فصل: وجوه الإعراب:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: روائع البيان في تفسير آيات الأحكام



.ما ترشد إليه الآيات الكريمة:

1- وجوب العدة على المطلقة رجعية كانت أو بائنة للتعرف على براءة الرحم.
2- حرمة كتمان ما في الرحم من الحمل، ووجوب الأمانة في الإخبار عن موضوع العدة.
3- الزوج أحق بزوجته المطلّقة رجعياً ما دامت العدة لم تنته بعد.
4- الرجل والمرأة في الحقوق والواجبات الزوجية سواء، وله عليها درجة القوامة والإشراف.
5- الطلاق الرجعي الذي يملك فيه الزوج الرجعة مرتان فقط وفي الثالثة تحرم عليه حتى تنكح زوجاً آخر نكاحاً شرعياً صحيحاً بقصد الدوام والاستمرار.
6- جواز الخلع والافتداء إذا كان ثمة مصلحة شرعية توجب الفراق.
7- حرمة الإضرار بالزوجة لتفتدي نفسها من زوجها بالمال على الطلاق.
8- لا بأس بعودة المطلّقة إلى زوجها الأول إذا طلّقها الزوج الثاني بعد المساس.

.خاتمة البحث:

حكمة التشريع:
أباح الإسلام الطلاق، واعتبره أبغض الحلال إلى الله، وذلك لضرورة قاهرة، وفي ظروف استثنائية ملحّة، تجعله دواءً وعلاجاً للتخلص من شقاء محتّم، قد لا يقتصر على الزوجين بل يمتد إلى الأسرة كلها فيقلب حياتها إلى جحيم لا يطاق. والإسلام يرى أن الطلاق هدم للأسرة، وتصديع لبنيانها، وتمزيق لشمل أفرادها، وضرره يتعدى إلى الأولاد، فإن الأولاد حينما يكونون في حضن أمهاتهم يكونون موضعاً للرعاية وحسن التربية، وإذا حرموا عطف الأم وحنانها تعرضوا إلى التمزيق والتشتت، ومع هذا فقد أجازه الإسلام، لدفع ضررٍ أكبر، وتحصيل مصلحة أكثر، وهي التفريق بين متباغضين من الخير أن يفترقا، لأن الشقاق والنزاع قد استحكم بينهما، والحياةُ الزوجية ينبغي أن يكون أساسها الحب، والوفاء، والهدوء، والاستقرار، لا التناحر، والخصام، والبغضاء.
فإذا لم تُجْد جميع وسائل الإصلاح للتوفيق بين الزوجين كان الطلاق ضرورة لا مندوحة عنه، ومن الضرورات التي تبيح الطلاق أن يرتاب الرجل في سلوك زوجته، وأن يطلع منها على الخيانة الزوجية باقتراف (فاحشة الزنى) فهل يتركها تفسد عليه نسبه، وتكدّر عليه حياته أم يطلّقها؟ وهناك أسباب أخرى كالعقم، والمرض الذي يحول دون الالتقاء الجسدي، أو المرض المعدي الذي يخشى انتقاله إلى الآخر إلى غير ما هنالك من الأسباب الكثيرة.
وقد جعل الله جل ثناؤه الطلاق في تشريعه الحكيم مرتين متفرقتين في طهرين- كما دلت على ذلك السنة المطهرة- فإن شاء أمسك، وإن شاء طلق وأمضى الطلاق، فيكون الزوج على بينة مما يأتي وما يذر، ولن يتفرق بالطلاق بعد هذه الرويّة وهذه الأناة إلا زوجان من الخير ألاّ يجتمعا لصالح الأسرة وصالحهما بالذات.
يقول الأستاذ الفاضل (أحمد محمد جمال) في كتابه (محاضرات في الثقافة الإسلامية) ما نصه: ومما ينبغي ملاحظته هنا في حديثنا الموجز عن الطلاق في الإسلام، أن الشريعة الإسلامية انفردت بنظام (المراجعة) في الطلاق دون الشرائع الأخرى، حرصاً على إعادة الرباط الزوجي بين الزوجين، وحفاظاً على الذرية من الضياع والتشرد، واستصلاحاً لما فسد بين الزوجين من مودة وسكن، ويعتبر الطلاق الرجعي في الإسلام- وهو المرة الأولى والثانية- فترة اختبار للزوجين، وفرصة تأمل ومراجعة للأخطاء والزلات والندم والتوبة، ثم العودة إلى بيت الزوجية وما يظلله من مودة ورحمة وسكن وذرية.
كما ينبغي أن نلاحظ أيضاً أن الإسلام جاء ليصحّح وضعاً خاطئاً، ويحفظ للمرأة كرامة كانت مضيعة على عهد الجاهلية الأولى، إذ كان العرب يطلّقون دون حصر أو عدد، فكان الرجل يطلق ما شاء ثم يراجع امرأته قبل أن تنقضي عدتها إضراراً لها، حيث تظل معلّقة بين طلاق ورجعة في نهاية العدة، ثم طلاق في بداية الرجعة وهكذا، فنزل القرآن الكريم يضع لهذه الفوضى حداً، ولهذا الظلم النازل بالنساء قيداً {الطلاق مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بإحسان}.

.تفسير الآية رقم (233):

{وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ لَا تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلَّا وُسْعَهَا لَا تُضَارَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا وَلَا مَوْلُودٌ لَهُ بِوَلَدِهِ وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ فَإِنْ أَرَادَا فِصَالًا عَنْ تَرَاضٍ مِنْهُمَا وَتَشَاوُرٍ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا وَإِنْ أَرَدْتُمْ أَنْ تَسْتَرْضِعُوا أَوْلَادَكُمْ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِذَا سَلَّمْتُمْ مَا آتَيْتُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (233)}
[17] أحكام الرضاع:

.التحليل اللفظي:

{والوالدات}: جمع والدة بالتاء، والوالد: الأب، والوالدة: الأم، وهما الوالدان كذا في (اللسان)، قال في (البحر): وكان القياس أن يقال: والد، لكن قد أطلق على الأب والد فجاءت التاء في الوالدة للفرق بين المذكر والمؤنث من حيث الإطلاق اللغوي، وكأنه روعي في الإطلاق أنهما أصلان للولد فأطلق عليهما والدان.
{حَوْلَيْنِ}: أي سنتين من حال الشيء إذا انقلب، فالحول منقلبٌ من الوقت الأول إلى الثاني.
قال الراغب: والحول السنة اعتباراً بانقلابها ودوران الشمس في مطالعها ومغاربها.
{المولود لَهُ}: أي الأب، لأن الأولاد ينسبون إلى الآباء لا إلى الأمهات قال الشاعر:
فإنّما أمهاتُ الناسِ أوعيةٌ ** مستودَعاتٌ وللآباء أبناء

{فِصَالاً}: فطاماً عن الرضاع، والفِصَال والفَصْلُ: الفطام، وإنما سمي الفطام بالفصال، لأن الولد ينفصل عن الاغتذاء بلبن أمه إلى غيره من الأقوات.
قال المبرّد: يقال: فصل الولد عن الأم فصلاً وفصالاً، والفصالُ أحسن، لأنه إذا انفصل عن أمه فقد انفصلت منه فبينهما فصال نحو القتال، والضراب ومنه سمي الفصيل لأنه مفصول عن أمه.
{وَتَشَاوُرٍ}: التشاور في اللغة: استخراج الرأي ومثله المشاورة والمشورة مأخوذ من الشور وهو استخراج العسل.
قال الراغب: والتشاور والمشاورة والمشورة: استخراج الرأي بمراجعة البعض إلى البعض من قولهم: شِرتُ العسل إذا استخرجته من موضعه.
{تسترضعوا}: أي تطلبوا الرضاع لأولادكم يقال: استرضع أي طلب الرضاع، مثل: استفتح طلب الفتح، واستنصر طلب النصر.
والمعنى: إذا أردتم أيها الآباء أن تسترضعوا المراضع لأولادكم أي تطلبوا لهم من يرضعهم فلا إثم عليكم ولا حرج.
{بالمعروف}: أي بالوجه المتعارف المستحسن شرعاً الذي أمركم به الدين.
{بَصِيرٌ}: أي مطلع على عمالكم، لا تخفى عليه خافية والمراد أنه مجازيكم عليها إن خيراً فخير، وإن شراً فشر.

.المعنى الإجمالي:

أمر الله تعالى الوالدات (المطلّقات) بإرضاع أولادهن مدة سنتين كاملتين إذا شاء الوالدان إتمام الرضاعة، وأنّ على الولد كفاية المرضع التي تقوم بإرضاع ولده، والإنفاق عليها لتقوم بخدمته حق القيام، وتحفظه من عاديات الأيام، وأن يكون ذلك الإنفاق بحسب المعروف والقدرة والطاقة لأن الله لا يكلف نفساً إلا وسعها.
ثم حذّر تعالى كلاً من الوالدين أن يضارّ أحدهما الآخر بسبب الولد، فلا يحل للأم أن تمتنع عن إرضاع الولد إضراراً بأبيه، وأن تقول له مثلاً: اطلب له ظئراً غيري، ولا يحل للأب أن ينزع الولد منها مع رغبتها في إرضاعه، ليغيظ أحدهما صاحبه بسبب الولد.
ثمّ بيّن تعالى أن الوالدين إذا أرادوا فطام ولدهما بعد التشاور والتراضي قبل تمام الحولين فلا إثم ولا حرج إذا رأيا استغناء الطفل عن لبن أمه بالغذاء، فإن هذا التحديد إنما هو لمصلحة الطفل ودفع الضرر عنه، والوالدان أدرى الناس بمصلحته وأشفقهم عليه وإن أردتم- أيها الآباء- أن تطلبوا مرضعة لولدكم غير الأم بسبب إبائها، أو عجزها أو إرادتها الزواج، فلا إثم عليكم في ذلك، بشرط أن تدفعوا إلى هذه المرضعة ما اتفقتم عليه من الأجر، ولا تبخسوها حقها، فإن المرضع إذا لم تكرم لا تهتم بالطفل ولا تُعنى بإرضاعه ولا بسائر شؤونه، فأحسنوا معاملتهن ليحسنّ أمور أولادكم، واتقوا الله أيها المؤمنون واعلموا أن الله مطلّع عليكم لا تخفى عليه خافية من شؤونكم وأنه مجازيكم عليها يوم الدين {يَوْمَ لاَ تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئاً والأمر يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ} [الانفطار: 19].

.وجوه القراءات:

1- قرأ الجمهور: {لِمَنْ أَرَادَ أَن يُتِمَّ الرضاعة} وقرأ مجاهد (أن تَتمّ الرضاعةُ) بالتاء وبرفع الرضاعة، وقرأ أبو رجاء وابن أبي عبلة (الرّضاعة) بكسر الراء. قال الزجاج (الرّضاعة) بفتح الراء وكسرها والفتح أكثر.
2- قرأ الجمهور: {لاَ تُضَآرَّ وَالِدَةٌ} وقرأ ابن كثير وأبو عمرو (لا تضارّ) بالرفع على أن (لا) نافية.
3- قوله تعالى: {إِذَا سَلَّمْتُم مَّآ آتَيْتُم} قرأ الجمهور: {آتَيْتُم} بالمد، وقرأ ابن كثير: {أتيتم} بالقصر.

.وجوه الإعراب:

أولاً- قوله تعالى: {وَعلَى المولود لَهُ رِزْقُهُنَّ} الجار والمجرور خبر مقدم، و(رزقهن) مبتدأ مؤخر وهو مضاف أي رزق المرضعات و(بالمعروف) متعلق بت (رزقهن).
ثانياً- قوله تعالى: {لاَ تُضَآرَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا} لا ناهية جازمة و(تضارّ) أصلها (تضارر) سكنت الراء الأخيرة للجزم والراء الأولى للإدغام فالتقى ساكنان فحرك الأخير منهما بالفتح للتخلص من التقاء الساكنين و(والدة) فاعل والمفعول به محذوف تقديره: لا تضارّ والدة زوجها بسبب ولدها.
ثالثاً- قوله تعالى: {وَإِنْ أَرَدتُّمْ أَن تسترضعوا أَوْلاَدَكُمْ} استرضع يتعدى لمفعولين الثاني بحرف الجر والمعنى: أن تسترضعوا المراضع لأولادكم، حذف المفعول الأول لاستغناء عنه.
قال الواحدي: أي أولادكم وحذف اللام اجتزاء بدلالة الاسترضاع لأنه لا يكون إلاّ الأولاد، ونيظره قوله تعالى: {وَإِذَا كَالُوهُمْ أَوْ وَّزَنُوهُمْ} [المطففين: 3] أي كالوا لهم أو وزنوا لهم.

.وجه الارتباط في الآيات السابقة:

مناسبة هذه الآية لما قبلها من الآيات، أنه تعالى لما ذكر جملة من الأحكام المتعلقة بالنكاح، والطلاق، والعدة، والرجعة، والعضل، ذكر في هذه الآية الكريمة حكم الرضاع، لأن الطلاق يحصل به الفراق، فقد يطلّق الرجل زوجته ويكون لها طفل ترضعه، وربما أضاعت الطفل أو حرمته الرضاع انتقاماً من الزوج وإيذاءً له، لذلك وردت هذه الآية لندب الوالدات المطلّقات إلى رعاية جانب الأطفال والاهتمام بشأنهم.

.لطائف التفسير:

اللطيفة الأولى: ورد الأمر بصيغة الخبر للمبالغة أي ليرضعن، والجملة ظاهرها الخبر وحقيقتها الأمر كقول: {والمطلقات يَتَرَبَّصْنَ} [البقرة: 228] والتعبير عنهن بلفظ (الوالدات) دون قوله: والمطلقات أو النساء المطلقات لاستعطافهن نحو الأولاد، فحصول الطلاق لهن لا ينبغي أن يحرمن عاطفة الأمومة.
اللطيفة الثانية: العدول عن قوله: وعلى الوالد إلى قوله: {وَعلَى المولود لَهُ} فيه لطيفة وهي أن الأولاد يتبعون الأب ويلتحقون بنسبه دون الأم، فالموجب المقتضي للإنفاق على الأمهات والمرضعات كون الأولاد لهم فعليهم تجب النفقة، واللفظ يشعر بالمنحة وشبه التمليك ولهذا أتى به دون لفظ الوالد.
قال الزمخشري: فإن قلت: لم قيل (المولود له) دون الوالد؟ قلت: ليعلم أن الوالدات إنما ولدن لهم، لأن الأولاد للآباء ولذلك ينسبون إليهم لا إلى الأمهات.
اللطيفة الثالثة: قال أبو حيان: وصف الله تعالى الحولين بالكمال (حولين كاملين) دفعاً للمجاز الذي يحتمله ذكر الحولين، إذ يقال: أقمتُ عند فلان حولين وإن لم يستكملهما، وهي صفة توكيد كقوله تعالى: {تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ} [البقرة: 196].
اللطيفة الرابعة: قوله تعالى: {لاَ تُضَآرَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا وَلاَ مَوْلُودٌ لَّهُ بِوَلَدِهِ} أضاف الولد في الآية إلى كل من الأبوين {وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا} و{وَلاَ مَوْلُودٌ لَّهُ بِوَلَدِهِ} وذلك لطلب الاستعطاف والإشفاق، فالولد ليس أجنبياً عن الوالدين، هذه أمه وذاك أبوه، فمن حقهما أن يشفقا عليه، ولا تكون العداوة بينهما سبباً للإضرار بالولد.
قال العلامة أبو السعود: إضافة الولد إلى كلٍ منهما لاستعطافهما إليه، وللتنبيه على أنه جدير بأن يتفقا على استصلاحه، ولا ينبغي أن يضرا به أو يتضارّا بسببه.
اللطيفة الخامسة: في قوله تعالى: {أَن تسترضعوا أَوْلاَدَكُمْ} التفات من الغيبة إلى الخطاب، وتلوين في التعبير لأن الآية قبله: {فَإِنْ أَرَادَا فِصَالاً} جاء بضمير التثنية للغائب، وهنا جاء بضمير الجمع للمخاطب، وفائدة هذا الالتفات هز مشاهر الآباء إلى امتثال أمر الله في الأبناء.

.الأحكام الشرعية:

الحكم الأول: ما المراد بالوالدات في الآية الكريمة؟
أ- قال بعضهم: لفظ الوالدات في الآية خاص بالمطلقات، وهو قول مجاهد والضحاك، والسدّي. واستدلوا بأن الآيات السابقة كانت في أحكام المطلقات وهذه وردت عقيبها تتمة لها، وبأن الله أوجب على الوالد رزقهن وكسوتهن، ولو كنّ أزواجاً لما كان هناك حاجة إلى هذا الإيجاب، لأن النفقة واجبة على الزوج من أجل الزوجة، ثم تعليل الحكم بالنهي على المضارّة بالولد يدل على أن المراد بالوالدات المطلقات، لأنّ التي في عصمة الزوجية لا تضارّ ولدها.
ب- وقال بعضهم: إنه خالص بالوالدات الزوجات في حال بقاء النكاح، وهو اختيار الواحدي كما نقله عنه الرازي والقرطبي، ودليلهم أن المطلّقة لا تستحق الكسوة، وإنما تستحق الأجرة فلما قال تعالى: {رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ} دلّ على أن المراد بهن الأمهات الزوجات.
ج- وقال آخرون: المراد بالوالدات العموم أي جميع الوالدات سواءً كنّ مزوجات أو مطلقات، عملاً بظاهر اللفظ فهو عام ولا دليل على تخصيصه وهو اختيار القاضي أبو يعلى، وأبو سليمان الدمشقي مع آخرين، ولعل هذا القول هو الأرجح وقد ذهب إليه أبو حيان في (البحر المحيط).
الحكم الثاني: هل يجب على الأم إرضاع ولدها؟
ذهب بعض العلماء إلى أنه يجب على الأم إرضاع ولدها لظاهر قوله تعالى: {والوالدات يُرْضِعْنَ أَوْلاَدَهُنَّ} فهو أمر في صورة الخبر أي: (ليرضعن أولادهن).
وهذا مذهب مالك أن الرضاع واجب على الأم في حال الزوجيّة فهو حق عليها إذا كانت زوجة، أو إذا لم يقبل الصبي ثدي غيرها، أو إذا عُدم الأب، واستثنوا من ذلك الشريفة بالعُرف، وأما المطلقة طلاق بينونة فلا رضاع عليها، والرضاع على الزوج إلاّ أن تشاء هي إرضاعه فهو أحق، ولها أجرة المثل.
وذهب جمهور الفقهاء إلى أن الأمر هنا للندب، وأنه لا يجب على الوالدة إرضاع ولدها إلاّ إذا تعينّت مرضعاً بأن كان لا يقبل غير ثديها، أو كان الوالد عاجزاص عن استئجار ظئر (مرضعة) ترضعه، أو قدر ولكنه لم يجد الظئر، واستدلوا بقوله تعالى: {وَإِن تَعَاسَرْتُمْ فَسَتُرْضِعُ لَهُ أخرى} [الطلاق: 6] ولو كان الإرضاع واجباً لكلفها الشرع به، وإنما ندب لها الإرضاع لأن لين الأم أصلح للطفل، وشفقة الأم عليه أكثر.
الحكم الثالث: ما هي مدة الرضاع الموجب للتحريم؟
ذهب الجمهور الفقهاء (مالك والشافعي وأحمد) إلى أن الرضاع الذي يتعلق به حكم التحريم، ويجري به مجرى النسب بقوله عليه السلام: «يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب» هو ما كان في الحولين واستدلوا بقوله تعالى: {والوالدات يُرْضِعْنَ أَوْلاَدَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ} وبما روي عن ابن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لا رضاع إلاّ ما كان في الحولين».
وذهب أبو حنيفة إلى أن مدة الرضاع المحرّم سنتان ونصف لقوله تعالى: {وَحَمْلُهُ وفصاله ثلاثون شَهْراً} [الأحقاف: 15].
قال العلامة القرطبي: والصحيح الأول لقوله تعالى: {حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ} وهذا يدل على أن لا حكم لما ارتضع المولود بعد الحولين، ولقوله عليه السلام: «لا رضاع إلا ما كان في الحولين» وهذا الخبر مع الآية والمعنى ينفي رضاعة الكبير وأنه لا حرمة له، وقد روي عن عائشة القول به، وبه يقول: (الليث بن سعد) وروي عن أبي موسى الأشعري أنه كان يرى رضاع الكبير، وروي عنه الرجوع عنه.
الحكم الرابع: كيف تقدر نفقة المرضع؟
دل قوله تعالى: {وَعلَى المولود لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بالمعروف} على وجوب النفقة للمرضع على الزوج، والنفقة تكون على قدر حال الأب من السعة والضيق لقوله تعالى: {لاَ تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلاَّ وُسْعَهَا} وقد دل على ذلك أيضاً قوله تعالى: {لِيُنفِقْ ذُو سَعَةٍ مِّن سَعَتِهِ وَمَن قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنفِقْ مِمَّآ آتَاهُ الله} [الطلاق: 7] وأخذ الفقهاء من آية البقرة: {وَعلَى المولود لَهُ رِزْقُهُنَّ} وجوب النفقة الولد على الوالد، لأن الله أوجب نفقة المطلقة على الوالد في زمن الرضاع لأجل الولد، فتجب نفقته على أبيه ا دام صغيراً لم يبلغ سن التكليف.
قال الجصاص في تفسيره (أحكام القرآن): وقد حوت الآية الكريمة الدالة على معنيين:
أحدهما: أن الأم أحقّ برضاع ولدها في الحولين، وأنه ليس للأب أن يسترضع له غيرها إذا رضيت بأن ترضعه.
والثاني: أن الذي يلزم الأب في نفقة الرضاع إنما هو سنتان.
وفي الآية دلالة على أن الأب لا يشارك في نفقة الرضاع لأن الله أوجب هذه النفقة على الأب للأم، وهما جميعاً وارثان، ثم جعل الأب أولى بإلزام ذلك من الأم مع اشتراكهما في الميراث، فصار ذلك أصلاً في اختصاص الأب بإلزام النفقة دون غيره، كذلك حكمه في سائر ما يلزمه من نفقة الأولاد الصغار، والكبار الزمني، يختص هو بإيجابه عليه دون مشاركة غيره فيه لدلالة الآية عليه.
الحكم الخامس: ما المراد من قوله تعالى: {وَعَلَى الوارث مِثْلُ ذلك}؟
واختلف المفسّرون في المراد من لفظ: {الوارث} في الآية الكريمة على أقوال:
أ- قال بعضهم: المراد وارث المولود أي وارث الصبي لو مات، وهو قول عطاء ومجاهد، وسعيد بن جبير، وقد اختلف أصحاب هذا القول فقال بعضهم وارثه من الرجال خاصة هو الذي تلزمه النفقة، وقال آخرون: وارثه من الرجال أو النساء وهو قول (أحمد) وإسحاق، وقال آخرون: وارثه كل ذي رحم محرم من قرابة المولود، وهو قول (أبي حنيفة) وصاحبيه.
ب- وقال بعضهم: المراد بالوارث هو وارث الأب وهو مروي عن الحسن، والسُدّي.
ج- وقال بعضهم: المراد بالوارث الباقي من والدي الولد بعد وفاة الآخر وهو قول سفيان الثوري.
د- وقال آخرون: المراد بالوارث الصبي نفسه فتجب النفقة عليه في ماله إن كان له مال.
وقد رجح الطبري الرأي الأخير واختاره من بين بقية الأقوال والله أعلم بالصواب.