فصل: وجوه القراءات:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: روائع البيان في تفسير آيات الأحكام



.وجوه القراءات:

1- قوله تعالى: {وَفَرَضْنَاهَا} قرئ بالتخفيف والتشديد، فقراءة التخفيف {فَرَضْناها} بمعنى أوجبنا وألزمنا العمل بما فيها من الأحكام إيجاباً قطعياً وقراءة التشديد {فرّضْناها} لتأكيد الايجاب أو المبالغة في لزومه وقيل: هو على التكثير، أي لكثرة ما فيها من الفرائض كأحكام الزنى، والقذف، واللعان، والأمر بالحجاب، والاستئذان وغضّ البصر، وغير ذلك.
2- قوله تعالى: {الزانية والزاني} قرأ الجمهور بالرفع وقرئ بالنصب (الزانية) واختار الخليل وسيبوية الرفع اختيار الأكثرين. قال الزجاج: والرفع أقوى في العربية لأن معناه: من زنى فاجلدوه فتأويله الابتداء ويجوز النصب على معنى: اجلدوا الزانية.
3- قوله تعالى: {وَلاَ تَأْخُذْكُمْ} قرأ الضحاك والأعمش: {ولا يأخذكم} بالياء بدل التاء وقوله تعالى: {رَأْفَةٌ} بإسكان الهمزة هي القراءة المشهور وقرئ: {رَأَفة} بفتح الهمزة قال القرطبي: وفيه ثلاث لغات: (رَأَفة، ورأْفة، ورآفة) بالمد وهي كلها مصادر أشهرها الأولى.
4- قوله تعالى: {الزاني لاَ يَنكِحُ} بضم الحاء وقرئ بإسكانها {لا ينكحْ} فالأولى (نفيٌ)، والثانية (نهيٌ)، وقوله تعالى: {وَحُرِّمَ ذلك} قرئ بالتشديد أي بضم الحاء وتشديد الراء، وقرئ بالتخفيف {وحَرُم} بفتح الحاء وضم الراء- قال ابن الجوزي: وقرأ أُبيَّ بن كعب: {وحَرَم اللَّهُ} بزيادة اسم الله عز وجل مع فتح حروف (حَرّم).

.وجوه الإعراب:

1- قوله تعالى: {سُورَةٌ أَنزَلْنَاهَا} سورة خبر لمبتدأ محذوف تقديره: هذه سورة، وإنما قدرنا ذلك لأنها نكرة، والمشهورُ عند علماء النحو أنه لا يجوز الابتداء بالنكرة كما قال ابن مالك:
ولا يجوز الابتدا بالنكرة ** مال لم تفد كعند زيد نمرة

وجوَّز بعضهم أن تكون مبتدأ لأنها موصوفة بجملة (أنزلناها) وهو رأي (الأخفش) قال القرطبي: ويحتمل أن يكون قوله (سورة) ابتداء وما بعدها صفة لها أخرجتها عن حد النكرة المحضة فحسن الابتداء لذلك.
ويرى (الزمخشري) أنه يجوز أن تكون مبتدأ موصوفاً والخبر محذوف تقديره فيما أوحينا إليك سورة أنزلناها، وقد رد العلامة (أبو السعود) هذا الرأي وقال: وأما كونها متبدأ محذوف الخبر على أن يكون التقدير: (فيما أوحينا إليك سورةٌ أنزلناها) إلخ فيأباه أنّ مقتضى المقام بيان شأن هذه السورة الكريمة لا أن في جملة ما أوحي إلى النبي عليه الصلاة والسلام سورة شأنها كذا وكذا. وحملها على السورة الكريمة بمعونة المقام يوهم أن غيرها من السور الكريمة ليست على تلك الصفات.
2- قوله: {أَنزَلْنَاهَا} الجملة من الفعل والفاعل في محل رفع (صفة) لأن الجمل من بعد النكرات صفات. كما يقول علماء النحو.
3- قوله: {لَّعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} لعل للترجي وهي من أخوات (إنَّ) والكاف في محل نصب اسم لعل، وجملة (تَذكَّرون) من الفعل والفاعل في محل رفع خبرها.
4- قوله: {الزانية والزاني} الزانية مبتدأ والزاني معطوف عليها والخبر هو جملة (فاجلدوا) والتقدير الزانية والزاني مجدلودان في حكم الله أو ينبغي أن يُجْلدا، وإنما دخلت الفاء على الخبر لأن في الجملة معنى الشرط أي من زنى أو من زنت فاجلدوهما مائة جلدة، وأما قراءة النصب (الزَّانيةَ والزاني) فهو منصوب بفعل محذوف يفسِّره المذكور أي اجلدوا الزانيةَ واجلدوا الزاني.
5- قوله: {إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ} أن الشرطية جازمة (وكنتم) فعل الشرط متصرفة من (كان) الناقصة والضمير اسمها وجملة (تؤمنون) من الفعل والفاعل خبرها وجواب الشرط محذوف دلّ عليه ما قبله أي إن كنتم مؤمنين حقاً فلا تأخذكم بهما رأفة والله أعلم.

.الأحكام الشرعية:

الحكم الأول: كيف كانت عقوبة الزنى في صدر الإسلام؟
كان عقوبة الزنى في صدر الإسلام. عقوبة حفيفة موقَّتة، لأن الناس كانوا حديثي عهد بحياة الجاهلية. ومن سنة الله جل وعلا في تشريع الأحكام، أن يسير بالأمة في طريق (التدرج) ليكون أنجح في العلاج. وأحكم في التطبيق، وأسهل على النفوس لتتتقبل شريعة الله عن- رضى واطمئنان- كما رأينا ذلك في تحريم الخمر والربا وغيرهما من الأحكام الشرعية.
وقد كانت العقوبة في صدر الإسلام هي ما قصه الله علينا في سورة النساء في قوله جل شأنه: {واللاتي يَأْتِينَ الفاحشة مِن نِّسَآئِكُمْ فاستشهدوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعةً مِّنْكُمْ فَإِن شَهِدُواْ فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي البيوت حتى يَتَوَفَّاهُنَّ الموت أَوْ يَجْعَلَ الله لَهُنَّ سَبِيلاً * واللذان يَأْتِيَانِهَا مِنكُمْ فَآذُوهُمَا فَإِن تَابَا وَأَصْلَحَا فَأَعْرِضُواْ عَنْهُمَآ إِنَّ الله كَانَ تَوَّاباً رَّحِيماً} [النساء: 15- 16] فكانت عقوبة المرأة (الحبس) في البيت وعدم الإذن لها بالخروج منه، وعقوبة الرجل (التأنيث والتوبيخ) بالقول والكلام ثم نسخ ذلك بقوله تعالى: {الزانية والزاني فاجلدوا كُلَّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا مِئَةَ جَلْدَةٍ...} الآية. ويظهر أن هذه العقوبة كانت أو الإسلام من قبيل (التعزير) لا من قبيل (الحدّ) بدليل التوقيت الذي أشارت إليه الآية الكريمة: {حتى يَتَوَفَّاهُنَّ الموت أَوْ يَجْعَلَ الله لَهُنَّ سَبِيلاً} [النساء: 15] وقد استبدلت هذه العقوبة بعقوبة أشد هي (الجلد) للبكر و(الرجم) للزاني المحصن، وانتهى ذلك الحكم الموقت إلى تلك العقوبة الرادعة الزاجرة.
روى عن عبادة بن الصامت رضي الله عنه أنه قال: (كان نبي الله صلى الله عليه وسلم إذا أُنزل عليه الوحي كُرِبَ لذلك وتربّد وجهه، فأنزل الله عليه ذات يوم فلقي كذلك فلما سُرِّي عنه قال خذوا عني، خذوا عني، قد جعل الله لهنَّ سبيلاً: البكر بالبكر جلد مائة وتغريب عام، والثيبُ بالثيب جلد مائة والرجم).
الحكم الثاني: ما هو حدُّ البكر، وحدُّ المحصن؟
فرقت الشريعة الإسلامية بين حد البكر (غير المتزوج) فخففّفت العقوبة في الأول فجعلتها مائة جلدة، وغلّظت العقوبة في الثاني فجعلتها الرجم بالحجارة حتى الموت، وذلك لأن جريمة الزنى بعد الإحصان (التَّزوج) أشد وأغلظ من الزنى المحض في نظر الإسلام فالجريمة التي يرتكبها رجل محصن من (امرأة محصنة) عن طريق الفاحشة أشنع وأقبح من الجريمة التي يرتكبها مع البكر لأنه قد أفسد نسب غيره ودنّس فراشه وسلك لقضاء شهوته طريقاً غير مشروع مع أنه كان متمكناً من قضائها بطريق مشروع فكانت العقوبة أشد وأغلظ.
الجلد ثابت بالنص القرآني القاطع:
أما الجلد: فقد ثبت بالنص القرآني القاطع: {الزانية والزاني فاجلدوا كُلَّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا مِئَةَ جَلْدَةٍ} والآية الكريمة إنما هي في حد الزاني (غير المحصن) والآية وإن كانت عامة في كل (زان) إلا أن السنة النبوية قد بينت ذلك ووضحته كما في حديث (عبادة بن الصامت) المتقدم ومهمة الرسول البيان كما قال تعالى: {لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} [النحل: 44] وكفى بتوضيح الرسول وبيانه وتفصيلاً وبياناً لمجمل القرآن!!
الرجم ثابت بالسنة النبوية المتواترة:
وأمّا الرجم: فقد ثبت بفعل النبي صلى الله عليه وسلم وقوله، وعمله، وكذلك بإجماع الصحابة والتابعين فقد ثبت بالروايات الصحيحة التي لا يتطرأ إليها الشك، وبطريق التواتر أن النبي صلى الله عليه وسلم أقام (حد الرجم) على بعض الصحابة كماعز، والغامدية، وأن الخلفاء الراشدين من بعده قد أقاموا هذا الحد في عهودهم وأعلنوا مراراً أن الرجم هو الحد للزنى بعد الإحصان.
ثم ظلّ فقهاء الإسلام في كل عصر وفي كل مصر مجمعين على كونه حكماً ثابتاً وسنة متبعة وشريعة إلهية قاطعة، بأدلة متضافرة لا مجال للشك فيها أو الارتياب، وبقي هذا الحكم إلى عصرنا هذا لم يخالف فيه أحد إلا فئة شاذة من المنحرفين عن الإسلام هم (الخوارج) حيث قالوا: إن الرجم غير مشروع وسنبين فساد مذهبهم فيما يأتي:
أدلة الخوارج والرد عليها:
استدل الخوارج على أنّ الرجم غير مشروع بأدلة ثلاثة هي أوهَى من بيت العنكبوت نلخصها فيما يلي:
أولاً: قالوا الرجمُ أشدُّ العقوبات فلو كان مشروعاً لذكِر في القرآن ولمّا يذكر دل على أنه غير مشروع.
ثانياً: إن حدّ الأمة نصف حد الحرة {فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى المحصنات مِنَ العذاب} [النساء: 25] والرجم لا ينتصف فلا يصح أن يكون حداً للحرة.
ثالثاً: إن الحكم عام في جميع الزناة وتخصيص (الزاني المحصن) من هذا الحكم مخالف للقرآن.
هذه هي خلاصة أدلتهم وهي في الواقع تدل على جهلهم الفاضح وعدم فهمهم لمهمة الرسول صلى الله عليه وسلم أو سوء إدراكهم لأسرار القرآن ومقاصده، وذلك منتهى الجهل والغباء.
الرد على أدلة الخوارج:
وقد ردّ أهنل السنة والجماعة على الخوارج بأدلة دامغة تقصم ظهر الباطل، وتخرس كلّ أفّاك أثيم نلخصها فيما يلي:
أولاً: إن عدم ذكر الرجم في القرآن لا يدل على عدم المشروعية فكثير من الأحكام الشرعية لم تذكر في القرآن وإنما بينتها السنة النبوية والله تعالى قد أمرنا باتباع الرسول والعمل بأوامره: {وَمَآ آتَاكُمُ الرسول فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فانتهوا} [الحشر: 7] والرسولُ مبلغ عن الله عزَّ وجلَّ، وكلُّ ما جاء به إنما هو بوحي سماوي من العليم الحكيم {وَمَا يَنطِقُ عَنِ الهوى * إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يوحى} [النجم: 3- 4]. وكيف يكون الرجم غير مشروع وقد رجم صلى الله عليه وسلم ورجم معه أصحابه وبيّن ذلك بهدية وفعله!!.
ثم إن مهمة الرسول صلى الله عليه وسلم قد بينها القرآن بقوله تعالى: {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذكر لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} [النحل: 44] وليس قول الرسول: «خذوا عني خذوا عني قد جعل الله لهن سبيلاً». وفيه: «والثيب بالثيب جلد مائة والرجم» ليس هذا القول إلا من البيان الذي أشار إليه القرآن وهو نص قاطع على حكم الزاني المحصن وقد أشار صلى الله عليه وسلم في الحديث الشريف بقوله: «ألا وإني أوتيت القرآن ومثله معه» إلى أن سنته المطهرة بوحي من الله فثبت أن كل ما جاء به الرسول هو تشريع من الله، وأنه واجب الاتّباع.
ثانياً: إن قوله تعالى: {فَإِذَآ أُحْصِنَّ فَإِنْ أَتَيْنَ بفاحشة فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى المحصنات مِنَ العذاب} [النساء: 25] ليس فيها دليل على ما قاله الخوارج من عدم مشروعية الرجم، فإن الآية الكريمة قد أشارت إلى أن المراد بالعذاب هنا (الجلد) لا (الرجم) بدليل التنصيف في العقوبة والله تعالى يعلم أن الرجم لا ينصف ولا يمكن للناس أن يميتوا إنساناً نصف موتة فدل (العقل) و(الفهم السليم) على أن المراد بهذه العقوبة الجلد لا الرجم.
فتجلد الأمة المتزوجة خمسين جلدة، وتجلد الحرة البكر مائة جلدة. والسر في هذا التخفيف على (الأمة) دون الحرة أن الجريمة من الحرة أفظع وأشنع لكون الحرة في مأمن من الفتنة، وهي أبعد عن داعية الفاحشة والأمة ضعيفة عن مقاومتها، فرحم الله ضعفها وخفف العقاب عنها.
ثالثاً: وأما دعواهم أن الحكم عام، وتخصيصه مخالف للقرآن فجهلٌ مطبق ألا ترى أن كثيراً من الأحكام جاءت عامة وخصصتها السنة النبوية!! مثل: قوله تعالى: {والسارق والسارقة فاقطعوا أَيْدِيَهُمَا} [المائدة: 38] فإن هذا اللفظ عام يشمل كل سارق حتى ولو كانت سرقته لشيء حقير (وتافه) وعلى دعواهم ينبغي أن نقطع يد من سرق فلساً أو يإبرة، مع أن السنة النبوية قد خصصت هذا الحكم وقيدته بربع دينار أو ما قيمته عشرة دراهم، وكذلك قوله تعالى: {وأمهاتكم الاتي أَرْضَعْنَكُمْ وأخواتكم مِّنَ الرضاعة} [النساء: 23] لم تنص الآية إلا على حرمة الأم والأخت من الرضاعة، مع أن الرسول صلى الله عليه وسلم بيّن أنه يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب، فيجب أن تكون حرمة (البنت من الرضاعة) مخالفة للقرآن بموجب دعواهم. والقرآن نهى عن (الجمع بين الأختين) فمن قال بحرمة الجمع بين العمة وبنت أخيها، أو الخالة وبنت أختها يجب أن نحكم عليه بمخالفة القرآن.
وهذا جهل واضح لا يصدر من مسلم عاقل.
قال العلامة الألوسي في تفسيره روح المعاني:
وقد أجمع الصحابة رضي الله تعالى عنهم، ومن تقدم من السلف وعلماء الأمة وأئمة المسلمين على أن المحصن يرجم بالحجارة حتى يموت، وإنكار الخوارج ذلك باطل، لأنهم إن أنكروا حجية إجماع الصحابة فجهل مركب، وإن أنكروا وقوعه من رسول الله صلى الله عليه وسلم لإنكارهم حجية خبر الواحد فهو بعد بطلانه بالدليل ليس مما نحن فيه لأن ثبوت الرجم منه عليه السلام (متواتر) المعنى، وهم كسائر المسلمين أوقعهم في جهالات كثيرة، ولهذا حين عابوا على عمر بن عبد العزيز القول بالرجم من كونه ليس في كتاب الله تعالى ألزمهم بأعداد الركعات ومقادير الزكوات، فقالوا: ذلك من فعله صلى الله عليه وسلم والمسلمين فقال لهم: وهذا أيضاً كذلك.
ومراده أنهم لما احتجوا عليه بعدم وجود الرجم في القرآن، سألهم عن عدد ركعات الصلاة، هل هي مذكورة في القرآن؟ مقدار نصاب الزكاة وشروط وجوبها، هل هو موجود في القرآن؟ فلما أقروا بأن هذا ثبت من النبي صلى الله عليه وسلم ومن فعل المسلمين أقام عليهم الحجة بذلك.
شهادة صادقة وبصيرة نافذة:
وكأني بالفاروق عمر بن الخطاب رضي الله عنه، الذي جعل الله الحق على لسانه وقلبه، وقد ألهم أمر هؤلاء الخوارج فكشف نواياهم وأطلع الناس على خبث عقيدتهم فخطب على المنبر وكان فيما قال: إن الله بعث محمداً صلى الله عليه وسلم بالحق وأنزل عليه الكتاب فكان فيما أنزل عليه آية الرجم يعني بها قوله تعالى: (الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما ألبتة نكالاً من الله والله عزيز حكيم) فقرأناها ووعيناها ورجم رسول الله صلى الله عليه وسلم ورجمنا بعده وأخشى أن يطول الناس زمان فيقول قائل: لا نجد الرجم في كتاب الله تعالى فيضلوا بترك فريضة أنزلها الله عز وجل في كتابه. ألا وإنّ الرجم حق على من زنى إذا أحصن من الرجال أو النساء وقامت البينة أو كان حمل أو اعتراف، والله لولا أن يقول الناس زاد في كتاب الله لكتبتها.
الحكم الثالث: هل يجمع بين الرجم والجلد؟
ذهب أهل الظاهر إلى وجوب (الجلد والرجم) في حق الزاني المحصن وهي إحدى الروايات عن الإمام أحمد رحمه الله. وذهب الجمهور إلى أن حده (الرجم) فقط وهو مذهب جمهور الصحابة والتابعين وفقهاء الأمصار والرواية الأخرى عن أحمد.
أدلة الظاهرية:
استدل أهل الظاهر على الجمع بين الجلد والرجم بما يلي:
أ- العموم الوارد في الآية الكريمة: {الزانية والزاني} فإنّ (أل) للجنس والعموم، فيشمل جميع الزناة وجاءت السنة بزيادة حكم في حق المحصن وهو (الرجم) فيزاد على الجلد.
ب- حديث عبادة بن الصامت (الثيب بالثيب جلد مائة ورجم بالحجارة) وقد تقدم.
ج- ما روي عن (علي) كرم الله وجهه حين جلد (شراحة) ثم رجمها من قوله: جلدتها بكتاب الله تعالى ورجمتها بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
أدلة الجمهور:
واستدل الجمهور على عدم الجمع بين الجلد والرجم ببضعة أدلة نلخصها فيما يلي:
أولاً: ما روي في (الصحيحين): أن أعرابياً أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال يا رسول الله: أنشدك بالله إلا قضيت لي بكتاب الله تعالى، فقال الخصم الآخر وهو أفقه منه- نعم فاقض بيننا بكتاب الله تعالى وائذن لي، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم قل: فقال: إنّ ابني كان عسيفاً على هذا فزنى بامرأته، وإني أخبرت أن على ابني الرجم فافتديت منه بمائة شاة، ووليدة، فسألت أهل العلم فأخبروني أنّ على ابني (جلد مائة وتغريب عام) وأن على امرأة هذا الرجم..
فقال صلى الله عليه وسلم: «والذي نفسي بيده لأقضينَّ بينكما بكتاب الله، الوليدةُ والغنمُ ردٌّ عليك وعلى ابنك جلد مائة وتغريب عام، واغد يا أُنيس إلى امرأة هذا، فإن اعترفت فارجمها».
فغدا عليها فاعترفت فأمر بها النبي صلى الله عليه وسلم فرجمت.
قالوا فأمره برجمها ولم يقل له اجلدها ثم ارجمها.
ثانياً: واستدلوا بفعل النبي صلى الله عليه وسلم فقد تكرر الرجم في زمانه، فرجم (ماعزاً) و(الغامدية) ورجم أصحابه معه ولم يَروِ أحدٌ أنه جمع بينه وبين الجلد، فقطعنا بأنّ حد المحصن لم يكن إلا (الرجم) لا غير.
ثالثاً: واستدلوا بالمعقول أيضاً فقالوا: إن الغرض من الجلد الزجرُ والتأديبُ، فإذا حكمنا عليه بالرجم فلا يبقى ثمة داع إلى الجلد، لأن الجلد يَعرى عن المقصود الذي شرع الحد له وهو الانزجار، لأن هذا الشخص سيرجم حتى الموت فلا ينفع الجلد مع وجود الرجم. ومثله إذا وجب الغسل على إنسان يدخل معه الوضوء.
وأجابوا عن أدلة الظاهرية بأن حديث (عبادة بن الصامت) منسوخ بقول النبي صلى الله عليه وسلم وفعله حيث رجم ولم يجلد، فوجب أن يكون الخبر السابق منسوخاً... وأما استدلالهم بالعموم في الآية الكريمة فغير مسلّم لأن الآية كما يقول الجمهور خاصة ب (البكرين) وليست عامة بدليل خروج العبيد والإماء منها حيث أن حد العبد خمسون جلدة لا مائة جلدة وهذا يدفع العموم.
وأجابوا عن فعل علي كرم الله وجهه بشراحة حيث جلدها ثم رجمها بن هذا رأيٌ له لا يقاوم الثابت الصحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من قوله وفعله، وكذلك لا يقاوم إجماع غيره من الصحابة، ويمكن حمله على أنه لم يثبت عنده الإحصان إلا بعد الجلد فأخبِرَ أولاً بأنها بكر فجلدها، ثم أُخبِرَ بأنها محصنة أي (متزوجة) فرجمها ويشبه هذا ما رواه جابر رضي الله عنه أن رجلاً زنى بامرأة، فأمر به النبي صلى الله عليه وسلم فجلد الحَدّ ثم أُخبر أنه محصن فأمر به فرجم.
الترجيح: وبهذا يتبين لنا قوة أدلة الجمهور وضعف أدلة الظاهرية والله أعلم.
الحكم الرابع: هل يُنْقى الزاني ويغرّبُ من بلده؟
يرى الإمام (أبو حنيفة) أن حدّ الزاني البكر هو الجلد مائة جلدة أو النفي ليس من الحد في شيء وأنه مفوض إلى رأي الإمام إن شاء غرّب وإن شاء ترك.
ويرى الجمهور (مالك والشافعي وأحمد) أن حده الجلد مائة جلدة وتغريب عام.
أدلة الأحناف:
أولاً: استدل أبو حنيفة بظاهر الآية الكريمة، فإنها اقتصرت في مقام البيان على مائة جلدة، فلو كان النفي مشروعاً لكان ذلك نسخاص للكتاب، وخبرُ الآحاد لا يقوى على نسخ الكتاب، ولو كان النفي حداً مع الجلد لبيَّنه عليه الصلاة والسلام للصحابة لئلا يعتقدوا عند سماع التلاوة أن الجلد هو جميع الحد، ولكان وروده فيوزن ورود نقل الآية وشُهرتها، ولمّا لم يكن ذلك كذلك ثبت أ نه ليس بحد، وأن حد الزنى ليس إلا (الجلدُ).
ثانياً: استدل بحديث إذا زنتْ الأمةُ فتبيّن زناها فليجلدها الحدّ ولا يُثرِّبْ عليها، صم غن زنت فلْيَبعها ولو بحبل من شعر فدل الحديث على أن الجلد هو تمام الحد، ولو كان النفي من الحد لذكره.
ثالثاً: واستدل أيضاً بما روي عن علي رضي الله عنه أنه قال: إذا زنى البكران فإنهما يجلدان ولا ينفيان لأن نفيهما فتنة لهما وقال: وكفى بالنفي فتنة.
أدلة الجمهور:
1- واستدل الجمهور بحديث عبادة بن الصامت المتقدم وفيه (البكرُ بالبكرِ جلدُ مائةٍ وتغريبُ عام، والثيَّبِ جلدُ مائةٍ والرجمُ).
2- قصة العسيف الذي زنى بامرأة الأعرابي وقد تقدم وفيه قوله: (إن على ابنك جلد مائة وتغريب عام) والحديث مروي في (الصحيحين).
3- قالوا وقد تكرر ذكر النفي في قصة العسيف على أنه من الحد، ولا مانع من الزياة عل حكم الآية بخبر الآحاد، فقد أنزل الله الجلد (قرآناً) وبقي التغريب في البكر (سنة).
هل التغريب يشمل المرأة؟
ثم إن القائلين بالنفي- وهم الجمهور- اختلفوا هل التغريب خاص بالرجل أم يشمل المرأة أيضاً، فذهب مالك والأوزاعي إلى أن النفي خاص بالرجل ولا تُنفى المرأة لقوله عليه السلام: (البكر بالبكر) الحديث.
وقال الشافعي وأحمد: إن النفي عام للرجال والنساء فتغرب المرأة مع محرم وأجرته عليها ودليلهما عموم الأحاديث وهذا هو المشهور من مذهب الشافعية والحنابلة.
قال ابن كثير رحمه الله في تفسيره: إنّ الزاني لا يخلو: إما أن يكون بكراً وهو الذي لم يتزوج، أو محصناً وهو الذي قد وَطِيءَ في نكاح صحيح وهو حر بالغ عاقل، فأما إذا كان بكراً لم يتزوج فإن حده مائة جلدة كما في الآية، ويزاد على ذلك أن يُغرّب عاماً عن بلده عند جمهور العلماء، خلافاً لأبي حنيفة رحمه الله، فإن عنده أن التغريب إلى رأي الإمام إن شاء غرَّب، وإن شاء لم يغرِّب.
وحجة الجمهور في ذلك ما ثبت في (الصحيحين). وذكر قصة العسيف التي مرّ ذكرها.
يقول الشيخ السايس في كتابه تفسير آيات الأحكام:
ويمكن الجمع بين هذه الأخبار بإبقاء الآية على حكمها، وأن الجلد هو تمام الحد، وجعل النفي على وجه التعزير، ويكون النبي صلى الله عليه وسلم قد رأى في ذلك الوقت نفي البكر لأنهم كانوا حديثي عهد بالجاهلية، فرأى ردعهم بالنفي بعد الجلد كما أمر بشق روايا الخمر، وكسر الأواني، لأنه أبلغ في الزجر وأحرى بقطع العادة.
الحكم الخامس: ما هو حد الذمي المحصن؟
اختلف العلماء في حد الذمي المحصن فذهب الحنفية إلى أن حدَّه (الجلد) وذهب الشافعية والحنابلة إلى أن حده الرجم.
دليل الأحناف:
1- حديث ابن عمر (من اشرك بالله فليس بمحصن) قالوا: والمراد به إحصان الرجم، وأما رجم الرسول صلى الله عليه وسلم لليهودِيّيْنِ فإنما كان بحكم التوراة.
2- قالوا: إن النعمة في حق المسلم أعظم فكانت جنايته أغلظ ولهذا تُشدّد العقوبة واستدلوا على ذلك بقوله تعالى في حق أمهات المؤمنين: {يانسآء النبي مَن يَأْتِ مِنكُنَّ بِفَاحِشَةٍ مُّبَيِّنَةٍ يُضَاعَفْ لَهَا العذاب ضِعْفَيْنِ} [الأحزاب: 30].
3- واستدلوا أيضاً بأن إحصان القذف يعتبر فيه (الإسلام) بالإجماع، فكذلك إحصان الرجم، والجامعُ هو كمال النعمة.
دليل الشافعية:
1- استدلوا بعموم قوله صلى الله عليه وسلم: «إذا قبلوا الجزية فلهم ما للمسلمين، وعليهم ما على المسلمين».
2- واستدلوا بما ثبت في (الصحيحين) عن ابن عمر رضي الله عنهما: (أن اليهود أتوا النبي صلى الله عليه وسلم برجل وامرأة منهم قد زنيا، فقال: ما تجدون في كتابكم؟ قالوا: نسخِّم وجوههما ويخزيان، قال: كذبتم إنَّ فيها الرجم فأتوا بالتوراة فاتلوها إن كنتم صادقين، فجاءوا بقارئ لهم، فقرأ حتى إذا انتهى إلى موضع منها وضع يده عليه، فقيل له ارفع يدك، فرفع يده فإذا هي تلوح، فقالوا يا محمد: إن فيها الرجم ولكنا كنا نتكاتمه بيننا، فأمر بهما رسول الله صلى الله عليه وسلم فرجما... قال: فلقد رأيته يُحنى على المرأة يقيها الحجارة بنفسه) رواه البخاري ومسلم.
وعن البراء بن عازب رضي الله عنه: مُرّ على النبي صلى الله عليه وسلم بيهودي محمّم مجلود، فدعاهم فقال: أهكذا تجدون حد الزنى في كتابكم؟ قالوا: نعم، فدعا رجلاً من علمائهم فقال: أنشدك بالله الذي أنزل التوراة على موسى أهكذا تجدون حد الزاني في كتابكم؟ قال: لا.. ولولا أنك نشدتني بهذا لم أخبرك بحد الرجم، ولكن كثر في أشرافنا وكنا إذا أخذنا الشريف تركناه، وإذا أخذنا الضعيف أقمنا عليه الحد فقلنا: تعالوا فلنجتمع على شيء نقيمه على الشريف والوضيع، فجعلنا التحميم والجلد مكان الرجم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «اللهم إني أول من أحيا أمرك إذْ أماتوه» فأمر به فرجم، فأنزل الله عز وجل: {يا أيها الرسول لاَ يَحْزُنكَ الذين يُسَارِعُونَ فِي الكفر} إلى قوله: {إِنْ أُوتِيتُمْ هذا فَخُذُوهُ} [المائدة: 41] يقولون: ائتوا محمداً، فإن أمركم بالتحميم والجلد فخذوه وإن أفتاكم بالرجم فاحذروا... فقد رجم رسول الله صلى الله عليه وسلم اليهوديين فإن كان ذلك حكماً بشرعِهِ فالأمرُ ظاهر، وإن كان حكماً بشرع من قبله فقد صار شرعاً له.
3- وقالوا: إنّ زنى الكافر مثل زنى المسلم في الحاجة إلى الزَّاجر فلذا يرجم.
4- وتأولوا حيدث (من أشرك بالله فليس بمحصن) بأن المراد به ليس على قاذف المشرك عقوبة كما تجب على قاذف المسلم العفيف.
5- وأجابوا على القياس على حد القذف، بأن حد القذف ثبت لرفع العار كرامةً للمقذوف، والكافرُ لا يكون محلاً للكرامة...
الترجيح: ولعلَّ ما ذهب إلأيه الشافعية أرجح لقوة أدلتهم حيث أن النبي صلى الله عليه وسلم رجم الزانيين من اليهود فكان ذلك حجَّةً واضحة.
الحكم السادس: من الذي يتولى إقامة الحدود؟
الظاهر من قوله تعالى: {فاجلدوا} أنه خطاب موجه (لأولي الأمر) من الحكام لأن فيه مصلحة للمجتمع وذلك بدرء الفساد، واستصلاح العباد وكلُّ ما كان من قبيل المصلحة العامة، فإنما يكون تنفيذه على الإمام أو من ينيبه من القضاء أو الولاة أو غيرهم. وقد اتفق العلماء على أن الذي يقيم الحدود على الأحرار إنما هو الإمام أو نائبه أما الأرقاء (العبيد) فقد اختلفوا فيهم على مذهبين:
أ- مذهب (مالك والشافعي وأحمد) قالوا: يجوز للسيد أن يقيم الحد على بعده وأمته في الزنى والخمر والقذف وأما السرقة فإنه من حقّ الإمام.
ب- مذهب (الأحناف): قالوا: إقامة الحدود كلها من حق الإمام، ولا يملك السيد أن يقيم حدّاً ما إلى بإذن الإمام.
تحجة الجمهور: احتج الجمهور بنصوص من السنة النبوية وبآثار عن الصحابة نلخصها فيما يلي: 1- حديث أبي هريرة (إذا زنت أمة أحدكم فليجلدها الحدّ ولا يُثَرّبْ ثمَّ إن زنت فليبعها ولو بحبل من شعر).
قالوا: فقد أذن الرسول صلى الله عليه وسلم للسيد بإقامة الحد على العبد، ومعنى لا يثرّب: أي لا يجاوز الحدّ في الجلد ولا يبالغ فيه.
2- حديث علي كرم الله وجهه (أقيموا الحدودَ على ما ملكتْ أيمانُكم مَنْ أُحْصِن أوْ لم يحْصن).
3- ما روي عن ابن عمر رضي الله عنهما أنه أقام حداً على بعض إمائه فجعل يضرب رجليها وساقيها، فقال له ولده (سالم) فأين قول الله تعالى: {وَلاَ تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ الله}؟ فقال يا بنيّ: أتراني أشفقت عليها إن الله تعالى لم يأمرني أن أقتلها.
قالوا: ولم يكن ابن عمر والياً ولا نائباً عن الوالي فدل على جواز إقامة الحد من جهة السيِّد.
حجة الأحناف:
1- واحتج الأحناف بظاهر الآية الكريمة: {الزانية والزاني فاجلدوا} وقالوا: إن الآية عامة في كل زان وزانية وهو خطاب مع الأئمة دون سائر الناس، والآية لم نفرق بين الأحرار والعبيد، فوجب أن تكون إقامة الحد على الأحرار وعلى العبيد للأئمة دون الناس.
2- وتأولوا الأحاديث التي استدل بها الجمهور بأن المراد بها أن يرفع الموالي أمر عبيدهم إلى الحكام ليجلدوهم ويقيموا عليهم الحد، ولا يسكتوا عنهم فيكون المراد من الحديث الشريف (أقيموا الحدود على ما ملكت أيمانكم) إي بلغوا أمرهم للحكام ولا تخفوا عنهم ذلك ليقيموا عليهم حدود الله.
3- وقالوا: إن جلد ابن عمر بعض إمائه- إن صح- كان رأياً له لا يعارض العموم في الآية.
الترجيح: ولعل ما ذهب إليه الجمهور هو الأرجح سيما بعد أن وضَّحته السنة النبوية وتعزّز بفعل بعض الصحابة الأخيار، والله أعلم.
الحكم السابع: ما هي صفة الجلد وكيفيته؟
استدل العلماء من قوله تعالى: {وَلاَ تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ} على أنه لا يجوز تخفيف العقوبة على الزاني بإسقاطها وإنقاص العدد، أو تخفيف الضرب، فإن العقوبة ما شعرت إلا للزجر والتأديب.
قال القرطبي: والضرب الذي يجب تنفيذه، هو أن يكون مؤلماً لا يجرح، ولا يبضع، ولا يخرج الضارب يده من تحت إبطه، وقد أتى عمر رضي الله عنه برجل في حد فقال: للضارب اضرب ولا يرى إبطك وأعط كل عضو حقه، وأتي بشارب فقال: لأبعثنك إلى رجلا لا تأخذه فيك هوادة، فبعثه إلى (مطيع بن الأسود) فقال: إذا أصبحت الغد فاضربه الحد، فجاء عمر رضي الله عنه وهو يضربه ضرباً شديداً فقال: قتلتَ الرجل كم ضربته؟ فقال: ستين فقال: اقصَّ عنه بعشرين. يريد بذلك أن يجعل شدة الضرب الذي ضربه قصاصاً بالعشرين التي بقيت ولا يضربه العشرين.
فينبغي أن يكون الضرب معتدلاً، لأن الغرض (الإيلام) لا سلخ الجلود وإزهاق الأرواح، وهذا كما مر في حديث ابن عمر حين جلد جاريته، واعترض عليه ولده فقال أين قول الله: {وَلاَ تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ الله} فقال يا بين (ورأيتني أخذتني بها رأفة) إن الله تعالى لم يأمرني أن اقتلها ولا أن أجعل جَلْدها في رأسها وقد أوجعت حيث ضربت.
هل الضرب في الحدود على السواء؟
وقد اختلف الفقهاء في الحدود أيها أشد؟
فقال الأحناف: ضربُ الزِّنى أشد من ضرب الخمر، وضربُ الشُرْب أشدُ من ضرب القذف، وأشدُّ الضربِ إنما هو في التعزير.
وقال المالكية والشافعية: الضرب في الحدود كلها سواء. ضربٌ غيرُ مبرّح، ضربٌ بين ضربين.
وقال الثوري: ضربُ الزنى أشدُّ من ضرب القذف، وضرب القذف أشد من ضرب الخمر.
احتج (أبو حنيفة) بفعل عمر، حيث ضرب في التعزير ضرباً أشد منه في الزنى.
واحتج (مالك والشافعي) بأن الحدود موقوفة على الشاعر وليس فيها مجال للاجتهاد، ولم يرد عن المعصوم صلى الله عليه وسلم شيء في التخفيف أو التثقيل فتكون الحدود سواء.
واحتج (الثوري) بأن الزنى لمّا كان أكثر في العدد، فلا بد أن يكون الجُرم فيه أعظم، والعقوبة أبلغ، بخلاف القذف والخمر.
ومذهب الثوري على ما عرفت قريب من مذهب الأحناف.
وقد انتصر الجصاص رحمه الله للمذهب الأول فقال ما نصه:
قد دلَّ قوله تعالى: {وَلاَ تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ الله} على شدة ضرب الزاني، وأنه أشد من ضرب الشارب والقاذف لدلالة الآية على شدة الضرب فيه ولأن ضرب الشارب كان من النبي صلى الله عليه وسلم بالجريد والنعال، وضربُ الزاني إنما يكون بالسوط وهذا يوجب أن يكون ضرب الزاني أشد من ضرب الشارب. وإنما جعلوا ضرب (القاذف) أخف الضرب لأن القاذف جائزٌ أن يكون صادقاً في قذفه وأنّ له شهوداً على ذلك، والشهودُ مندوبون إلى الستر على الزاني وإنما وجب عليه الحد لقعود الشهود عن الشهادة وذلك يوجب تخفيف الضرب.
ومن جهة أخرى: فإنَّ القاذف قد غلظت عليه العقوبة في إبطال شهادته فغير جائز التغليظ عليه من جهة شدة الضرب.
وينبغي أن نعلم ان الحدود موقوفة على تقدير الشارع، فلا تجوز الزيادة فهيا ولا النقصان إلا إذا كان على وجه التعزير، فللحاكم أن يشدِّد في العقوبة.
قال العلامة القرطبي:
نصَّ الله تعالى على عدد الجلد في الزنى والقذف، وثبت التوقيف في الخمر على (ثمانين) جلدة من فعل عمر رضي الله عنه في جمعٍ من الصحابة فلا يجوز أن يتعدى الحد في ذلك كله، قال ابن العربي: وهذا لم يتتابع الناس في الشرّ، ولا احلَوْلَت لهم المعاصي حتى يتخذوها ضَراوة ويعطف الناس عليهم بالهَوادة فلا يتناهوا عن منكرٍ فعلوه فحيئذ تتعين الشدة ويزيد الحد لأجل زيادة الذنب، وقد أتي عمر بسكران في رمضان، فضربه مائةً، (ثمانين) حد الخمر، و(عشرين) لهتك حرمة الشهر، فهكذا يجب أن تتركب العقوبات على تغليظ الجنايات وهتك الحرمات، وقد لعبق رجلٌ بصبيٍّ، فضربه الوالي ثلاثمائة سوط فلم يغيّر ذلك (مالك) رحمه الله حين بلغه، فكيف لو رأى زماننا هذا بهتك الحرمات، والاستهتار بالمعاصي، والتظاهر بالمناكر، وبيع الحدود واستيفاء العبيد لها في منصب القضاة لمات كمداً ولم يجالس أحداً وحسبنا الله ونعم الوكيل.
الحكم الثامن: ما هي الأعضاء التي تضرب في الحد؟
اتفق العلماء على أن الضرب في الحدود ينبغي أن يتقي به (الوجه، والعورة، والمقاتل) حتى حكى ابن عطية الإجماع على ذلك ولكن اختلفوا فيما عداها من الأعضاء.
قال ابن الجوزي في (زاد المسير): (فأما ما يضرب من الأعضاء فنقل عن الإمام أحمد في حد الزاني أنه قال يجرّد من الثياب ويعطي كل عضو حقه، ولا يضرب وجهه ورأسه وروي عنه أيضاً: لا يضرب الرأس ولا الوجه ولا المذاكير وهو قول أبي حنيفة وقال مالك: لا يضرب إلا في الظهر. وقال الشافعي: يتقي الفرج والوجه).
قال القرطبي: واختلفوا في ضرب الرأس، فقال الجمهور: يتقي الرأس وقال (أبو يوسف) يضرب الرأس وضرب عمر رضي الله عنه (صبيغاً) في رأسه وكان تعزيزاً لا حداً.
أما الوجه والعورة فمتفق على حرمة الضرب فيهما لقوله صلى الله عليه وسلم: «إذا ضرب أحدكم فليتق الوجه».
وروي عن علي رضي الله عنه أنه أتى برجل سكران أو في حد، فقال: اضرب وأعط كل عضو حقه واتق الوجه والمذاكير... وإنما يتقي الفرج لأنه مقتل- وجاء في بعض الروايات- أنه قال: (إجْتَنِبْ رأسه ومذكيره وأعطِ كل عضو حقه). وقد استدل الجمهور على حرمة ضرب الرأس بما روي عن علي في الحديث السابق، وفيه النص على اجتناب الرأس، وقالوا: إن الرأس بما روي عن علي في الحديث السابق، وفيه النص على اجتناب الرأس، وقالوا: إن الرأس كالوجه سمنع من ضربه وربما أثر الضربُ فيه على السمع والبصر وربما حدث بسبب الضرب خلل في العقل، واستدل الشافعي وأبو يوسف على جواز ضرب الرأس بما روي عن أبي بكر رضي الله عنه أنه أتي برجدل انتفى من ابنه، فقال أبو بكر: اضرب الرأس فإن الشيطان في الرأس. وبما روي عن عمر رضي الله عنه أنه ضرب (صبيغ بن عسيل) على رأسه حين سأل عن (الذاريات ذروا) على وجه التعنت.
وأما مالك رحمه الله فمذهبه أن الحدود كلها يجب أن تكون في الظهر وحجته في ذلك عمل السلف الصالح وقوله عليه السلام: لهلال بن أمية حين قذف امرأته (البينة أو حدّ في ظهرك).
وينبغي أن يجرّد المجلود من الثياب ويضرب قائماً غير ممدود، إلا (حد القذف) فإنه يضرب وعليه ثيابه وينزع عنه الحشو والفرو، وأما المرأة فتترك عليها ثيابها وتضرب قاعدة ستراً عليها، والدلي ما روي في حديث رجم النبي صلى الله عليه وسلم لليهوديين، وفيه يقول الراوي (ورأيت الرجل يحني على المرأة يقيها الحجارة).
. وهذا يدل على أن الرجل كان قائماً والمرأة قاعدة والله أعلم.
الحكم التاسع: تحريم الشفاعة في الحدود.
لا تجوز الشفاعة في الحدود لقوله صلى الله عليه وسلم: «من حالت شفاعته دون حد من حدود الله تعالى فقد ضادّ الله عز وجل» ولأن الحدود إنما شرعت للزجر والتأنيب، والشفاعةُ تدفع هذا المعنى ولا تحققه وقد دلت الآية الكريمة على تحريم الشفاعة وهي قوله تعالى: {وَلاَ تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ الله} وقد تأولها السلف على أحد وجهين:
1- المراد منها تخفيف الحد، وهو قول سعيد بن المسيب والحسن البصري.
2- المراد إسقاطُ الحد، وهو قول مجاهد والشعبي.
قال ابن العربي: وهو عندي محمول عليهما جميعاً، فلا يجوز أن يحمل أحداً رأفة على زان بأن يُسْقط الحد أو يخفَّفه عنه.
ولما كانت الشفاعة تحول دون تنفيذ الحد كانت محرمة.
ومما يدل على تحريم الشفاعة في (الحدود) ما رواه البخاري عن عائشة رضي الله عنها أن قريشاً أهمَّهم شأن المرأة المخزومية التي سرقت، فقالوا: مَنْ يكلِّم فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقالوا: ومن يجترئ عليه إلا أسامة بن زيد حبُّ رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فكلمه أسامة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أتشفع في حد من حدود الله تعالى ثم قام فاختطب ثم قال: «إنما أهلك الذين من قبلكم أنهم كانوا إذا سرق فيهم الشريف تركوه، وإذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد وايم الله لو أنّ فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها».
وكما تحرم الشفاعة في الحدود يحرم على الإمام قبولها فقد روي أن (الزبير بن العوام) لقي رجلاً قد أخذ سارقاً يريد أن يهب به إلى السلطان فشفع له الزبير ليرسله فقال: ل، حتى أبلغ به إلى السلطان فقال الزبير: إنما الشفاعة قبل أن تبلغ إلى السلطان فإذا بلغ السلطان لُعِنَ الشافعُ والمشفَّع رواه البخاري.
الحكم العاشر: حضور الحد وشهوده.
ظاهر الأمر في قوله تعالى: {وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَآئِفَةٌ مِّنَ المؤمنين} يقتضي وجوب حضور جمع من المؤمنين عند إقامة الحد والمقصود من حضورهم (حدَّ الزانيين) التنكيلُ، والعبرةُ، والعظة. وقد أختلف العلماء في هذه الطائفة على أقوال:
أ- الطائفة: رجل واحد فما فوقه وهو قول مجاهد.
ب- الطائفة: اثنان فأكثر وهو قول عكرمة وعطاء وبه أخذ المالكية.
ج- الطائفة: ثلاثة فأكثر لأنه أقل الجمع وهو قول الزهري.
د- الطائفة: أربعة فأكثر بعدد شهود الزنى وهو قول ابن عباس رضي الله عنه وبه أخذ الشافعية وهو الصحيح.
قال الزمخشري في (الكشاف) بعد سرده الأقوال:
(والصحيح أن هذه الكبيرة من أمهات الكبائر ولهذا قرنها الله بالشرك وقتل النفس في قوله تعالى: {والذين لاَ يَدْعُونَ مَعَ الله إلها آخَرَ وَلاَ يَقْتُلُونَ النفس التي حَرَّمَ الله إِلاَّ بالحق وَلاَ يَزْنُونَ} [الفرقان: 68] وفي قوله: {وَلاَ تَقْرَبُواْ الزنى إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَآءَ سَبِيلاً} [الإسراء: 32] ولذلك وفّى الله في عقد المائة بكماله، وشرع فيه القَتْلَة الهُوْلة وهي الرجم ونهى المؤمنين عن الرأفة بالمجلود وأمر بشهادة الطائفة للتشهير فوجب أن يكون طائفة يحصل بها التشهير، والواحد والاثنان ليسوا بتلك المثابة، واختصاصه المؤمنين لأن ذلك أفضح والفاسق بين صلحاء قومه أخجل ويسهد له قول ابن عباس رضي الله عنهما: أربعة إلىأربعين رجلاً من المصدِّقين بالله).
الحكم الحادي عشر: ما هو حكم اللواط، والسحاق، وإتيان البهائم؟!
جريمة اللواط من أشنع الجرائم وأقبحها، وهي تدل على انحراف في الفطرة، وفساد في العقل، وشذوذ في النفس ومعنى (اللواط) أن ينكح الرجلُ الرجلَ، ويأتيَ الذكرُ الذكرَ، كما قال تعالى عن قوم لوط: {أَتَأْتُونَ الذكران مِنَ العالمين * وَتَذَرُونَ مَا خَلَقَ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِّنْ أَزْوَاجِكُمْ بَلْ أَنتُمْ قَوْمٌ عَادُونَ} [الشعراء: 165- 166]؟- وسميت باللواط نسبة إلى قوم (لوط) الذين ظهرت فيهم هذه الفعلة الشنيعة، وقد عاقبهم الله تعالى عليها بأقسى عقوبة، فخسب الأرض بهم، وأمطر عليهم حجار من سجيل جزاء فَعْلتهم القذرة... وجعل ذلك قرآناً يتلى، ليقي عبرةً للأمم والأجيال {فَلَمَّا جَآءَ أَمْرُنَا جَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهَا حِجَارَةً مِّن سِجِّيلٍ مَّنْضُودٍ * مُّسَوَّمَةً عِندَ رَبِّكَ وَمَا هِيَ مِنَ الظالمين بِبَعِيدٍ} [هود: 82- 83].
قال الشوكاني رحمه الله: (وما أحق مرتكب هذه الجريمة، ومقارف هذه الرذيلة الذميمة، بأن يعاقب عقوبة يصير بها عبرة للمعتبرين ويعذب تعذيباً يكسِرُ شهوة الفسقة المتمردين، فحقيق بمن أتى بفاحشة قوم ما سبقهم بها من أحد من العالمين أن يَصْلى من العقوبة بما يكون في الشدة والشناعة مشبهاً لعقوبتهم وقد خسف الله تعالى بهم واستأصل بذلك العذاب بِكْرَهُم وثيبّهم).
رأي الفقهاء في حكم اللواط:
وهذه الجريمة النكراء غاية في القبح والشناعة، تعافها حتى الحيوانات فلا نكاد نجد حيواناً من الذكور ينزو على ذكر، وإنما يظهر هذا الشذوذ بين البشر، ومن أجل ذلك نستطيع أن نقول إنَّ هذا النوع من الشذوذ (لوثة أخلاقية)، ومرض نفسي خطير وهو انحراف بالفطرة تستوجب أخذ مقترفها بالشدة، وقد اختلف الفقهاء في تقدير العقوبة اللازمة لها على ثلاثة مذاهب:
أولاً: مذهب القائلين بالقتل مطلقاً.
ثانياً: مذهب القائلين بأن حده كحد الزنى.
ثالثاً: مذهب القائلين بالتعزير.
المذهب الأول:
أما المذهب الأول فهو مذهب (مالك وأحمد) وقول (للشافعي) وقد ذهبوا إلى أنّ حدّه القتل، سواء كان بكراً أم ثيباً، فاعلاً أو مفعولاً به، وهذا القول مروي عن أبي بكر وعمر وابن عباس رضوان الله عليهم أجمعين وإليه ذهبت طائفة من العلماء، ونقل بعض الحنابلة إجماع الصحابة على أن الحد في اللواط القتل.
واستدلوا بما يأتي:
أ- حديث (من وجدتموه يعمل عمل قوم لوط فاقتلوا الفاعل والمفعول به).
ب- ما روي عن علي كرم الله وجهه أنه رجم من عمل هذا العمل- أي ارتكب اللواطة- قال الشافعي: وبهذا نأخذ برجم من يعمل هذا العمل محصناً كان أو غير محصن.
ج- واستدلوا أيضاً بما روي عن أبي بكر أنه جمع أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فسألهم عن رجل يُنْكح كما تنكح النساء فكان أشدهم يومئذ قولاً (علي بن أبي طالب) قال: (هذا ذنب لم تعص به أمة من الأمم، إلا أمة واحدة صنع الله بها ما قد علمتم، نرى أن تحرقه بالنار) فكتب أبو بكر إلى خالد بن الوليد يأمره أن يحرقه بالنار.
كيفية القتل:
ثم إن هؤلاء القائلين بالقتل قد اختلفوا في كيفية القتل على أقوال:
أحدها: تحزّ رقبته كالمرتد، وهو مروي عن (أبي بكر وعلي).
ثانيها: يرجم بالحجارة، وهو مروي عن ابن عباس وبه قال (مالك وأحمد).
ثالثها: يلقى من أعلى شاهق، وهو مشهور مذهب مالك.
رابعها: يهدم عليه جدار، وهو مروي عن أبي بكر الصديق. وإنما ذكروا هذه الوجوه لأن الله تعالى عذَّب قوم لوط بكل ذلك فقال تعالى: {جَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهَا حِجَارَةً مِّن سِجِّيلٍ} [هود: 82] ولك العقاب إنما استحقوه بسبب عظم الجريمة.
المذهب الثاني:
وذهب (الشافعية) إلى أن اللواط حده كحد الزنى، يجلد البكر، ويرجم المحصن، وهذا المذهب مروي عن بعض التابعين كعطاء، وقتادة والنخعي وسعيد بن المسيب وغيرهم.
وقد استدلوا على مذهبهم بالنص، والمعقول، والقياس.
أ- أما النص فما روي عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إذا أتى الرجلُ الرجلَ فهما زانيان».
فقد دل الحديث على أن حكمه كحكم الزنى.
ب- وأما المعقول فقد قالوا: إن الزنى عبارة عن إيلاج فرج في فرج، مشتهى طبعاً محرم شرعاً. والدبر أيضاً فرج لأن القبل إنما سمي فرجاً لما فيه من الانفراج وهذا المعنى حاصل في الدّبر فيكون مثله في الحكم.
ج- وأما القياس فقد قالوا: إن الأدلة الواردة في (الزانيْين) وإن لم تشملهما أيضاً لكنهما لاحقان بالزنى بطريق القياس، فقضاءُ الشهوة كما يكون في القبل يكون في الدبر بجامع الاشتهاء فيهما، وهو قبيح فيناسبه الزجر والحد يصلح زاجراً له.
المذهب الثالث:
وذهب الأئمة الأحناف إلى أن (اللواط) جريمة عظيمة وشنيعة ولكنه ليس كالزنى، فلا يكون حدُّه حدّ الزنى، وإنما فيه التعزير، واستدلوا بما يأتي:
أ- قالوا: الزنى غير اللواط من حيث اللغة فإن الزنى اسم لوطء الرجل المرأة في القبل، واللواطُ: اسم لوطء الرجل الرجل، ألا ترى أن القرآن فرَّق بينهما حيث قال عن قوم لوط: {أَإِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرجال شَهْوَةً مِّن دُونِ النسآء بَلْ أَنتُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ} [النمل: 55] وقال تعالى: {أَتَأْتُونَ الذكران مِنَ العالمين * وَتَذَرُونَ مَا خَلَقَ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِّنْ أَزْوَاجِكُمْ بَلْ أَنتُمْ قَوْمٌ عَادُونَ} [الشعراء: 165- 166] فنسبهم إلى الجهل والعدوان ولم ينسبهم إلى الزنى.
ب- قالوا والعرف أيضاً يعارض هذا وينقضه فالذي يأتي الفاحشة بالنساء يسمى (زانياً) والذي يأتي الفاحشة بالذكور يسمى (لوطياً) وقد تعارف الناس هذا منذ القديم، ألا ترى لو حلف لا يزني فلاط وبالعكس لم يحنث.
ج- وقالوا أيضاً- كيف يكون (اللواط) زنى وقد اختلف الصحابة في حكمه وهم أعلم باللغة وموارد اللسان ولو كان زنى لأغناهم نص الكتاب عن الاختلاف والاجتهاد.
د- وقالوا أيضاً: إن قياسه على الزنى ليس بسديد، لأن الزنى يدعو إليه الطبع وتشتهيه النفس، بخلاف اللواط فإنه تأباه الطباع حتى الحيوانات تعافه فكيف يكون مشتهى مع أنه تقذره النفوس ولا تميل إليه الطباع السليمة. ولو سلمنا أن الطبع يدعو إلى اللواط، فإن الزنى أعظم ضرراً وأسوء خطراً لما يترتب عليه من (فساد الأنساب) فكان الاحتياج فيه إلى الزاجر أشد وأقوى.
هـ- واستدلوا بما ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم من قوله: «لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث: زنى بعد إحصان، وكفر بعد إيمان، وقتل نفس بغير نفس» وقالوا: لقد حظر صلى الله عليه وسلم قتل المسلم إلا بإحدى هذه الثلاث وفاعل ذلك خارج عنها لنه لا يسمى زنى ثم لو كان بمنزلة الزنى لفرّق عليه الصلاة والسلام في حكمه بين المحصن، وغير المحصن: عندما قال: (فاقتلوا الفاعل والمفعول به) فلما لم يفرّق دلّ على أنه لم يوجبه على وجه (الحد) وإنما أوجبه على وجه (التعزير) وللحاكم في باب التعزير سعة في الأمر.
هذه هي خلاصة أدلة الأحناف وأدلة الآخرين.
وقد رجَّح العلامة الشوكاني المذهب الأول القاضي بالقتل وضعّف ما سواه من مذهب الشافعية والأحناف ولعله في صواب فيما رجح، فإن عظم هذه الجريمة (جريمة اللواط) تستدعي عقاباً شديداً صارماً يستأصل الجريمة من جذورها، ويكسر شهوة الفسقة المتمردين ويقضي على الفساد والمفسدين، وليس هناك من طريق أجدى ولا أنفع من تنفيذ الإعدام حرقاً أو هدماً أو رجماً أو إلقاء من شاهق جبل ليكون عبرة للمعتبرين وفي ذلك تطبيق لهدي النبوة: «من رأيتموه يعمل عمل قوم لوط فاقتلوا الفاعل والمفعول به».
حكم السحاق وإيتاء البهائم:
وأما السحاق (وهو ما يكون بين المرأة والمرأة) فقد اتفق الفقهاء على أنه ليس فيه إلا (التعزير) وأما إتيان البهائم فالجمهور على أنَّ حده التعزير إلاّ ما ورد في بعض الروايات عن الإمام أحمد رحمه الله أن عقوبته كاللواط يقتل الفاعل وتقتل الدابة.
ولا شك في أن من يأتي مثل هذه القبيحة النكراء يكون أخس من الحيوان ولكن الرأي الراجح هو ما ذهب إليه الجمهور والله تعالى أعلم.
الحكم الثاني عشر: كيف تثبت جريمة الزنى؟
لما كان الزنى جريمة منكرة وكانت عقوبته عقوبة صارمة وهي (الجلد أو الرجم) لذلك فقد شرطت الشريعة الإسلامية شروطاً شديدة من أجل إقامة الحد، فلم تقبل شهادة النساء أبداً، وفرضت أن يكون الشهود من الرجال العدول الذين هم أهل لأداء الشهادة، وأن يكونوا قد رأوا بأم عينهم هذه الفاحشة (كالميل في المكحلة) وهذا بلا شك لا يمكن أن يتحقق بسهولة ولا يتصور إلا إذا كان- والعياذ بالله- يرتكبها الفرد على قارعة الطريق كما يفعل الحيوان.
شروط الشهادة في الزنى:
وكان غرض الشارع من هذا التشديد أن يسد السبيل على الذين يتهمون الأبرياء ظلماً أو لأدنى حزازة بعار الدهر وفضيحة الأبد، فاشترط في الشهادة على الزنى الشروط الآتية:
أولاً: أن يكون الشهود أربعة لقوله تعالى: {فاستشهدوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعةً مِّنْكُمْ} [النساء: 15] الآية بخلاف سائر الحقوق فإنه يقبل فيها شهادة اثنين فقط.
ثانياً: أن يكون الشهود ذكوراً، فلا تقبل شهادة النساء في هذا الباب لقوله تعالى: {أَرْبَعةً مِّنْكُمْ} [النساء: 15] أي من الرجال وقوله تعالى: {ثُمَّ لَمْ يَأْتُواْ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَآءَ} [النور: 4] الآية. والمراد بالشهداء الرجال بدليل تأنيث العدد.
ثالثاً: أن يكون الشهود من اهل العدالة لقوله تعالى: {وَأَشْهِدُواْ ذَوَىْ عَدْلٍ مِّنكُمْ} [الطلاق: 2] الآية وقوله: {إِن جَآءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فتبينوا} [الحجرات: 6] الآية.
رابعاً: أن يكون الشهود (مسلمين عاقلين بالغين) وهذه شروط التكليف.
خامساً: أن يعاينوا الجريمة برؤية فرجه في فرجها كالميل في المكحلة، والرشاء في البئر، لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «ادرءوا الحدود بالشبهات» فربما كان في فراش واحد ولم تحصل منهما جريمة الزنى.
سادساً: اتحاد المجلس بأن يشهدوا مجتمعين، فإن جاؤوا متفرقين لا تقبل شهادتهم وهو مذهب الجمهور.
هذه هي الشروط التي تشترط لإثبات الزنى، وهي الطريقة الأولى.
وهناك طريقة ثانية لإثبات الزنى وهي طريقة (الإقرار) بأن يشهد الشخص على نفسه ويعترف صريحاً بالزنى. والإقرار- كما يقولون- سيّدُ الأدلة {بَلِ الإنسان على نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ} [القيامة: 14] وقد أخذ الرسول صلى الله عليه وسلم باعتراف ماعز والغامدية، وأقام عليهما الحد بمجرد الاعتراف ولم يكلفهما البينة، ولكن يطلب التثبت في أمر الإقرار. واعتبر بعض الفقهاء (الحبل) كقرينة على اقتراف فاحشة الزنى. ولم يحصل في عصره صلى الله عليه وسلم إقامة حد الزنى إلا عن طريق الإقرار وذلك في حادثتين اثنتثن هما: حادثة ماعز، وحادثة الغامدية وإليك بيانهما.
1- قصة ماعز الأسلمي:
وري أن (ماعز بن مالك الأسلمي) كان غلاماً يتيماً في حجر (هزال بن نعيم) فزنى بجارية من الحي فأمره هزال أن يأتي النبي صلى الله عليه وسلم ويخبره بما صنع لعله يستغفر له، فجاء النبي صلى الله عليه وسلم وهو في المسجد فناداه: يا رسول الله إني زنيت فأعرض عنه النبي صلى الله عليه وسلم وقال له: ويحك ارجع فاستغفر الله وتب إليه، فتنحّى لشق وجهه الذي أعرض قبله فقال (إني زنيت) فأعرض عنه النبي صلى الله عليه وسلم فتنحّى لشق وجهه الذي أعرض قبله فقال (طهرني يا رسول الله فقد زنيت) فقال له أبو بكر الصديق: لو أقررت الرابعة لرجمك رسول الله صلى الله عليه وسلم ولكنه أبى فقال يا رسول الله (زنيت فطهرني).
فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لعلك قبّلتَ أو غمزتَ أو نظرتَ» قال لا، فسأله رسول الله باللفظ الصريح الذي معناه (الجماع) فقال نعم، قال: حتى غاب ذلك منك في ذلك منها؟ قال: نعم، قال كما يغيب الميل في المكحلة والرشاة في البئر؟ قال: نعم فسأله النبي هل تدري ما الزنى؟ قال: نعم أتيت منها حراماً ما يأتي الرجل أهله حلالاً، قال: فما تريد بهذا القول: قال إني أريد أن تطهرني فأمر صلى الله عليه وسلم به فرجم، فلما أحسّ مسّ الحجارة صرخ بالناس: يا قوم ردوني إلى رسول الله فإن قومي قتلوني وغرُّوني من نفسي وأخبروني أن رسول الله غير قاتلي، ولكن ضربوه حتى مات فذكروا فراره لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال هلا تركتموه لعله أن يتوب فيتوب الله عليه وسمع الرسول بعض الصحابة يتكلم عنه ويقول: لقد رجم رجم الكلاب فغضب وقال: «لقد تاب توبة لو قسمت بين أمة لوسعتهم» وفي رواية أخرى: «والذي نفسي بيده أنه الآن لفي أنهار الجنة ينغمس فيها».
2- قصة الغامدية:
وروى مسلم في (صحيحه) أن امرأة تسمى (الغامدية) جاءت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت يا رسول الله (إني زنيت فطهرني) فردها صلى الله عليه وسلم فلما كان من الغد قالت: يا رسول الله لم تردني؟ لعلك تردني كما رددت ماعزاً؟ فوالله إني حبلى، فقال: أما الآن فاذهبي حتى تلدي، فلما ولدت أتته بالصبي في خرقة، قالت هذا قد ولدته، قال: فاذهبي فارضعيه حتى تفطيمه، فلما فطمته أتته بالصبي في يده كسرة خبز، فقالت هذا يا نبي الله قد فطمته وقد أكل الطعام فدفع الصبيّ إلى رجل من المسلمين ثم أمر بها فحفر لها إلى صدرها وأمر الناس فرجموها، فنضح الدم على وجه (خالد بن الوليد) فسبها، فسمعه صلى الله عليه وسلم فقال: «مهلا يا خالد فوالذي نفسي بيده لقد تابت توبة لو تابها صاحب مكس لغُفِر له، ثم أمر بها فصلي عليها ودفنت».
أقول: إن مثل هذه الحوادث قد وقعت في (عصر النبوة) أفضل العصور وحصلت مع بعض الأفاضل من أصحاب الرسول، وذلك لحكمة سامية حتى يكتمل التشريع ويتم الدين بتنفيذ الحدود من الرسول صلى الله عليه وسلم في عصره وزمانه وليظل تشريعاً عاماً خالداً مدى الأزمان وعبر الأجيال، فلو لم تحصل أمثال هذه الحوادث لأصبحت هذه (الحدود الشرعية) التي فرضها الله وأوجبها على عبادة أخباراً تروى، وحكايات تذكر، ولما أمكن أن تنفذ في عصر من العصور بعد، وقد أراد الله عز وجل أن تبقى شريعة خاتم المرسلين شريعة كاملة خالدة مطبقة في جميع العصور، وقانوناً نافذاً على جميع الأمم، فحصل ما حصل من وقوع بعض الصحابة في بعض المخالفات- مع أنهم أكمل الناس- ليتم التشريع ويكمل الدين بتنفيذ الرسول الحدود عليهم. فانظر إلى هذه النفوس الكريمة التي لم تتحمل عِظَم هذا الذنب فجاءت تريد الطهارة منه (إني زنيت فطهرني) لأن عذاب الدنيا أهون من عذاب الآخرة فيا لها من نفوس كريمة ربَّاها الإسلام ودرّبها على الطهر والعفة والاستقامة؟
الحكم الثالث عشر: هل يصح الزواج بالزانية؟
اختلف علماء السَّلف في هذه المسألة على قولين:
الأول: حرمة الزواج بالزانية، وهو منقول عن علي والبراء وعائشة وابن مسعود.
الثاني: جواز الزواج بالزانية وهو منقول عن أبي بكر وعمر وابن عباس وهو مذهب الجمهور. وبه قال الفقهاء الأربعة من الأئمة المجتهدين.
دليل القول الأول:
وقد استدل القائلون بتحريم الزواج من الزانية بظاهر الآية الكريمة وهي قوله تعالى: {الزاني لاَ يَنكِحُ إِلاَّ زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً...} الآية فقالوا: إن هذه الآية ظاهرها الخبر وحقيقتها النهي والتحريم بدليل آخر الآية: {وَحُرِّمَ ذلك عَلَى المؤمنين} وقد قال (علي) كرَّم الله وجهه: إذا زنى الرجل فرّق بينه وبين امرأته، وكذلك إذا زنت المرأة فُرِّق بينها وبين بعلها.
واستدلوا بما ورد أن (مرثد بن أبي مرثد) جاء يستأذن النبي صلى الله عليه وسلم في الزواج من (عناق) وكانت من بغايا الجاهلية، فلم يرد عليه حتى نزلت الآية الكريمة فقال: (يا مرثد لا تنكحها) وقد تقدمت قصته في بيان سبب النزول.
أدلة الجمهور:
واستدل الجمهور على جواز النكاح بغير العفيفة من النساء بما يلي:
أ- حديث عائشة أن الرسول صلى الله عليه وسلم سئل عن رجل زنى بامرأة وأراد أن يتزوجها فقال: «أولُه سفاح وآخره نكاح، والحرامُ لا يحرِّم الحلال».
ب- ما روي عن ابن عمر أنه قال بينما أبو بكر الصديق في المسجد إذ جاء رجل فلاث عليه لوثاً من كلام وهو دَهِشٌ فقال لعمر: قم فانظر في شأنه فإنّ له شأناً، فقام إليه عمر فقال: إنّ ضيفاً ضافه فزنى بابنته، فضرب عمر في صدره وقال (قبَّحك الله ألا سترت على ابنتك؟ فأمر بهما أبو بكر فضربا الحد، ثم زوَّج أحدهَما الآخر وغرّبهما حولا).
ج- وروى عن ابن عباس أنه سئل عن ذلك فقال: أوله سفاح وآخره نكاح، ومَثَلُ ذلك كمثل رجل سرق من حائطٍ ثمره، ثم أتى صاحب البستان فاشترى منه ثمرهُ، فما سرق حرام، وما اشترى حلالا.
د- وتأولوا الآية الكريمة: {الزاني لاَ يَنكِحُ إِلاَّ زَانِيَةً} بأنها محمولةٌ على الأعم والأغلب ومعناها أن الفاسق الخبيث الذي من شأنه الزنى والفسق لا يرغب في نكاح المؤمنة الصالحة من النساء إنما يرغب في فاسقة خبيثة مثله أو مشركة، والفاسقة الخبيثة لا يرغب في نكاحها الصالح المؤمن من الرجال وإنما يرغب فيها الذي هو من جنسها من الفسقة والمشركين فهذا على الأعم الأغلب.
وقال بعضهم إن الآية منسوخة نسختها الآية في سورة النور: {وَأَنْكِحُواْ الأيامى مِنْكُمْ} [النور: 32] والزانية من الأيامى وسيأتي معنى (الأيامى) مفصلاً إن شاء الله فارجع إليه هناك والله يتولاك.