فصل: الدقائق البيانية في سورة الفاتحة:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: روائع البيان في تفسير آيات الأحكام



.الدقائق البيانية في سورة الفاتحة:

قال أبو حيان في تفسيره البحر المحيط: وقد انجرّ في غضون تفسير هذه السورة الكريمة من علم البيان فوائد كثيرة لا يهتدي إلى استخراجها إلاّ من كان توغّل في فهم لسان العرب، ورُزق الحظّ والوافر من علم الأدب، وكان عالماً بافتتان الكلام، قادراً على إنشاء النثار البديع والنظام، وفي هذه السورة الكريمة من أنواع الفصاحة والبلاغة أنواع:
النوع الأول: حسنُ الافتتاح وبراعة المطلع، وناهيك حسناً أن يكون مطلعها مفتتحاً باسم الله، والثناء عليه بما هو أهله من الصفات العليّة.
النوع الثاني: المبالغة في الثناء وذلك العموم (أل) في الحمد المفيد للاستغراق.
النوع الثالث: تلوين الخطاب في قوله: {الحمد للَّهِ} إذ صيغته الخبر ومعناه الأمر أي قولوا: الحمد لله.
النوع الرابع: الاختصاص باللاّم التي في (لله) إذ دلّت على أنّ جميع المحامد مختصة به تعالى إذ هو مستحق لها جلّ وعلا.
النوع الخامس: الحذف وذلك كحذف (صراط) من قوله تعالى: {غَيْرِ المغضوب عَلَيْهِم وَلاَ الضآلين} التقدير: غير صراط المغضوب عليهم، وغير صراط الضالين.
النوع السادس: التقديم والتأخير في قوله: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} وكذلك في قوله: {غَيْرِ المغضوب عَلَيْهِم وَلاَ الضآلين} وقد تقدم الكلام على ذلك.
النوع السابع: التصريح بعد الإبهام وذلك في قوله تعالى: {اهدنا الصراط المستقيم * صِرَاطَ الذين أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ} حيث فسّر الصراط.
النوع الثامن: الإلتفات وذلك في قوله: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ * اهدنا الصراط المستقيم}.
النوع التاسع: طلب الشيء وليس المراد حصوله بل دوامه واستمراره وذلك في قوله تعالى: {اهدنا الصراط المستقيم} أي ثبتنا عليه.
النوع العاشر: التسجيع المتوازي وهو اتفاق الكلمتين الأخيرتين في الوزن والرّوي وذلك في قوله تعالى: {الرحمن الرحيم... الصراط المستقيم} وقوله: {نَسْتَعِينُ... وَلاَ الضآلين}.

.وجوه القراءات:

أولاً: قرأ الجمهور: {الحمد للَّهِ} بضمّ دال الحمد، وقرأ سفيانُ بن عُيَينة {الحمدَ الله} بالنصب، قال ابن الأنباري: ويجوز نصبه على المصدر بتقدير أحمد الله.
قال أبو حيان: وقراءة الرفع أمكنُ في المعنى، ولهذا أجمع عليها السبعة، لأنها تدل على ثبوت الحمد واستقراره لله تعالى، فيكون قد أخبر بأنّ الحمد مستقرّ لله تعالى أي حمدُه وحمدُ غيره.
ثانياً: قرأ الجمهور: {ربّ العالمين} بكسر الباء وقرأ زيد بن عليّ {ربَّ العالمين} بالنصب على المدح أي أمدح ربّ العالمين، وهي فصيحة لولا خفض الصفات بعدها كما نبّه عليه أبو حيّان وغيره.
قال القرطبي: يجوز الرفع والنصب في {ربّ} فالنصبُ على المدح، والرفع على القطع أي هو ربّ العالمين.
ثالثاً: قرأ الجمهور: {مَالِك يومِ الدّينِ} على وزن فاعل مالك وقرأ ابن كثير وابن عمر وأبو الدرداء {مَلِك} بفتح الميم مع كسر اللام.
قال ابن الجوزي: وقراءة (مَلِك) أظهر في المدح لأن كل ملك مالك، وليس كل مالك ملكاً.
وقال ابن الأنباري: وفي مالك خمسُ قراءات وهي: مالك، ومَلِك، ومَلْك، ومليك، ومَلاَك.
رابعاً: قرأ الجمهور: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ} بضم الباء، وقرأ زيد بن علي {نعبِد} بكسر النون، وقرأ الحسن وأبو المتوكل {إيّاك يُعبد} بضم الياء وفتح الباء.
خامساً: قرأ الجمهور: {اهدنا الصراط المستقيم} بالصّاد وهي لغة قريش، وقرأ مجاهد وابن محيصن: {السّراط} بالسّين على الأصل.
قال الفرّاء: اللغة الجيّدة بالصاد وهي اللغة الفصحى، وعامة العرب يجعلونها سيناً، فمن قرأ بالسين فعلى أصل الكلمة، ومن قرأ بالصّاد فلأنها أخفّ على اللّسان.

.وجوه الإعراب:

أولاً: {بِسمِ الله الرحمن الرَّحِيمِ} الجار والمجرور في {بِسمِ الله} اختلف فيه النحويون على وجهين:
أ- مذهب البصريين: أنه في موضع رفع، لأنه خبر مبتدأ محذوف، وتقديره: ابتدائي بسم الله.
ب- مذهب الكوفيين: أنه في موضع نصب بفعل مقدّر وتقديره: ابتدأتُ بسم الله.
ثانياً: قوله تعالى: {الحمد للَّهِ رَبِّ العالمين} الحمدُ مبتدأ ولفظ الجلالة خبره تقديره: الحمد مستحق لله، و{رَبِّ العالمين} صفة، ومثله {الرحمن الرحيم} و{مالك يَوْمِ الدين} كلها صفات لاسم الجلالة.
ثالثاً: قوله تعالى: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} اختلف المفسّرون في {إِيَّاكَ} فذهب المحققون إلى أنه ضمير منفصل منصوب بالفعل بعده وأصله (نعبدك) و(نستعينك) فلما قُدّم الضمير المتصل أصبح ضميراً منفصلاً، والكاف للخطاب ولا موضع لها من الإعراب.
وذهب آخرون إلى أنه ضمير مضاف إلى ما بعده، ولا يعلم ضمير أضيف إلى غيره.
قال أبو السعود: وما ادّعاه الخليل من الإضافة، محتجاً عليه بما حكاه عن بعض العرب: إذا بلغ الرجل الستين فإيّاه وإيّا الشوابّ، فممّا لا يعوّل عليه. وذكر ابن الأنباري وجوهاً عديدة ثمّ قال: والذي اختاره الأول، وقد بيّنا ذلك مستوفى في كتابنا الموسوم ب (الانصاف في مسائل الخلاف).
رابعاً: قوله تعالى: {اهدنا الصراط المستقيم * صِرَاطَ الذين أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ...} {اهدنا} فعل دعاء وهو يتعدى إلى مفعولين المفعول الأول هو ضمير الجماعة (ن) في إهدنا، و{الصراط} هو المفعول الثاني، و{المستقيم} صفة للصراط، و{صِرَاطَ} بدل من الصراط الأول.
خامساً: آمين: اسم فعل أمر بمعنى استجب.

.الأحكام الشرعية:

الحكم الأول: هل البسملة آية من القرآن؟
أجمع العلماء على أن البسملة الواردة في سورة النمل [30] هي جزء من آية في قوله تعالى: {إِنَّهُ مِن سُلَيْمَانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ الله الرحمن الرحيم} ولكنهم اختلفوا هل هي آية من الفاتحة، ومن أول كل سورة أم لا؟ على أقوال عديدة:
الأول: هي آية من الفاتحة، ومن كل سورة، وهو مذهب الشافعي رحمه الله.
الثاني: ليست آية لا من الفاتحة، ولا من شيء من سور القرآن، وهو مذهب مالك رحمه الله.
الثالث: هي آية تامة من القرآن أُنزلت للفصل بين السور، وليست آية من الفاتحة وهو مذهب أبو حنيفة رحمه الله.
دليل الشافعية:
استدل الشافعية على مذهبهم بعدة أدلة نوجزها فيما يلي:
أولاً- حديث أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «إذا قرأتم الحمد لله رب العالمين، فاقرؤوا بسم الله الرحمن الرحيم، إنها أمّ القرآن، وأمّ الكتاب، والسبعُ المثاني، وبسم الله الرحمن الرحيم أحدُ آياتها».
ثانياً- حديث ابن عباس رضي الله عنهما: «أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يفتتح الصلاة ببسم الله الرحمن الرحيم».
ثالثاً- حديث أنس رضي الله عنه أنه سئل عن قراءة رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: كانت قراءته مدّاً.. ثمّ قرأ: {بِسمِ الله الرحمن الرَّحِيمِ * الحمد للَّهِ رَبِّ العالمين * الرحمن الرحيم * مالك يَوْمِ الدين...}.
رابعاً: حديث أنس رضي الله عنه أنه قال: بينا رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم بين أظهرنا إذ أغفى إغفاؤة، ثمّ رفع رأسه متبسّماً، فقلنا ما أضحكك يا رسول الله؟ قال: نزلت عليّ آنفاً سورة، فقرأ: {بِسمِ الله الرحمن الرَّحِيمِ إِنَّآ أَعْطَيْنَاكَ الكوثر * فَصَلِّ لِرَبِّكَ وانحر * إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الأبتر} [الكوثر: 1-3].
قالوا: فهذا الحديث يدل على أن البسملة آية من كل سورة من سور القرآن أيضاً، بدليل أن الرسول صلى الله عليه وسلم قرأها في سورة الكوثر.
خامساً: واستدلوا أيضاً بدليل معقول، وهو أن المصحف الإمام كُتبت فيه البسملة في أول الفاتحة، وفي أول كل سورة من سور القرآن، ما عدا سورة (براءة)، وكتبت كذلك في مصاحف الأمصار المنقولة عنه، وتواتر ذلك مع العلم بأنهم كانوا لا يكتبون في المصحف ما ليس من القرآن، وكانوا يتشدّدون في ذلك، حتى إنهم منعوا من كتابة التعشير، ومن أسماء السّور، ومن الإعجام، وما وُجِد من ذلك أخيراً فقد كتب بغير خطّ المصحف، وبمداد غير المداد، حفظاً للقرآن أن يتسرّب إليه ما ليس منه، فلما وجدت البسملة في سورة الفاتحة، وفي أوائل السور دلّ على أنه آية من كل سورة من سور القرآن.
دليل المالكية:
واستدل المالكية على أن البسملة ليست آية من الفاتحة، ولا من القرآن وإنما هي للتبرك بأدلة نوجزها فيما يلي:
أولاً: حديث عائشة رضي الله عنها قالت: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يفتتح الصلاة بالتكبير، والقراءة بالحمد لله ربِّ العالمين»
ثانياً: حديث أنس كما في الصحيحين قال: «صلّيتُ خلف النبي صلى الله عليه وسلم وأبي بكر، وعمر، وعثمان، فكانوا يستفتحون بالحمد لله رب العالمين».
وفي رواية لمسلم: {لا يذكرون} (بسم الله الرحمن الرحيم) لا في أول قراءة ولا في آخرها.
ثالثاً: ومن الدليل أنها ليست آية من الفاتحة حديث أبي هريرة قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: قال الله عزّ وجل: «قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين، ولعبدي ما سأل.
فإذا قال العبد: {الحمد للَّهِ رَبِّ العالمين}. قال الله تعالى: حمدني عبدي.
وإذا قال العبد: {الرحمن الرحيم}. قال الله تعالى: أثنى عليّ عبدي.
وإذا قال العبد: {مالك يَوْمِ الدين}.قال الله تعالى: مجدّني عبدي- وقال مرة فوّض إليّ عبدي-.
فإذا قال: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ}. قال: هذا بيني وبين عبدي، ولعبدي ما سأل.
فإذا قال: {اهدنا الصراط المستقيم * صِرَاطَ الذين أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ المغضوب عَلَيْهِم وَلاَ الضآلين}. قال: هذا لعبدي ولعبدي ما سأل»
.
قالوا: فقوله سبحانه: (قسمت الصلاة) يريد الفاتحة، وسمّاها صلاة لأن الصلاة لا تصح إلا بها، فلو كانت البسملة آية من الفاتحة لذكرت في الحديث القدسي.
رابعاً: لو كانت البسملة من الفاتحة لكان هناك تكرار في {الرحمن الرحيم} في وصفين وأصبحت السورة كالآتي: (بسم الله الرحمن الرحيم، الحد لله رب العالمين، الرحمن الرحيم) وذلك مخلّ ببلاغة النظم الجليل.
خامساً: كتابتها في أوائل السور إنما هو للتبرك، ولامتثال الأمر بطلبها والبدء بها في أوائل الأمور، وهي وإن تواتر كتبُها في أوائل السور، فلم يتواتر كونها قرآناً فيها.
قال القرطبي: الصحيحُ من هذه الأقوال قول مالك، لأن القرآن لا يثبت بأخبار الآحاد وإنما طريقهُ التواتر القطعي الذي لا يختلف فيه.
قال ابن العربي: ويكفيك أنها ليست من القرآن اختلاف الناس فيها، والقرآن لا يختلف فيه. والأخبار الصحاح التي لا مطعن فيها دالة على أن (البسملة) ليست بآية من الفاتحة ولا غيرها إلاَّ في النمل وحدها.
ثم قال: إنّ مذهبنا يترجّح في ذلك بوجه عظيم وهو المعقول، وذلك أن مسجد النبي صلى الله عليه وسلم بالمدينة انقضت عليه العصور، ومرّت عليه الأزمنة، والدهور من لدن رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى زمان مالك، ولم يقرأ أحد فيه قطّ (بسم الله الرحمن الرحيم) اتّباعاً للسُنّة، وهذا يردّ ما ذكرتموه، بيد أن أصحابنا استحبوا قراءتها في النفل، وعليه تُحمل الآثار الواردة في قراءتها أو على السعة في ذلك.
دليل الحنفية:
وأما الحنفية: فقد رأوا أنّ كتابتها في (المصحف) يدل على أنها قرآن ولكن لا يدل على أنها آية من سورة، والأحاديث الواردة التي تدل على عدم قراءتها جهراً في الصلاة مع الفاتحة تدل على أنها ليست من الفاتحة، فحكموا بأنها آية من القرآن تامة- في غير سورة النمل- أنزلت للفصل بين السور.
ومما يؤيد مذهبهم: ما روي عن الصحابة أنهم قالوا: كنا لا نعرف انقضاء السور حتى تنزل (بسم الله الرحمن الرحيم)، وكذلك ما روي عن ابن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان لا يعرف فصل السورة حتى ينزل عليه {بسم الله الرحمن الرحيم}.
قال الإمام أبو بكر الرازي: وقد اختلف في أنها آية من فاتحة الكتاب أم لا، فعدّها قرّاء الكوفة آية منها، ولم يعدّها قرّاء البصريين، وقال الشافعي: هي آية منها وإنْ تركها أعاد الصلاة، وحكى شيخنا (أبو الحسن الكرخي) عدم الجهر بها، ولأنها إذا لم تكن من فاتحة الكتاب فكذلك حكمها في غيرها، وزعم الشافعي أنها آية من كل سورة، وما سبقه إلى هذا القول أحد، لأن الخلاف بين السلف إنما هو في أنها آية من (فاتحة الكتاب) أو ليست بآية منها، ولم يعدّها أحد آية من سائر السور.
ثم قال: ومما يدل على أنها ليست من أوائل السور، ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: سورة في القرآن ثلاثون آية شفعت لصاحبها حتى غفر له {تَبَارَكَ الذي بِيَدِهِ الملك} [الملك: 1] واتفق القرّاء وغيرهم أنها ثلاثون سوى (بسم الله الرحمن الرحيم) فلو كانت منها كانت إحدى وثلاثين وذلك خلاف قول النبي صلى الله عليه وسلم. ويدل عليه أيضاً اتفاق جميع قرّاء الأمصار وفقهائهم على أن سورة (الكوثر) ثلاث آيات، وسورة (الإخلاص) أربع آيات، فلو كانت منها لكانت أكثر ممّا عدّوا.
الترجيح:
وبعد استعراض الأدلة وما استدل به كل فريق من أئمة المذاهب نقول: لعلّ ما ذهب إليه الحنفية هو الأرجح من الأقوال، فهو المذهب الوسط بين القولين المتعارضين، فالشافعية يقولون إنها آية من الفاتحة ومن أول كل سورة في القرآن، والمالكية يقولون: ليست بآية لا من الفاتحة ولا من القرآن {وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا} [البقرة: 148] ولكنْ إذا أمعنا النظر وجدنا أن كتابتها في المصحف، وتواتر ذلك بدون نكير من أحد- مع العلم بأنّ الصحابة كانوا يجرّدون المصحف من كل ما ليس قرآناً- يدلّ على أنها قرآن، لكن لا يدل على أنها آية من كل سورة، أو آية من سورة الفاتحة بالذات، وإنما هي آية من القرآن وردت للفصل بين السور، وهذا ما أشار إليه حديث ابن عباس السابق إنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم كان لا يعرف فصل السور حتى ينزل عليه: (بسم الله الرحمن الرحيم) ويؤكد أنها ليست من أوائل السور أن القرآن نزل على مناهج العرب في الكلام، والعربُ كانت ترى التفنّن من البلاغة، لا سيّما في افتتاحاتها، فلو كانت آية من كل سورة لكان ابتداء كلّ السور على منهاجٍ واحد، وهذا يخالف روعة البيان في معجزة القرآن.
وقول المالكية: لم يتواتر كونها قرآناً فليست بقرآن غير ظاهر- كما يقول الجصّاص- إذ ليس بلازم أن يقال في كل آية إنها قرآن وتواتر ذلك، بل يكفي أن يأمر الرسول صلى الله عليه وسلم بكتابتها ويتواتر ذلك عنه صلى الله عليه وسلم، وقد اتفقت الأمة على أن جميع ما في المصحف من القرآن، فتكون البسملة آية مستقلة من القرآن كرّرت في هذه المواضع على حسب ما يكتب في أوائل الكتب على جهة التبرك باسم الله تعالى، وهذا ما تطمئن إليه النفس وترتاح، وهو القول الذي يجمع بين النصوص الواردة والله أعلم.
الحكم الثاني: ما هو حكم قراءة البسملة في الصلاة؟
اختلف الفقهاء في قراءة البسملة في الصلاة على أقوال عديدة:
أ- فذهب مالك رحمه الله: إلى منع قراءتها في الصلاة المكتوبة، جهراً كانت أو سرّاً، لا في استفتاح أم القرآن، ولا في غيرها من السور، وأجاز قراءتها في النافلة.
ب- وذهب أبو حنيفة رحمه الله: إلى أن المصلي يقرؤها سراً مع الفاتحة في كل ركعة من ركعات الصلاة، وإن قرأها مع كل سورة فحسن.
ج- وقال الشافعي رحمه الله: يقرؤها المصلي وجوباً. في الجهر جهراً، وفي السرّ سراً.
د- وقال أحمد بن حنبل رضي الله عنه: يقرؤها سرّاً ولا يسنّ الجهر بها.
وسبب الخلاف: هو اختلافهم في (بسم الله الرحمن الرحيم) هل هي آية من الفاتحة ومن أول كل سورة أم لا؟ وقد تقدم الكلام على ذلك في الحكم الأول.
وشيء آخر: هو اختلاف آراء السلف في هذا الباب.
قال ابن الجوزي في (زاد المسير): وقد اختلف العلماء هل البسملة، من الفاتحة أم لا؟ فيه عن أحمد روايتان، فأمّا من قال: إنها من الفاتحة، فإنه يوجب قراءتها في الصلاة إذا قال بوجوب الفاتحة، وأمّا من لم يرها من الفاتحة فإنه يقول: قراءتها في الصلاة سنّة، ما عدا مالكاً رحمه الله فإنه لا يستحب قراءتها في الصلاة.
واختلفوا في الجهر بها في الصلاة فيما يجهر به، فنقل جماعة عن أحمد: أنه لا يسُن الجهر بها، وهو قول أبي بكر، وعمر، وعثمان، وعلي، وابن مسعود، ومذهب الثوري، ومالك، وأبي حنيفة.
وذهب الشافعي: إلى أن الجهر بها مسنون، وهو مرويّ عن معاوية، وعطاء، وطاووس.
الحكم الثالث: هل تجب قراءة الفاتحة في الصلاة؟
اختلف الفقهاء في حكم قراءة فاتحة الكتاب في الصلاة على مذهبين:
أ- مذهب الجمهور (مالك والشافعي وأحمد) أن قراءة الفاتحة شرط لصحة الصلاة، فمن تركها مع القدرة عليها لم تصحّ صلاته.
ب- مذهب الثوري وأبي حنيفة: أن الصلاة تجزئ بدون فاتحة الكتاب مع الإساءة ولا تبطل صلاته، بل الواجب مطلق القراءة وأقله ثلاث آيات قصار، أو آية طويلة.
أدلة الجمهور:
استدل الجمهور على وجوب قراءة الفاتحة بما يلي:
أولاً: حديث عُبادة بن الصامت وهو قوله عليه الصلاة والسلام: «لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب».
ثانياً: حديث أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم: «قال من صلّى صلاة لم يقرأ فيها بأمّ الكتاب فهيِ خِداج فهي خِداج، فهي خداج غير تمام».
ثالثاً: حديث أبي سعيد الخدري: أمرنا أن نقرأ بفاتحة الكتاب وما تيسّر.
قالوا: فهذه الآثار كلّها تدل على وجوب قراءة الفاتحة في الصلاة، فإنّ قوله صلى الله عليه وسلم: «لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب» يدل على نفي الصحة، وكذلك حديث أبي هريرة فهي خِداج قالها عليه الصلاة والسلام ثلاثاً يدل على النقص والفساد، فوجب أن تكون قراءة الفاتحة شرطاً لصحة الصلاة.
استدل الثوري وفقهاء الحنفية على صحة الصلاة بغير قراءة الفاتحة بأدلة من الكتاب والسنّة.
أمّا الكتاب: فقوله تعالى: {فاقرءوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ القرآن} [المزمل: 20] قالوا: فهذا يدل على أن الواجب أن يقرأ أي شيء تيسّر من القرآن، لأن الآية وردت في القراءة في الصلاة بدليل قوله تعالى: {إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أدنى مِن ثُلُثَيِ الليل} إلى قوله: {فاقرءوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ القرآن} [المزمل: 20] ولم تختلف الأمة أن ذلك في شأن الصلاة في الليل، وذلك عموم عندنا في صلاة الليل وغيرها من النوافل والفرائض لعموم اللفظ.
وأما السنّة: فما روي عن أبي هريرة رضي الله عنه: «أن رجلاً دخل المسجد فصلّى، ثم جاء فسلّم على النبيّ صلى الله عليه وسلم فردّ عليه السلام وقال: ارجع فصلّ فإنك لم تصل فصلّى ثم جاء فأمره بالرجوع، حتى فعل ذلك ثلاث مرات، فقال: والذي بعثك بالحق ما أُحْسنُ غيره، فقال عليه الصلاة والسلام: إذا قمتَ إلى الصلاة فأسبغ الوضوء، ثمّ استقبل القبلة فكبّر، ثم اسجد حتى تطمئن ساجداً، ثم ارفع حتى تطمئن جالساً، ثم اسجد حتى تطمئن ساجداً، ثم ارفع حتى تستوي قائماً، ثمّ فاعل ذلك في صلاتك كلها».
قالوا: فحديث أبي هريرة في تعليم الرجل صلاته يدل على التخيير (اقرأ ما تيسّر معك من القرآن) ويقوّي ما ذهبنا إليه، وما دلت عليه الآية الكريمة من جواز قراءة أي شيء من القرآن.
وأما حديث عبادة بن الصامت: فقد حملوه على نفي الكمال، لا على نفي الحقيقة، ومعناه عندهم (لا صلاة كاملة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب) ولذلك قالوا: تصح الصلاة مع الكراهية، وقالوا هذا الحديث يشبه قوله صلى الله عليه وسلم: «لا صلاة لجار المسجد إلاّ في المسجد».
وأما حديث أبي هريرة: (فهي خداج، فهي خداج...) إلخ فقالوا: فيه ما يدلّ لنا لأنّ (الخداج) الناقصة، وهذا يدل على جوازها مع النقصان، لأنها لو لم تكن جائزة لما أُطلق عليها اسم النقصان، لأن إثباتها ناقصة ينفي بطلانها، إذ لا يجوز الوصف بالنقصان للشيء الباطل الذي لم يثبت منه شيء.
هذه هي خلاصة أدلة الفريقين: سردناها لك بإيجاز، وأنت إذا أمعنتَ النظر، رأيت أنّ ما ذهب إليه الجمهور أقوى دليلاً، وأقوى قيلاً، فإنّ مواظبته عليه الصلاة والسلام على قراءتها في الفريضة والنفل، ومواظبة أصحابه الكرام عليها دليل على أنه لا تجزئ الصلاة بدونها، وقد عضد ذلك الأحاديث الصريحة الصحيحة، والنبي عليه الصلاة والسلام مهمته التوضيح والبيان، لما أجمل من معاني القرآن، فيكفي حجّة لفريضتها ووجوبها قولُه وفعله عليه السلام.
وممّا يؤيد رأي الجمهور ما رواه مسلم عن أبي قتادة أنه قال: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلّي بنا فيقرأ في الظهر والعصر في الركعتين الأوليَيْن بفاتحة الكتاب وسورتين، ويُسمعنا الآية أحياناً، وكان يطوّل في الركعة الأولى من الظهر، ويقصر الثانية، وكذلك في الصبح».
وفي رواية: «ويقرأ في الركعتين الأخريين بفاتحة الكتاب».
قال الطبري: يقرأ بأم القرأن في كل ركعة، فإن لم يقرأ بها لم يجزه إلا مثلها من القرآن عدد آياتها وحروفها.
قال القرطبي: والصحيح من هذه الأقوال، قولُ الشافعي وأحمد ومالك في القول الآخر، وأن الفاتحة متعينة في كل ركعةٍ لكل أحدٍ على العموم لقوله عليه الصلاة والسلام: «لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب» وقد روي عن عمر بن الخطاب، وعبد الله بن عباس، وأبي هريرة، وأُبِيّ بن كعب، وأبي أيوب الأنصاري، وعبادة بن الصامت، وأبي سعيد الخدري أنهم قالوا: «لا صلاة إلا بفاتحة الكتاب» فهؤلاء الصحابة القُدرة، وفيهم الأسوة، كُلّهم يوحبون الفاتحة في كل ركعة.
قال الإمام الفخر: إنه عليه السلام واظب طول عمره على قراءة الفاتحة في الصلاة، فوجب أن يجب علينا ذلك لقوله تعالى: {واتبعوه لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} [الأعراف: 158] ويا لَلْعجب من أبي حنيفة فإنه تمسّك في وجوب (مسح الناصية) بخبر واحد وذلك ما رواه المغيرة بن شعبة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه أتى سُباطة قوم فبال وتوضأ، ومسح على ناصيته وخفيه، في (أنه عليه السلام مسح على الناصية) فجعل ذلك القدر من المسح شرطاً لصحة الصلاة!! وهاهنا نقل أهلُ العلم نقلاً متواتراً أنه عليه السلام واظب طول عمره على قراءة الفاتحة، ثمّ قال: إن صحة الصلاة غير موقوفة عليها، وهذا من العجائب!.
الحكم الرابع: هل يقرأ المأموم خلف الإمام؟
اتفق العلماء على أن المأموم إذا أدرك الإمام راكعاً فإنه يحمل عنه القراءة، لإجماعهم على سقوط القراءة عنه بركوع الإمام، وأمّا إذا أدركه قائماً فهل يقرأ خلفه أم تكفيه قراءة الإمام؟ اختلف العلماء في ذلك على أقوال:
أ- فذهب الشافعي وأحمد: إلى وجوب قراءة الفاتحة خلف الإمام سواء كانت الصلاة سرّية أم جهرية.
ب- وذهب مالك إلى أن الصلاة إذا كانت سرّية قرأ خلف الإمام، ولا يقرأ في الجهرية.
ج- وذهب أبو حنيفة: إلى أنه لا يقرأ خلف الإمام لا في السرية ولا في الجهرية.
استدل الشافعية والحنابلة بالحديث المتقدم وهو قوله صلى الله عليه وسلم: «لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب».
فإن اللفظ عام يشمل الإمام والمأموم، سواء كانت الصلاة سرية جهرية، فمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب لم تصحّ صلاته.
واستدل الإمام مالك: على قراءة الفاتحة إذا كانت الصلاة سرّية بالحديث المذكور، ومنع من القراءة خلف الإمام إذا كانت الصلاة جهرية لقوله تعالى: {وَإِذَا قُرِئَ القرآن فاستمعوا لَهُ وَأَنصِتُواْ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} [الأعراف: 204].
وقد نقل القرطبي: عن الإمام مالك أنه لا يقرأ في الجهرية بشيء من القرآن خلف الإمام، وأمّا في السرّية فيقرأ بفاتحة الكتاب، فإن ترك قراءتها فقد أساء ولا شيء عليه.
وأمّا الإمام أبو حنيفة: فقد منع من القراءة خلف الإمام مطلقاً عملاً بالآية الكريمة: {وَإِذَا قُرِئَ القرآن فاستمعوا} [الأعراف: 204] ولحديث: «من كان له إمام فقراءة الإمام له قراءة».
واستدل أيضاً بما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «إنما جعل الإمام ليؤتم به، فإذا كبّر فكبروا، وإذا قرأ فأنصتوا».