنبذكَ نعلاً أخْلقتْ من نعالكا

وقال آخر:
أنّ الذين أمرتهم أن يعدلوا ** نبذوا كتابك واستحلوا المحرما

{وَرَآءَ ظُهُورِهِمْ}: هذا مثل يضرب لمن استخفّ بالشيء وأعرض عنه جملة، تقول العرب: جعل هذا الأمر وراء ظهره، ودبر أذنه، قال تعالى: {واتخذتموه وَرَآءَكُمْ ظِهْرِيّاً} [هود: 92] وأنشد الفرّاء:
تميم بن زيد لا تكوننّ حاجتي ** بظهرٍ ولا يعيا عليك جوابها

{كَأَنَّهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ}: تشبيه لهم بمن يجهل، لأن الجاهل بالشيء لا يحفل به ولا يهتم، لأنه لا شعور له بما فيه من المنفعة.
والمعنى: نبذوا كتاب الله وتركوا العمل به، على سبيل العناد والمابرة، كأنهم لا يعلمون أنه كتاب الله المنزّل على رسوله الكريم صلى الله عليه وسلم.
{واتبعوا} الضمير لفريق من الذين أوتوا الكتاب وهم اليهود.
قال الزمخشري: أي نبذوا كتاب الله واتبعوا ما تتلو الشياطين.
والمراد بالاتباع: التوغّلُ والإقبال على الشيء بالكليّة، وقيل: الاقتداء.
{تَتْلُواْ}: بمعنى تلت مضارع بمعنى الماضي، فهو حكاية لحال ماضية، قال الشاعر:
وانضحْ جوانبَ قبره بدمائها ** فلقد يكونُ أخا دمٍ وذبائحِ

أي فلقد كان.
وتتلو يعني: تُحدّث، وتروي، وتتكلم به من التلاوة بمعنى القراءة.
قال الطبري: ولقول القائل (هو يتلو كذا) في كلام العرب معنيان:
أحدهما: الاتباع كما تقول: (تلوت فلاناً) إذا مشيت خلقه وتبعت أثره.
والآخر: القراءة والدراسة كما تقول: فلان يتلو القرآن بمعنى أنه يقرؤه ويدرسه، كما قال (حسان بن ثابت):
نبيّ يرى ما لا يرى الناس حوله ** ويتلو كتاب الله في كل مشهد

والمعنى: طرحوا كتاب الله وراء ظهورهم، واتّبعوا كتب السحر والشعوذة التي كانت تقرؤها الشياطين وتحدّث وتروي بها في عهد سليمان.
{الشياطين}: المتبادر من لفظ (الشياطين) أن المراد بهم مردة الجن، وبه قال بعض المفسرين وقال بعضهم: المراد بهم شياطين الإنس، والأرجح أن المراد بهم شياطين (الإنس والجن) كما قال تعالى: {شَيَاطِينَ الإنس والجن يُوحِي بَعْضُهُمْ إلى بَعْضٍ زُخْرُفَ القول غُرُوراً} [الأنعام: 112].
{على مُلْكِ سليمان}: أي على عهد مكله وفي زمانه، فهو على حذف مضاف.
قال المبرّد: (على) بمعنى (في) أي في عهد ملكه، كما أنّ (في) بمعنى (على) كما في قوله تعالى: {وَلأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النخل} [طه: 71] أي على جذوع النخل. (سليمان) اسم عبراني، وقد تكلمت به العرب في الجاهلية، واستعمله الحطيئة، اضطراراً فجعله بلفظ (سلاّم) حين قال:
فيه الرماح وفيه كل سابغة ** جدلاء محكمة من نسج سلاّم

قال الألوسي: وسليمان اسم أعجمي، وامتنع من الصرف للعلمية والعجمة، ونظيره (هامان) و(ماهان) و(شامان) وليس امتناعه من الصرف للعلمية وزيادة الألف والنون.
{السحر}: في اللغة: كلّ ما لطف مأخذه ودقّ، قال الأزهري: وأصل السّحر صرفُ الشيء عن حقيقته إلى غيره، فكأنّ الساحر لمّا أرى الباطل في سورة الحقّ، وخيّل الشيء على غير حقيقته، قد سحر الشيء عن وجهه اي صرفه.
وقال الجوهري: والسّحر: الأُخْذةُ، وكلّ ما لُطف مأخذه، ودقّ فهو سحرٌ وسَحَره أيضاً بمعنى خدعه.
وقال القرطبي: السّحر أصلُه التمويهُ بالحيل، وهو أن يفعل الساحر أشياء ومعاني، فيُخيّل للمسحور أنها بخلاف ما هي به، كالذي يرى السّراب من بعيد فيخيّل إليه أنه ماء، وهو مشتق من سحرتُ الصبي إذا خدعته، قال لبيد:
فإنْ تسألينا فيمَ نحن فإنّنا ** عصافيرُ من هذا الأنام المسحّر

وقال امرؤ القيس:
أُرانا مُوضعين لأمر غيبٍ ** ونُسحَرُ بالطعام وبالشراب

عصافيرٌ وذبّانٌ ودودٌ ** وأجراً من مجلّحة الذئاب

وقال الألوسي: السّحر في الأصل مصدر سَحَر يسَحْر بفتح العين فيهما إذا أبدى ما يدّق ويخفى، وهو من المصادر الشاذة، ويستعمل بما لطف وخفي سببه، والمراد به أمر غريب يشبه الخارق. وفي الحديث: «إنّ من البيان لسحراً».
{فِتْنَةٌ}: الفتنةُ الاختبار والابتلاء، ومنه قولهم: فتنتُ الذهب في النار، إذا امتحنته لتعرف جودته من رداءته.
قال الأزهري: جِماعُ معنى الفتنة: الابتلاء والامتحان، والاختبار، قال تعالى: {أَنَّمَآ أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلاَدُكُمْ فِتْنَةٌ} [الأنفال: 28] وقال تعالى: {وَلَقَدْ فَتَنَّا الذين مِن قَبْلِهِمْ} [العنكبوت: 3] أي اختبرنا وابتلينا.
قال الجصّاص: الفتنةُ: ما يظهر به حال الشيء في الخير والشر، تقول العرب: فتنتُ الذهب إذا عرضته على النار لتعرف سلامته أو غشّه، والاختبار كذلك أيضاً لأن الحال تظهر فتصير كالمخبرة عن حالها.
{فَلاَ تَكْفُرْ}: أي بتعلم السّحر واستعماله، وفي الآية إشارة إلى أنّ تعلم السّحر كفرٌ.
قال الزمخشري: {فَلاَ تَكْفُرْ} أي فلا تتعلم السّحر معتقداً أنه حق فتكفر.
{بِإِذْنِ الله}: أي بإرادته ومشيئته، وفيه دليل على أن في السحر ضرراً مودعاً، إذا شاء الله تعالى حال بينه وبين المسحور، وإذا شاء خلاّه حتى يصيبه ما قدّره الله تعالى له، وهذا مذهب السلف في الأسباب والمسببات.
{لَمَنِ اشتراه}: قال الألوسي: أي استبدل ما تتلو الشياطين بكتاب الله، واللام للابتداء وتدخل على المبتدأ وعلى المضارع، ودخولها على الماضي مع (قد) كثير، كقوله تعالى: {لَّقَدْ سَمِعَ الله قَوْلَ الذين قالوا إِنَّ الله فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَآءُ} [آل عمران: 181].
{خلاق}: الخلاقُ في اللغة بمعنى النصيب قال تعالى: {أولئك لاَ خَلاَقَ لَهُمْ فِي الآخرة} [آل عمران: 77] ويأتي بمعنى القدر قال الشاعر:
فما لكَ بيتٌ لدى الشامخات ** وما لك في غالب من خلاق

قال الزّجاج: هو النصيب الوافر من الخير، وأكثر ما يستعمل في الخير، ويكون للشر على قلّة.
{شَرَوْاْ}: أي باعوا أنفسهم به، يقال: شرى بمعنى اشترى، وشرى بمعنى باع من الأضداد، قال الشاعر:
وشربتُ بُرْداً ليتني ** من بعد بُرْدٍ كنتُ هامة

{لَمَثُوبَةٌ}: المثوبة: الثواب والجزاء، أي لثواب وجزاء عظيم من الله تعالى على إيمانهم وتقواهم.

.المعنى الإجمالي:

يخبر المولى جلّ ثناؤه أنّ أحبار اليهود وعلماءهم نبذوا كتابه الذي أنزله على عبده ورسوله (موسى) عليه السلام وهو التوراة، كما نبذ أحفادهم الكتاب الذي أنزله على نبيه محمد صلى الله عليه وسلم وهو القرآن، مع أنّ الرسول جاء مصدّقاً لما بين أيديهم من التوراة، فلا عجب أن يكون الأحفاد مثل الأجداد، في الاستكبار والعناد، فهؤلاء ورثوا عن أسلافهم البغي، والإفساد، والعناد.
لقد نبذ أولئك كتاب الله وراء ظهورهم كأنهم لا يعلمون أنه كتاب الله المنزل على نبيه صلى الله عليه وسلم واتبعوا طرق السحر والشعوذة التي كانت تحدّثهم بها الشياطين في عهد ملك سليمان، وما كان (سليمان) عليه السلام ساحراً، ولا كفر بتعلمه السحر، ولكنّ الشياطين هم الذين وسوسوا إلى الإنس وأوهموهم أنهم يعلمون الغيب، وعَلَّموهم السحر حتى فشا أمره بين الناس.
وكما اتبّع رؤساء اليهود (السحر) و(الشعوذة) كذلك اتّبعوا ما أُنزل على الرجلين الصالحين، أو الملكَيْن: (هاروت) و(ماروت) بمملكة بابل، فقد أنزلهما الله تعالى إلى الأرض، لتعليم السحر، ابتلاءً من الله للناس، وما يعلّمان السّحر من أجل السّحر، وإنّما من أجل إبطاله، ليُظْهرا للناس الفرق بين (المعجزة) و(السّحر)، ولله أن يبتلي عباده بما شاء، كما امتحن قوم طالوت بالنهر، وقد كثر السحر في ذلك الزمان، وأظهر السّحَرة أموراً غريبة وقع بسببها الشكّ في (النبوّة)، فبعث الله تعالى المكلَين لتعليم أبواب السحر، حتى يزيلا الشّبَه، ويميطا الأذى عن الطريق.. ومع ذلك فقد كانا يحذّران الناس من تعلّم السحر واستخدامه في الأذى والضرر، وكانا إذا علَّما أحداً قالا له: إنما هذا امتحان من الله وابتلاء فلا تكفر بسببه واتّق الله فلا تستعمله في الإضرار، فمن تعلّمه ليتوقّى ضرره ويدفع أذاه عن الناس فقد نجا وثبت على الإيمان، ومن تعلّمه معتقداً صحته ليُلحق الأذى بالناس فقد ضلّ وكفر، فكان الناس فريقين: فريق تعلّمه عن نيّة صالحة ليدفع ضرره عن الناس، وفريق تعلّمه عن نيّة خبيثة ليفرّق به بين الرجل وأهله، وبين الصديق وصديقه، ويوقع العداوة والبغضاء بين الناس، وهؤلاء قد خسروا دنياهم وآخرتهم، لأنهم عرفوا أنّ من تجرّد لهذه الأمور المؤذية، ما له في الآخرة من نصيب ولبئسما باعوا به أنفسهم لو كان عندهم فهم وإدراك.
ولو أن هؤلاء الذين يتعلمون السحر آمنوا بالله، وخافوا عذابه، لأثابهم الله جزاء أعمالهم مثوبة أفضل ممّا شغلوا به أنفسهم، من هذه الأمور الضارّة التي لا تعود عليهم إلاّ بالويل والخسار والدمار.