فصل: وجوه القراءات:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: روائع البيان في تفسير آيات الأحكام



.سبب النزول:

قال ابن الجوزي رحمه الله: في سبب نزول هذه الآية قولان:
أحدهما: أن اليهود كانوا لا يسألون النبي صلى الله عليه وسلم عن شيء من التوراة إلاّ أجابهم، فسألوه عن السحر وخاصموه به فنزلت هذه الآية، قاله أبو العالية.
والثاني: أنه لما ذكر سليمان في القرآن قالت يهود المدينة: ألا تعجبون لمحمد يزعم أن (ابن داود) كان نبيّاً؟ والله ما كان إلا ساحراً فنزلت هذه الآية: {وَمَا كَفَرَ سليمان ولكن الشياطين كَفَرُواْ...} ذكره ابن إسحاق.

.وجوه القراءات:

أولاً: قوله تعالى: {ولكن الشياطين كَفَرُواْ}.
قرأ الجمهور: (ولكنّ الشياطينَ) بتشديد نون (لكنّ) ونصب نون (الشياطين) وقرأ حمزة والكسائي: (ولكن الشياطينُ) بتخفيف النون من (لكن) ورفع نون (الشياطين).
ثانياً: قوله تعالى: {وَمَآ أُنْزِلَ عَلَى الملكين}.
قرأ الجمهور: (المَلَكَيْن) بفتح اللام والكاف مثنّى (مَلَك) وقرأ ابن عباس، وسعيد بن جبير (الملِكَيْن) بكسر اللام مثنىّ (ملِك) قال ابن الجوزي: وقراءة الجمهور أصح.
قال القرطبي: وحُكي عن بعض القرّاء أنه كان يقرأ: {وما أُنْزل على الملِكَيْن} يعني به رجلين من بني آدم.
ثالثاً: قوله تعالى: {هاروت وماروت} قرأ الجمهور بفتح التاء قرأ الحسن والزهري برفعهما على تقدير (هما هاروتُ وماروتُ).

.وجوه الإعراب:

أولاً- قوله تعالى: {واتبعوا مَا تَتْلُواْ الشياطين} الواو للعطف، و{واتبعوا} معطوف على قوله تعالى: {نَبَذَ فَرِيقٌ} من عطف الجملة على الجملة، والضمير في {واتبعوا} لليهود، و{مَا} اسم موصول مفعول به و{تَتْلُواْ} صلة الموصول و{الشياطين} فاعل مرفوع وهو إخبار عن حالهم في اتباعهم ما لا ينبغي أن يتبّع، لأن الاتباع ليس مترتباً على مجيء الرسول، بخلاف نبذ كتاب الله فإنه مترتب على مجيء الرسول.
ثانياً- قوله تعالى: {يُعَلِّمُونَ الناس السحر وَمَآ أُنْزِلَ عَلَى الملكين....} جملة: {يُعَلِّمُونَ الناس السحر} في محل نصب على الحال من الضمير في {كَفَرُواْ} أي كفروا معلميّن الناس السحر، وقيل: هو بدل من {كَفَرُواْ} لأن تعليم السحر كفر في المعنى و{مَآ أُنْزِلَ} اسم الموصول {مَا} معطوف على {مَا تَتْلُواْ} فهو في موضع نصب، والمعنى: اتبعوا ما تتلوه الشياطين، واتبعوا ما أُنزل على الملكين، وقيل: {مَآ أُنْزِلَ} ما: نافية أي لم ينزل على الملكين، قال ابن الأنباري: وهذا الوجه ضعيف جداً، لأنه خلاف الظاهر والمعنى، فكان غيره أولى.
ثالثاً: قوله تعالى: {وَلَقَدْ عَلِمُواْ لَمَنِ اشتراه مَا لَهُ فِي الآخرة مِنْ خلاق}.
اللام في {لَمَنِ اشتراه} لام الابتداء، و(مَنْ) بمعنى الذي في موضع رفع لأنه مبتدأ، وخبره جملة: {مَا لَهُ فِي الآخرة مِنْ خلاق} و{مِنْ} في قوله: {مِنْ خلاق} زائدة لتأكيد النفي، وتقديره: ما له في الآخرة خلاق.

.لطائف التفسير:

اللطيفة الأولى: تضمنت هذه الآيات الكريمة ما كان عليه اليهود من الخبث وفساد النيّة، والسعي للإضرار بعباد الله، فالسّحر لم يُعرف إلاّ عند اليهود، فتاريخه مشتهر بظهورهم، فهم الذين نبذوا كتاب الله وسلكوا طريق السحر، وعملوا على إفساد عقول الناس وعقائدهم بطريق السحر، والشعوذة، والتضليل، وهذا يدل على أنّ اليهود أصل كل شرّ، ومصدر كلّ فتنة وقد صوّر القرآن الكريم نفسيّة اليهود بهذا التصوير الدقيق {كُلَّمَآ أَوْقَدُواْ نَاراً لِّلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا الله وَيَسْعَوْنَ فِي الأرض فَسَاداً والله لاَ يُحِبُّ المفسدين} [المائدة: 64].
اللطيفة الثانية: قال أبو حيان: كما كانت الآيات السابقة فيها ما يتضمّن الوعيد في قوله تعالى: {فَإِنَّ الله عَدُوٌّ لِّلْكَافِرِينَ} [البقرة: 98] وقوله: {وَمَا يَكْفُرُ بِهَآ إِلاَّ الفاسقون} [البقرة: 99] وذكر نبذ العهود من اليهود، ونبذ كتاب الله، واتباع الشاطين، وتعلم ما يضر ولا ينفع، أتبع ذلك بآية تتضمن الوعد الجميل لمن آمن واتقى. فجمعت هذه الآيات بين الوعيد والوعد، والترغيب والترهيب، والإنذار والتبشير، وصار فيها استطراد من شيء إلى شيء، وإخبار بمغيّب يعد مغيّب، متناسقةٌ تناسق اللآلئ في عقودها، متضمنة اتضاح الدّراري في مطالع سعودها، معلمة صدق من أتى بها، وهو ما قرأ الكتب ولا دارس، ولا رحل، ولا عاشر الأحبار ولا مارس {وَمَا يَنطِقُ عَنِ الهوى * إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يوحى} [النجم: 3- 4] صلى الله وسلّم عليه، وأوصل أزكى تحية إليه.
اللطيفة الثالثة: قَوله تعالى: {نَبَذَ فَرِيقٌ مِّنَ الذين أُوتُواْ الكتاب كتاب الله وَرَآءَ ظُهُورِهِمْ} التعبيرُ بالنبذ وراء الظهور، فيه زيادة تشنيع وتقبيح على اليهود، حيث تركوا العمل بكتاب الله، وأعرضوا عنه بالكلّية، شأن المستخف بالشيء، المستهزئ به، وتمسكوا بأساطير من فنون السحر والشعوذة.
يقول سيّد قطب رحمه الله: (والذين أوتوا الكتاب هم الذين نبذوا كتاب الله وراء ظهورهم، والمقصودُ طبعاً أنهم جحدوه وتركوا العمل به، ولكنّ التعبير المصوّر ينقل المعنى من دائرة الذهن، إلى دائرة الحسن، ويمثّل عملهم بحركةٍ مادية متخيّلة، تصوّر هذا التصرف تصويراً بشعاً زرياً، ينضح بالكنود والجحود، ويتسّم بالغلظة والحماقة، ويفيض بسوء الأدب والقحة، ويدع الخيال يتملّى هذه الحركة العنيفة، حركة الأيدي تنبذ كتاب الله وراء الظهور).
اللطيفة الرابعة: وجه المقارنة بين ذكر {الشياطين} و{السحر} في الآية الكريمة، هو أنّ السحر فيه استعانة بأرواح خبيثةٍ شرّيرة من الجن، والشياطينُ تزعم أنها تعلم الغيب وتوهم الناس بذلك، وقد كان بعض الناس يصدّقونهم فيما يزعمون، ويلجأون إليهم عند الكرب كما قال تعالى: {وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِّنَ الإنس يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِّنَ الجن فَزَادُوهُمْ رَهَقاً} [الجن: 6] ولهذا اشتهر السّحر عن طريق الاتصال بهذه الأرواح الخبيثة.
أخرج ابن جرير والحاكم عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: إنّ الشياطين كانوا يسترقون السّمع من السّماء، فإذا سمع أحدهم بكلمة، كذب عليها ألف كذبة، فأشربتها قلوب الناس واتخذوها دواوين، فأطلع الله على ذلك سليمان بن داود فأخذها وقذفها تحت الكرسي، فلمّا مات سليمان قام شيطان بالطريق فقال: ألا أدلكم على كنز سليمان الذي لا كنز لأحدٍ مثل كنزه الممنّع؟ قالوا: نعم فأخرجوه فإذا هو سحر، فتناسختها الأمم فأنزل الله تعالى عذر سليمان فيما قالوا من السحر.
اللطيفة الخامسة: عبّر القرآن الكريم عن (السحر) ب (الكفر) في قوله تعالى: {وَمَا كَفَرَ سليمان} وسياقُ اللفظ يدل على أن المراد منه السحر أي: وما سحر سليمان وإنما عبّر عنه بالكفر تقبيحاً وتشنيعاً، كما قال تعالى فيمن ترك الحجّ مع القدرة عليه {وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ الله غَنِيٌّ عَنِ العالمين} [آل عمران: 97].
وفي هذا التعبير تنفير للناس من السحر، ودلالة على أنه من الكبائر الموبقات، بل هو قرين الكفر والإشراك بالله، وقد دلّ عليه قوله تعالى: {إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلاَ تَكْفُرْ}.
اللطيفة السادسة: روي أنّ رجلاً تكلّم بكلام بليغ عند (عمر بن عبد العزيز) فقال عمر: هذا والله السّحر الحلال. ورُوي أنّ (الزبرقان بن بدر) و(عَمْر بن الأهتم) و(قيس بن عاصم) قدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال لعَمْرو: خبّرني عن الزبرقان؟ فقال: مُطاع في ناديه، شديد العارضة، مانعٌ لما وراء ظهره.. فقال الزبرقان: هو والله يعلمُ أني أفضلُ منه، فقال عمرو: إنه زمر المروءة، ضيّق العَطَن، أحمقُ الأب، لئيم الخال.. ثم قال: يا رسول الله، صدقتُ فيهما، أرضاني أحسن ما علمتُ، وأسخطني فقلت أسوأ ما علمت، فقال عليه السلام: «إن من البيان لسحراً».
ورُوي أن رجلين قدما على رسول الله صلى الله عليه وسلم فخطب أحدهما فعجب الناس من فصاحته وبلاغته فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إنّ من البيان لسحراً» فإن قيل: كيف سمّى عليه السلام روحة البيان سحراً مع أنّ السحر مذموم عقلاً ونقلاً؟!
فالجواب: أنّ هذا على (المجاز) لا على (الحقيقة) فالخطيب يستميل القلوب بحسن بيانه وروعة أدائه، وجمال تعبيره، كما يستميل الساحر قلوب الحاضرين إليه بخفته ورشاقته وتمويهه على الحاضرين، فمن هذا الوجه سمّي البيان سحراً.
اللطيفة السابعة: فإن قيل: كيف كان الملكان يعلّمان الناس السحر مع أنه حرام، ومعتقده كافر؟!
فالجواب: أنهما ما كانا يعلمان الناس السّحر للعمل به، وإنما للتخلُّص من ضرره، والاحتراز منه، لأن تعريف الشر للزجر عنه حسن وقد قيل:
عرفتُ الشرّ لا للشرّ ** لكن لتوقّيه

ومن لا يعرف الشرّ ** من الناس يقع فيه

وقد قيل لعمر بن الخطاب رضي الله عنه إنّ فلاناً لا يعرف الشر، قال: أجدر أن يقع فيه. والصحيح كما قال الألوسي: أن ذلك كان للابتلاء والتمييز بين (المعجزة) و(السحر) والله أعلم.

.الأحكام الشرعية:

الحكم الأول: هل للسّحر حقيقة وتأثير في الواقع؟
اختلف العلماء في أمر (السحر) هل له حقيقة أم هو شعوذة وتخييل؟
فذهب جمهور العلماء: من أهل السنة والجماعة إلى أن السحر له حقيقة وتأثير.
وذهب المعتزلة وبعض أهل السُنّة: إلى أنّ السحر ليس له حقيقة في الواقع وإنما هو خداع، وتمويه، وتضليل، وأنه باب من أبواب الشعوذة، وهو عندهم على ضروب.
ضروب السحر:
أولاً: التخييل والخداع: وذلك كما يفعله بعض المشعوذين، حيث يريك أنه ذبح عصفوراً، ثم يريك العصفور بعد ذبحه قد طار، وذلك لخفة حركته، والمذبوحُ غير الذي طار لأنه يكون معه اثنان، قد خبأ أحدهما وهو المذبوح وأظهر الآخر. قالوا: وقد كان سحر سحرة فرعون من هذا النوع، فقد كانت العصيّ مجوَّفة، قد ملئت زئبقاً، وكذلك الحبال كانت من أدم (جلد) محشوّة زئبقاً، وقد حفروا تحت المواضع أسراباً وملؤها ناراً، فلمّا طرحت عليها الحبال والعصيّ وحمى الزئبق تحركت، لأنّ من شأن الزئبق إذا أصابته الحرارة أن يتمدّد، فتخيّل الناس أنّ هذه الحبال والعصي تتحرك وتسير.
ثانياً: الكهانة والعرافة بطريق التواطؤ وذلك كما يفعله بعض العَرّافين والكُهان حيث يوكلون أناساً بالاطلاع على أسرار الناس، حتى إذا جاء أصحابها أخبروهم بها، ويزعمون أنها من حديث الجنّ والشياطين لهم، وأنهم يتصلون بهم ويطيعونهم بواسطة الرّقي، والعزائم، وأن الشياطين تخبرهم بالمغيبات فيصدقهم الناس، وما هي إلا مواطأة مع أشخاص قد أعدّوهم لذلك.
قال الجصاص: كانت أكثر مخاريق الحلاّج بالمواطأة، فكان يتفق مع جماعة فيضعون له خبزاً ولحماً وفاكهة في مواضع يعيّنها لهم، ثمّ يمشي مع أصحابه في البرية، ثم يأمر بحفر هذه المواضع، فيخرج ما خبئ من الخبز واللحم والفاكهة، فيعدّونها من الكرامات.
ثالثاً: وضربٌ آخر من السّحر عن طريق النميمة، والوشاية، والإفساد من وجوه خفيّة لطيفة، وذلك عام شائع في كثير من الناس.. وقد حُكي أنّ امرأة أرادت إفساد ما بين زوجين، فجاءت إلى الزوجة فقالت لها: إنّ زوجك معرضٌ عنك، وهو يريد أن يتزوج عليك، وسأسحره لك حتى لا يرغب عنك، ولا يريد سواك، ولكن لا بد أن تأخذي من شعر حلقه بالموسى ثلاث شعرات إذا نام وتعطينيها حتّى يتم سحره، فاغترت المرأة بقولها وصدقتها، ثمّ ذهبت إلى الرجل وقالت له: إن امرأتك قد أحبّت رجلاً وقد عزمت على أن تذبحك بالموسى عند النوم لتتخلص منك، وقد أشفقت عليك ولزمني نصحك، فتيقّظ لها هذه الليلة وتظاهر بالنوم فستعرف صدق كلامي، فلما جاء الليل تناوم الرجل في بيته فجاءت زوجته بالموسى لتحلق بعض شعرات من حلقه، ففتح الرجل عينه فرآها وقد أهوت بالموسى إلى حلقه، فلم يشكّ في أنها أرادت قتله فقام إليها فقتلها، فبلغ الخبر إلى أهلها فجاءوا فقتلوه، وهكذا كان الفساد بسبب الوشاية والنميمة.
رابعاً: وضرب آخر من السحر وهو الاحتيال وذلك بإطعام الإنسان بعض الأدوية المؤثرة في العقل، أو إعطائه بعض الأغذية التي لها تأثير على الفكر والذكاء، كإطعامه (دماغ الحمار) الذي إذا أطعمه إنسان تبلّد عقله، وقلّت فطنته مع أدوية أخرى معروفة في كتب الطب، فإذا أكله الإنسان تصرّف تصرفاً غير سليم فيقول الناس: به مسّ أو أنه مسحور.
فأنت ترى أنهم يُرجعون السحر إمّا إلى تمويه وتخييل، وإمّا إلى مواطأة، وإمّا إلى سعي ونميمة، وإمّا إلى احتيال، ولا يرون الساحر يقدر على شيء ممّا يثبته له الآخرون من التأثير في الأجسام، ومن قطع المسافات البعيدة في الزمن اليسير.
قال أبو بكر الجصاص: وحكمةٌ كافية تبيّن لك أن هذا كله مخاريق وحيل، لا حقيقة لما يدّعون لها أنّ الساحر والمعزّم لو قدرا على ما يدعيانه من النفع والضرر، وأمكنهما الطيران، والعلم بالغيوب، وأخبار البلدان النائية، والخبيثات والسّرَق، والإضرار بالناس من غير الوجوه التي ذكرنا، لقدروا على إزالة الممالك واستخراج الكنوز، والغلبة على البلدان بقتل الملوك بحيث لا ينالهم مكروه، ولا ستغنوا عن الطلب لما في أيدي الناس.
فإذا لم يكن كذلك، وكان المدّعون لذلك أسوأ الناس حالاً، وأكثرهم طمعاً واحتيالاً، وتوصلاً لأخذ دراهم الناس وأظهرهم فقراً وإملاقاً علمتَ أنهم لا يقدرون على شيء من ذلك.
أدلة المعتزلة:
استدل المعتزلة على أن السحر ليس له حقيقة بعدة أدلة نوجزها:
أ- قوله تعالى: {سحروا أَعْيُنَ الناس واسترهبوهم} [الأعراف: 116].
ب- قوله تعالى: {يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِن سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تسعى} [طه: 66].
ج- قوله تعالى: {وَلاَ يُفْلِحُ الساحر حَيْثُ أتى} [طه: 69].
فالآية الأولى: تدل على أن السحر إنما كان للأعين فحسب، والثانية: تؤكد أنَّ هذا السحر كان تخييلاً لا حقيقة، والثالثة: تثبت أن الساحر لا يمكن أن يكون على حق لنفي الفلاح عنه.
د- وقالوا: لو قدر الساحر أن يمشي على الماء، أو يطير في الهواء، أو يقلب التراب إلى ذهب على الحقيقة، لبطل التصديق بمعجزات الأنبياء، والتبس الحق بالباطل، فلم يعد يعرف (النبي) من (الساحر) لأنه لا فرق بين معجزات الأنبياء، وفعل السحرة، وأنه جميعه من نوع واحد.
أدلة الجمهور:
واستدل الجمهور من العلماء على أنّ السحر له حقيقة وله تأثير بعدة أدلة نوجزها فيما يلي:
أ- قوله تعالى: {سحروا أَعْيُنَ الناس واسترهبوهم وَجَآءُوا بِسِحْرٍ عَظِيمٍ} [الأعراف: 166].
ب- قوله تعالى: {فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ المرء وَزَوْجِهِ} [البقرة: 102].
ج- قوله تعالى: {وَمَا هُم بِضَآرِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلاَّ بِإِذْنِ الله} [البقرة: 102].
د- قوله تعالى: {وَمِن شَرِّ النفاثات فِي العقد} [الفلق: 4].
فالآية الأولى دلّت على إثبات حقيقة السحر بدليل قوله تعالى: {وَجَآءُوا بِسِحْرٍ عَظِيمٍ} [الأعراف: 166] والآية الثانية أثبتت أن السحر كان حقيقياً حيث أمكنهم بواسطته أن يفرّقوا بين الرجل وزوجه، وأن يوقعوا العداوة والبغضاء بين الزوجين فدلت على أثره وحقيقته، والآية الثالثة أثبتت الضرر للسحر، ولكنّه متعلق بمشيئة الله، والآية الرابعة تدل على عظيم أثر السحر حتى أمرنا أن نتعوذ بالله من شرّ السّحرة الذين ينفثون في العقد.
هـ- واستدلوا بما روي: «أن يهودياً سحر النبي صلى الله عليه وسلم فاشتكى لذلك أياماً، فأتاه جبريل فقال: إنّ رجلاً من اليهود سحرك، عقد لك عقداً في بئر كذا وكذا، فأرسل صلى الله عليه وسلم فاستخرجها فحلّها، فقام كأنّما نَشِطَ من عقال».
الترجيح: ومن استعراض الأدلة نرى أنّ ما ذهب إليه الجمهور أقوى دليلاً فإن السحر له حقيقة وله تأثير على النفس، فإن إلقاء البغضاء بين الزوجين، والتفريق بين المرء وأهله الذي أثبته القرآن الكريم ليس إلا أثراً من آثار السحر، ولو لم يكن للسحر تأثير لما أمر القرآن بالتعوذ من شرّ النفاثات في العقد، ولكنْ كثيراً ما يكون هذا السحر بالاستعانة بأرواح شيطانية فنحن نقر بأنّ له أثراً وضرراً ولكنّ أثره وضرره لا يصل إلى الشخص إلاّ بإذن الله، فهو سبب من الأسباب الظاهرة، التي تتوقف على مشيئة مسبّب الأسباب، ربّ العالمين جل وعلا.
وأما استدلالهم: بأنه يلتبس الأمر بين (المعجزة) و(السحر) إذا أثبتنا للسّحر حقيقة فنقول: إنّ الفرق بينهما واضح فإنّ معجزات الأنبياء عليهم السلام هي على حقائقها، وظاهرُها كباطنها، وكّلما تأملتها ازددت بصيرة في صحتها، وأما السّحر فظاهره غير باطنه، وصورته غير حقيقته، يعرف ذلك بالتأمل والبحث، ولهذا أثبت القرآن الكريم للسحرة أنهم استرهبوا الناس وجاءوا بسحرٍ عظيم، مع إثباته أَنّ ما جاءوا به إنما كان عن طريق التمويه والتخييل.
قال العلامة القرطبي: لا ينكر أحدٌ أن يظهر على يد الساحر خرق العادات، بما ليس في مقدور البشر، من مرضٍ، وتفريق، وزوال عقل، وتعويج عضو، إلى غير ذلك ممّا قام الدليل على استحالة كونه من مقدورات البشر.
قالوا: ولا يبعد في السحر أن يستدقّ جسم الساحر حتى يلج في الكُوّات، والخوخات، والانتصاب على رأس قصبة، والجري على خيط مستدق، والطيران في الهواء، والمشي على الماء، وركوب كلب وغير ذلك، ومع ذلك فلا يكون السحر موجباً لذلك، ولا علةً لوقوعه، ولا سبباً مولوداً، ولا يكون الساحر مستقلاً به، وإنما يخلق الله تعالى هذه الأشياء، ويحدثها عند وجود السحر، كما يخلق الشبع عند الأكل، والرّيّ عند شرب الماء.
ثم قال: قد أجمع المسلمون على أنه ليس في السحر ما يفعل الله عنده من إنزال الجراد، والقمل، والضفادع وفلق البحر، وقلب العصا، وإحياء الموتى، وإنطاق العجماء، وأمثال ذلك من عظيم آيات الرسل عليهم السلام، فهذا ونحوه مما يجب القطع بأنه لا يكون ولا يفعله الله عند إرادة الساحر.
وقال أبو حيان: واختلف في حقيقة السحر على أقوال:
الأول: أنه قلب الأعيان واختراعها بما يشبه المعجزات والكرامات كالطيران، وقطع المسافات في ليلة.
الثاني: أنه خدع وتمويهات وشعوذة لا حقيقة لها وهو قول المعتزلة.
الثالث: أنه أمرٌ يأخذ بالعين على جهة الحيلة، كما كان فعل سحرة فرعون حيث كانت حبالهم وعصيّهم مملوءة زئبقاً، فجّروا تحتها ناراً فحميت الحبال والعصي فتحرّكت وسعت.
الرابع: أنه نوع من خدمة الجن والاستعانة بهم، وهم الذين استخرجوه من جنس لطيف فلطف ودق وخفي.
الخامس: أنه مركب من أجسام تُجمع وتحرق، ويتلى عليها أسماء وعزائم، ثم تستعمل في أمور السحر.
السادس: أن أصله طلسمات تبنى على تأثير خصائص الكواكب، أو استخدام الشياطين لتسهيل ما عسُر.
السابع: أنه مركّب من كلمات ممزوجة بكفر، وقد ضمّ إليها أنواع من الشعبذة، والنازنجيات، والعزائم، وما يجري مجرى ذلك.
ثم قال: وأما في زماننا الآن فكلما وقفنا عليه في الكتب فهو كذب وافتراء، ولا يترتب عليه شيء، ولا يصح منه شيء البتة، وكذلك العزائم وضرب المندل، والناس يصدقون بهذه الأشياء ويصغون إلى سماعها.
الحكم الثاني: هل يباح تعلّم السحر وتعليمه؟
ذهب بعض العلماء: إلى أن تعلُّم السحر مباح، بدليل تعليم الملائكة السحر للناس كما حكاه القرآن الكريم عنهم، وإلى هذا الرأي ذهب (الفخر الرازي) من علماء أهل السنة.
وذهب الجمهور: إلى حرمة تعلم السحر، أو تعليمه، لأنّ القرآن الكريم قد ذكره في معرض الذمّ، وبيّن أنه كفر فكيف يكون حلالاً؟
كما أن الرسول عليه الصلاة والسلام عدّه من الكبائر الموبقات كما في الحديث الصحيح وهو قوله صلوات الله عليه: «اجتنبوا السبع الموبقات، قالوا وما هنّ يا رسول الله؟ قال: الشرك بالله، والسحر، وقتل النفس التي حرّم الله إلا بالحق، وأكل الربا، وأكل مال اليتيم، والتولي يوم الزحف، وقذف المحصنات الغافلات المؤمنات».
قال الألوسي: وقيل إنّ تعلمه مباح، وإليه مال الإمام الرازي قائلاً: اتفق المحقّقون على أن العلم بالسحر ليس بقبيح ولا محظور، لأن العلم لذاته شريف لعموم قوله تعالى: {هَلْ يَسْتَوِي الذين يَعْلَمُونَ والذين لاَ يَعْلَمُونَ} [الزمر: 9] ولو لم يُعْرف السحر لما أمكن الفرق بينه وبين المعجزة، فكيف يكون تعلمه حراماً وقبيحاً؟
ونقل بعضهم وجوب تعلمه على المفتي حتى يعلم ما يقتل به وما لا يقتل به، فيفتي به في وجوب القصاص. انتهى.
ثم قال الألوسي: والحق عندي الحرمة تبعاً للجمهور، إلاّ لداعٍ شرعي، وفيما قاله الإمام الرازي رحمه الله نظر: أمّا:
أولاً: فلأنا لا ندّعي أنه قبيح لذاته، وإنما قبحه باعتبار ما يترتب عليه، فتحريمه من باب (سد الذرائع) وكم من أمرٍ حَرُم لذلك.
وأمّا ثانياً: فلأنّ توقف الفرق بينه وبين المعجزة على العلم به ممنوعٌ، ألا ترى أن أكثر العلماء- أو كلّهم- عرفوا الفرق بينهما ولم يعرفوا علم السحر، ولو كان تعلمه واجباً لرأيت أعلم الناس به الصدر الأول.
وأما ثالثاً: فلأن ما نُقل عن بعضهم غير صحيح، لأنّ إفتاء المفتي بوجوب القَوَد أو عدمه لا يستلزم معرفته علم السحر، لأن صورة إفتائه- على ما ذكره العلامة ابن حجر- إنْ شهد عدلان عرفا السحر وتابا منه أنه يقتل غالباً قُتل الساحر، وإلاّ لم يُقتل.
وقال أبو حيان: وأما حكم السحر، فما كان منه يُعظّم به غير الله من الكواكب، والشياطين، وإضافة ما يُحدثه الله إليها فهو كفر إجماعاً، لا يحلّ تعلمه ولا العمل به، وكذا ما قصد بتعلمه سفك الدماء، والتفريق بين الزوجين والأصدقاء.
وأما إذا كان لا يعلم منه شيء من ذلك بل يحتمل فالظاهر أنه لا يحل تعلمه، ولا العمل به، وما كان من نوع التخييل، والدّجل، والشعبذة فلا ينبغي تعلمه لأنه من باب الباطل، وإن قصد به اللهو واللعب وتفريج الناس على خفة صنعته فيكره.
الحكم الثالث: هل يُقتل الساحر؟
قال أبو بكر الجصاص: اتفق السلف على وجوب قتل الساحر، ونصَّ بعضهم على كفره لقوله عليه الصلاة والسلام: «من أتى كاهناً أو عرافاً أو ساحراً فصدّقه بما يقول، فقد كفر بما أُنزل على محمد».
واختلف فقهاء الأمصار في حكمه:
فروي عن أبي حنيفة أنه قال: الساحرُ يُقتل إذا عُلم أنه ساحر ولا يستتاب، ولا يقبل قوله إني أترك السحر منه، فإذا أقر أنه ساحر فقد حلّ دمه، وكذلك العبد المسلم، والحر الذميّ من أقر منهم أنه ساحر فقد حلّ دمه، وهذا كله قول أبي حنيفة.
قال ابن شجاع: فحَكَمَ في الساحر والساحرة حكم المرتد والمرتدة، وقال- نقلاً عن أبي حنيفة- إنّ الساحر قد جمع مع كفره السعيَ في الأرض بالفساد، والساعي بالفساد إذا قتَلَ قُتل.
وروي عن مالك في المسلم إذا تولّى عمل السحر قتل ولا يستتاب، لأنّ المسلم إذا ارتد باطناً لم تعرف توبته بإظهاره الإسلام، فأمّا ساحر أهل الكتاب فإنه لا يقتل عند مالك إلاّ أن يضر المسلمين فيقتل.
وقال الشافعي: لا يكفر بسحره، فإن قتَل بسحره وقال: سحري يقتل مثله، وتعمدت ذلك قتل قوداً، وإن قال: قد يقتل، وقد يخطئ لم يُقتل وفيه الدية.
وقال الإمام أحمد: يكفر بسحره قتل به أو لم يقتل، وهل تقبل توبته؟ على روايتين، فأمّا ساحر أهل الكتاب فإنه لا يُقتل إلا أن يضر بالمسلمين.
والخلاصة: فإنّ أبا حنيفة يذهب إلى كفر الساحر، ويبيح قتله ولا يستتاب عنده، والساحر الكتابي حكمه كالساحر المسلم. والشافعي يقول: بعدم كفره ولا يقتل عنده إلا إذا تعمّد القتل.
ومالك يرى قتل الساحر المسلم لا ساحر أهل الكتاب ويحكم بكفر الساحر ولكلٍ وجهه هو مولّيها..