فصل: حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم في الطلاق قبل النكاح

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: زاد المعاد في هدي خير العباد **


فصل

وأما طلاق الإغلاق، فقد قال الإمام أحمد في رواية حنبل‏:‏ وحديثُ عائشة رضى الله عنها‏:‏ سمعت النبى صلى الله عليه وسلم يَقول‏:‏ ‏(‏لا طَلاقَ ولا عِتاق في إغلاق‏)‏، يعنى الغضبَ، هذا نصُّ أحمد حكاه عنه الخلال، وأبو بكر في ‏(‏الشافى‏)‏ و‏(‏زاد المسافر‏)‏‏.‏ فهذا تفسير أحمد‏.‏

وقال أبو داود في سننه‏:‏ أظنه الغضب، وترجم عليه‏:‏ ‏(‏باب الطلاق على غلط‏)‏ وفسره أبو عُبيد وغيرُه‏:‏ بأنه الإكراه، وفسره غيرهما‏:‏ بالجنون، وقيل‏:‏ هو نهىُ عن إيقاع الطلقات الثلاث دفعةً واحدة، فُيغْلَقُ عليه الطلاقُ حتى لا يبقى منه شىء، كغَلَقِ الرهن، حكاه أبو عُبيد الهروى‏.‏

قال شيخُنا‏:‏ وحقيقةُ الإغلاق‏:‏ أن يُغلق على الرجل قلبُه، فلا يقصِدُ الكلام، أو لا يعلم به، كأنه انغلق عليه قصدُه وإرادتُه‏.‏ قلت‏:‏ قال أبو العباس المبرِّد‏:‏ الغَلَق‏:‏ ضيقُ الصدر، وقلةُ الصبر بحيث لا يجد مخلصاً قال شيخنا‏:‏ ويدخل في ذلك طلاقُ المكرَه والمجنون، ومن زال عقلُه بسُكر أو غضب، وكُلُّ من لا قصد له ولا معرفة له بما قال‏.‏

والغضب على ثلاثة أقسام‏.‏

أحدها‏:‏ ما يُزيل العقل، فلا يشعُرُ صاحبُه بما قال، هذا لا يقعُ طلاقه بلا نزاع‏.‏

الثانى‏:‏ ما يكون في مباديه بحيث لا يمنع صاحِبَه مِن تصور ما يقولُ وقصده، فهذا يقع طلاقُه‏.‏

الثالث‏:‏ أن يستحكِمَ ويشتدَّ به، فلا يُزيل عقله بالكلية، ولكن يحولُ بينه وبين نيته بحيث يندَمُ على ما فرط منه إذا زال، فهذا محلُّ نظر، وعدمُ الوقوع في هذه الحالة قوى متجه‏.‏

حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم في الطلاق قبل النكاح

في السنن‏:‏ من حديث عمرو بن شعيب، عن أبيه عن جده، قال‏:‏ قال رسول الله صلىالله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏لا نَذْرَ لابْن آدَمَ فِيمَا لاَ يَمْلِكُ، ولاَ عِتْقَ لَهُ فِيمَا لاَ يَمْلِكُ، ولا طَلاَقَ لَهُ فِيمَا لاَ يَمْلِكُ‏)‏‏.‏ قال الترمذى‏:‏ هذا حديث حسن، وهو أحسنُ شىء في هذا الباب، وسَألت محمد بن إسماعيل‏.‏ فقلت‏:‏ أىُّ شىء أصحُّ في الطلاق قبل النكاح‏؟‏ فقال‏:‏ حديثُ عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده‏.‏

وروى أبو داود‏:‏ ‏(‏لا بَيْعَ إلاَّ فِيمَا يَمْلِكُ، ولا وَفَاءَ نَذْرِ إلاَّ فِيما يَمْلِكُ‏)‏‏.‏

وفى سنن ابن ماجه‏:‏ عن المِسور بنِ مَخْرَمَة رضى الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏لاَ طَلاَقَ قَبْلَ النِّكَاحِ وَلاَ عِتْق قَبْلَ مِلْكِ‏)‏‏.‏

وقال وكيع‏:‏ حدثنا ابنُ أبى ذئب، عن محمد بن المنكدِر، وعطاء بن أبى رباح، كلاهما عن جابر بن عبد الله يرفعه‏:‏ ‏(‏لاَ طَلاَقَ قَبْلَ نكاح‏)‏‏.‏

وذكر عبدُ الرزاق، عن ابن جريج، قال‏:‏ سمعتُ عطاءً يقول‏:‏ قال ابنُ عباس رضى الله عنه‏:‏ لا طلاقَ إلا من بعدِ نكاح‏.‏

قال ابنُ جريج‏:‏ بلغ ابن عباس أن ابن مسعود يقول‏:‏ إن طلَّق ما لم ينكِحْ فهو جائز، فقال ابن عباس‏:‏ أخطأ في هذا، إن الله تعالى يقول‏:‏‏{‏إذَا نَكَحْتُمُ المُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ‏}‏ ‏[‏الأحزاب‏:‏ 49‏]‏، ولم يقل‏:‏ إذا طلقتم المؤمنات ثم نكحتموهن‏.‏

وذكر أبو عُبيد‏:‏ عن على بن أبى طالب رضى الله عنه أنه سُئِل عن رجل قال‏:‏ إن تزوجتُ فلانه، فهى طالق، فقال على‏:‏ ليس طلاقٌ إلا من بعد ملك‏.‏

وثبت عنه رضى الله عنه أنه قال‏:‏ لا طلاق إلا من بعد نكاح وإن سماها‏.‏

وهذا قولُ عائشة، وإليه ذهب الشافعى، وأحمد، وإسحاق وأصحابُهم، وداود وأصحابُه، وجمهورُ أهل الحديث‏.‏

ومِن حجة هذا القول‏:‏ أن القائل‏:‏ إن تزوجتُ فلانه، فهى طالق مُطَلِّقٌ لأجنبية، وذلك محال، فإنها حِينَ الطلاق المعلَّق أجنبية، والمتجدِّدُ هو نِكاحُها، والنكاح لا يكون طلاقاً، فعُلِمَ أنها لو طلقت، فإنما يكون ذلك استناداً إلى الطلاق المتقدِّم معلقاً، وهى إذا ذاك أجنبية، وتجدُّدُ الصفة لا يجعلُه متكلماً بالطلاق عند وجودها فإن وجودها مختار للنكاح غيرُ مريد للطلاق، فلا يَصِبحُّ، كما لو قال لأجنبية‏:‏ إن دخلت الدار فأنت طالق، فدخلَتْ وهى زوجتُه، لم تطلق بغير خلاف‏.‏

فإن قيل‏:‏ فما الفرقُ بين تعليق الطلاق وتعليق العِتق‏؟‏ فإنه لو قال‏:‏ إن ملكت فلاناً، فهو حر، صَحَّ التعليقُ، وعتق بالملك‏؟‏

قيل‏:‏ في تعليق العِتق قولان، وهما روايتان عن أحمد، كما عنه روايتان في تعليق الطلاق، والصحيحُ من مذهبه الذي عليه أكثرُ نصوصه، وعليه أصحابه‏:‏ صحةُ تعليق العتق دون الطلاق، والفرقُ بينهما أن العِتقَ له قوة وسراية، ولا يعتمِدُ نفوذ الملك، فإنه ينفذ في ملك الغير، ويَصِحُّ أن يكون الملك سبباً لزواله بالعتق لزواله عقلاً وشرعاً، كما يزولُ ملكه بالعتق عن ذى رحمه المحرَمِ بشرائه، وكما لو اشترى عبداً لِيعتقه في كفارة أو نذر، أو اشتراه بشرط العِتق، وكُلُّ هذا يُشرع فيه جعل الملك سبباً للعتق، فإنه قُربة محبوبة للَّه تعالى، فشرع الله سبحانه التوسلَ إليه بكل وسيلة مفضية إلى محبوبه، وليس كذلك الطلاقُ، فإنه بغيضُ إلى الله، وهو أبغضُ الحلال إليه، ولم يجعل ملك البُضع بالنكاح سبباً لإزالته ألبتة، وفرقٌ ثانٍ أن تعليق العتق بالملك من باب نذر القُرَبِ والطاعات والتبرر، كقوله‏:‏ لئن آتانىَ الله مِن فضله، لأتصدقن بكذا وكذا، فإذا وُجِدَ الشرطُ، لزمه ما علقه به من الطاعة المقصودة، فهذا لونٌ، وتعليقُ الطلاق على الملك لونٌ آخر‏.‏

حكْمُ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم في تحريم طلاق الحائضِ والنفساء والموطوءةِ في طُهرها، وتحريم إيقاع الثلاث جملة

في ‏(‏الصحيحين‏)‏‏:‏ أن ابن عمر رضي الله عنه طلق امرأته وهى حائض على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فسأل عمرُ بن الخطاب رضى الله عنه عن ذلك رسولَ الله صلى الله عليه وسلم فقال‏:‏ ‏(‏مُرْهُ فَلْيُرَاجِعْها ثُمَّ ليمْسِكْها حَتَّى تَطْهُرَ ثُمَّ تَحيضَ، ثُمَّ تَطْهُرَ، ثُمَّ إنْ شَاءَ أَمْسَكَ بَعْدَ ذَلِكَ، وإنْ شَاءَ يُطلِّقُ قَبْلَ أَنْ يَمَسَّ، فَتِلْكَ العِدَّةُ التي أَمَرَ اللَّهُ أَنْ تُطَلَّقَ لَها النِّسَاءُ‏)‏‏.‏

ولمسلم‏:‏ ‏(‏مُرْهُ فَلْيُرَاجِعْها، ثُمَّ لِيُطَلِّقْها طاهِراً أو حامِلاً‏)‏‏.‏

وفى لفظ‏:‏ ‏(‏إنْ شَاءَ طلَّقَها طاهِراً قَبْل أنْ يَمسَّ، فذلِكَ الطَّلاقُ لِلْعِدَّةِ كَمَا أَمَرَهُ الله تَعالى‏)‏‏.‏ وفى لفظ للبخارى‏:‏ ‏(‏مُرْهُ فَلْيُرَاجِعْها ثُمَّ ليُطَلِّقْها في قُبُلِ عِدَّتِها‏)‏‏.‏

وفى لفظ لأحمد، وأبى داود، والنسائى، عن ابن عمر رضى الله عنهما‏:‏ قال‏:‏ طلق عبد الله بن عمر امرأتَه وهى حائِض، فردَّها عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولم يرها شيئاً، وقال‏:‏ ‏(‏إذَا طَهُرَتْ فَلْيُطَلِّقْ أَوْ لِيُمْسِكْ‏)‏‏.‏ وقال ابن عمر رضى الله عنه‏:‏ قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏{‏يَأيُّها النَّبىُّ إذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلَّقُوهُنَّ‏}‏ ‏[‏الطلاق‏:‏ 1‏]‏ في قُبُلِ عِدَّتِهِنَّ‏.‏

فتضمَّن هذا الحكمُ أن الطلاقَ على أربعة أوجه‏:‏ وجهانِ حلال، ووجهان حرام‏.‏

فالحلالان‏:‏ أن يطلِّق امرأته طَاهراً مِن غير جماع، أو يُطلِّقها حاملاً مستبيناً حملها‏.‏

والحرامان‏:‏ أن يُطَلِّقها وهى حائض، أو يُطلِّقها في طهرٍ جامعها فيه هذا في طلاق المدخول بها‏.‏

وأما من لم يدخل بها، فيجوز طلاقُها حائضاً وطاهراً، كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏لاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إنْ طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 236‏]‏‏.‏

وقال تعالى‏:‏ ‏{‏يَأيُّها الَّذِينَ آمَنُوا إذَا نَكَحْتُمُ المُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أنْ تَمَسُّوهُنَّ فَمَالكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَها‏}‏ ‏[‏الأحزاب‏:‏ 49‏]‏ وقد دل على هذا قولُه تعالى‏:‏ ‏{‏فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ‏}‏ ‏[‏الطلاق‏:‏1‏]‏ وهذه لا عِدة لها، ونبَّه عليه رسولُ الله صلى الله عليه وسلم بقوله‏:‏ ‏(‏فَتِلْكَ العِدَّةُ التي أَمرَ اللَّهُ أَنْ تُطَلَّق لَهَا النِّسَاء‏)‏، ولولا هاتان الآيتانِ اللتان فيهما إباحةُ الطلاق قبل الدخول، لمنع مِن طلاق مَنْ لا عِدة له عليها‏.‏

وفى سنن النسائى وغيره‏:‏ من حديث محمود بن لبيد، قال‏:‏ أُخْبِرَ رسول الله صلى الله عليه وسلم عن رجُلِ طلَّق امرأته ثلاثَ تطليقاتٍ جمعياً، فقامَ غضبان، فقال‏:‏ ‏(‏أيُلْعَبُ بِكِتَابِ اللَّهِ وأَنَا بَيْنَ أَظْهُرِكُم‏)‏، حتى قام رجلٌ، فقال‏:‏ يا رسولَ الله، أفلا أقتُلُه‏.‏

وفى ‏(‏الصحيحين‏)‏‏:‏ عن ابن عُمَرَ رضى الله عنه، أنه كان إذا سئل عن الطلاق قال‏:‏ أَمَّا أَنْتَ إن طَلَّقْتَ امْرَأَتَكَ مَرَّةً أَوْ مَرَّتَين، فإِنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم أمرنى بهذا، وإنْ كُنْتَ طلَّقتها ثلاثاً، فقد حَرُمَتْ عَلَيْكَ حتى تَنْكِحَ زوجاً غيرَكَ، وعصيتَ الله فِيمَا أمَرَك مِنْ طَلاقِ امْرَأَتِكَ‏.‏

فتضمَّنَتْ هذه النصوصُ أن المطلَّقة نوعان‏:‏ مدخولٌ بها، وغيرُ مدخول بها، وكلاهما لا يجوز تطليقها ثلاثاً مجموعة، ويجوزُ تطليقُ غيرِ المدخولِ بها طاهراً وحائضاً‏.‏

وأما المدخولُ بها، فإن كانت حائضاً أو نفساء، حرم طلاقُها، وإن كانت طاهراً فإن كانت مستبينَةَ الحمل، جاز طلاقُها بعد الوطءِ وقبله، وإن كانت حائلاً لم يَجُزْ طلاقها بعد الوطء في طُهر الإصابة، ويجوز قبلَه هذا الذي شرعه اللَّهُ على لسان رسولهِ مِن الطلاق، وأجمعَ المسلمون على وقوعِ الطلاق الذي أذن الله فيه، وأباحه إذا كان مِن مكلَّفٍ مختارٍ، عالم بمدلول اللفظ، قاصدٍ له‏.‏

واختلفوا في وقوع المحرَّم من ذلك، وفيه مسألتان‏.‏

المسألة الأولى‏:‏ الطلاق في الحيض، أو في الطهر الذي واقعها فيه‏.‏

المسألة الثانية‏:‏ في جمع الثلاث، ونحن نذكر المسألتين تحريراً وتقريراً، كما ذكرناهما تصويراً، ونذكر حُجَجَ الفَريقينِ، ومنتهى أقدام الطائفتينِ، مع العلم بأن المقلِّد المتعصِّب لا يتركُ مَنْ قَلده ولو جاءته كُلُّ آية، وإن طالبَ الدليل لا يأتمُّ بسواه، ولا يُحَكِّمُ إلا إياه، ولِكل من الناس مَوْردُ لا يتعداه، وسبيل لا يتخطاه، ولقد عُذِرَ مَنْ حَمَلَ ما انتهت إليه قواه، وسعى إلى حيث انتهت إليه خُطاه‏.‏

فأما المسألةُ الأولى، فإن الخلافَ في وقوع الطلاق المحرَّم لم يزل ثابتاً بين السلف والخلف، وقد وَهِمَ من ادعى الإجماعَ على وقوعه، وقال بمبلغ علمه، وخفى عليه مِن الخلاف ما اطلع عليه غيرُه، وقد قال الإمامُ أحمد‏:‏ من ادعى الإجماع، فهو كاذب، وما يُدريه لعلَّ الناسَ اختلفوا‏.‏

كيف والخلافُ بين الناس في هذه المسألة معلومُ الثبوت عن المتقدمين والمتأخرين‏؟‏ قال محمد بن عبد السلام الخُشنى‏:‏ حدثنا محمد بن بشار ؛ حدثنا عبد الوهَّاب بنُ عبد المجيدِ الثقفى، حدثنا عُبيد الله بن عمر، عن نافع مولى ابن عمر، عن ابن عمر رضى الله عنه أنه قال في رجل طلق امرأته وهى حائض‏.‏ قال ابن عمر‏:‏ لا يعتد بذلك، ذكره أبو محمد ابن حزم في ‏(‏المحلى‏)‏ بإسناده إليه‏.‏

وقال عبد الرزاق في ‏(‏مصنفه‏)‏‏:‏ عن ابن جريج، عن ابن طاووس، عن أبيه أنه قال‏:‏ كان لا يرى طلاقاً ما خالفَ وجهَ الطَّلاقِ، ووجُهَ العِدة، وكان يقول‏:‏ وجهُ الطلاقِ‏:‏ أن يُطَلِّقَها طاهِراً مِن غير جماع وإذا استبان حملُها‏.‏

وقال الخُشنى‏:‏ حدثنا محمد بنُ المثَّنى، حدثنا عبدُ الرحمن بن مهدى، حدثنا همَّام بن يحيى، عن قتادة، عن خِلاس بن عمرو أنه قال في الرجل يُطلِّق امرأته وهى حائض‏:‏ قال‏:‏ لا يُعْتَدُّ بها قال أبو محمد ابن حزم‏:‏ والعجبُ من جُرأة منِ ادَّعى الإجماعَ على خلاف هذا، وهو لا يجد فيما يُوافق قوله في إمضاء الطلاق في الحيض أو في طهر جامعها فيه كلمة عن أحدٍ من الصحابة رضى الله عنهم غيرَ رواية عن ابن عمر قد عارضها ما هو أحسنُ منها عن ابن عمر، وروايتين عن عُثمان وزيدِ بن ثابت رضى الله عنهما‏.‏ إحداهما‏:‏ رويناها من طريق ابن وهب عن ابنِ سمعان، عن رجل أخبره أن عثمانَ بن عفان رضى الله عنه كان يقضى في المرأة التي يُطلِّقُها زوجها وهى حائض أنها لا تعتدُّ بحيضتها تلك، وتعتدُّ بعدَها بثلاثة قروء‏.‏ قلت‏:‏ وابن سمعان هو عبد الله بن زياد بن سمعان الكذاب، وقد رواه عن مجهول لا يُعرف‏.‏ قال أبو محمد‏:‏ والأخرى من طريق عبد الرزاق، عن هشام بن حسان، عن قيس بن سعد مولى أبى علقمة، عن رجل سماه، عن زيد بن ثابت أنه قال فيمن طلَّق امرأَته وهى حائض‏:‏ يلزمه الطلاقُ، وتعتد بثلاثِ حيض سوى تلك الحيضة‏.‏

قال أبو محمد‏:‏ بل نحنُ أسعدُ بدعوى الإجماع هاهنا لو استجزنا ما يستجيزوُن ونعوذُ باللَّه من ذلك، وذلك أنه لا خلافَ بين أحدٍ من أهل العلم قاطبة، ومن جملتهم جميع المخالفين لنا في ذلك أن الطلاق في الحيض أو في طهر جامعها فيه بدعة نهى عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم مخالفة لأمره، فإذا كان لا شك في هذا عندهم، فكيف يستجيزون الحكم بتجويز البدعة التي يقرون أنها بدعةٌ وضلالة، أليس بحكم المشاهدة مجيزُ البدعة مخالفاً لإجماع القائلين بأنها بدعة‏؟‏ قال أبو محمد‏:‏ وحتي لو لم يبلغنا الخلافُ، لكان القاطعُ على جميع أهل الإسلام بما لا يقين عنده، ولا بلغه عن جميعهم كاذباً على جميعهم‏.‏

قال المانعون من وقوع الطلاق المحرم‏:‏ لا يُزَالُ النكاحُ المتيقنُ إلا بيقين مثله من كتاب، أو سنة، أو إجماع متيقَّن‏.‏ فإذا أوجدتمونا واحداً من هذه الثلاثة، رفعنا حُكْمَ النِّكاح به، ولا سَبيلَ إلى رفعه بغير ذلك‏.‏ قالوا‏:‏ وكيف والأدلةُ المتكاثِرةٌ تدل على عدم وقوعه، فإن هذا طلاق لم يشرعه الله تعالى ألبتة، ولا أذن فيه، فليس من شرعه، فكيف يُقال بنفوذه وصحته‏؟‏

قالوا‏:‏ وإنما يقع من الطلاق المحرم ما ملَّكه الله تعالى للمطلّق، ولهذا لا يقع به الرابعةُ، لأنه لم يملِّكها إياه، ومن المعلوم أنه لم يملِّكه الطلاقَ المحرم، ولا أذن له فيه، فلا يصح، ولا يقع‏.‏

قالوا‏:‏ ولو وكل وكيلاً أن يُطلِّق امرأتَه طلاقاً جائزاً، فطلّق طلاقاً محرماً، لم يقع، لأنه غيرُ مأذون له فيه، فكيف كان إذن المخلوف معتبراً في صحة إيقاع الطلاق دون إذن الشارع، ومِن المعلوم أن المكلَّفَ إنما يتصرف بالإذن، فما لم يأذن به الله ورسولُه لا يكون محلاً للتصرف البتة‏.‏

قالوا‏:‏ وأيضاً فالشارِعُ قد حجر على الزوج أن يُطَلَّق في حال الحيض أو بعد الوطءِ في الطهر، فلو صح طلاقُه لم يكن لحجر الشارع معنى، وكان حجرُ القاضى على من منعه التصرف أقوى من حجر الشارع حيث يُبطِلُ التصرفَ بحجره‏.‏

قالوا‏:‏ وبهذا أبطلنا البيعَ وقتَ النداءِ يومَ الجمعة، لأنه بيعٌ حجر الشارعُ على بائعه هذا الوقتَ، فلا يجوز تنفيذُه وتصحيحه‏.‏

قالوا‏:‏ ولأنه طلاقٌ محرم منهى عنه، فالنهىُ يقتضى فسادَ المنهى عنه، فلو صححناه، لكان لا فرق بين المنهى عنه والمأذونِ فيه من جهة الصحة والفساد‏.‏

قالوا‏:‏ وأيضاً فالشارِعُ إنما نهى عنه وحرمه، لأنه يُبغِضُه، ولا يُحبُّ وقوعه، بل وقوعُه مكروه إليه، فحرَّمه لِئلا يقع ما يُبغضه ويكرهه، وفى تصحيحه وتنفيذه ضِد هذا المقصود‏.‏

قالوا‏:‏ وإذا كان النكاحُ المنهى عنه لا يَصِحُّ لأجل النهى، فما الفرقُ بينه وبين الطلاق، وكيف أبطلتم ما نهى الله عنه من النكاح، وصححتم ما حرَّمه ونهى عنه من الطلاق، والنهى يقتضى البطلان في الموضعين‏؟‏

قالوا‏:‏ ويكفينا من هذا حُكمُ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم العام الذي لا تخصيص فيه برد ما خالف أمره وإبطاله وإلغاءه، كما في ‏(‏الصحيح‏)‏ عنه، من حديث عائشة رضى الله عنها‏:‏ ‏(‏كُلُّ عَمَلٍ لَيْسَ عَلَيْهِ أَمْرُنا فَهُوَ رَدٌّ‏)‏ وفى رواية‏:‏ ‏(‏مَنْ عَمِلَ عَمَلاً لَيْس عَلَيْهِ أَمْرُنا فَهُوَ رَدٌّ‏)‏‏.‏ وهذا صريحُ أن هذا الطلاقَ المحرَّم الذي ليس عليه أمرُه صلى الله عليه وسلم مردود باطل، فكيف يُقال‏:‏ إنه صحيح لازم نافذ‏؟‏ فأين هذا مِن الحكم برده‏؟‏

قالوا‏:‏ وأيضاً فإنه طلاقٌ لم يشرعه الله أبداً، وكان مردوداً باطلاً كطلاق الأجنبية، ولا ينفعُكم الفرقُ بأن الأجنبية ليست محلاً للطلاق بخلاف الزوجة، فإن هذه الزوجة ليست محلاً لِلطلاق المحرَّم، ولا هو مما ملَّكه الشَّارِعُ إيَّاه‏.‏

قالوا‏:‏ وأيضاً فإن الله سبحان إنما أمر بالتسريح بإحسان، ولا أشر مِن التسريح الذي حرَّمه اللَّهُ ورسُوله، وموجب عقدِ النكاح أحدُ أمرين‏:‏ إما إمساك بمعروف، أو تسريح بإحسان، والتسريح المحرَّم أمر ثالثُ غيرُهما، فلا عبرة به البتة‏.‏

قالوا‏:‏ وقد قال اللَّهُ تعالى‏:‏ ‏{‏يأيَّها النَّبىُّ إذا طَلَّقُتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ‏}‏ ‏[‏الطلاق‏:‏1‏]‏ وصحَّ عن النبىَّ صلى الله عليه وسلم المبيِّنِ عن اللَّهِ مرادَه مِن كلامه، أن الطلاق المشروع المأذون فيه هو الطلاقُ في زمن الطهر الذي لم يُجامع فيه، أو بعدَ استبانة الحمل، وما عداهُما فليس بطلاق للعدة في حق المدخول بها، فلا يكون طلاقاً، فكيف تحرم المرأة به‏؟‏

قالوا‏:‏ وقد قال تعالى‏:‏ ‏{‏الطَّلاَقُ مَرَّتَانِ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏229‏]‏، ومعلوم أنه إنما أرادَ الطلاق المأذونَ فيه، وهو الطلاقُ للعدة، فدل على أن ما عداه ليس من الطلاق، فإنه حصر الطلاقَ المشروع المأذونَ فيه الذي يملك به الرجعة في مرتين، فلا يكون ما عداه طلاقاً‏.‏ قالُوا‏:‏ ولهذا كان الصحابةُ رضى الله عنهم يقولون‏:‏ إنهم لا طاقة لهم بالفتوى في الطلاق المحرَّم، كما روى ابنُ وهب، عن جرير بن حازم، عن الأعمش، أن ابن مسعود رضى الله عنه قال‏:‏ من طلق كما أمره الله، فقد بيَّن الله له، ومن خالف، فإنا لا نُطِيقُ خِلافه، ولو وقع طلاقُ المخالف لم يكن الإفتاءُ به غير مطاق لهم، ولم يكن للتفريق معنى إذ كان النوعانِ واقعينَ نافذين‏.‏

وقال ابن مسعود رضي الله عنه أيضاً‏:‏ من أتى الأمرَ على وجهه فقد بَيَّنَ الله له وإلا فواللَّهِ ما لنا طاقةٌ بكل ما تُحْدِثُون‏.‏

وقال بعض الصحابةِ قد سئل عن الطلاق الثلاث مجموعة‏:‏ مَنْ طلَّق كما أمر، فقد بُيِّن له، ومن لبَّس، تركناه وتلبيسه‏.‏

قالوا‏:‏ ويكفى من ذلك كله ما رواه أبو داود بالسند الصحيح الثابت‏:‏ حدثنا أحمد بن صالح، حدثنا عبد الرزاق، حدثنا ابن جريج، قال‏:‏ أخبرنى أبو الزبير أنه سمع عبد الرحمن بن أيمن مولى عروة يسأل ابنَ عمر قال أبو الزبير وأنا أسمع‏:‏ كيف ترى في رجل طلَّق امرأته حائضاً‏؟‏ فقال‏:‏ طلَّق ابنُ عمر على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فسأل عُمَرُ عن ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال‏:‏ إن عبد الله بن عمر طلق امرأته وهى حائض، قال عبد الله‏:‏ فردَّها علي ولم يَرَهَا شيئاً، وقال‏:‏ إذا طهرت فليُطَلِّقْ أو لِيُمسِكْ، قال ابن عُمر‏:‏ وقرأ رسول اللَّهِ صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏{‏يأَيُّهَا النَّبىُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ‏}‏ ‏[‏الطلاق‏:‏ 1‏]‏ في قبلِ عِدَّتِهِنَّ‏.‏ قالوا‏:‏ وهذا إسناد في غاية الصحة، فإن أبا الزبير غيرُ مدفوع عن الحفظ والثقة، وإنما يُخشى مِن تدليسه، فإذا قال‏:‏ سمعتُ، أو حدثنى، زال محذورُ التدليس، وزالت العلةُ المتوهَّمة، وأكثرُ أهلِ الحديث يحتجُّون به إذا قال‏:‏ ‏(‏عن‏)‏ ولم يُصِّرحْ بالسماع، ومسلم يُصحِّح ذلك من حديثه، فأما إذا صرَّحَ بالسماع، فقد زال الإشكالُ، وصحَّ الحديثُ وقامت الحجة‏.‏

قالوا‏:‏ ولا نعلم في خبر أبى الزبير هذا ما يُوجب ردَّه، وإنما رَدَّه مَنْ ردَّه استبعاداً واعتقاداً أنه خلافُ الأحاديث الصحيحة، ونحن نحكى كلام من رده، ونبين أنه ليس فيه ما يُوجب الرَّد‏.‏

قال أبو داود‏:‏ والأحاديثُ كُلُّها على خلاف ما قال أبو الزبير‏.‏

وقال الشافعىُّ‏:‏ ونافعٌ أثبتُ عن ابن عمر مِن أبى الزبير، والأثبتُ مِن الحديثين أولى أن يُقال به إذا خالفه‏.‏

وقال الخطابىُّ‏:‏ حديثُ يونس بن جبير أثبتُ مِن هذا، يعنى قوله‏:‏‏(‏مرْهُ فَلْيُرَاجِعْهَا‏)‏، وقوله‏:‏ ‏(‏أرأيتَ إن عجز واستحمق‏)‏‏؟‏ قال‏:‏ فمه‏.‏

قال ابنُ عبدِ البر‏:‏ وهذا لم ينقله عنه أحدُ غير أبى الزبير، وقد رواه عنه جماعةٌ أَجِلَّةٌ، فلم يقل ذلك أحدٌ منهم، وأبو الزبير ليس بحجة فيما خالفه فيه مثلُه، فكيف بخلاف مَن هو أثبتٌ منه‏.‏

وقال بعضُ أهلِ الحديث‏:‏ لم يروِ أبو الزبير حديثاً أنكرَ من هذا‏.‏

فهذا جملة ما رُد به خبرُ أبى الزبير، وهو عند التأمل لا يوجب رده ولا بطلانه‏.‏

أما قولُ أبى داود‏:‏ الأحاديثُ كلها على خلافه، فليس بأيديكم سوى تقليدِ أبى داود، وأنتم لا ترضَوْنَ ذلك، وتزعمون أن الحجةَ مِن جانبكم، فدعوا التقليدَ، وأخبرونا أين في الأحاديث الصحيحة ما يُخالف حديثَ أبى الزُّبير‏؟‏ فهل فيها حديثٌ واحد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم احتسب عليه تلك الطلقة، وأمره أن يعتدَّ بها، فإن كان ذلك، فنعم واللَّهِ هذا خلاف صريح لحديثِ أبى الزبير، ولا تَجِدُون إلى ذلك سبيلاً، وغايةُ ما بأيديكم ‏(‏مُرْهُ فليراجعها‏)‏، والرجعة تستلزِمُ وقوع الطلاق‏.‏ وقول ابن عمر‏.‏ وقد سئل‏:‏ أتعتد بتلك التطليقة‏؟‏ فقال‏:‏ ‏(‏أرأيت إن عجز واستحمق‏)‏ وقول نافع أو مَنْ دونه‏:‏ ‏(‏فحسبت من طلاقها‏)‏ وليس وراءَ ذلك حرفٌ واحد يدُلُّ على وقوعها، والاعتداد بها، ولا ريبَ في صحة هذه الألفاظ، ولا مطعن فيها، وإنما الشأنُ كُلُّ في معارضتها، لقوله‏:‏ ‏(‏فردَّها علىَّ ولم يرها شيئاً‏)‏، وتقديمها عليه، ومعارضتها لتلك الأدلة المتقدمة التي سقناها، وعند الموازنة يظهرُ التفاوتُ، وعدمُ المقاومة، ونحن نذكرُ ما في كلِمةٍ كلمةٍ منها‏.‏

أما قوله‏:‏ ‏(‏مره فليراجعها‏)‏، فالمراجعة قد وقعت في كلام الله ورسولهِ على ثلاث معان‏.‏

أحدُها‏:‏ ابتداءُ النكاح، كقوله تعالى‏:‏‏{‏فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يَتَرَاجَعَا إنْ ظَنَّا أَنْ يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 230‏]‏، ولا خلافَ بينَ أحدٍ من أهلِ العلم بالقرآن أن المطلِّق هاهنا‏:‏ هو الزوج الثانى، وأن التراجُعَ بينها وبين الزوج الأول، وذلك نكاح مبتدأ‏.‏

وثانيهما‏:‏ الرد الحسى إلى الحالة التي كان عليها أولاً، كقوله لأبى النعمان بن بشير لما نَحَلَ ابنه غلاماً خصَّه به دون ولده‏:‏ ‏(‏رُدَّه‏)‏، فهذا رد ما لم تصح فيه الهبةُ الجائزة التي سماها رسولُ الله صلى الله عليه وسلم جوراً، وأخبر أنها لا تصلُح، وأنها خلاف العدل، كما سيأتى تقريرُه إن شاء الله تعالى‏.‏

ومِن هذا قوله لمن فرَّق بين جارية وولدها في البيع، فنهاه عن ذلك، ورد البيع وليس هذا الرد مستلزماً لصحة البيع، فإنه بيعٌ باطل، بل هو رد شيئين إلى حالة اجتماعهما كما كانا، وهكذا الأمر بمراجعة ابن عمر امرأته ارتجاع ورد إلى حالة الاجتماع كما كانا قبل الطلاق، وليس في ذلك ما يقتضى وقوع الطلاق في الحيض البتة‏.‏

وأما قوله‏:‏ ‏(‏أرأيتَ إن عجز واستحمق‏)‏، فيا سبحانَ الله أين البيان في هذا اللفظ بأن تلك الطلقة حَسبَها عليه رسولُ الله صلى الله عليه وسلم، والأحكام لا تُؤخذ بمثل هذا ولو كان رسولُ الله صلى الله عليه وسلم قد حسبها عليه، واعتدَّ عليه بها لم يَعْدِلْ عن الجواب بفعله وشرعه إلى‏:‏ أرأيتَ، وكان ابنُ عمر أكره ما إليه ‏(‏أرأيت‏)‏، فكيف يَعْدِلُ للسائل عن صريح السنة إلى لفظة ‏(‏أرأيت‏)‏ الدالة على نوع من الرأى سببُه عجز وحمقُه عن إيقاع الطلاق على الوجه الذي أذن الله له فيه، والأظهر فيما هذه صفتُه أنه لا يُعتدى به، وأنه ساقط من فعل فاعله، لأنه ليس في دين الله تعالى حكم نافذ سببُه العجزُ والحمقُ عن امتثال الأمر، إلا أن يكون فعلاً لا يمكن ردُّه بخلاف العقود المحرَّمة التي مَنْ عقدها على الوجه المحرَّم، فقد عجز واستحمق، وحينئذ، فيُقال هذا أدلُّ على الردِّ منه على الصحة واللزوم، فإنه عقدُ عاجز أحمق على خلافِ أمر الله ورسوله، فيكون مردوداً باطلاً، فهذا الرأىُ والقياس أدلُّ على بطلان طلاق مَن عجز واستحمق منه على صحته واعتباره‏.‏

وأما قولُه‏:‏ فحُسِبَتْ مِن طلاقها‏.‏ ففعل مبنى لما لم يسم فاعله، فإذا سُمِّىَ فاعله، ظهر، وتبين، هل في حُسبانه حجة أو لا‏؟‏ وليس في حُسبان الفاعلِ المجهولِ دليلٌ ألبتة‏.‏ وسواء كان القائلُ‏:‏ ‏(‏فحسبت‏)‏ ابن عمر أو نافعاً أو من دونه، وليس فيه بيان أن رسول الله صلى الله عليه وسلم هو الذي حسبها حتى تلتزمَ الحجةُ به، وتحرم مخالفته، فقد تبين أن سائرَ الأحاديث لا تُخَالِفُ حديث أبى الزبير، وأنه صريح في أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يرها شيئاً، وسائر الأحاديث مجملة لا بيان فيها‏.‏

قال الموقعون‏:‏ لقد ارتقيتُم أيها المانعون مرتقىً صعباً، وأبطلتُم أكثرَ طلاق المُطَلِّقين، فإن غالِبه طلاق بدعى، وجاهرتُم بخلاف الأئمة، ولم تتحاشَوْا خِلافَ الجمهور، وشذذتُم بهذا القولِ الذي أفتى جمهورُ الصحابة ومَنْ بعدهم بخلافه، والقرآنُ والسنن تدل على بطلانه‏.‏ قال تعالى‏:‏ ‏{‏فَإِنْ طَلَّقَها فَلاَ تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏230‏]‏، وهذا يعم كُلَّ طلاق، وكذلك قوله‏:‏ ‏{‏والمُطَلَّقَاتُ يَتَربَّصْنَ بأَنْفُسِهِنَّ ثَلاَثَةَ قُرُوءٍ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 228‏]‏، ولم يفرِّق، وكذلك قوله تعالى‏:‏ ‏{‏الطَّلاقُ مَرَّتَانِ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏229‏]‏ ، وقوله‏:‏ ‏{‏ولِلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاعٌ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏241‏]‏، وهذه مطلّقة وهى عمومات لا يجوز تَخصيصُها إلا بنص أو إجماع‏.‏

قالوا‏:‏ وحديثُ ابنِ عمر دليل على وقوع الطلاق المحرَّم من وجوه‏.‏

أحدها‏:‏ الأمرُ بالمراجعة، وهى لَمُّ شعثِ النكاح، وإنما شعثه وقوعُ الطلاق‏.‏

الثانى‏:‏ قولُ ابن عمر، فراجعتُها، وحسبت لها التطليقة التي طلَّقها، وكيف يُظن بابن عمر أنه يخالف رسول الله صلى الله عليه وسلم فيحسبها مِن طلاقها ورسولُ الله صلى الله عليه وسلم لم يرها شيئاً‏.‏

الثالث‏:‏ قولُ ابنِ عمر لما قيل له‏:‏ أيحتسب بتلك التطليقة‏؟‏ قال‏:‏ أرأيتَ إن عجز واستحمق، أى‏:‏ عجزُه وحمقُه لا يكون عذراً له في عدم احتسابه بها‏.‏

الرابع‏:‏ أن ابن عمر قال‏:‏ وما يمنعُنى أن أعتدَّ بها، وهذا إنكارٌ منه لعدم الاعتداد بها، وهذا يُبْطِلُ تلك اللفظة التي رواها عنه أبو الزبير، إذ كيف يقولُ ابن عمر‏:‏ وما يمنعُنى أن أعتد بها‏؟‏ وهو يرى رسولَ الله قد ردَّها عليه، ولم يرها شيئاً‏.‏

الخامس‏:‏ أن مذهبَ ابن عمر الاعتداد بالطلاقِ في الحيض، وهو صاحبُ القصة وأعلمُ الناس بها، وأشدُّهم اتباعاً للسنن، وتحرُّجاً من مخالفتها‏.‏ قالوا‏:‏ وقد روى ابن وهب في ‏(‏جامعه‏)‏، حدثنا ابن أبى ذئب، أن نافعاً أخبرهم عن ابن عمر، أنه طلق امرأته وهى حائض، فسأل عُمَرُ رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك، فقال‏:‏ ‏(‏مُرْهُ فَلْيُرَاجِعْهَا ثُمَّ لِيُمْسِكْها حَتَّى تَطْهُرَ ثُمَّ تَحيضَ ثُمَّ تَطْهُرَ، ثُمَّ إنْ شاءَ أمْسَكَ بَعْدَ ذَلِكَ وإنْ شَاءَ طَلَّقَ قَبْلَ أَنْ يَمَسَّ، فَتِلْكَ العِدَّةَ التي أمَرَ اللَّهُ أنْ تُطَلَّقَ لَهَا النِّسَاءُ‏)‏ وهى واحدة هذا لفظ حديثه‏.‏

قالوا‏:‏ وروى عبد الرزاق، عن ابن جريج قال‏:‏ أرسلنا إلى نافع وهو يترجَّلُ في دار الندوة ذاهباً إلى المدينة، ونحنُ مع عطاء‏:‏ هل حسبت تطليقة عبد الله بن عمر امرأته حائضاً علي عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم‏؟‏ قال‏:‏ نعم‏.‏

قالوا‏:‏ وروى حمادُ بن زيد، عن عبد العزيز بن صهيب، عن أنس رضى الله عنه قال‏:‏ قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏مَنْ طَلَّقَ في بدْعَةٍ أَلْزْمَنْاهُ بِدْعَتَهُ‏)‏، رواه عبد الباقى بن قانع، عن زكريا الساجى حدثنا إسماعيل بن أمية الذارع حدثنا حماد فذكره‏.‏

قالوا‏:‏ وقد تقدَّم مذهبُ عثمان بن عفان، وزيد بن ثابت في فتواهما بالوقوع‏.‏

قالوا‏:‏ وتحريمُه لا يمنع ترتب أثره، وحكمه عليه كالظِّهار، فإنه منكر من القول وزور، وهو محرّم بلا شك، وترتب أثره عليه وهو تحريمُ الزوجة إلى أن يكفِّرَ، فهكذا الطلاقُ البدعى محرّم، ويترتب عليه أثره إلى أن يُراجع، ولا فرق بينهما‏.‏

قالوا‏:‏ وهذا ابنُ عمر يقولُ للمطلق ثلاثاً‏:‏ حَرُمَتْ عليكَ حتي تنكِحَ زوجاً غيرَك وعصيتَ ربك فيما أمرك به من طلاق امرأتك‏.‏ فأوقع عليه الطلاق الذي عصى به المطلق ربه عز وجل‏.‏

قالوا‏:‏ وكذلك القذفُ محرّم، وترتب عليه أثرهُ من الحدِّ، وردِّ الشهادة وغيرهما‏.‏

قالوا‏:‏ والفرقُ بين النكاح المحرم، والطلاق المحرّم، أن النكاحَ عقد يتضمَّن حِلَّ الزوجة ومُلك بُضعها، فلا يكون إلا على الوجهِ المأذون فيه شرعاً، فإن الأبضَاع في الأصل على التحريم، ولا يُباح منها إلا ما أباحه الشارع، بخلاف الطلاق، فإنه إسقاطٌ لحقه، وإزالةٌ لملكه، وذلك لا يتوقَّفُ على كون السبب المزيل مأذوناً فيه شرعاً، كما يزولُ ملكه عن العين بالإتلاف المحرَّم، وبالإقرار الكاذب، وبالتبرع المحرَّم، كهبتها لمن يعلم أنه يستعين بها على المعاصى والآثام‏.‏

قالوا‏:‏ والإيمانُ أصلُ العقود وأجلُّها وأشرفُها، يزول بالكلام المحرَّم إذا كان كفراً فكيف لا يزولُ عقدُ النكاح بالطلاق المحرَّم الذي وضع لإزالته‏.‏

قالوا‏:‏ ولو لَم يكن معنا في المسألة طلاقُ الهازل، فإنه يقع مع تحريمه لأنه لا يَحِلُّ له الهزل بآيات الله، وقد قال النبى صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏ما بالُ أقوامٍ يتَّخِذُون آيات الله هزواً‏:‏ طلقتُك راجعتُك، طلقتُك راجعتُك‏)‏ فإذا وقع طلاقُ الهازل مع تحريمه، فطلاقُ الجادِّ أولى أن يقع مع تحريمه‏.‏

قالوا‏:‏ وفرق آخر بين النكاح المحرَّم، والطلاق المحرم، أن النكاحَ نعمة، فلا تُستباح بالمحرمات، وإزالتُه وخروجُ البُضع عن ملكه نِقمة، فيجوزُ أن يكون سببها محرماً‏.‏

قالوا‏:‏ وأيضاً فإن الفروجَ يُحتاط لها، والاحتياطُ يقتضى وقوعَ الطلاق، وتجديد الرجعة والعقد‏.‏

قالوا‏:‏ وقد عَهِدْنا النكاحَ لا يُدخل فيه إلا بالتشديدِ والتأكيدِ من الإيجابِ والقبول، والولى والشاهدين، ورِضى الزوجة المعتبرِ رضاها، ويُخْرَجُ منه بأيسر شىء، فلا يحتاجُ الخروج مِنه إلى شىء من ذلك، بل يُدخل فيه بالعزيمة، ويُخرج منه بالشبهة، فأين أحدُهما من الآخر حتى يُقاسَ عليه‏.‏

قالوا‏:‏ ولو لم يكن بأيدينا إلا قولُ حملةِ الشرعِ كُلِّهم قديماً وحديثاً‏:‏ طلق امرأتَه وهى حائض، والطلاق نوعان‏:‏ طلاق سنة، وطلاق بدعة، وقول ابن عباس رضى الله عنه‏:‏ الطلاقُ على أربعة أوجه‏:‏ وجهانِ حلالٌ، ووجهانِ حرام، فهذا الاطلاق والتقسيمُ دليل على أنه عندهم طلاق حقيقة، وشمولُ اسمِ الطلاق له كشموله للطلاق الحلالِ، ولو كان لفظاً مجرداً لغواً لم يكن له حقيقة، ولا قيل‏:‏ طلق امرأته، فإن هذا اللفظ إذا كان لغواً كان وجودُه كعدمه، ومثلُ هذا لا يقال فيه‏:‏ طلق، ولا يقسم الطلاق وهو غيرُ واقع إليه وإلى الواقع، فإن الألفاظ اللاغية التي ليس لها معانٍ ثابتة لا تكونُ هي ومعانيها قسماً من الحقيقة الثابتة لفظاً، فهذا أقصى ما تمسَّك به الموقعون، وربما ادعى بعضهم الإجماع لعدم علمه بالنزاع‏.‏

قال المانعون من الوقوع‏:‏ الكلامُ معكم في ثلاث مقاماتٍ بها يستبينُ الحقُّ في المسألة‏.‏

المقام الأول‏:‏ بطلانُ ما زعمتم من الإجماع، وأنه لا سبيل لكم إلى إثباته ألبتة بل العلمُ بانتفائه معلوم‏.‏

المقام الثانى، أن فتوى الجمهور بالقول لا يدلُّ على صحته، وقولُ الجمهور ليس بحجة‏.‏

المقام الثالث‏:‏ أن الطلاق المحرَّم لا يدخل تحتَ نصوص الطلاق المطلقة التي رتب الشارعُ عليها أحكام الطلاق، فإن ثبتت لنا هذه المقامات الثلاث، كنا أسعدَ بالصواب منكم في المسألة‏.‏فنقول‏:‏ أما المقام الأول، فقد تقدم مِن حكاية النزاع ما يُعلم معه بطلانُ دعوى الإجماع، كيف ولو لم يعلم ذلك، لم يكن لكم سبيلٌ إلى إثبات الإجماع الذي تقومُ به الحجة، وتنقطِعُ معه المعذرة، وتحرمُ معه المخالفة، فإن الإجماع الذي يُوجب ذلك هو الإجماعُ القطعى المعلوم‏.‏

وأما المقام الثانى‏:‏ وهو أن الجمهورَ على هذا القول، فأَوْجِدُونا في الأدلة الشرعية أن قولَ الجمهور حجةٌ مضافة إلى كتاب الله وسنة رسوله، وإجماع أمته‏.‏

ومن تأمَّل مذاهب العلماء قديماً وحديثاً من عهد الصحابة وإلى الآن، واستقرأ أحوالهم وجدهم مُجمعين على تسويغ خلاف الجمهور، ووجد لِكل منهم أقوالاً عديدة انفرد بها عن الجمهور، ولا يُستثنى من ذلك أحد قط، ولكن مستقِلٌّ ومستكثِر، فمن شئتم سميتموه من الأئمة تتبَّعوا ما له من الأقوال التي خالف فيها الجمهور، ولو تتبعنا ذلك وعددناه، لطال الكتابُ به جداً، ونحن نُحيلُكم على الكتب المتضمِنة لمذاهب العلماء واختلافهم، ومن له معرفة بمذاهبهم وطرائقهم يأخذُ إجماعَهم على ذلك مِن اختلافهم، ولكن هذا في المسائل التي يسوغُ فيها الاجتهادُ ولا تدفعُها السنةُ الصحيحةُ الصريحة، وأما ما كان هذا سبيله، فإنهم كالمتفقين على إنكارِه وردِّه، وهذا هو المعلومُ مِن مذاهبهم في الموضعين‏.‏

وأما المقامُ الثالثُ‏:‏ وهو دعواكم دخول الطلاق المحرم تحت نصوص الطلاق، وشمولها للنوعين إلى آخر كلامكم، فنسألُكم‏:‏ ما تقولُون فيمن ادَّعى دخولَ أنواع البيعِ المحرّم، والنكاح المحرّم تحت نصوص البيع والنكاح، وقال‏:‏ شمولُ الاسم للصحيح من ذلك والفاسد سواء، بل وكذلك سائرُ العقود المحرمة إذا ادَّعى دخلوها تحت ألفاظ العقود الشرعية، وكذلك العباداتُ المحرَّمة المنهى عنها إذا ادعى دخولَها تحت الألفاظ الشرعية، وحكم لها بالصِّحة لشمولِ الاسم لها، هل تكون دعواه صحيحة أو باطلة‏؟‏ فإن قُلتُم‏:‏ صحيحة ولا سبيلَ لكم إلى ذلك، كان قولاً معلومَ الفسادِ بالضرورة من الدين، وإن قلتُم‏:‏ دعواه باطلة، تركتُم قولكم ورجعتم إلى ما قلناه، وإن قلتم‏:‏ تُقبلُ في موضع، وتُردُّ في موضع، قيل لكم‏:‏ ففرُّقوا بفُرقانٍ صحيح مطَّرِد منعكِسٍ، معكم به برهانُ من الله بينَ ما يدخل من العقود المحرَّمة تحتَ ألفاظ النصوص، فيَّثبتُ له حكمُ الصحة، وبينَ ما لا يدخل تحتها، فيثبتُ له حكمُ البطلان، وإن عجزتُم عن ذلك، فاعلموا أنه ليس بأيديكم سوى الدعوى التي يُحْسِنُ كُلُّ أحدٍ مقابلتها بمثلها، أو الاعتماد على من يُحْتَجُّ لِقوله لا بقوله، وإذا كُشِفَ الغطاء عما قررتموه في هذه الطريق وُجِدَ عين محل النزاع فقد جعلتموه مقدمة في الدليل، وذلك عينُ المصادرة على المطلوب، فهل وقع النزاعُ إلا في دخول الطلاق المحرَّم المنهى عنه تحتَ قوله‏:‏ ‏{‏ولِلْمُطَلقَاتِ مَتَاعٌ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 241‏]‏، وتحت قوله‏:‏ ‏{‏والمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بأَنْفُسِهِنَّ ثَلاَثَةَ قُرُوءٍ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏228‏]‏ وأمثال ذلك، وهل سلَّم لكم منازعوكم قطُّ ذلك حتى تجعلوه مقدِّمةً لدليلكم‏؟‏

قالوا‏:‏ وأما استدلالُكم بحديث ابن عمر، فهو إلى أن يكون حجةً عليكم أقربَ منه إلى أن يكون حجةً لكم مِن وجوه‏.‏

أحدُها‏:‏ صريح قوله‏:‏ فردها علىَّ ولم يرها شيئاً، وقد تقدَّم بيانُ صحته‏.‏

قالوا‏:‏ فهذا الصريح ليسَ بأيديكم ما يُقاومه في الموضعين، بل جميعُ تلك الألفاظ أما صحيحة غيرُ صريحة، وإما صريحةٌ غيرُ صحيحة كما ستقفون عليه‏.‏

الثانى‏:‏ أنه قد صحَّ عن ابن عمر رضى الله عنه بإسناده كالشمس من رواية عبيد الله، عن نافع عنه، في الرجل يُطلِّق امرأته وهى حائض، قال‏:‏ لا يُعْتَدُّ بذلك وقد تقدم‏.‏

الثالث‏:‏ أنه لو كان صريحاً في الاعتداد به، لما عدل به إلى مجرَّد الرأى‏.‏ وقوله للسائل‏:‏ أرأيتَ‏؟‏

الرابع‏:‏ أن الألفاظ قد اضطربت عن ابن عمر في ذلك اضطراباً شديداً، وكلها صحيحة عنه، وهذا يدلُّ على أنه لم يكن عنده نصُّ صَريح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في وقوع تلك الطلقة والاعتداد بها، وإذا تعارضت تلك الألفاظُ، نظرنا إلى مذهب ابن عمر، وفتواه، فوجدناه صريحاً في عدم الوقوع، ووجدناه أحد ألفاظ حديثه صريحاً في ذلك، فقد اجتمع صريحُ روايته وفتواه على عدم الاعتداد، وخالف في ذلك ألفاظُ مجملة مضطربة، كما تقدم بيانه‏.‏

وأما قولُ ابن عمر رضى الله عنه‏:‏ وما لى لا أعتدُّ بها، وقوله‏:‏ أرأيت إن عجزَ واستحمق، فغاية هذا أن يكونَ رواية صريحة عنه بالوقوع، ويكون عنه روايتان‏.‏

وقولكم‏.‏ كيف يفتى بالوقوع وهو يعلم أن رسولَ الله صلى الله عليه وسلم قد ردَّها عليه ولم يعتدَّ عليه بها‏؟‏ فليس هذا بأوَّل حديثٍ خالفه راويه، وله بغيره مِن الأحاديث التي خالفها راويها أُسْوَةٌ حسنةٌ في تقديم رواية الصحابى ومن بعده على رأيه‏.‏

وقد روى ابن عباس حديثَ برِيرة، وأن بيعَ الأمة ليس بطلاقها، وأفتى بخلافه، فأخذ الناس بروايته، وتركوا رأيَه، وهذا هو الصوابُ، فإن الرواية معصومةُ عن معصوم، والرأى بخلافها، كيف وأصرحُ الروايتين عنه موافقتُه لما رواه من عدم الوقوع على أن في هذا فِقهاً دقيقاً إنما يَعرِفُه من له غور على أقوال الصحابة ومذاهبهم، وفهمِهم عن اللَّهِ ورسوله، واحتياطِهم للأمة، ولعلك تراه قريباً عند الكلامِ على حُكمه صلى الله عليه وسلم في إيقاع الطلاق الثلاث جملة‏.‏

وأما قوله في حديث ابن وهب عن ابن أبى ذئب في آخره‏:‏ وهى واحدة، فلعمرُ الله لو كانت هذه اللفظة من كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم ما قدَّمنا عليها شيئاً، ولصِرنا إليها بأوَّلِ وهلة، ولكن لا ندرى أقالها ابن وهب من عنده، أم ابن أبى ذئب، أم نافع، فلا يجوزُ أن يُضَافَ إلى رسولِ الله صلى الله عليه وسلم ما لا يُتيقّنُ أنه من كلامه، ويشهد به عليه، وترتب عليه الأحكامُ، ويقال‏:‏ هذا من عند الله بِالوهم والاحتمال، والظاهر أنها من قولِ مَنْ دون ابن عمر رضى الله عنه، ومراده بها أن ابن عمر إنما طلَّقها واحدة، ولم يكن ذلك منه ثلاثاً ؛ أى طلق ابن عمر رضى الله عنه امرأته واحدة على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكره‏.‏

وأما حديث ابن جريج عن عطاء عن نافع، أن تطليقة عبد الله حُسِبَتْ عليه، فهذا غايتُه أن يكون من كلام نافع، ولا يعرف من الذي حسبها، أهو عبد الله نفسه، أو أبوه عمر، أو رسول الله صلى الله عليه وسلم‏؟‏ ولا يجوز أن يشهد على رسول الله صلى الله عليه وسلم بالوهم والحسبان، وكيف يعارض صريح قوله‏:‏ ولم يرها شيئاً بهذا المجمل‏؟‏ واللَّه يشهد وكفى باللَّه شهيداً أنا لو تيقنا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم هو الذي حسبها عليه لم نتعد ذلك، ولم نذهب إلى سواه‏.‏

وأما حديث أنس‏:‏ ‏(‏مَنْ طَلَّقَ في بِدْعَةٍ أَلْزَمْنَاه بِدْعَتَهُ‏)‏، فحديث باطل على رسول الله صلى الله عليه وسلم، ونحن نشهد باللَّهِ أنه حديث باطل عليه، ولم يروه أحدُ من الثقات من أصحاب حماد بن زيد، وإنما هو من حديث إسماعيل ابن أمية الذارع الكذاب الذي يذرَع ويفصل، ثم الراوى له عنه عبد الباقى بن قانع، وقد ضعفه البرقانىُّ وغيرُه، وكان قد اختُلِطَ في آخر عمره، وقال الدارقطنى‏:‏ يخطىء كثيراً، ومثلُ هذا إذا تفرد بحديث لم يكن حديثُه حجةً‏.‏

وأما إفتاء عثمانَ بن عفان، وزيدِ بن ثابت رضى الله عنهما بالوقوع، فلو صحَّ ذلك ولا يصِحُّ أبداً، فإن أثر عثمان، فيه كذَّاب عن مجهول لا يعرف عينه ولا حاله، فإنه من رواية ابن سمعان، عن رجل، وأثر زيد‏:‏ فيه مجهول عن مجهول‏:‏ قيس بن سعد، عن رجل سماه عن زيد، فياللَّهِ العجب، أين هاتانِ الروايتان مِن رواية عبد الوهَّاب بن عبد المجيد الثقفى، عن عُبيد الله حافظ الأمة، عن نافع، عن ابنِ عمر أنه قال‏:‏ لا يُعْتَدُّ بهَا‏.‏ فلو كان هذا الأثرُ من قبلكم، لصُلتم به وجُلتم‏.‏

وأما قولكم‏:‏ إن تحريمه لا يمنع ترتُّب أثره عليه، كالظهار، فيقال أولاً‏:‏ هذا قياسُ يدفعه ما ذكرناه من النص، وسائر تلك الأدلة التي هي أرجح منه، ثم يقال ثانياً‏:‏ هذا معارَض بمثله سواء معارضة القلب بأن يقال‏:‏ تحريمُه يمنع ترتب أثره عليه كالنكاح، ويقال ثالثاً‏:‏ ليس للظهار جهتانِ‏:‏ جهة حل وجهة حرمة، بل كُلُّه حرام فإنه منكر من القول وزور، فلا يُمْكِنُ أن ينقسِمَ إلى حلال جائز، وحرام باطل، بل هو بمنزلة القذف مِن الأجنبى والردة، فإذا وجد لم يُوجد إلا مع مفسدته، فلا يتُصوَّر أن يقال‏:‏ منه حلال صحيح، وحرام باطل، بخلاف النكاح والطلاق والبيع فالظهار نظيرُ الأفعال المحرمة التي إذا وقعت، قارنتها مفاسدُها فترتبت عليها أحكامُها، وإلحاقُ الطلاق بالنكاح، والبيع والإجارة والعقود المنقسمة إلى حلالٍ وحرامٍ، وصحيحٍ وباطلٍ، أولى‏.‏

وأما قولكم‏:‏ إن النكاح عقدٌ يُملك به البُضع، والطلاقُ عقدٌ يخرج به، فنعم‏.‏ مِن أين لكم برهان من اللَّهِ ورسولِه بالفرق بين العقدين في اعتبار حُكم أحدهما، والإلزام به وتنفيذه، وإلغاء الآخر وإبطاله‏؟‏

وأما زوالُ ملكه عن العين بالإتلاف المحرَّم، فذلك ملك قَد زال حساً، ولم يبق له محل‏.‏ وأما زوالُه بالإقرار الكاذب، فأبعد وأبعد، فإنَّا صدقناه ظاهراً في إقراره وألزمنا مُلْكَه بالإقرار المصدَّق فيه وإن كان كاذباً‏.‏

وأما زوال الإيمان بالكلامِ الذي هو كفر، فقد تقدم جوابُه، وأنه ليس في الكفر حلال وحرام‏.‏

وأما طلاقُ الهازِلِ، فإنما وقع، لأنه صادف محلاً، وهو طهر لم يُجامع فيه فنفذ وكونُه هزل به إرادة منه أو لا يترتب أثرُه عليه، وذلك ليس إليه، بل إلى الشارع، فهو قد أتى بالسبب التام، وأراد ألا يكونَ سببه، فلم ينفعْه ذلك، بخلاف من طلَّق في غير زمن الطلاق، فإنه لم يأت بالسَّببِ الذي نصَبه اللَّهُ سبحانه مفضياً إلى وقوع الطلاق، وإنما أتي بسبب مِن عنده، وجعله هو مفضياً إلى حكمه، وذلك ليس إليه‏.‏

وأما قولُكم‏:‏ إن النكاح نِعمة، فلا يكون سببُه إلا طاعةً بخلاف الطلاق، فإنه من باب إزالة النعم، فيجوزُ أن يكونَ سبَبَهُ معصيةً، فيقال‏:‏ قد يكون الطلاق من أكبر النعم التي يفك بها المطلق الغُل من عنقه، والقيد من رِجله، فليس كُلُّ طلاقٍ نِقمة، بل مِن تمام نعمة اللَّهِ على عباده أن مكَّنهم مِن المفارقة بالطلاق إذا أراد أحدُهم استبدالَ زوج مكانَ زوج، والتخلُّصَ ممن لا يُحبها ولا يُلائمها، فلم يُر للمتحابَّيْنِ مثلُ النكاح، ولا للمتباغضينِ مثلُ الطلاق، ثم كيف يكون نِقمةُ واللَّهُ تعالى يقول‏:‏‏{‏لاَ جُنَاحَ عَلَيْكُم إنْ طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 236‏]‏، ويقول‏:‏ ‏{‏يَأَيُّها النَّبىُّ إذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلُّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ‏}‏ ‏[‏الطلاق‏:‏ 1‏]‏‏؟‏‏.‏

وأما قولُكم‏:‏ إن الفروجَ يُحتاط لها، فنعم، وهكذا قلنا سواء، فإنا احتطنا، وأبقينا الزوجينِ على يقينِ النكاح حتى يأتى ما يُزيلُه بيقين فإذا أخطأنا، فخطؤُنا في جهة واحدة، وإن أصبنا، فصوابُنا في جهتين، جهةِ الزوج الأولِ، وجهةِ الثانى، وأنتم ترتكبُون أمرينِ‏:‏ تحريمَ الفرج على من كان حلالاً له بيقين، وإحلالَه لِغيره‏.‏ فإن كان خطأ، فهو خطأ مِن جهتين، فتبيَّن أنَّا أولى بالاحتياط منكم، وقد قال الإمامُ أحمد في رواية أبى طالب‏:‏ في طلاق السكران نظير هذا الاحتياط سواء، فقال‏:‏ الذي لا يأمُرُ بالطلاق‏:‏ إنما أتى خصلةً واحدةً، والذي يأمر بالطلاق أتى خصلتينِ حرَّمها عليه، وأحلَّها لِغيره، فهذا خيرٌ مِن هذا‏.‏

وأما قولُكم‏:‏ إن النِّكاحَ يدخل فيه بالعزيمة والاحتياط، ويُخرج منه بأدنى شىء قلنا‏:‏ ولكن لا يُخرج منه إلا بما نصبَه الله سبباً يُخرج به منه، وأذن فيه‏:‏ وأما ما ينصِبُه المؤمِنُ عنده، ويجعله هو سبباً للخروج منه، فكلاَّ‏.‏ فهذا منتهى أقدام الطائفتين في هذه المسألة الضيقةِ المعتركِ، الوعرةِ المسلك التي يتجاذب أَعِنَّةَ أدلتها الفرسانُ، وتتضاءلُ لدى صولتها شجاعةُ الشجعانِ، وإنما نبهنا على مأخذِها وأدلَّتِها ليعلم الغِرُّ الذي بِضاعتُه مِن العلم مزجاة، أن هناك شيئاً آخر وراءَ ما عنده، وأنه إذا كان ممن قَصُرَ في العلم باعُه، فضعف خلف الدليل، وتقاصَرَ عن جنى ثماره ذِراعُه، فَلْيَعْذُرْ مَنْ شمَّرَ عن ساق عَزْمِه، وحامَ حولَ آثار رسول الله صلى الله عليه وسلم وتحكيمِها، والتحاكم إليها بكُلِّ همة، وإن كانَ غيرَ عاذر لمنازعه في قصورِه ورغبته عن هذا الشأن البعيد، فليعذِرْ مُنازِعَه في رغبته عما ارتضاه لنفسه مِن محض التقليد، ولينظر مع نفسه أيُّهما هو المعذورُ، وأىُّ السعيين أحقُّ بأن يكون هو السعى المشكور، واللَّهُ المستعان وعليه التُّكلان، وهو الموفِّقُ للصواب، الفاتِحُ لمن أمَّ بابَه طالباً لمرضاته من الخير كلَّ باب‏.‏

فصل‏:‏ في حكمه صلى الله عليه وسلم فيمن طلق ثلاثاً بكلمة واحدة

قد تقدم حديثُ محمود بن لبيد رضى الله عنه‏:‏ أن رسولَ الله صلى الله عليه وسلم أُخْبرَ عن رجل طلَّق امرأته ثلاثَ تطليقات جميعاً، فقام مُغضبَاً، ثم قال‏:‏ ‏(‏أَيُلْعَبُ بِكِتَابِ اللَّهِ وأَنَا بَيْنَ أَظْهُرِكُمْ‏؟‏‏!‏‏)‏، وإسناده على شرط مسلم، فإن ابن وهب قد رواه عن مخرمة بن بُكير بن الأشج، عن أبيه قال‏:‏ سمعت محمود بن لبيد فذكره، ومخرمة ثقة بلا شك، وقد احتج مسلم في ‏(‏صحيحه‏)‏ بحديثه عن أبيه‏.‏

والذين أعلوه قالوا‏:‏ لم يسمع منه، وإنما هو كتابٌ‏.‏ قال أبُو طالب‏:‏ سألت أحمد بن حنبل عن مخرمة بنِ بُكير‏؟‏ فقال‏:‏ هو ثقة، ولم يسمع من أبيه، إنما هو كتابُ، فنظر فيه، كُلُّ شىء يقول‏:‏ بلغنى عن سُليمان بن يسار، فهو مِن كتاب مخرمة‏.‏ وقال أبو بكر بن أبى خيثمة‏:‏ سمعتُ يحيى بنَ معين يقول‏:‏ مخرمةُ بن بُكير وقع إليه كتابُ أبيه، ولم يسمعه‏.‏ وقال في رواية عباس الدُّورى‏:‏ هو ضعيفٌ، وحديثُه عن أبيه كتاب، ولم يسمعه منه، وقال أبو داود‏:‏ لم يسمع من أبيه إلا حديثاً واحداً، حديثَ الوتر، وقال سعيد بن أبى مريم عن خاله موسى بن سلمة‏:‏ أتيتُ مخرمة فقلت‏:‏ حدثك أبُوك‏؟‏ قال‏:‏ لم أُدْرِكْ أبى، ولكن هذه كتبه‏.‏

والجوابُ عن هذا من وجهين‏:‏

أحدهما‏:‏ أن كِتابَ أبيه كان عنده محفوظاً مضبوطاً، فلا فرقَ في قيامِ الحجة بالحديثِ بينَ ما حدَّثه به، أو رآه في كتابه، بل الأخذُ عن النسخة أحوطُ إذا تيقَّن الراوى أنها نسخة الشيخ بعينها، وهذه طريقةُ الصحابة والسلف، وقد كان رسولُ الله صلى الله عليه وسلم يبعث كتبه إلى الملوك، وتقوم عليهم بها الحجة، وكتب كتبه إلى عُماله في بلاد الإسلام، فعلموا بها، واحتجوا بها، ودفع الصديق كتابَ رسول الله صلى الله عليه وسلم في الزكاة إلى أنسِ بن مالك، فحمله، وعَمِلَتْ به الأمةُ، وكذلك كتابُه إلى عمرو بن حزم في الصدقات الذي كان عند آل عمرو، ولم يزل السلفُ والخلفُ يحتجُّون بكتابِ بعضهم إلى بعض، ويقول المكتوبُ إليه‏:‏ كتب إلى فلان أن فلاناً أخبره، ولو بطل الاحتجاجُ بالكُتُب، لم يبق بأيدى الأمة إلا أيسرُ اليسير، فإن الاعتماد إنما هو على النَّسْخِ لا على الحفظ، والحفظ خَوَّان، والنسخة لا تخون، ولا يحفظ في زمن من الأزمان المتقدِّمة أن أحداً مِن أهل العِلْمِ رَدَّ الاحتجاج بالكتاب، وقال‏:‏ لم يُشافهنى به الكاتبُ، فلا أقبلُه، بل كُلُّهم مجمعون على قبول الكتابِ والعمل به إذا صح عنده أنه كتابُه‏.‏

الجواب الثانى‏:‏ أن قول من قال‏:‏ لم يسمع من أبيه، مُعارَض بقول من قال‏:‏ سمع منه، ومعه زيادةُ علم وإثبات، قال عبد الرحمن بن أبى حاتم‏:‏ سئل أبى عن مخرمة بن بُكير‏؟‏ فقال‏:‏ صالحُ الحديث‏.‏ قال‏:‏ وقال ابنُ أبى أويس‏:‏ وجدت في ظهر كتاب مالك‏:‏ سألت مخرمة عما يُحدِّث به عن أبيه، سمعها مِن أبيه‏؟‏ فحلف لى‏:‏ ورَبِّ هذه البَنِيَّةِ يعنى المسجدَ سمعتُ من أبى‏.‏ وقال علىُ بنُ المدينى‏:‏ سمعتُ معن بن عيسى يقول‏:‏ مخرمةُ سمع من أبيه، وعرض عليه ربيعة أشياء مِن رأى سليمان ابن يسار، وقال على‏:‏ ولا أظن مخرمَة سمع مِن أبيه كتابَ سليمان، لعلَّه سمع منه الشىءَ اليسير، ولم أجد أحداً بالمدينة يخبرنى عن مخرمة بن بكير أنه كان يقول في شىء من حديثه‏:‏ سمعت أبى، ومخرمة ثقة‏.‏ انتهى‏.‏ ويكفى أن مالكاً أخذ كِتابه، فنظر فيه، واحتجَّ به في ‏(‏موطئه‏)‏، وكان يقول‏:‏ حدثنى مخرمة، وكان رجلاً صالحاً‏.‏ وقال أبو حاتم‏:‏ سألت إسماعيل بن أبى أويس، قلت‏:‏ هذا الذي يقول مالك بن أنس‏:‏ حدثنى الثقة، من هو‏؟‏ قال‏:‏ مخرمة بن بكير‏.‏ وقيل لأحمد بن صالح المصرى‏:‏ كان مخرمة من ثقات الرجال‏؟‏ قال‏:‏ نعم، وقال ابنُ عدى عن ابن وهب ومعن ابن عيسى عن مخرمة‏:‏ أحاديثُ حِسانٌ مستقيمة وأرجو أنه لا بأس به‏.‏

وفى ‏(‏صحيح مسلم‏)‏ قولُ ابنِ عمر للمطلِّق ثلاثاً‏:‏ ‏(‏حَرُمَتْ عَلَيْكَ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَكَ، وعَصَيْتَ رَبَّكَ فِيمَا أَمَرَكَ بِهِ مِنْ طَلاقِ امْرَأَتِكَ‏)‏‏.‏ وهذا تفسيرٌ منه للطلاق المأمور به، وتفسيرُ الصحابى حُجَّةٌ، وقال الحاكم‏:‏ هو عندنا مرفوع‏.‏

ومن تأمَّل القرآن حقَّ التأمل، تبيَّن له ذلك، وعرف أن الطلاقَ المشروعَ بعدَ الدخول هو الطلاقُ الذي يملكُ به الرجعة، ولم يشرعِ الله سبحانه إيقاعَ الثلاث جملةٌ واحدة البتة؛ قال تعالى‏:‏ ‏{‏الطَّلاَقُ مَرَّتَانِ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 229‏]‏ ، ولا تعقِلُ العرب في لغتها وقوعَ المرتين إلا متعاقبتين، كما قال النبى صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏مَنْ سَبَّحَ اللَّهَ دُبَرَ كُلِّ صَلاَةٍ ثلاثاً وَثَلاَثِينَ، وحمِده ثلاثاً وثلاثين، وكَبَّرهُ أَربْعَاً وثلاَثِينَ‏)‏، ونظائره فإنه لا يُعقل من ذلك إلا تسبيح وتكبيرٌ وتحميدُ متوالٍ يتلو بعضهُ بعضاً، فلو قال‏:‏ سبحان الله ثلاثاً وثلاثين، والحمد للَّه ثلاثاً وثلاثين، واللَّه أكبر أربعاً وثلاثين بهذا اللفظ، لكانَ ثلاثَ مرات فقط، وأصرحُ من هذا قوله سبحانه‏:‏ ‏{‏والَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ ولم يَكُنْ لَهُمْ شُهَدَاءُ إلاَّ أَنْفُسُهُمْ فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهَاداتٍ باللَّهِ‏}‏ ‏[‏النور‏:‏ 6‏]‏ فلو قال‏:‏ أشهدُ باللَّهِ أربع شهادات إنى لمن الصادقين، كانت مرَّة، وكذلك قولُه‏:‏ ‏{‏وَيَدْرُؤا عَنْهَا العَذَابَ أَنْ تَشْهَدَ أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمنَ الكَاذِبِينَ‏}‏ ‏[‏النور‏:‏ 8‏]‏ فلو قالت‏:‏ أشهدُ باللَّهِ أربَع شهادات إنه لمن الكاذبين، كانت واحدة، وأصرحُ مِن ذلك قولُه تعالى‏:‏ ‏{‏سَنُعَذِّبُهم مَرَّتَيْنِ‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 101‏]‏ فهذا مرة بعد مرة، ولا ينتقض هذا بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏نُؤْتِها أَجْرَها مَرَّتَيْنِ‏}‏ ‏[‏الأحزاب‏:‏ 31‏]‏، وقولهِ صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏ثَلاَثَةٌ يُؤْتَونَ أَجْرَهُم مَرَّتَيْنِ‏)‏‏.‏ فإن المرتين هنا هما الضِّعفان، وهما المِثلان، وهما مِثلان في القدر، كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏يُضَاعَفْ لَهَا العَذَاب ضِعفَين‏}‏ ‏[‏الأحزاب‏:‏ 30‏]‏‏.‏ أي‏:‏ ضعفي ما يعذب به غيرها ، وضعفي ما كانت تؤتي ، ومن هذا قول أنس‏:‏ انشق القمر على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم مرتين ، أي‏:‏ شقتين وفرقتين ، كما قال في اللفظ الآخر‏:‏ انشق القمر فلقتين‏.‏ وهذا أمر معلوم قطعاً أنه إنما انشق القمر مرة واحدة ، والفرق معلوم بين ما يكون مرتين في الزمان ، وبين ما يكون مثلين وجزأين ومرتين في المضاعفة‏.‏ فالثاني‏:‏ يتصور فيه اجتماع المرتين في آن واحد ، والأول لا يتصور فيه ذلك‏.‏

ومما يدل على أن الله لم يشرع الثلاث جملة ، أنه قال تعالى‏:‏ ‏{‏وَالْمُطَلّقَاتُ يَتَرَبّصْنَ بِأَنْفُسِهِنّ ثَلاَثَةَ قُرُوَءٍ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 228‏]‏ إلى أن قال‏:‏ ‏{‏وَبُعُولَتُهُنّ أَحَقّ بِرَدّهِنّ فِي ذَلِكَ إِنْ أَرَادُوَاْ إِصْلاَحاً‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 228‏]‏ ، فهذا يدل على أن كل طلاق بعد الدخول ، فالمطلق أحق فيه بالرجعة سوى الثالثة المذكورة بعد هذا ، وكذلك قوله تعالى‏:‏ ‏{‏يَأَيُّها النَّبىُّ إذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلُّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ‏}‏ ‏[‏الطلاق‏:‏1‏]‏ إلى قوله‏:‏ ‏{‏فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنّ فَأَمْسِكُوهُنّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فَارِقُوهُنّ بِمَعْرُوفٍ‏}‏ ‏[‏الطلاق‏:‏ 2‏]‏، فهذا هو الطلاق المشروع ، وقد ذكر الله سبحانه وتعالى أقسام الطلاق كلها في القرآن ، وذكر أحكامها ، فذكر الطلاق قبل الدخول ، وأنه لا عدة فيه ، وذكر الطلقة الثالثة ، وأنها تحرم الزوجة على المطلق حتى تنكح زوجاً غيره ، وذكر طلاق الفداء الذي هو الخلع ، وسماه فدية ، ولم يحسبه من الثلاث كما تقدم ، وذكر الطلاق الرجعي الذي المُطلق أحق فيه بالرجعة ، وهو ما عدا هذه الأقسام الثلاثة‏.‏

وبهذا احتج أحمد والشافعي وغيرهما على أنه ليس في الشرع طلقة واحدة بعد الدخول بغير عوض بائنة ، وأنه إذا قال لها‏:‏ أنت طالق طلقة بائنة كانت رجعية ، ويلغو وصفُها بالبينونة ، وأنه لا ملك إبانتها إلا بعوض‏.‏ وأما أبو حنيفة ، فقال‏:‏ تبين بذلك ، لأن الرجعة حق له ، وقد أسقطها ، والجمهور يقولون‏:‏ وإن كانت الرجعة حقاً لكن نفقة الرجعية وكسوتها حق عليه ، لا يملك إسقاطه إلا باختيارها ، وبذلها العوض ، أو سؤالها أن تفتدي نفسها منه بغير عوض في أحد القولين ، وهو جواز الخلع بغير عوض‏.‏

وأما إسقاط حقها من الكسوة والنفقة بغير سؤالها ولا بذلها العوض ، فخلاف النص والقياس‏.‏

قالوا‏:‏ وأيضاً فالله سبحانه شرع الطلاق على أكمل الوجوه وأنفعها للرجل والمرأة ، فإنهم كانوا يطلقون في الجاهلية بغير عدد ، فيطلق أحدهم المرأة كلما شاء ، ويراجعها ، وهذا وإن كان فيه رفق بالرجل ، ففيه إضرار بالمرأة ، فنسخ سبحانه ذلك بثلاث ، وقصر الزوج عليها ، وجعله أحق بالرجعة ما لم تنقض عدتها ، فإذا استوفى العدد الذي ملكه ، حرمت عليه ، فكان في هذا رفق بالرجل إذ لم تحرم عليه بأول طلقة ، وبالمرأة حيث لم يجعل إليه أكثر من ثلاث ، فهذا شرعه وحكمته ، وحدوده التي حدها لعباده ، فلو حرمت عليه بأول طلقة يطلقها كان خلاف شرعه وحكمته ، وهو لم يملك إيقاع الثلاث جملة ، بل إنما ملك واحدة ، فالزائد عليها غير مأذون له فيه‏.‏

قالوا‏:‏ وهذا كما أنه لم يملك إبانتها بطلقة واحدة ، إذ هو خلاف ما شرعه ، لم يملك إبانتها بثلاث مجموعة ، إذ هو خلاف شرعه‏.‏

ونكتة المسألة أن الله لم يجعل للأمة طلاقاً بائناً قط إلا في موضعين‏.‏ أحدهما‏:‏ طلاق غير المدخول بها‏.‏ والثاني‏:‏ الطلقة الثالثة ، وما عداه من الطلاق ، فقد جعل للزوج فيه الرجعة ، هذا مقتضى الكتاب كما تقدم تقريره ، وهذا قول الجمهور ، منهم‏:‏ الإمام أحمد ، والشافعي ، وأهل الظاهر ، قالوا‏:‏ لا يملك إبانتها بدون الثلاث إلا في الخلع‏.‏

ولأصحاب مالك ثلاثة أقوال فيما إذا قال‏:‏ أنت طالق طلقة لا رجعة فيها‏.‏ أحدها‏:‏ أنها ثلاث ، قاله ابن الماجشون لأنه قطع حقه من الرجعة ، وهي لا تنقطع إلا بثلاث ، فجاءت الثلاث ضرورة‏.‏ الثاني‏:‏ أنها واحدة بائنة ، كما قال ، وهذا قول ابن القاسم ، لأنه يملك إبانتها بطلقة بعوض ، فملكها بدونه ، والخلع عنده طلاق‏.‏ الثالث‏:‏ أنها واحدة رجعية ، وهذا قول ابن وهب ، وهو الذي يقتضيه الكتاب والسنة والقياس ، وعليه الأكثرون‏.‏

فصل

وأما المسألة الثانية ، وهي وقوع الثلاث بكلمة واحدة ، فاختلف الناس فيها على أربعة مذاهب‏.‏

أحدها‏:‏ أنها تقع ، وهذا قول الأئمة الأربعة ، وجمهور التابعين ، وكثير من الصحابة رضي الله عنهم‏.‏

الثاني‏:‏ أنها لا تقع ، بل ترد لأنها بدعة محرمة ، والبدعة مردودة لقوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد‏)‏ وهذا المذهب حكاه أبو محمد ابن حزم ، وحكي للإمام أحمد فأنكره ، وقال‏:‏ هو قول الرافضة‏.‏

الثالث‏:‏ أنه يقع به واحدة رجعية ، وهذا ثابت عن ابن عباس ، ذكره أبو داود عنه‏.‏ قال الإمام أحمد‏:‏ وهذا مذهب ابن إسحاق ، يقول‏:‏ خالف السنة فيرد إلى السنة ، انتهى ، وهو قول طاووس ، وعكرمة ، وهو اختيار شيخ الاسلام ابن تيمية‏.‏

الرابع‏:‏ أنه يفرق بين المدخول بها وغيرها ، فتقع الثلاث بالمدخول بها ، ويقع بغيرها واحدة ، وهذا قول جماعة من أصحاب ابن عباس ، وهو مذهب إسحاق بن راهويه فيما حكاه عنه محمد بن نصر المروزي في كتاب ‏(‏اختلاف العلماء‏)‏‏.‏

فأما من لم يوقعها جملة ، فاحتجوا بأنه طلاق بدعة محرم ، والبدعة مردودة ، وقد اعترف أبو محمد ابن حزم بأنها لو كانت بدعة محرمة ، لوجب أن ترد وتبطل ، ولكنه اختار مذهب الشافعي أن جمع الثلاث جائز غير محرم ، وستأتي حجة هذا القول‏.‏

وأما من جعلها واحدة ، فاحتج بالنص والقياس ، فأما النص ، فما رواه معمر ، وابن جريج عن ابن طاووس ، عن أبيه ، أن أبا الصهباء قال لابن عباس‏:‏ ألم تعلم أن الثلاث كانت تجعل واحدة على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وأبي بكر ، وصدراً من إمارة عمر‏؟‏ قال نعم‏.‏ رواه مسلم في ‏(‏صحيحة‏)‏‏.‏

وفي لفظ‏:‏ ألم تعلم أن الثلاث كانت على عهد رسول صلى الله عليه وسلم ، وأبي بكر ، وصدراً من خلافة عمر ترد إلى واحدة‏؟‏ قال‏:‏ نعم‏.‏

وقال أبو داود‏:‏ حدثنا أحمد بن صالح ، حدثنا عبد الرازق ، أن ابن جريج قال‏:‏ أخبرني بعض بني أبي رافع مولى رسول صلى الله عليه وسلم ، عن عكرمة ، عن ابن عباس ، قال‏:‏ طلق عبد يزيد - أبو ركانة وإخوته - أم ركانة ، ونكح امرأة من مزينة ، فجاءت النبي صلى الله عليه وسلم فقالت‏:‏ ما يغني عني إلا كما تغني هذه الشعرة ، لشعرة أخذتها من رأسها ، ففرق بيني وبينه ، فأخذت النبي صلى الله عليه وسلم حمية ، فدعا بركانة وإخوته ، ثم قال لجلسائه‏:‏ ‏(‏ألا ترون أن فلاناً يشبه منه كذا وكذا من عبد يزيد ، وفلاناً منه كذا وكذا‏)‏‏؟‏ قالوا‏:‏ نعم ، قال النبي صلى الله عليه وسلم لعبد يزيد‏:‏ ‏(‏طلقها‏)‏ ، ففعل ثم قال ‏(‏راجع امرأتك أم ركانة وإخوته‏)‏ فقال‏:‏ إني طلقتها ثلاثاً يا رسول الله ، قال‏:‏ ‏(‏قد علمت راجعها‏)‏ وتلا‏:‏ ‏{‏يَأَيُّها النَّبىُّ إذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلُّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ‏}‏ ‏[‏الطلاق‏:‏ 1‏]‏‏.‏

وقال الإمام أحمد‏:‏ حدثنا سعد بن إبراهيم ، قال‏:‏ حدثنا أبي ، عن ابن عباس ، عن عبد الله بن عباس ، قال‏:‏ طلق ركانة بن عبد يزيد أخو بن المطلب امرأته ثلاثاً في مجلس واحد ، فحزن عليها حزناً شديداً ، قال‏:‏ فسأله رسول الله صلى الله عليه وسلم ‏(‏كيف طلقتها‏)‏ ، فقال‏:‏ طلقتها ثلاثاً ، فقال‏:‏ ‏(‏في مجلس واحد‏؟‏‏)‏ قال‏:‏ نعم ، قال‏:‏ ‏(‏فإنما تلك واحدة فارجعها إن شئت‏)‏ قال‏:‏ فراجعها‏.‏ فكان ابن عباس يرى أنما الطلاق عند كل طهر‏.‏

قالوا‏:‏ وأما القياس ، فقد تقدم أن جمع الثلاث محرم وبدعة ، والبدعة مردودة ، لأنها ليست على أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قالوا‏:‏ وسائر ما تقدم في بيان التحريم يدل على عدم وقوعها جملة‏.‏ قالوا‏:‏ ولو لم يكن معنا إلا قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ بِالله‏}‏ ‏[‏النور‏:‏ 6‏]‏ ، وقوله‏:‏ ‏{‏وَيَدْرَؤُاْ عَنْهَا الْعَذَابَ أَن تَشْهَدَ أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ بِالله‏}‏ ‏[‏النور‏:‏ 8‏]‏ ، قالوا‏:‏ وكذلك كل ما يعتبر له التكرار من حلف أو إقرار أو شهادة ، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏تحلفون خمسين يميناً ، وتستحقون دم صاحبكم‏)‏ فلو قالوا‏:‏ نحلف بالله يميناً‏:‏ إن فلاناً قتله ، كانت يميناً واحدة‏.‏ قالوا‏:‏ وكذلك الإقرار بالزنى ، كما في الحديث‏:‏ إن بعض الصحابة قال لماعز‏:‏ إن أقررت أربعاً ، رجمك رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فهذا لا يعقل أن تكون الأربع فيه مجموعة بفم واحد‏.‏

وأما الذين فرقوا بين المدخول بها وغيرها ، فلهم حجتان‏.‏

إحداهما‏:‏ ما رواه أبو داود بإسناد صحيح ، عن طاووس ، أن رجلاً يقال له‏:‏ أبو الصهباء كان كثير السؤال لابن عباس ، قال له‏:‏ أما علمت أن الرجل كان إذا طلق امرأته ثلاثاً قبل أن يدخل بها جعلوها واحدة على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وصدراً من إمارة عمر‏؟‏ فلما رأى عمر الناس قد تتايعوا فيها‏:‏ قال‏:‏ أجيزوهن عليهم‏.‏

الحجة الثانية‏:‏ أنها تبين بقوله‏:‏ أنت طالق ، فيصادقها ذكر الثلاث وهي بائن ، فتلغو ورأى هؤلاء أن إلزام عمر بالثلاث هو في حق المدخول بها ، وحديث أبي الصهباء في غير المدخول بها‏.‏ قالوا‏:‏ ففي هذا التفريق موافقة المنقول من الجانبين ، وموافقة القياس ، وقال بكل قول من هذه الأقوال جماعة من أهل الفتوى ، كما حكاه أبو محمد ابن حزم وغيره ، ولكن عدم الوقوع جملة هو مذهب الإمامية ، وحكوه عن جماعة من أهل البيت‏.‏

قال الموقعون للثلاث‏:‏ الكلام معكم في مقامين‏.‏

أحدهما‏:‏ تحريم جمع الثلاث‏.‏ والثاني‏:‏ وقوعها جملة ولو كانت محرمة ، ونحن نتكلم معكم في المقامين‏.‏ فأما الأول‏:‏

فقد قال الشافعي ، وأبو ثور ، وأحمد بن حنبل في إحدى الروايات عنه ، وجماعة من أهل الظاهر‏:‏ إن جمع الثلاث سنة ، واحتجوا عليه بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏فَإِنْ طَلّقَهَا فَلاَ تَحِلّ لَهُ مِن بَعْدُ حَتّىَ تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 230‏]‏ ، ولم يفرق بين أن تكون الثلاثُ مجموعةً، أو مفرَّقة، ولا يجوز أن نفرِّق بينَ ما جمع الله بينه، كما لا نجمع بين ما فرَّق الله بينه‏.‏ وقال تعالى‏:‏ ‏{‏وإِنْ طَلَّقْتُموُهُنَّ مِنْ قَبْلِ أنْ تَمسُّوهُنَّ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 237‏]‏، ولم يفرق وقال‏:‏ ‏{‏لا جُناَحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُم النِّساءَ مَا لَم تَمَسُّوهُنَّ‏}‏ الآية، ولم يفرق وقال‏:‏ ‏{‏وَللْمُطَلَّقَاتِ متَاعٌ بِالمَعْرُوفِ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 241‏]‏، وقال‏:‏ ‏{‏يَأَيّهَا الّذِينَ آمَنُوَاْ إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمّ طَلّقْتُمُوهُنّ مِن قَبْلِ أَن تَمَسُّوهُنّ‏}‏ ‏[‏الأحزاب‏:‏ 49‏]‏، ولم يفرق‏.‏ قالوا‏:‏ وفي ‏(‏الصحيحين‏)‏ ، بطلاقها‏.‏ قالوا‏:‏ فلو كان جمع الثلاث معصية لما أقر عليه رسول صلى الله عليه وسلم ، ولا يخلو طلاقها أن يكون قد وقع وهي امرأته ، أو حين حرمت عليه باللعان‏.‏

فإن كان الأول ، فالحجة منه ظاهرة ، وإن كان الثاني ، فلا شك أنه طلقها ، وهو يظنها امرأته ، فلو كان حراماً ، لبينها له رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وإن كانت قد حرمت عليه‏.‏ قالوا‏:‏ وفي صحيح البخاري ، من حديث القاسم بن محمد ، عن عائشة أم المؤمنين ، أن رجلاً طلق امرأته ثلاثاً ، فتزوجت ، فطلقت، فسئل رسول صلى الله عليه وسلم، أتحل للأول‏؟‏ قال‏:‏ ‏(‏لا حتى يذوق عسيلتها كما ذاق الأول‏)‏ ، فلم ينكر صلى الله عليه وسلم ذلك ، وهذا يدل على إباحة جمع الثلاث ، وعلى وقوعها ، إذ لو لم تقع ، لم يوقف رجوعها إلى الأول على ذوق الثاني عسيلتها‏.‏

قالوا‏:‏ وفي ‏(‏الصحيحين‏)‏ من حديث أبي سلمة بن عبد الرحمن ، أن فاطمة بنت قيس أخبرته أن زوجها أبا حفص بن المغيرة المخزومي طلقها ثلاثاً ، ثم انطلق إلى اليمن ، فانطلق خالد بن الوليد في نفر ، فأتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم في بيت ميمونة أم المؤمنين ، فقالوا‏:‏ إن أبا حفص طلق امرأته ثلاثاً ، فهل لها من نفقة‏؟‏ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏ليس لها نفقة وعليها العدة‏)‏‏.‏

وفي ‏(‏صحيح مسلم‏)‏ في هذه القصة‏:‏ قالت فاطمة ، فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال‏:‏ ‏(‏كم طلّقك‏)‏‏؟‏ قلت‏:‏ ثلاثاً ، فقال‏:‏ ‏(‏صدوق ليس لك نفقة‏)‏‏.‏

وفي لفظ له‏:‏ قالت‏:‏ يا رسول الله ، إن زوجي طلقني ثلاثاً ، وإني أخاف أن يقتحم علي‏.‏

وفي لفظ له‏:‏ عنها ، أن النبي صلى الله عليه وسلم في المطلقة ثلاثاً‏:‏ ‏(‏ليس لها سكنى ولا نفقة‏)‏‏.‏

قالوا‏:‏ وقد روى عبد الرازق في ‏(‏مصنفه‏)‏ عن يحيى بن العلاء ، عن عبيد الله بن الوليد الوصافي ، عن إبراهيم بن عبيد الله بن عبادة بن الصامت ، عن داود بن عبادة بن الصامت ، قال‏:‏ طلق جدي امرأة له ألف تطليقة ، فانطلق أبي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فذكر له ذلك ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏ما اتقى الله جدك، أما ثلاث فله ، وأما تسعمائة وسبعة وتسعون فعدوان وظلم ، إن شاء الله عذبه، وإن شاء غفر له‏)‏‏.‏

ورواه بعضهم عن صدقة بن أبي عمران ، عن إبراهيم بن عبيد الله بن عبادة بن الصامت ، عن أبيه ، عن جده ، قال طلق بعض آبائي امرأته ، فانطلق بنوه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقالوا‏:‏ يا رسول الله ، إن أبانا طلق أمنَا إلفاً، فهل له من مخرج‏؟‏ فقال‏:‏ ‏(‏إن أباكم لم يتق الله ، فيجعل له مخرجاً ، بانت منه بثلاث على غير السنة ، وتسعمائة وسبعة وتسعون إثم في عنقة‏)‏‏.‏

قالوا‏:‏ وروى محمد بن شاذان ، عن معلي بن منصور ، عن شعيب ابن زريق ، أن عطاء الخراساني حدثهم عن الحسن ، قال‏:‏ حدثنا عبد الله بن عمر رضي الله عنهما ، أنه طلق امرأته وهي حائض ، ثم أراد أن يتبعها بطلقتين أخريين عند القرءين الباقيين ، فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال‏:‏ ‏(‏يا ابن عمر، ما هكذا أمرك الله ، أخطأت السنة‏)‏‏.‏‏.‏‏.‏ وذكر الحديث ، وفيه ، فقلت‏:‏ يا رسول الله ، لو كنت طلقتها ثلاثاً ، أكان لي أن أجمعها‏؟‏ قال‏:‏ ‏(‏لا، كانت تبين وتكون معصية‏)‏‏.‏

قالوا‏:‏ وقد روى أبو داود في ‏(‏سننه‏)‏‏:‏ عن نافع بن عجير بن عبد يزيد بن ركانة ، أن ركانة بن عبد يزيد طلق امرأته سهيمة البتة ، فأخبر النبي صلى الله عليه وسلم بذلك ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏والله ما أردت إلا واحدة‏)‏‏؟‏ فقال ركانة‏:‏ والله ما أردت إلا واحدة ، فردها إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فطلقها الثانية في زمن عمر ، والثالثة في زمن عثمان‏.‏

وفي جامع الترمذي‏:‏ عن عبد الله بن علي بن يزيد بن ركانة ، عن أبيه ، عن جده ، أنه طلق امرأته ألبته ، فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال‏:‏ ‏(‏ما أردت بها‏)‏‏؟‏ قال‏:‏ واحدة ، قال‏:‏ ‏(‏آلله‏)‏، قال‏:‏ آلله ، قال‏:‏ ‏(‏هو على ما أردت‏)‏‏.‏ قال الترمذي‏:‏ لا نعرفه إلا من هذا الوجه ، وسألت محمداً - يعني البخاري - عن هذا الحديث‏؟‏ فقال‏:‏ فيه اضطراب‏.‏

ووجه الاستدلال بالحديث ، أنه صلى الله عليه وسلم أحلفه أنه أراد بالبتة واحدة ، فدل على أنه لو أراد بها أكثر ، لوقع ما أراده ، ولو لم يفترق الحال لم يحلِّفه‏.‏

قالوا‏:‏ وهذا أصح من حديث ابن جريج عن بعض بني أبي رافع عن عكرمة ، عن ابن عباس أنه طلقها ثلاثاً‏.‏ قال أبو داود‏:‏ لأنهم ولد الرجل ، وأهله أعلم به أن ركانة إنما طلقها البتة‏.‏

قالوا‏:‏ وابن جريج إنما رواه عن بعض بني أبي رافع‏.‏ فإن كان عبيد الله ، فهو ثقة معروف ، وإن كان غيره من إخوته ، فمجهول العدالة لا تقوم به حجة‏.‏

قالوا‏:‏ وأما طريق الإمام أحمد ، ففيها ابن إسحاق ، والكلام فيه معروف ، وقد حكى الخطابي ، أن الإمام أحمد كان يضعف طرق هذا الحديث كلها‏.‏

قالوا‏:‏ وأصح ما معكم حديث أبي الصهباء عن ابن العباس ، وقد قال البيهقي‏:‏ هذا الحديث أحد ما اختلف فيه البخاري ومسلم ، فأخرجه مسلم وتركه البخاري ، وأظنه تركه لمخالفته سائر الروايات عن ابن عباس ، ثم ساق الروايات عنه بوقوع الثلاث ، ثم قال‏:‏ فهذه رواية سعيد بن جبير ، وعطاء بن أبي رباح ، ومجاهد وعكرمة ، وعمرو بن دينار ، ومالك بن الحارث ، ومحمد بن إياس بن البكير ، قال‏:‏ ورويناه عن معاوية بن أبي عياش الأنصاري ، كلهم عن ابن عباس ، أنه أجاز الثلاث وأمضاهن‏.‏

وقال ابن المنذر فغير جائز أن يظن بابن عباس أنه يحفظ عن النبي صلى الله عليه وسلم شيئاً ثم يفتي بخلافه‏.‏

وقال الشافعي‏:‏ فإن كان معنى قول ابن عباس‏:‏ إن الثلاث كانت تحسب على عهد الرسول صلى الله عليه وسلم واحدة ، يعني أنه بأمر النبي صلى الله عليه وسلم ، فالذي يشبه - والله أعلم - أن يكون ابن عباس قد علم أنه كان شيئاً فنسخ‏.‏ قال البيهقي‏:‏ ورواية عكرمة عن ابن عباس فيها تأكيد لصحة هذا التأويل - يريد البيهقي - ، ما رواه أبو داود والنسائي ، من حديث عكرمة في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَالْمُطَلّقَاتُ يَتَرَبّصْنَ بِأَنْفُسِهِنّ ثَلاَثَةَ قُرُوَءٍ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 228‏]‏ الآية وذلك أن الرجل كان إذا طلق امرأته فهو أحق برجعتها ، وإن طلقها ثلاثاً ، فنسخ ذلك ، فقال‏:‏ ‏{‏الطَلاَقُ مَرَّتَان‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 229‏]‏‏.‏

قالوا‏:‏ فيحتمل أن الثلاث كانت تجعل واحدة من هذا الوقت ، بمعنى أن الزوج كان يتمكن من المراجعة بعدها ، كما يتمكن من المراجعة بعد الواحدة ، ثم نسخ ذلك‏.‏

وقال ابن سريج‏:‏ يمكن أن يكون ذلك إنما جاء في نوع خاص من الطلاق الثلاث ، وهو أن يفرق بين الألفاظ ، كأن يقول‏:‏ أنت طالق ، أنت طالق ، أنت طالق ، وكان في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وعهد أبي بكر رضي الله عنه الناس على صدقهم وسلامتهم لم يكن فيهم الخِب والخداع ، فكانوا يصدقون أنهم أرادوا به التأكيد‏.‏ ولا يُريدون به الثلاثَ، فلما رأى عمر رضى الله عنه في زمانه أموراً ظهرت، وأحوالاً تغيّرت ، منع من حمل اللفظ على التكرار، وألزمهم الثلاث‏.‏

وقالت طائفة‏:‏ معنى الحديث أنَّ الناس كانت عادتُهم على عهدِ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم إيقاعَ الواحدة، ثم يدعها حتى تنقضىَ عدتُها، ثم اعتادوا الطلاقَ الثلاثَ جملة، وتتايَعُوا فيه، ومعنى الحديث على هذا‏:‏ كان الطلاقُ الذي يُوقعه المطلق الآن ثلاثاً يُوقِعهُ على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأبى بكر واحدة، فهو إخبارٌ عن الواقع، لا عن المشروع‏.‏

وقالت طائفة‏:‏ ليس في الحديث بيانُ أن رسولَ الله صلى الله عليه وسلم هو الذي كان يجعل الثلاثَ واحدة، ولا أنه أُعلم بذلك فأَقرَّ عليه، ولا حُجة إلا فيما قاله أو فعله، أو علم به فأقرَّ عليه، ولا يُعلم صحةُ واحدةً من هذه الأمور في حديث أبى الصهباء‏.‏

قالُوا‏:‏ وإذا اختلفت علينا الأحاديثُ، نظرنا إلى ما عليه أصحابُ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم، فإنَّهم أعلمُ بسنته، فنظرنا فإذا الثابتُ عن عمر بن الخطاب الذي لا يَثْبُتُ عنه غيره ما رواه عبد الرزاق، عن سفيان الثورى، عن سلمة ابن كُهيل، حدثنا زيدُ بن وهب، أنه رُفِعَ إلى عمر بن الخطاب رجل طلق امرأته ألفاً، فقال له عمر‏:‏ أطلقتَ امرأتَك‏؟‏ فقال‏:‏ إنما كنتُ ألعب، فعالجه عُمَرُ بالدِّرَّةِ، وقال‏:‏ إنما يكفيك من ذلك ثلاث‏.‏ وروى وكيع، عن الأعمشِ، عن حبيب بن أبى ثابت، قال‏:‏ جاء رجل إلى على ابن أبى طالب، فقال‏:‏ إنى طلقتُ امرأتى ألفاً، فقال له علىٌّ‏:‏ بانت منك بثلاث، واقسِمْ سائِرَهن بينَ نسائك‏.‏

وروى وكيع أيضاً، عن جعفر بن بُرقان، عن معاوية بن أبى يحيى، قال‏:‏ جاء رجلٌ إلى عثمان بنِ عفان، فقال‏:‏ طلقتُ امرأتى ألفاً، فقال بانَتْ منك بثلاث‏.‏

وروى عبدُ الرزاق، عن سفيان الثورى، عن عمرو بن مرة، عن سعيد بنِ جبير، قال‏:‏ قال رجلٌ لابنِ عباس‏:‏ طلقتُ امرأتى ألفاً، فقال له ابنُ عباس‏:‏ ثلاثٌ تُحرِّمُها عليك، وبقيتُها عليك، وِزْر، اتخذت آيات الله هزواً‏.‏

وروى عبدُ الرزاق أيضاً، عن معمر، عن الأعمش، عن إبراهيم، عن علقمة، قال‏:‏ جاء رجل إلى ابن مسعود، فقال‏:‏ إنى طلقتُ امرأتى تسعاً وتسعين، فقال له ابنُ مسعود‏:‏ ثلاث تُبينها منك، وسائُرهن عُدوان‏.‏

وذكر أبو داود في ‏(‏سننه‏)‏، عن محمد ابن إياس، أن ابن عباس، وأبا هريرة، وعبد الله بن عمرو بن العاص، سُئِلُوا عن البِكر يُطلِّقُها زوجُها ثلاثاً، فَكُلُّهم قال‏:‏ لا تَحِلُّ له حتى تَنكِحَ زوجاً غيرَه‏.‏

قالوا‏:‏ فهؤلاء أصحابُ رسول الله صلى الله عليه وسلم كما تسمعون قد أوقعوا الثلاثَ جملةً، ولو لم يكن فيهم إلا عمر المحدِّث المُلْهَمُ وحدَه، لكفى، فإنه لا يُظن به تغييرُ ما شرعه النبى صلى الله عليه وسلم مِن الطلاق الرجعى، فيجعله محرَّماً، وذلك يتضمَّن تحريمَ فرج المرأه على من تَحْرُمْ عليه، وإباحته لمن لا تَحِلُّ له، ولو فعل ذلك عمر، لما أقرَّه عليه الصحابةُ، فضلاً عن أن يُوافقوه، ولو كان عندَ ابنِ عباس حجة عن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم أن الثلاثَ واحدةٌ لم يُخَالِفْها‏.‏ ويُفتى بغيرها موافقةً لعمر، وقد علم مخالفته له في العَوْل، وحجب الأم بالاثنين من الإخوة والأخوات، وغير ذلك‏.‏

قالوا‏:‏ ونحنُ في هذه المسألة تبع لأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فَهُمْ أعلمُ بسنته وشرعه، ولو كان مستقراً مِن شريعته أن الثلاثَ واحدة وتُوفِّى والأمر على ذلك لم يَخْفَ عليهم، ويعلمه مَنْ بعدهم، ولم يُحْرَمُوا الصَّواب فيه، ويُوفَّق له مَنْ بعدهم، ويروى حبرُ الأمة وفقيهُها خبرَ كونِ الثلاث واحدة ويُخالفه‏.‏

قال المانعون من وقوع الثلاث‏:‏ التحاكُم في هذه المسألة وغيرها إلى من أقسم اللَّهُ سبحانه وتعالى أصدقَ قَسَمٍ، وأبره، أنا لا نُؤْمِنُ حتى نُحَكِّمَه فيما شَجَرَ بيننا، ثم نَرضى بحُكمِه، ولا يلحقُنا فيه حرجٌ، ونسلِّم له تسليماً لا إلى غيره كائناً مَنْ كان، اللهم إلا أن تُجمِعَ أمته إجماعاً متيقناً لا نشكُّ فيه على حُكم، فهو الحقُّ الذي لا يجوز خلافُه، ويأبى الله أن تجتمع الأمة على خلاف سنة ثابتة عنه أبداً، ونحن قد أوجدناكُم من الأدلة ما تثبتُ المسألة به، بل وبدُونه، ونحن نُناظركم فيما طعنتم به في تلك الأدلة، وفيما عارضتمونا به على أنا لا نحكِّم على أنفسنا إلا نصَّاً عن الله، أو نصاً ثابتاً عن رسول الله صلى الله عليه وسلم،أو إجماعاً متيقَّناً لا شكَّ فيه، وما عدا هذا فعُرضة للنزاع، وغايتُه أن يكون سائغَ الاتِّباع لا لازمهَ، فلتكن هذه المقدمة سلفاً لنا عندكم، وقد قال تعالى‏:‏ ‏{‏فإنْ تَنَازَعْتُمْ في شَىءٍ فَرُدُّوهُ إلى الله وَالرَّسُولِ‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 59‏]‏، فقد تنازعنا نحن وأنتم في هذه المسألة، فلا سبيلَ إلى ردِّها إلى غير الله ورسوله ألبتة، وسيأتى أننا أحقُّ بالصحابة، وأسعدُ بهم فيها، فنقول‏:‏

أمَّا منعُكم لتحريمِ جمعِ الثلاث، فلا ريبَ أنها مسألة نزاع، ولكن الأدلة الدالة على التحريم حجةٌ عليكم‏.‏

أما قولكم‏:‏ إن القرآن دل على جواز الجمع، فدعوى غيرُ مقبولة، بل باطلة، وغايةُ ما تمسكتم به إطلاقُ القرآن للفظ الطلاق، وذلك لا يعمُّ جائزه ومحرَّمه، كما لا يدخل تحتَه طلاقُ الحائض، وطلاقُ الموطوءة في طهرها، وما مَثَلُكُم في ذلك إلا كَمَثَلِ مَنْ عارض السنة الصحيحةَ في تحريم الطلاق المحرم بهذه الإطلاقات سواء، ومعلوم أن القرآن لم يدلَّ على جواز كل طلاق حتى تُحمِّلوه ما لا يُطيقه، وإنما دلَّ على أحكام الطلاق، والمُبيِّنُ عن اللَّهِ عز وجلَّ بَيَّنَ حَلالَه وحَرَامه، ولا ريب أنا أسعدُ بظاهر القرآن كما بينا في صدر الاستدلال، وأنه سبحانه لم يشرع قط طلاقاً بائناً بغيرِ عوض لمدخول بها، إلا أن يكونَ آخرَ العدد، وهذا كتابُ الله بيننَا وبينَكم، وغايةُ ما تمسكتم به ألفاظ مطلقة قيَّدتْها السنة، وبينت شروطها وأحكامها‏.‏

وأما استدلالُكم بأن الملاعِنَ طلَّق امرأته ثلاثاً بحضرة رسولِ الله صلى الله عليه وسلم، فما أصحَّه مِن حديث، وما أبعدَهُ مِن استدلالكم على جواز الطلاق الثلاث بكلمة واحدة في نكاح يقصد بقاؤه ودوامه، ثم المستدل بهذا إن كان ممن يقول‏:‏ إن الفرقة وقعت عقيبَ لِعان الزوج وحده، كما يقولُه الشافعى، أو عَقيبَ لعانهما وإن لم يفرِّق الحاكم، كما يقوله أحمد في إحدى الروايات عنه، فالاستدلالُ به باطل، لأن الطلاق الثلاث حينئذ لغو لم يفد شيئاً، وإن كان ممن يُوقف الفرقة على تفريق الحاكم، لم يصح الاستدلال به أيضاً لأن هذا النكاح لم يبق سبيلٌ إلى بقائه ودوامه، بل هو واجبُ الإزالة، ومؤبَّدُ التحريم، فالطلاقُ الثلاث مؤكِّد لمقصود اللعان، ومقرِّر له، فإن غايتَه أن يُحرِّمها عليه حتى تنكح زوجاً غيره، وفرقة اللعان تحرِّمها عليه على الأبد، ولا يلزم من نفوذ الطلاق في نكاح قد صار مستحقِّ التحريم على التأبيد نفوذُه في نكاح قائم مطلوبِ البقاء والدوام، ولهذا لو طلقها في هذا الحال وهى حائض، أو نفساء، أو في طُهر جامعها فيه، لم يكن عاصياً، لأن هذا النكاح مطلوب الإزالة مؤبد التحريم، ومن العجب أنكم متمسِّكون بتقريرِ رسول الله صلى الله عليه وسلم على هذا الطلاق المذكور، ولا تتمسكون بإنكاره وغضبه للطلاق الثلاثِ مِن غير الملاعن، وتسميته لعباً بكتاب الله كما تقدم، فكم بينَ هذا الإقرار وهذا الإنكار‏؟‏ ونحن بحمد الله قائلون بالأمرين، مُقِرُّون لما أقره رسول الله صلى الله عليه وسلم، منكرون لما أنكره‏.‏

وأما استدلالُكم بحديث عائشة رضى الله عنها، أن رجلاً طلَّق امرأته ثلاثاً فتزوَّجت، فَسُئِلَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم، هل تحل للزوج‏؟‏ قال‏:‏ ‏(‏لا، حَتَّى تَذُوقَ العُسَيْلة‏)‏، فهذا لا نُنازِعُكم فيه، نعم هو حجةٌ على من اكتفى بمجرد عقد الثانى، ولكن أينَ في الحديث أنه طلَّق الثلاثَ بفم واحد، بل الحديثُ حجة لنا، فإنَّه لا يُقال‏:‏ فعلَ ذلك ثلاثاً، وقال ثلاثاً إلا من فعل، وقال‏:‏ مرةً بعد مرةِ، هذا هو المعقولُ في لغات الأمم عِربهم وعجمِهم، كما يقال‏:‏ قذفه ثلاثاً، وشتمه ثلاثاً، وسلَّم عليه ثلاثاً‏.‏

قالوا‏:‏ وأما استدلالُكم بحديثِ فاطمة بنت قيس، فَمِنَ العجب العُجاب، فإنكم خالفتُموه فيما هو صريحٌ فيه لا يقبلُ تأويلاً صحيحاً، وهو سقوطُ النفقة والكِسوة للبائن مع صحته وصراحته، وعدم ما يُعارِضُه مقاوماً له، وتمسكتُم به فيما هو مجمل، بل بيانُه في نفس الحديث مما يُبطِلُ تعلُّقكم به، فإن قوله‏:‏ طلَّقها ثلاثاً ليس بصريح في جمعها، بل كما تقدم، كيف وفى ‏(‏الصحيح‏)‏ في خبرها نفسِه مِن رواية الزهرى، عن عبيد الله بن عبد الله ابن عُتبة، أن زوجَها أرسل إليها بتطليقةٍ كانت بَقيت لها مِن طلاقِها وفى لفظ في ‏(‏الصحيح‏)‏‏:‏ أنه طلقها آخِرَ ثلاثٍ تطليقاتٍ، وهو سند صحيح متصل مثلُ الشمس، فكيف ساغ لكم تركه إلى التمسك بلفظ مجملٍ، وهو أيضاً حجةٌ عليكم كما تقدم‏؟‏‏.‏

قالوا‏:‏ وأما استدلالُكم بحديثِ عُبادة بنِ الصامت الذي رواه عبد الرزاق، فخبر في غاية السقوط، لأن في طريقه يحيى بن العلاء، عن عُبيد الله بن الوليد الوصَّافى، عن إبراهيم بن عبيد الله ضعيف، عن هالك، عن مجهول، ثم الذي يدلُّ على كذبه وبُطلانه، أنه لم يعرف في شىء من الآثار صحيحها ولا سقيمها، ولا متصلها ولا منقطعها، أن والد عبادة بن الصامت أدرك الإسلام، فكيف بجده، فهذا محال بلا شك‏.‏ وأما حديث عبد الله بن عمر، فأصلُه صحيحٌ بلا شك، لكن هذه الزيادة والوصلة التي فيه‏:‏ فقلتُ‏:‏ يا رسولَ الله‏:‏ لو طلقتُها ثلاثاً أكانت تَحِلُّ لى‏؟‏ إنما جاءت من رواية شعيب بن زُريق، وهو الشامى، وبعضهم يقلبه فيقولُ‏:‏ زُريق بن شعيب، وكيفما كان، فهو ضعيف، ولو صحَّ، لم يكن فيه حجة، لأن قوله‏:‏ لو طلقتها ثلاثاً بمنزلة قوله‏:‏ لو سلمت ثلاثاً، أو أقررت ثلاثاً، أو نحوه مما لا يُعقل جمعُه‏.‏

وأما حديثُ نافِع بن عجير الذي رواه أبو داود، أن ركانة طلق امرأته ألبتة، فأحلفه رسولُ الله صلى الله عليه وسلم ما أرادَ إلا واحدة، فمن العجب تقديمُ نافع ابن عجير المجهول الذي لا يُعرف حاله ألبتة، ولا يُدرى من هو، ولا ما هو على ابن جريج، ومعمر، وعبد الله بن طاووس في قصة أبى الصهباء، وقد شهد إمامُ أهل الحديث محمدُ بن إسماعيل البخارى بأن فيه اضطراباً، هكذا قال الترمذى في الجامع، وذكر عنه في موضع آخر‏:‏ أنه مضطرب‏.‏ فتارةً يقول‏:‏ طلقها ثلاثاً، وتارةً يقول‏:‏ واحدةً، وتارة يقول‏:‏ البتة، وقال الإمام أحمد‏:‏ وطرقه كُلُّها ضعيفة، وضعفه أيضاً البخارى، حكاه المنذرى عنه‏.‏ ثم كيف يُقدَّم هذا الحديثُ المضطربُ المجهولُ رواية على حديث عبد الرزاق عن ابن جريج لِجهالة بعض بنى أبى رافع، هذا وأولادُه تابعيون، وإن كان عبيد الله أشهرَهم، وليس فيهم متهم بالكذب، وقد روى عنه ابنُ جُريج، ومَنْ يقبلُ روايةَ المجهول، أو يقولُ‏:‏ روايةُ العدل عنه تعديلٌ له، فهذا حجةٌ عنده، فأمَّا أن يُضعِّفَه ويُقَدِّمَ عليه روايةَ من هو مثلُه في الجهالة، أو أشدُّ، فكلاَّ، فغايةُ الأمر أن تتساقَط روايتا هذين المجهولين، يُعْدَل إلى غيرهما، وإذا فعلنا ذلك، نظرنا في حديث سعد بن إبراهيم، فوجدناه صحيح الإسناد، وقد زالت علةُ تدليسِ محمد ابن إسحاق بقوله‏:‏ حدثنى داود بن الحصين، وقد احتج أحمد بإسناده في مواضع، وقد صحح هو وغيرُه بهذا الإسناد بعينه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ردَّ زينبَ على زوجِها أبى العاص بن الربيع بالنِّكاحِ الأوَّلِ، ولم يُحدث شيئاً‏.‏ وأما داودُ بن الحُصين، عن عكرمة، فلم تزل الأئمة تحتجُّ به، وقد احتجُّوا به في حديث العَرَايا فيما شُكَّ فيه، ولم يُجْزَمْ به مِن تقديرها بخمسة أوسُق أو دونَها مع كونِها على خلاف الأحاديث التي نهى فيها عن بيع الرُّطَبِ بالتمرِ، فما ذنبه في هذا الحديث سوى رواية ما لا يقولون به، وإن قدحتُم في عكرمة ولعلكم فاعِلون جاءكم ما لا قِبَلَ لكُم به من التناقض فيما احتججتُم به أنتُم وأئمةُ الحديث مِن روايته، وارتضاء البخارى لإدخال حديثه في ‏(‏صحيحه‏)‏‏.‏

فصل

وأما تلك المسالك الوَعْرَةُ التي سلكتموها في حديثِ أبى الصهباء، فلا يَصِحُّ شىء منها‏.‏

أما المسلكُ الأول، وهو انفرادُ مسلم بروايته، وإعراضُ البخارى عنه، فَتِلْكَ شَكَاةٌ ظَاهِرٌ عَنْهُ عَارُهَا، وما ضرَّ ذلك الحديثَ انفرادُ مسلم به شيئاً، ثم هل تقبلون أنتم، أو أحدٌ مثل هذا في كُلِّ حديثٍ يَنْفَرِدُ به مسلم عن البخارى، وهل قال البخارىُّ قطُّ‏:‏ إن كُلِّ حديث لم أُدْخِلْه في كتابى، فهو باطل، أو ليس بحجة، أو ضعيف، وكم قد احتج البخارىُّ بأحاديث خارجَ الصحيح ليس لها ذكر في ‏(‏صحيحه‏)‏، وكم صحَّح مِن حديث خارجٍ عن صحيحه‏.‏ فأما مخالفةُ سائرِ الروايات له عن ابن عباس، فلا ريبَ أن عن ابن عباس روايتين صحيحتين بلا شك‏.‏ إحداهُهما‏:‏ تُوافق هذا الحديثَ، والأُخرى‏:‏ تُخالفه، فإن أسقطنا رواية برواية، سَلِمَ الحديثُ على أنه بحمد الله سالم‏.‏ ولو اتفقتِ الرواياتُ عنه على مخالفته، فله أسوةُ أمثاله، وليس بأوَّلِ حديث خالفه روايه، فنسألكم‏:‏ هل الأخذُ بما رواه الصحابى عندكم، أو بما رآه‏؟‏ فإن قلتم‏:‏ الأخذُ بروايته، وهو قولُ جمهوركم، بل جمهورُ الأمة على هذا، كفيتُمونا مؤونة الجوابِ‏.‏ إن قلتُم‏:‏ الأخذُ برأيه، أَريناكُم مِن تناقضكم ما لا حِيلة لكم في دفعه، ولا سيما عن ابن عباس نفسِه، فإنه روى حديث بَريرة وتخييرها، ولم يكن بيعُها طلاقاً، ورأى خلافَه، وأن بيعَ بالأمة طلاقُها، فأخذتُم وأصبتُم بِروايته، وتركتم رأيه، فهلا فعلتُم ذلك فيما نحن فيه، وقلتم‏:‏ الرواية معصومة، وقولُ الصحابى غيرُ معصوم، ومخالفته لما رواه يحتمِلُ احتمالاتٍ عديدة من نسيان أو تأويل، أو اعتقاد مُعارِض راجحٍ في ظنه، أو اعتقادِ أنه منسوخ أو مخصوص، أو غير ذلك من الاحتمالات، فكيف يسوغُ ترك روايته مع قيام هذه الاحتمالات‏؟‏ وهل هذا إلا تركُ معلوم لِمظنون، بل مجهول‏؟‏ قالوا‏:‏ وقد روى أبو هريرة رضى الله عنه حديثَ التسبيعِ من ولُوغ الكلب، وأفتى بخلافه، فأخذتُم بروايته، وتركتُم فتواه‏.‏ ولو تتبعنا ما أخذتُم فيه بروايةِ الصحابى دونَ فتواه، لطال‏.‏

قالُوا‏:‏ وأما دعواكم نسخ الحديث، فموقوفة على ثبوت معارض مُقاوم متراخ، فأين هذا‏؟‏

وأما حديثُ عكرمة، عن ابن عباس في نسخ المراجعة بعد الطلاق الثلاث، فلو صحَّ، لم يكن فيه حجة، فإنه إنما فيه أن الرَّجل كان يُطَلِّقُ امرأته ويُراجعها بغير عدد، فنُسِخَ ذلك، وقُصِرَ على ثلاث، فيها تنقطع الرجعة، فأين في ذلك الإلزام بالثلاث بفم واحد، ثم كيف يستمرُّ المنسوخ على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبى بكر، وصدراً من خلافة عمر، لا تعلم به الأمة، وهو من أهم الأمور المتعلقة بحل الفروج، ثم كيف يقول عمر‏:‏ إن الناس قد استعجلوا في شىء كانت لهم فيه أناة، وهل للأمة أناة في المنسوخ بوجه ما‏؟‏، ثم كيف يُعارض الحديثُ الصحيحُ بهذا الذي فيه على بن الحسين ابن واقد، وضعفُه معلوم‏؟‏

وأما حملُكم الحديثَ على قول المطلِّق‏:‏ أنتِ طالق، أنتِ طالق، أنتِ طالق، ومقصودُه التأكيد بما بعد الأول، فسياقُ الحديث مِن أوله إلى آخره يردُّه، فإنَّ هذا الذي أوَّلتم الحديثَ عليه لا يتغيرُ بوفاةِ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم، ولا يختِلفُ على عهده وعهدِ خُلفائه، وهَلُمَّ جراً إلى آخر الدهر، ومن ينويه في قصد التأكيد لا يُفَرِّقُ بين بَرٍّ وفاجر، وصادق وكاذب، بل يردُّه إلى نيته، وكذلك مَن لا يقبله في الحكم لا يقبلُه مطلقاً بَراً كان أو فاجراً‏.‏

وأيضاً فإن قوله‏:‏ إن الناس قد استعجلوا وتتابعوا في شىء كانت لهم فيه أناة، فلو أنا أمضيناه عليهم‏.‏ إخبار من عمر بأن الناس قد استعجلوا ما جعلهم الله في فُسحة منه، وشَرَعَهُ متراخياً بعضه عن بعض رحمةً بهم، ورفقاً وأناة لهم، لئلا يندم مطلِّق، فيذهب حبيبُه مِن يديه مِن أول وهلة، فَيَعِزُّ عليه تدارُكه، فجعل له أناةً ومُهلةً يستعتِبُه فيها، ويرضيه ويَزولُ ما أحدثه العتبُ الداعى إلى الفراقُ، ويُراجع كُلٌّ منهما الذي عليه بالمعروف، فاستعجلوا فيما جعل لهم فيه أناة ومُهلة، وأوقعوه بفم واحد، فرأى عمر رضى الله عنه أنه يلزمُهم ما التزموه عقوبةً لهم، فإذا عَلِمَ المطلِّق أن زوجته وسكنه تحرُم عليه من أول مرة بجمعه الثلاثَ، كفَّ عنها، ورجع إلى الطلاق المشروع المأذون فيه، وكان هذا مِن تأديب عمر لرعيته لما أكثرُوا مِن الطلاق الثلاث، كما سيأتى مزيدُ تقريره عند الاعتذار عن عمر رضى الله عنه في إلزامه بالثلاث، هذا وجهُ الحديث الذي لا وجه له غيرُه، فأين هذا من تأويلكم المستكرَهِ المستبعَدِ الذي لا تُوافقه ألفاظُ الحديث، بل تنبُو عنه، وتُنافره‏.‏

وأما قولُ مَنْ قال‏:‏ إن معناه كان وقوعَ الطلاق الثلاث الآن على عهدِ رسول الله صلى الله عليه وسلم واحدةً، فإن حقيقة هذا التأويل‏:‏ كان الناس على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم يُطَلِّقُونَ واحدة، وعلى عهد عمر صاروا يطلِّقون ثلاثاً، والتأويلُ إذا وصل إلى هذا الحد، كان مِن باب الالغاز والتحريف، لا من باب بيان المراد، ولا يَصِحُّ ذلك بوجه ما، فإن الناسَ ما زالوا يُطلِّقون واحدة وثلاثاً، وقد طلَّق رجالٌ نساءهم على عهد رسولِ الله صلى الله عليه وسلم ثلاثاً، فمنهم من ردَّها إلى واحدة، كما في حديث عكرمة عن ابن عباس‏.‏ ومنهم من أنكر عليه، وغَضِبَ، وجعله متلاعباً بكتاب الله، ولم يُعْرَفْ ما حكم به عليهم، وفيهم من أقَّره لتأكيد التحريم الذي أوجبه اللعان، ومنهم من ألزمه بالثلاث، لكون ما أتى به من الطلاق آخر الثلاث، فلا يَصِحُّ أن يقال‏:‏ إن الناس ما زالوا يطلقون واحدة إلى أثناء خلافة عمر، فطلقوا ثلاثاً، ولا يَصِحُّ أن يقال‏:‏ إنهم قد استعجلوا في شىء كانت لهم فيه أناة، فنمضيه عليهم، ولا يُلائم هذا الكلام الفرق بين عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبين عهده بوجه ما، فإنه ماضِ منكم على عهده وبعدَ عهده‏.‏

ثم إن في بعض ألفاظِ الحديث الصحيحة‏:‏ ألم تعلم أنه من طلَّق ثلاثاً جُعِلَتْ وَاحِدَة على عهد رسولِ الله صلى الله عليه وسلم‏.‏

وفى لفظ‏:‏ أما عَلِمْتَ أن الرجل كان إذا طلَّق امرأته ثلاثاً قبل أن يدخل بها جعلوها واحدة على عهدِ رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأبى بكر، وصدراً من خلافة عمر، فقال ابن عباس‏:‏ بلى كان الرجلُ إذا طلَّق امرأتَه ثلاثاً قبل أن يدخُلَ بها جعلوها واحدة على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأبى بكر، وصدراً من إمارة عمر، فلما رأى الناس يعنى عمر قد تتايعوا فيها، قال‏:‏ أجيزوهن عليهم، هذا لفظُ الحديث، وهو بأصح إسناد، وهو لا يحتمِلُ ما ذكرتُم من التأويل بوجه ما، ولكن هذا كله عَمَلُ من جعل الأدلة تبعاً للمذهب، فاعتقد، ثم استدل‏.‏ وأما من جعل المذهب تبعاً للدليل، واستدل، ثم اعتقد، لم يمكنه هذا العمل‏.‏

وأما قول من قال‏:‏ ليس في الحديث بيانُ أن رسولَ الله صلى الله عليه وسلم كان هَوُ الذي يجعلُ ذلك، ولا أنه علم به، وأقرَّه عليه، فجوابه أن يقال‏:‏ سُبْحَانَك هذا بهتان عظيم أن يستمِرَّ هذا الجعلُ الحرام المتضمِّن لتغيير شرع الله وَدِينه، وإباحة الفَرْجِ لمن هو عليه حرامٌ، وتحريمُه على من هو عليه حلالٌ على عهدِ رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم وأصحابه خير الخلف، وهم يفعلونه، ولا يعلمونه، ولا يعلمه هو، والوحى يَنْزِلُ عليه، وهو يُقِرُّهم عليه، فَهَبْ أن رسولَ الله صلى الله عليه وسلم لم يكن يعلمُه، وكان الصحابةُ يعلمونه، ويُبدِّلون دينَه وشرعَه، واللَّهُ يعلمُ ذلك، ولا يُوحيه إلى رسوله، ولا يُعلمه به، ثم يتوفَّى اللَّهُ رسولَه صلى الله عليه وسلم، والأمرُ علي ذلك، فيستمِرُّ هذا الضلالُ العظيم، والخطأُ المبين عند كم مدة خِلافةِ الصديق كُلِّها، يُعْمَلُ به ولا يُغيَّر إلى أن فارق الصديقُ الدنيا، واستمر الخطأ والضلالُ المركَّب صدراً مِن خلافة عمر، حتى رأي بعد ذلك برأيه أن يُلزِمَ الناسَ بالصَّواب، فهل في الجهل بالصحابة، وما كانُوا عليهم في عهد نبيهم وخلفائه أقبحُ من هذا، وتَاللِّهِ لو كان جعلُ الثَلاث واحدةً خطأً محضاً، لكان أسهلَ من هذا الخطأ الذي ارتكبتموه، والتأويلِ الذي تأولتموه، ولو تركتم المسألةَ بهيأتها، لكان أقوى لِشأنها من هذه الأدلة والأجوبة‏.‏

قالُوا‏:‏ وليس التحاكُم في هذه المسألة إلى مقلِّد متعصِّبٍ، ولا هيَّابٍ للجمهور، ولا مستوحِش مِن التفرُّد إذا كان الصوابُ في جانبه، وإنما التحاكُم فيها إلى راسخٍ في العلم قد طال فيه باعُه، ورحُبَ بنيله ذِرَاعُه، وفرَّق بين الشبهة والدليل، وتلقَّى الأحكامَ مِن نفس مِشكاة الرسول، وعرفَ المراتبَ، وقام فيها بالواجبِ، وباشر قلبُه أسرارَ الشريعة وحِكَمَها الباهِرَة، وما تضمَّنته مِن المصالح الباطنة والظاهرة، وخاض في مثل هذه المضايق لُججها، واستوفى مِن الجانبين حُجَجَها، واللَّه المستعانُ، وعليه التُّكلان‏.‏

قالوا‏:‏ وأما قولُكم‏:‏ إذا اختلفت علينا الأحاديثُ، نظرنا فيما عليه الصحابةُ رضى الله عنهم، فنعم واللَّهِ وحيَّهلا بِيَرَكِ الإسلام، وعِصابة الإيمان‏.‏

فَلاَ تَطَلَّبْ لِىَ الأَعْوَاضَ بَعْدَهُمُ فَإِنَّ قَلْبِىَ لاَ يَرْضَى بِغَيْرِهم

ولكن لا يليق بكم أن تدعونا إلى شىء، وتكونُوا أول نافرٍ عنه، ومخالفٍ له، فقد تُوفى النبىُّ صلى الله عليه وسلم عن أكثرَ مِن مائة ألف عَيْنٍ كُلُّهم قد رآه وسَمِعَ منه، فهل صَحَّ لكُم عن هؤلاء كُلِّهم، أو عُشْرِهم، أو عُشْرِ عشرهم، أو عُشرِ عُشْرِ عُشْرِهِم القولُ بلزوم الثلاثِ بفمٍ واحد‏؟‏ هذا ولو جَهِدْتُم كُلِّ الجهد لم تُطيقوا نقلَه عن عشرين نفساً منهم أبداً مع اختلافٍ عنهم في ذلك، فقد صحَّ عن ابن عباس القولان، وصحَّ عن ابن مسعود القولُ باللزوم، وصحَّ عنه التوقف، ولو كاثرنَاكُم بالصحابة الذين كان الثلاثُ على عهدهم واحدةً، لكانوا أضعافَ من نُقِلَ عنه خلافُ ذلك، ونحن نُكاثِرُكم بكُلِّ صحابى مات إلى صدرٍ مِن خلافة عمر، ويكفينا مقدَّمُهم، وخيرُهم وأفضلُهم، ومن كان معه من الصحابة على عهده، بل لو شئنا لقلنا، ولصدقنا‏:‏ إن هذا كان إجماعاً قديماً لم يَخْتَلِفْ فيه على عهد الصديق اثنانِ، ولكن لم ينقرِضْ عصرُ المجمعين حتى حدث الاختلافُ، فلم يستقرَّ الإجماعُ الأول حتى صار الصحابةُ على قولين، واستمرَّ الخلافُ بين الأمة في ذلك إلى اليوم، ثم نقول‏:‏ لم يُخالف عمر إجماعَ من تقدَّمه، بل رأى إلزامَهم بالثلاثِ عقوبةً لهم لما عَلِمُوا أنه حرام، وتتايعُوا فيه، ولا ريبَ أن هذا سائغ للأئمة أن يُلزموا الناسَ بما ضيَّقوا به على أنفسهم، ولم يقبلوا فيه رخصةَ الله عز وجل وتسهيلَه، بل اختاروا الشدة والعُسر، فكيف بأميرِ المؤمنين عمرَ بنِ الخطاب رضى الله عنه، وكمال نظره للأمة، وتأديبه لهم، ولكن العقوبة تختلفُ باختلافِ الأزمنة والأشخاص، والتمكن من العلم بتحريم الفعل المعاقب عليه وخفائه، وأمير المؤمنين عمر رضى الله عنه لم يَقُلْ لهم‏:‏ إن هذا عن رسولِ الله صلى الله عليه وسلم، وإنما هو رأي رآه مصلحةً للأمة يكفُّهم بها عن التسارع إلى إيقاع الثلاث، ولهذا قال‏:‏ فلو أنا أمضيناهُ عليهم، وفى لفظ آخر‏:‏

‏(‏فأجيزوهن عليهم‏)‏ أفلا يُرى أن هذا رأي منه رآه للمصلحة لا إخبارٌ عن رسول صلى الله عليه وسلم، ولما علم رضى الله عنه أن تلك الأناة والرخصة نعمة من الله على المطلِّق، ورحمةٌ به، وإحسانٌ إليه، وأنه قابلها بضدِّها، ولم يقبل رخصةَ الله، وما جعله له من الأناة عاقبه بأن حال بينه وبينها، وألزمه ما ألزمه مِن الشدة والاستعجال، وهذا موافقٌ لقواعد الشريعة، بل هو موافق لحكمة الله في خلقه قدراً وشرعاً، فإن الناس إذا تعدَّوا حدودَه، ولم يَقِفُوا عندها، ضيَّق عليهم ما جعله لمن اتقاه من المخرج، وقد أشار إلى هذا المعنى بعينه مَنْ قال مِن الصحابة للمطلِّق ثلاثاً‏:‏ إنك لو اتقيتَ الله، لجعل لك مخرجاً، كما قاله ابن مسعود، وابنُ عباس‏.‏ فهذا نظر أمير المؤمنين، ومن معه من الصحابة، لا أنه رضى الله عنه غيَّرَ أحكام الله، وجعل حلالها حراماً، فهذا غايةُ التوفيق بين النصوص، وفعل أمير المؤمنين ومن معه، وأنتم لم يُمكنكم ذلك إلا بإلغاء أحد الجانبين، فهذا نهاية أقدام الفريقين في هذا المقام الضَّنْكِ، والمعترَكِ الصَّعبِ، وباللَّه التوفيق‏.‏

حُكم رسول الله صلى الله عليه وسلم في العبد يُطلِّقُ زوجتَه تطليقتين، ثم يُعتَقُ بعد ذلك، هل تَحِلُّ له بدون زوج وإصابة‏؟‏

روى أهلُ السنن‏:‏ مِن حديث أبى الحسن مولى بنى نوفل، أنه استفتى ابنَ عباس في مملوكٍ كانت تحته مملوكة، فطلقها تطليقتين، ثم عُتِقا بعد ذلك، هل يصلُح له أن يخطُبَها‏؟‏ قال‏:‏ نعم قضى بذلك رسولُ الله صلى الله عليه وسلم‏.‏

وفى لفظ‏:‏ قال ابنُ عباس‏:‏ بَقِيَتْ لك واحدةٌ، قضى به رسولُ الله‏.‏

قال الإمام أحمد‏:‏ عن عبد الرازق، أن ابنَ المبارك قال لمعمر‏:‏ من أبو حسن هذا‏؟‏ لقد تحمَّل صخرةً عظيمة انتهى‏.‏

قال المنذرى‏:‏ وأبو حسن هذا قد ذُكِرَ بخير وصلاح، وقد قال على بن المدينى‏:‏ هو منكرُ الحديث، وقال النسائى‏:‏ ليس بالقوى‏.‏

وإذا عُتِقَ العبدُ والزوجة في حِباله، ملك تمامَ الثلاث، وإن عُتِقَ وقد طلَّقها اثنتين، ففيها أربعةُ أقوال للفقهاء‏.‏

أحدها‏:‏ أنها لا تحِلُّ له حتى تنكِحَ زوجاً غيره حرة كانت أو أمة، وهذا قولُ الشافعى، وأحمد في إحدى الروايتين بناء على أن الطلاقَ بالرجال، وأن العبدَ إنما يملِكُ طلقتين ولو كانت زوجتُه حرة‏.‏

والثانى‏:‏ أن له أن يعقِدَ عليها عقداً مستأنفاً مِن غير اشتراط زوج وإصابة، كما دلَّ عليه حديثُ عُمر بن معتِّب هذا، وهذا إحدى الروايتين عن أحمد، وهو قولُ ابن عباس، وأحدُ الوجهين للشافعية، ولهذا القول فقه دقيق، فإنها إنما حرمتها عليه التطليقتانِ لنقصه بالرق، فإذا عُتِقَ وهى في العدة، زال النقصُ، ووُجِدَ سببُ ملك الثلاث، وآثارُ النكاح باقية، فملك عليها تمامَ الثلاث، وله رجعتُها، وإن عُتقَ بعد انقضاءِ عدتها، بانت منه، وحلَّت له بدون زوجٍ وإصابة، فليس هذا القولُ ببعيد في القياس‏.‏

والثالث‏:‏ أن له أن يَرتَجعَها في عِدتها، وأن ينكحها بعدها بدون زوج وإصابة، ولو لم يعتق، وهذا مذهبُ أهل الظاهر جميعِهم، فإن عندهم أن العبد والحرَّ في الطلاق سواء‏.‏

وذكر سُفيان بن عيينة، عن عمرو بن دينار، عن أبى معبد مولى ابن عباس، عن ابن عباس رضى الله عنهما‏:‏ أن عبداً له طلَّق امرأته تطليقتين، فأمره ابنُ عباس أن يُراجِعَها، فأبى، فقال ابنُ عباس‏:‏ هي لك فاستحِلَّها بملك اليمين‏.‏

والقول الرابع‏:‏ أن زوجتَه إن كانت حرةً، ملك عليها تمامَ الثلاث، وإن كانت أمةً، حرمت عليه حتى تنكِحَ زوجاً غيره، وهذا قولُ أبى حنيفة‏.‏

وهذا موضع اختلف فيه السلفُ والخلف على أربعة أقوال‏.‏

أحدها‏:‏ أن طلاقَ العبد والحر سواء، وهذا مذهبُ أهل الظاهر جميعهم، حكاه عنهم أبو محمد بن حزم، واحتجُّوا بعُموم النصوص الواردة في الطلاق، وإطلاقها، وعدم تفريقها بين حر وعبد، ولم تُجمِعِ الأمةُ على التفريق، فقد صحَّ عن ابن عباس أنه أفتى غلاماً له برجعة زوجته بعد طلقتين، وكانت أمة‏.‏ وفى هذا النقلِ عن ابن عباس نظر، فإن عبد الرزاق روى عن ابن جريج، عن عمرو بن دينار، أن أبا معبد أخبره، أن عبداً كان لابن عباس، وكانت له امرأة جارية لابن عباس، فطلقها فبتَّها، فقال له ابنُ عباس‏:‏ لا طلاق لك فارجعها‏.‏

قال عبدُ الرزاق‏:‏ حدثنا معمر، عن سِماك بن الفضل، أن العبد سأل ابن عمر رضى الله عنهما، فقال‏:‏ لا ترجع إليها وإن ضُرِب رأسُكَ‏.‏

فمأخذ هذه الفتوى، أن طلاق العبد بيد سيده، كما أن نِكاحَه بيده، كما روى عبد الرحمن بن مهدى، عن الثورى، عن عبد الكريم الجزرى، عن عطاء، عن ابن عباس قال‏:‏ ليس طلاق العبد ولا فرقته بشىء‏.‏

وذكر عبد الرزاق، عن ابن جريج، عن أبى الزبير، أنه سمع جابر بن عبد الله يقول في الأمة والعبد‏:‏ سيِّدُهما يجمعُ بينهما، ويفرق، وهذا قول أبى الشعثاء، وقال الشعبى‏:‏ أهلُ المدينة لا يرون للعبد طلاقاً إلا بإذن سيده، فهذا مأخذُ ابن عباس، لا أنه يرى طلاق العبد ثلاثاً إذا كانت تَحته أمة، وما علمنا أحداً من الصحابة قال بذلك‏.‏

والقول الثانى‏:‏ أن أَىَّ الزوجين إن رُق كان الطلاقُ بسبب رقه اثنتين، كما روى حمادُ بن سلمة، عن عبد الله بن عمر، عن نافع، عن ابن عمر رضى الله عنهما قال‏:‏ الحرُّ يُطلق الأمة تطليقتين، وتعتدُّ بحيضتين، والعبدُ يطلِّق الحرة تطليقتين، وتعتد ثلاث حِيض، وإلى هذا ذهب عثمان البتِّى‏.‏

والقولُ الثالث‏:‏ أن الطلاق بالرجال، فيملِكُ الحرُّ ثلاثاً‏.‏ وإن كانت زوجته أمة، والعبد ثنتين وإن كانت زوجته حرة، وهذا قولُ الشافعى ومالك وأحمد في ظاهر كلامه، وهذا قولُ زيد بن ثابت، وعائشة، وأمِّ سلمة أمَّى المؤمنين، وعثمانَ بن عفان، وعبدِ الله بن عباس، وهذا مذهب القاسم، وسالم، وأبى سلمة، وعمر بن عبد العزيز، ويحيى بن سعيد، وربيعة، وأبى الزناد،وسليمان بن يسار، وعمرو بن شعيب، وابنِ المسيّب، وعطاء‏.‏

والقول الرابع‏:‏ أن الطلاقَ بالنساء كالعِدة، كما روى شعبة عن أشعث بن سوَّار، عن الشعبى، عن مسروق، عن ابن مسعود‏.‏ السنة‏:‏ الطلاقُ والعِدةُ بالنساء‏.‏

وروى عبد الرزاق‏:‏ عن محمد بن يحيى وغيرِ واحد، عن عيسى عن الشعبى عن اثنى عشر من صحابة النبى صلى الله عليه وسلم، قالوا‏:‏ الطلاق والعِدة بالمرأة، هذا لفظُه، وهذا قولُ الحسن، وابن سيرين، وقتادة، وإبراهيم، والشعبى، وعكرمة، ومجاهد، والثورى، والحسن بن حى، وأبى حنيفة وأصحابه‏.‏

فإن قيل‏:‏ فما حُكْم رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذه المسألة‏؟‏ قيل‏:‏ قد قال أبو داود‏:‏ حدثنا محمد بن مسعود، حدثنا أبو عاصم، عن ابن جريج، عن مظاهر بن أسلم، عن القاسم بن محمد، عن عائشة رضى الله عنها، عن النبىِّ صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏طَلاَقُ الأَمَةِ تَطْلِيقَتَانِ، وقُرْؤُها حَيْضَتَانِ‏)‏‏.‏

وروى زكريا بن يحيى الساجى، حدثنا محمد بن إسماعيل بن سمرة الأحمسى، حدثنا عُمَرُ بن شبيب المُسْلى، حدثنا عبد الله بن عيسي، عن عطيَّة، عن ابن عمر رضى الله عنهما، قال‏:‏ قال رسول الله‏:‏ ‏(‏طَلاَقُ الأَمَةِ ثِنْتَانِ، وعِدَّتُها حَيْضَتَانِ‏)‏‏.‏ وقال عبدُ الرزاق‏:‏ حدثنا بن جريج، قال‏:‏ كتب إلىَّ عبدُ الله بن زياد بن سمعان، أن عبد الله بن عبد الرحمن الأنصارى، أخبره عن نافع، عن أمِّ سلمة أم المؤمنين، أن غلاماً لها طلَّق امرأةً له حرةً تطليقتين، فاستفتت أمُّ سلمة النبى صلى الله عليه وسلم، فقال‏:‏ ‏(‏حَرُمَتْ عَلَيْهِ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجاً غَيرَه‏)‏، وقد تقدَّم حديثُ عمر بن معتِّب، عن أبى حسن، عن ابن عباس رضى الله عنه، ولا يُعرف عن النبىِّ صلى الله عليه وسلم غيرُ هذه الآثار الأربعة على عُجَرِهَا وبُجَرِهَا‏.‏

أما الأولُ‏:‏ فقال أبو داود‏:‏ هو حديث مجهول، وقال الترمذى‏:‏ حديث غريب لا نعِرفه إلا من حديث مظاهر بن أسلم، ومظاهر لا يُعرف له في العلم غيرُ هذا الحديث انتهى‏.‏ وقال أبو القاسم ابن عساكر في ‏(‏أطرافه‏)‏ بعد ذكر هذا الحديث‏:‏ روى أسامةُ بن زيد بن أسلم، عن أبيه، أنه كان جالساً عند أبيه، فأتاه رسولُ الأمير، فأخبره أنه سأل القاسمَ بن محمد، وسالم بن عبد الله عن ذلك، فقالا هذا، وقالا له‏:‏ إن هذا ليسَ في كتاب الله، ولا سنةِ رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولكن عَمِل به المسلمون‏.‏ قال الحافظ‏:‏ فدّل على أن الحديث المرفوعَ غيرُ محفوظ‏.‏ وقال أبو عاصم النبيل‏:‏ مظاهر ابن أسلم ضعيف، وقال يحيى بن معين‏:‏ ليس بشىء، مع أنه لا يُعرف، وقال أبو حاتم الرازى‏:‏ منكر الحديث‏.‏ وقال البيهقى‏:‏ لو كان ثابتاً لقُلنا به إلا أنّا نُثبتُ حديثاً يرويه من نجهل عدالته‏.‏

وأما الأثر الثانى‏:‏ ففيه عمر بن شبيب المُسْلى ضعيف، وفيه عطية وهو ضعيف أيضاً‏.‏وأما الأثر الثالث‏:‏ ففيه ابن سمعان الكذاب، وعبد الله بن عبد الرحمن مجهول‏.‏

وأما الأثر الرابع‏:‏ ففيه عمر بن معتِّب، وقد تقدم الكلامُ فيه‏.‏

والذي سلم في المسألة الآثار عن الصحابة رضى الله عنهم والقياس‏.‏

أما الآثار، فهى متعارضة كما تقدم، فليس بعضُها أولى من بعض، بقى القياسُ، وتجاذَبه طرفانِ‏:‏ طرف المطلِّق، وطرف المطلَّقة‏.‏ فمن راعى طرف المطَلِّق، قال‏:‏ هو الذي يملِكُ الطلاق، وهو بيده، فيتنصَّفُ برقه كما يتنصَّف نصابُ المنكوحات برقه، ومن راعى طرف المطلَّقة، قال‏:‏ الطلاقُ يقع عليها، وتلزمُها العدة والتحريم وتوابعُها، فَتنصَّف برقها كالعدة، ومن نصف برق أىِّ الزوجين كان راعى الأمرين، وأعملَ الشبهين، ومن كملهُ وجعله ثلاثاً رأى أن الآثار لم تثبت، والمنقولُ عن الصحابة، متعارِض، والقياسُ كذلك، فلم يتعلَّق بشىء من ذلك، وتمسَّك بإطلاق النصوص الدالة على أن الطلاق الرجعى طلقتان، ولم يُفرِّقِ اللَّهُ بين حر وعبد، ولا بينَ حرة وأمة، ‏{‏ومَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيَّاً‏}‏ ‏[‏مريم‏:‏ 64‏]‏ قالوا‏:‏ والحكمة التي لأجلها جعل الطلاق الرجعى اثنتين في الحر والعبد سواءٌ، قالوا‏:‏ وقد قال مالك‏:‏ إن له أن ينكِحَ أربعاً كالحُرِّ، لأن حاجتَه إلى ذلك كحاجة الحر، وقال الشافعىُّ وأحمدُ‏:‏ أجله في الإيلاء كأجلِ الحر، لأن ضرر الزوجة في الصورتين سواء‏.‏ وقال أبو حنيفة‏:‏ إن طلاقَه وطلاقَ الحر سواء إذا كانت امرأتاهما حرتينِ إعمالاً لإطلاق نصوص الطلاق، وعمومها للحر والعبد‏.‏

وقال أحمد بن حنبل والناسُ معه‏:‏ صيامُه في الكفارات كلِّها، وصيامُ الحر سواء، وحدُّه في السرقة والشراب، وحدُّ الحر سواء‏.‏ قالوا‏:‏ ولو كانت هذه الآثارُ أو بعضُها ثابتاً، لما سبقتُمونا إليه، ولا غلبتُمونا عليه، ولو اتفقت اثارُ الصحابة لم نَعْدُهَا إلى غيرها، فإن الحقَّ لا يعدُوهم، وباللَّه التوفيق‏.‏