فصل: سورة الحجرات:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: روائع البيان في تفسير آيات الأحكام



.سورة الحجرات:

.تفسير الآيات (6- 10):

{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ (6) وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللَّهِ لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْأَمْرِ لَعَنِتُّمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ أُولَئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ (7) فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَنِعْمَةً وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (8) وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (9) إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (10)}
سورة الحجرات:
[1] التثبت من الأخبار:

.التحليل اللفظي:

{فَاسِقٌ}: الفاسق: الخارج من حدود الشرع، والفسقُ في أصل الاشتقاق موضوع لما يدل على معنى (الخروج) مأخوذ من قولهم: فسقت الرُطبةُ إذا خرجت من قشرها، وسمّي الفاسق فاسقاً لانسلاخه عن الخير.
وفي اللسان: الفسق: العصيان والترك لأمر الله عز وجل، والخروج عن طريق الحق، ومنه قوله تعالى: {فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ} [الكهف: 50] أي خرج من طاعة ربه، والفواسق من النساء: الفواجر قال الشاعر:
فواسقاً من أمره جوائراً

قال الراغب: والفسق أعم من الكفر، لأنه يقع بالقليل والكثير من الذنوب، ولكن تعورف فيما كان بالكثير، وأكثر ما يقال لمن كان مؤمناً ثم أخلّ بجميع الأحكام أو ببعضها.
{بِنَبَإٍ}: النبأ في اللغة: الخبر، والجمع أنباء كذا في (القاموس) و(اللسان)، ويرى بعض اللغويين أنه لا يقال للخبر: نبأ حتى يكون هامّاً، ذا فائدة عظيمة، فكل خبر هام يسمّى (نبأ) قال تعالى: {وَجِئْتُكَ مِن سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ} [النمل: 22] وقال عز وجل: {قُلْ هُوَ نَبَأٌ عَظِيمٌ * أَنتُمْ عَنْهُ مُعْرِضُونَ} [ص: 67- 68] وأمّا إذا لم يكن هاماً فلا يقال له نبأ.
قال الراغب: لا يقال للخبر في الأصل (نبأ) حتى يكون ذا فائدة عظيمة يحصل به علم أو غلبة ظن.
{فتبينوا}: التبيّن: طلب البيان والتعرّف، وقريب من التثبت، والمراد به هنا التحقق والتثبت من الخبر حتى يكون الإنسان على بصيرة من أمره.
ومعنى الآية الكريمة: إن جاءكم فاسق بنبأ عظيم له نتائج خطيرة، فلا تقبلوا قوله حتى تتثبّتوا وتتحققوا من صدقه، لتأمنوا العاقبة.
{بجهالة}: أي جاهلين حالهم، أو تصيبوهم بسبب جهالتكم أمرهم.
{نادمين}: الندم: الغم على وقوع شيء مع تمني عدم وقوعه، يقال: ندم على الشيء، وندم على ما فعل ندماً وندامة، وتندّم أسِف، كذا في (اللسان).
والمراد بالندم: الهمّ الدائم، والنون والدال والميم في تقاليبها لا تنفك عن معنى الدوام كما في قولهم: أدمن في الشرب، ومَدَنَ أي أقام ومنه المدينة.
{لَعَنِتُّمْ}: أي لوقعتم في العَنَت، قال ابن الأثير: العنت: المشقة، والفساد، والهلاك. وقال في (اللسان): العنت: الهلاك، وأعنَتَه: أوقعه في الهلكة، وقوله تعالى: {لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِّنَ الأمر لَعَنِتُّمْ} أي لوقعتم في الفساد والهلاك.
يقال: فلان يتعنّت فلاناً أي يطلب ما يؤديه إلى الهلاك، ويقال أعنَتَ العظمُ إذا كسر بعد الجبر.
{الراشدون}: جمع راشد، وهو المهتدي إلى محاسن الأمور ومنه سمي الخلفاء الراشدون، والرَشَد الاستقامة على طريق الحق مع تصلّب فيه، من الرشّاد وهو الصخر.
{بَغَتْ}: البغي: التطاول والفساد قال تعالى: {إِنَّ قَارُونَ كَانَ مِن قَوْمِ موسى فبغى عَلَيْهِمْ} [القصص: 76]. وأصل البغي: مجاوزة الحد في الظلم والطغيان، والفئة الباغية: هي الظالمة الخارجة عن طاعة الإمام العادل وفي الحديث (ويح عمار تقتله الفئة الباغية).
قال في اللسان: وكل مجاوزة وإفراط على المقدار الذي هو حدّ الشيء بغيٌ، وفي التنزيل: {بغى بَعْضُنَا على بَعْضٍ} [ص: 22].
{تفيء}: أي ترجع إلى الطاعة، وفاء إلى الشيء: رجع إليه ومنه قوله تعالى: {فَإِنْ فَآءُو فَإِنَّ الله غَفُورٌ رَّحِيمٌ} [البقرة: 226] أي رجعوا. والفيء: ما رجع إلى المسلمين من الكفار بدون حرب.
{المقسطين}: العادلين المحقين، من الرباعي (أقسط) بمعنى عدل، وأمّا (قَسَطَ) فمعناه ظلم وقد تقدّم.

.المعنى الإجمالي:

يقول الله تبارك وتعالى ما معناه: يا أيها المؤمنون، يا من أتصفتم بالإيمان، وصدّقتم بكتاب الله، وآمنتم برسوله، وعلمتم علم اليقين أنّ ما جاءكم به الرسول حق لأنه من عند الله، لا تسمعوا لكل خبر، ولا تصدّقوا كل إنسان، بل تحقّقوا وتثبتوا من الأمر، قبل أن تصيبوا إخوة لكم مؤمنين، بسبب خبر لم تتحققوا من صحته، وكلام لم تتأكدوا من صدقه، فتندموا على ما فرط منكم، ولكن لا ينفعكم حينئذٍ الندم.
واعلموا- أيها المؤمنون- أن فيكم السيّد المبجّل، والنبيّ المعظّم (رسول الله صلى الله عليه وسلم) المعصوم الذي لا ينطق عن الهوى، الذي يطلعه الله على الخفايا، فلا تحاولوا أن تستميلوه لرأيكم، ولو أنه استجاب لكم، وأطاعكم في غالب ما تشيرون به عليه، لوقعتم في الجهد والهلاك، ولكنّ الله- بمنّة وفضله- حفظه وحفظكم، ونوّر بصائر أتباعه المؤمنين، وحبّب إليهم الإيمان، وبغّض إليهم الكفّر والفسوق والعصيان، وأرشدهم إلى سبيل الخير والسعادة.
ثمّ عقّب تعالى بما يترتب على سماع مثل هذه (الأنباء المكذوبة) من تخاصم، وتباغض، وتقاتل، فقال: إذا رأيتم أيها المؤمنون طائفتين من إخوانكم جنحتا إلى القتال والعدوان، فابذلوا جهدكم للتوفيق بينهما، وادعوهما إلى النزول على حكم الله، فإن اعتدت إحدى الطائفتين على الأخرى وتجاوزت حدّها بالظلم والطغيان، وأرادت أن تبغي في الأرض، فقاتلوا تلك الطائفة الباغية، حتى تثوب إلى رشدها، وترضى بحكم الله عز وجلّ، وتقلع عن البغي والعدوان، فإذا كفّت عن العدوان فأصلحوا بينهما بالعدل، لأنهم إخوتكم في الدين، ومن واجب المسلمين أن يَصْلحوا بين الإخوان، لا أن يتركوا البغضاء تدبّ، والفرقة تعمل عملها، لأنّ المؤمنين جميعاً إخوة، جمعتهم (رابطة الإيمان) وليس ثمة طريق إلى إعادة الصفاء إلاّ بالإصلاح بين المتخاصمين، فهو سبيل الفلاح وطريق الفوز والنجاح، واتقوا الله لتنالكم رحمته، وتسعدوا بمرضاته ولقائه.

.سبب النزول:

أولاً: روى الإمام أحمد عن الحارث بن ضرار الخزاعي أنه قال: قدمتُ على رسول الله صلى الله عليه وسلم فدعاني إلى الإسلام، فدخلتُ فيه وأقررت به، ودعاني إلى الزكاة فأقررت بها وقلت: يا رسول الله أرجع إلى قومي فأدعوهم إلى الإسلام، وأداء الزكاة، فمن استجاب لي جمعت زكاته، وترسل إليّ يا رسول الله رسولاً لإبّان كذا، وكذا، ليأتيك بما جمعت من الزكاة.
. فلمّا جمع الحارث الزكاة ممن استجاب له، وبلغ زمان الوعد الذي أراد رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يبعث إليه، احتبس الرسول فلم يأت، فظنّ الحارث أن قد حدث فيه سخطه من الله ورسوله، فدعا سَرَوَات قومه فقال لهم: رسول الله صلى الله عليه وسلم كانَ وقَّت لي وقتاً يرسل إليّ رسوله ليقبض ما كان عندنا من الزكاة، وليس من رسول الله صلى الله عليه وسلم الخُلْف، ولا أرى حبس رسوله إلا من سخطةٍ عليَّ، فانطلقوا بنا نأتي رسول الله صلى الله عليه وسلم؟
وبعث رسول الله (الوليد بن عقبة) إلى الحارث ليقبض ما كان عنده ممّا جُمع من الزكاة، فلمّا سار حتى بلغ بعض الطريق، فَرِق فرجع، فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: إن الحارث منعني الزكاة وأراد قتلي، فضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم البَعْث إلى الحارث، فأقبل الحارث بأصحابه حتى استقبله البعث وقد فصل عن المدينة، قالوا: هذا الحارث. فلما غشيهم قال إلى أين؟ قالوا: إليك، قال: ولم، قالوا: إن النبي صلى الله عليه وسلم قال: منعتَ الزكاة وأردتَ قتل رسولي؟ قال: لا والذي بعثك بالحق ما رأيته ولا أتاني، وما أقبلتُ إلاّ حين احتبس عليّ رسولُ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم، خشية من أن تكون سخطة من الله ورسوله عليّ، فنزلت الآية: {يا أيها الذين آمنوا إِن جَآءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فتبينوا}.
قال الإمام الفخر: ما ذكره المفسّرون من أنها نزلت بسبب (الوليد بن عقبة) حين بعثه الرسول صلى الله عليه وسلم إلى بني المصطلق ليقبض صدقاتهم... إلخ إن كان مرادهم أن الآية نزلت عامة لبيان وجوب التثبت في خبر الفاسق، وأنها نزلت في ذلك الحين الذي وقعت فيه حادثة الوليد فهذا جيد، وإن كان غرضهم أنها نزلت لهذه الحادثة بالذات فهذا ضعيف، لأن الوليد لم يتقصّد الإساءة إليهم، ورواية الإمام أحمد تدل على أنّ الوليد خاف وفَرق حين رأى جماعة الحارث- وقد خرجت في انتظاره- فظنّها خرجت لحربة فرجع وأخبر الرسول صلى الله عليه وسلم بما أخبره ظناً منه أنهم خرجوا لقتاله.
يقول الإمام الفخر: ويدل على ضعف قول من يقول إنها نزلت لكذا أن الله تعالى لم يقل: إني أنزلتها لكذا والنبي عليه السلام لم ينقل عنه أنه بيّن أن الآية وردت لبيان ذلك فحسب، غاية ما في الباب أنها نزلت في ذلك الوقت وهو مثل التاريخ لنزول الآية، ويتأكد ما ذكرنا أن اطلاق لفظ (الفاسق) على الوليد شيء بعيد، لأنه توهّم وظنّ فأخطأ، والمخطئ لا يسمى فاسقاً، وكيف والفاسق في أكثر المواضع المرادُ به من خرج من ربقة الإيمان لقوله تعالى: {إِنَّ الله لاَ يَهْدِي القوم الفاسقين} [المنافقون: 6] وقوله تعالى: {فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ} [الكهف: 50] وقوله تعالى: {وَأَمَّا الذين فَسَقُواْ فَمَأْوَاهُمُ النار} [السجدة: 20] إلى غير ذلك.
ب- وأمَّا قوله تعالى: {وَإِن طَآئِفَتَانِ مِنَ المؤمنين اقتتلوا} فقد ذُكِر في سبب نزولها ما يأتي:
أولاً: أخرج البخاري ومسلم وابن جرير وغيرهم عن أنس رضي الله عنه أنه قال: قيل للنبي صلى الله عليه وسلم لو أتيتَ (عبد الله بن أُبَي) فانطلَقَ إليه وركب حماراً، وانطلق معه المسلمون يمشون، فلما أتاه النبي صلى الله عليه وسلم قال: إليك عني، فوالله لقد آذاني نتن حمارك، فقال رجل من الأنصار: واللَّهِ لحمارُ رسول الله أطيب ريحاً منك، فغضب لعبد الله رجل من قومه، وغضب للأنصاري آخرون من قومه، فكان بينهم ضرب بالجريد والأيدي والنّعال، فأنزل الله فيهم: {وَإِن طَآئِفَتَانِ مِنَ المؤمنين اقتتلوا}.
ثانياً: وروى الشيخان عن أسامة بن زيد رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج يعود (سعد بن عُبادة) فمرّ بمجلس فيهم عبد الله بن أُبَيّ، وعبد الله بن رواحة، فخمّر ابن أُبيّ وجهه برادائه، وقال: لا تغبّروا علينا، فقال عبد الله بن رواحة: لحمار رسول الله صلى الله عليه وسلم أطيب ريحاً منك، فتعصّب لكل أصحابه فتقاتلوا حتى كان بينم ضرب بالنعال والأيدي والسّعف فنزلت الآية.

.لطائف التفسير:

اللطيفة الأولى: سورة الحجرات تسمّى سورة (الأخلاق والآداب) فقد أرشدت إلى مكارم الأخلاق، وجاء فيها النداء بوصف الإيمان بقوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا} خمس مرات، وفي كل مرة إرشاد إلى مكرمة من المكارم، وفضيلة من الفضائل، وهذه الآداب الرفيعة نستعرضها في فقرات وهي:
1- وجوب الطاعة والانقياد لأوامر الرسول صلى الله عليه وسلم وعدم التقدم عليه برأي أو قول: {يا أيها الذين آمَنُواْ لاَ تُقَدِّمُواْ بَيْنَ يَدَيِ الله وَرَسُولِهِ...} [الحجرات: 1] أي لا تَعْجَلوا بقولٍ أو فعل قبل أن يقول فيه رسول الله أو يفعل.
2- احترام الرسول وتعظيم شأنه وعدم رفع الصوت في حضرته: {يا أيها الذين آمَنُواْ لاَ ترفعوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النبي...} [الحجرات: 2] الآية.
3- وجوب التثبت من صحة الأخبار، وعدم الاعتماد على أقوال الفسقة المفسدين {يا أيها الذين آمنوا إِن جَآءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فتبينوا...} الآية.
4- النهي عن السخرية بالناس وعن التنابز بالألقاب {يا أيها الذين آمَنُواْ لاَ يَسْخَرْ قَوْمٌ مِّن قَوْمٍ عسى أَن يَكُونُواْ خَيْراً مِّنْهُمْ وَلاَ نِسَآءٌ مِّن نِّسَآءٍ عسى أَن يَكُنَّ خَيْراً مِّنْهُنَّ...} [الحجرات: 11] الآية.
5- النهي عن التجسّس، والغيبة، وسوء الظن، وعن سائر الأخلاق الذميمة {يا أيها الذين آمَنُواْ اجتنبوا كَثِيراً مِّنَ الظن إِنَّ بَعْضَ الظن إِثْمٌ وَلاَ تَجَسَّسُواْ وَلاَ يَغْتَب بَّعْضُكُم بَعْضاً...} [الحجرات: 12] الآية.
فهذه السورة الكريمة التي لا تتجاوز ثماني عشرة آية، قد جمعت الفضائل والآداب الإنسانية، فلا عجب أن تسمى (سورة الآداب) أو (سورة الأخلاق) فهي تتناول الأدب مع الله، والأدب مع الرسول، والأدب مع النفس، والأدب مع المؤمنين، والأدب مع الناس عامة، وكلها بهذا الشكل الرتيب.
اللطيفة الثانية: تصدير الخطاب بالنداء {يا أيها الذين آمنوا} لتنبيه المخاطبين على أنّما بعده أمر خطير، يستدعي مزيد العناية والاهتمام بشأنه، ووصفهم بالإيمان لتنشيطهم والإيذان بأنه داع للمحافظة عليه، ووازع عن الإخلال به. أفاده العلامة أبو السعود.
اللطيفة الثالثة: قوله تعالى: {إِن جَآءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ} في هذا التعبير إشارة لطيفة إلى أن المؤمن ينبغي أن يكون حذراً يقظاً، لا يقبل كلّ كلام يلقى على عواهنه، دون أن يعرف المصدر، وتنكير (فاسق) للتعميم، لأنه نكرة في سياق الشرط، وهي كالنكرة في سياق النفي تفيد العموم كما قرّره علماء الأصول، والمعنى إن جاءكم أيّ فاسق فتثبتوا من خبره، وجاء بحرف التشكيك (إن) ولم يقل (إذا) التي تفيد التحقيق، ليشير إلى أنّ وقوع مثل هذا إنما هو على سبيل (النّدرة) إذْ الأصل في المؤمن أن يكون صادقاً ولمَّا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه بالمنزلة التي لا يجسر أحد أن يخبرهم بكذب، وما كان يقع مثل ما فرط من (الوليد بن عقبة) إلاّ في النّدرة قيل: {إِن جَآءَكُمْ} بحرف الشك. فتدبر أسرار الكتاب العزيز.
اللطيفة الرابعة: قوله تعالى: {واعلموا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ الله} تقديم خبر أنّ على اسمها ليفيد معنى الحصر، المستتبع لزيادة التوبيخ لهم على ما فرط منهم في حقّ الرسول صلى الله عليه وسلم، وفي الكلام إشعار بأنّهم زيّنوا بين يدي الرسول صلى الله عليه وسلم الايقاع بالحارث وقومه، وقد أريد أن ينعى عليهم ذلك بتنزيلهم منزلة من لا يعلم أنه عليه السلام بين أظهرهم.
قال الإمام الفخر رحمه الله: والذي اختاره وكأنه هو الأقوى أن الله تعالى لما قال: {يا أيها الذين آمنوا إِن جَآءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فتبينوا} أي فتثبّتوا واكشفوا قال بعده: {واعلموا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ الله}.
أي الكشفُ سهل عليكم بالرجوع إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فإنه فيكم مبيّن مرشد، وهذا كما قال القائل عند اختلاف تلاميذ شيخٍ في مسألة، هذا الشيخ قاعد.. لا يريد به بيان قعوده، وإنما يريد أمرهم بالرجوع إليه. فكأن الله تعالى يقول: استرشدوا بالرسول صلى الله عليه وسلم فإن يعلم ولا يطيع أحداً، فلا يوجد فيه حيف، ولا يروج عليه زيف، لأنه لا يعتمد على كثير من آرائكم التي تبدونها، وإنما يعتمد على الوحي الذي يأتيه من عند الله.
اللطيفة الخامسة: صيغة المضارع تفيد (الاستمرار والتجدّد) بخلاف الماضي، فالعدول عن الماضي إلى المضارع في قوله تعالى: {لَوْ يُطِيعُكُمْ} ليفيد هذا المعنى على أنهم كانوا يريدون إطاعة الرسول لهم إطاعة مستمرة بدليل قوله تعالى: {فِي كَثِيرٍ مِّنَ الأمر} وذلك أن صيغة المضارع تفيد التجدد والاستمرار، تقول: فلانَ يقري الضيف، ويحمي الحريم، تريد أن ذلك شأنه وأنه مستمر على ذلك.
قال العلامة الألوسي: وفي هذا التعبير {لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِّنَ الأمر لَعَنِتُّمْ} مبالغات من أوجه:
أحدها: إيثار (لو) ليدلّ على الفرض والتقدير.
والثاني: ما في العدول إلى المضارع من إرادة استمرار ما حقه أن يفرض للتهجين والتوبيخ.
والثالث: ما في لفظ (العنت) من الدلالة على أشدّ المحذورة، فإنه الكسر بعد الجبر.
والرابع: ما في الخطاب، والجدير به غير (الكُمّل) ليكون أردع لمرتكبه وأزجر.
وكأنّ الله تعالى يقول: يا أيها الذين آمنوا إن جاءكم فاسق بنبأ فتبيّنوا ولا تكونوا أمثال هؤلاء الذين استفزهم النبأ قبل التعرف على صدقه، ثم لم يكتفوا حتى أرادوا أن يحملوا الرسول على رأيهم، ليوقعوا أنفسهم ويوقعوا غيرهم في العنت والإرهاق، واعلموا جلالة قدر الرسول صلى الله عليه وسلم وتفادّوْا عن أمثال هذه الأخطاء.
اللطيفة السادسة: قوله تعالى: {أولئك هُمُ الراشدون} التفات من الخطاب إلى الغيبة كقوله تعالى: {وَمَآ آتَيْتُمْ مِّن زَكَاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ الله فأولئك هُمُ المضعفون} [الروم: 39] وهذا الالتفات من المحسّنات البديعية كما قرّره علماء البلاغة، كما قرّره علماء البلاغة، ويقصد به التعظيم أي هؤلاء الذين حبّب الله إليهم الإيمان، وزيّنه في قلوبهم وكرّه إليهم الكفر والفسوق العصيان، هم الذين بلغوا أرفع الدرجات وأعلى المناصب، ونالوا هذه الرتبة العظيمة (رتبة الرشاد) فضلاً من الله وكرماً.
اللطيفة السابعة: قوله تعالى: {وَإِن طَآئِفَتَانِ مِنَ المؤمنين اقتتلوا} الطائفة في اللفظ مفرد، وفي المعنى جمع، لأنها تدل على عدد كبير من الناس، ولهذا جاء التعبير بقوله (اقتتلوا) رعايةً للمعنى فإن كلّ طائفةٍ من الطائفتين جماعة، ثم قال تعالى: {فَأَصْلِحُواْ بَيْنَهُمَا} ولم يقل بينهم رعايةَ للفظ، والنكتة في هذا هو ما قيل: إنهم عند الاقتتال تكون الفتنة قائمة وهم مختلطون فلذا جمع الضمير، وفي حال الصلح تتفّق كلمة كل طائفة حتى يكونوا كنفسين فلذا ثُنّي الضمير.
اللطيفة الثامنة: قال الإمام الفخر رحمه الله: قال تعالى: {وَإِن طَآئِفَتَانِ مِنَ المؤمنين} ولم يقل (منكم) مع أنّ الخطاب مع المؤمنين لسبق قوله: {يا أيها الذين آمنوا} تنبيهاً على قبح ذلك، وتبعيداً لهم عنهم. كما يقول السيد لعبده: إن رأيت أحداً من غلماني يفعل كذا فامنعه، فيصير بذلك مانعاً للمخاطَب عن ذلك الفعل بالطريق الحسن، كأنه يقول: أنت حاشاك أن تفعل ذلك، فإن فعل غيرك فامنعه، كذلك هاهنا قال: {وَإِن طَآئِفَتَانِ مِنَ المؤمنين} ولم يقل منكم لما ذكرنا من التنبيه مع أن المعنى واحد.
اللطيفة التاسعة: قوله تعالى: {إِنَّمَا المؤمنون إِخْوَةٌ} فيه تشبيه لطيف يسمى (التشبيه البليغ) وأصل الكلام: المؤمنون كالإخوة في وجوب التراحم والتناصر فحذف وجه الشبه وأداة الشبة فأصبح بليغاً، قال بعض أهل اللغة: الإخوة جمع الأخ من النسب، والإخوان جمع الأخ من الصداقة، فالله تعالى قال: {إِنَّمَا المؤمنون إِخْوَةٌ} تأكيداً للأمر وإشارة إلى أنّ ما بينهم كما بين الإخوة من النسب، والإسلام لهم كالأب فأخوّة (العقيدة) فوق أخوة (الجسد) ورابطة الإيمان أقوى من رابطة النسب، وقد قال الشاعر العربي:
أبي الإسلام لا أب ليسواه ** إذا افتخروا بقيسٍ أو تميم

اللطيفة العاشرة: سئل بعض العلماء عمّا وقع بين الصحابة رضوان الله عليهم من قتال فقال: تلك دماء قد طهّر الله منها أيدينا، فلا نلوّث بها ألسنتنا، وسبيلُ ما جرى بينهم كسبيل ما جرى بين يوسف وإخوته. وسئل (الحسن البصري) عن قتالهم فقال: (قتالٌ شَهِدَهُ أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم وغبنا، وعلموا، وجهلنا، واجتمعوا فاتّبعنا، واختلفوا فوقفنا).
وقال المحاسبي: فنحن نقول كما قال الحسن، ولا نبتدع رأياً منا، ونعلم أنهم اجتهدوا وأرادوا وجه الله عز وجلّ.