فصل: ذكر الحكم الذي حكم به علي بن أبي طالب رضي الله عنه في الجماعة الذين وقعوا على امرأة في طهر واحد، ثم تنازعوا الولد، فأقرع بينهم فيه، ثم بلغ النبي صلى الله عليه وسلم فضحك ولم ينكره

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: زاد المعاد في هدي خير العباد **


فصل‏:‏ في حُكمِه صلى الله عليه وسلم في لُحُوق النسب بالزَّوج إذا خالف لونُ ولده لونَه

ثبت عنه في ‏(‏الصحيحين‏)‏ أن رَجلاً قال له‏:‏ إن امرأتى ولدت غلاماً أَسْوَدَ كأَنه يُعَرِّضُ بنفيهِ، فقال النبىُّ صلى الله عليه وسلم ك ‏(‏هَلْ لَكَ مِنْ إِبلٍ‏)‏‏؟‏ قال‏:‏ نعم‏.‏ قال‏:‏ ‏(‏مَا لَوْنُهَا‏؟‏‏)‏ قال‏:‏ حُمْرٌ‏.‏ قال‏:‏ ‏(‏فَهَل فيها مِنْ أَوْرَق‏؟‏‏)‏ قال‏:‏ نَعَمْ‏.‏ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏فَأَنَّى أَتَاهَا ذلِكَ‏؟‏‏)‏ قال‏:‏ لَعَلْهُ يَا رَسُول اللَّهِ يكونُ نَزَعَهُ عِرْقٌ‏.‏ فقال النبىُّ صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏وهذَا لَعَلَّهُ يَكُونُ نَزَعَهُ عِرْقٌ‏)‏‏.‏

وهذا الحديث مِن الفقه‏:‏ أن الحدّ لا يجِبُ بالتعرِيضِ إِذا كان على وجهِ السؤالِ والاستفتاء، ومن أخذ منه أنه لا يجبُ بالتعريضِ ولو كان على وجه المُقَابَحة والمشاتمة، فقد أَبْعَدَ النُّجْعَةَ، ورُبَّ تعريضٍ أفهمُ، وأوجعُ للقلب، وأبلغُ في النكاية من التصريح، وبساطُ الكلام وسياقُه يردُّ ما ذكروه من الاحتمال، ويجعلُ الكلام قطعىَّ الدِّلالة على المراد‏.‏

وفيه أن مجرد الرِّيبةِ لا يُسَوِّغُ اللِّعانَ ونفى الولد‏.‏

وفيه ضربُ الأمثال والأشباه والنظائر في الأحكام، ومِن تراجم البخارى في ‏(‏صحيحه‏)‏ على هذا الحديث‏:‏ باب من شبه أصلاً معلوماً بأصل مبين قد بيَّن الله حكمه ليُفهمَ السائِلَ، وساق معه حديثَ‏:‏ ‏(‏أَرَأَيْتَ لَوْ كانَ عَلَى أمِّكَ دَيْنٌ‏؟‏‏)‏‏.‏

فصل‏:‏ في حُكمه صلى الله عليه وسلم بالولدِ لِلفراش، وأن الأمة تكون فراشاً، وفيمن استلحق بعدَ مَوْتِ أبيه

ثبت في ‏(‏الصحيحين‏)‏، من حديث عائشة رضى الله عنها، قالت‏:‏ اختصم سعدُ بنُ أبى وقَّاص، وعبدُ بنُ زمعة في غلام، فقال سعد‏:‏ هذا يا رسولَ الله ابنُ أخى عتبة بن أَبى وقاص عَهِدَ إِلىَّ أنه ابنُه، انْظُرْ إِلى شَبَههِ، وقال عبدُ بنُ زمعة‏:‏ هذا أخى يا رسولَ الله وُلِدَ على فِراش أبى مِن وَليدَتِهِ، فنظر رسولُ الله صلى الله عليه وسلم، فرأى شبهاً بيناً بعُتبة، فقال‏:‏ ‏(‏هُوَ لَكَ يا عَبْدُ بْنَ زَمْعَةَ، الوَلَدُ لِلفِراشِ، ولِلْعَاهِرِ الحَجَرُ واحْتَجِبى مِنْهُ يا سَوْدَةُ‏)‏، فلم تَرَهُ سَوْدَةُ قَطُّ‏.‏

فهذا الحكمُ النبوىُّ أصلٌ في ثبوتِ النسب بالفراش، وفى أن الأمة تكون فِرَاشاً بالوطء، وفى أن الشَّبه إذا عارضَ الفِراش، قُدِّمَ عليه الفِراشُ، وفى أن أحكامَ النسب تتبعَّضُ، فتثبُت من وجهٍ دُونَ وجه، وهو الذي يُسميه بعضُ الفقهاء حُكمَاً بينَ حُكمين، وفى أن القافةَ حقٌ، وأنها من الشرع‏.‏

فأما ثبوتُ النسبِ بالفِراش، فأجمعت عليه الأمةُ، وجهاتُ ثبوتِ النسب أربعةٌ‏:‏ الفراشُ، والاستلحاقُ، والبيِّنةُ، والقَافَةُ‏.‏

فالثلاثة الأول، متفق عليها، واتفق المسلمون على أن النِّكاحَ يثبُت به الفراشُ، واختلفوا في التسرِّى، فجعله جمهورُ الأمة موجباً للفراش، واحتجوا بصريحِ حديثِ عائشة الصحيح، وأن النبىَّ صلى الله عليه وسلم قضى بالولدِ لِزمعة، وصرّح بأنه صاحبُ الفراش، وجعل ذلك عِلة للحكم بالولد له فسبَبُ الحكم ومحلُه إِنما كان في الأمة، فلا يجوزُ إِخلاءُ الحديث منه وحملُه على الحرة التي لم تذكر البتة، وإنما كان الحكمُ في غيرها، فإن هذا يستلزِمُ إِلغاءَ ما اعتبره الشارعُ وعلَّق الحكمَ به صريحاً، وتعطيلَ محلِّ الحكم الذي كان لأجله وفيه‏.‏

ثم لو لم يَرِدِ الحديثُ الصحيح فيه، لكان هو مقتضى الميزانِ الذي أنزل له الله تعالى لِيقومَ الناسُ بالقسْطِ، وهو التسويةُ بين المتماثلين، فإن السُّرِّيَّة فِراشٌ حِسَّاً وحقيقةً وحُكماً، كما أن الحُرَّةَ كذلك، وهى تُراد لما تُراد له الزوجةُ مِن الاستمتاع والاستيلادِ، ولم يزل الناسُ قديماً وحديثاً يرغبون في السَّرارى لاستيلادِهن واستفراشهن، والزوجةُ إِنما سُمِّيَتْ فِراشاً لمعنى هي والسُّرِّيَّةُ فيه على حدٍّ سواء‏.‏

وقال أبو حنيفة‏:‏ لا تكونُ الأمة فراشاً بأوَّلِ ولد ولدته مِن السيد، فلا يلحقُه الولدُ إلا إذا استلحقه، فيلحقه حينئذ بالاستلحاق، لا بالفِراشِ، فما ولدت بعد ذلك لَحقه إلا أن يَنْفِيَه، فعندهم ولدُ الأمة لا يلحق السيدَ بالفراش، إلا أن يتقدَّمه ولد مُسْتَلْحَقٌ، ومعلومٌ أن النبىَّ صلى الله عليه وسلم ألحق الولدَ بزَمْعَةَ، وأثبتَ نسبه منه، ولمْ يثْبُتْ قَطُّ أن هذِهِ الأَمَة ولَدَتْ له قبل ذلك غيره، ولا سأل النبىُّ صلى الله عليه وسلم عن ذلك ولا استفصل فيه‏.‏

قال منازعوهم‏:‏ ليس لهذا التفصيلِ أصلٌ في كتابٍ ولا سُنة، ولا أثرٍ عن صاحب، ولا تقتضيهِ قواعدُ الشرع وأصوله، قالت الحنفية‏:‏ ونحن لا نُنكر كونَ الأمة فراشاً في الجملة، ولكنه فراش ضعيف، وهى فيه دونَ الحرة، فاعتبرنا ما تعتق به بأن تَلِدَ منه ولداً فيستلحقه، فما ولدت بعد ذلك، لحق به إلا أن يَنْفِيَه، وأما الولد الأوَّل، فلا يلحقه إلا بالاستلحاق، ولهذا قُلتُم‏:‏ إنه إذا استحلق ولداً مِن أمته لم يلحقه ما بعدَه إلا باستلحاقٍ مستأنف، بخلاف الزوجة، والفرقُ بينهما‏:‏ أن عقدَ النكاح إنما يُراد للوطء والاستفراش، بخلاف مُلك اليمين، فإن الوطء والاستفراش فيه تابع، ولهذا يجوزُ ورودُه على من يحرم عليه وطؤُها بخلافِ عقد النكاح‏.‏ قالوا‏:‏ والحديثُ لا حُجَّةَ لكم فيه، لأن وطء زمعة لم يثبُتْ، وإِنما ألحقه النبىُّ صلى الله عليه وسلم لِعبد أخاً، لأنه استلحقه، فألحقه باستلحاقه، لا بفراش الأب‏.‏

قال الجمهورُ‏:‏ إذا كانت الأمةُ موطوءة، فهى فِراش حقيقة وحُكماً، واعتبارُ ولادتها السابقة في صيرورتها فراشاً اعتبارُ ما لا دليل على اعتباره شرعاً، والنبىُّ صلى الله عليه وسلم لم يعتبره في فِراش زَمْعَة، فاعتبارُه تحكم‏.‏

وقولُكم‏:‏ إن الأمةَ لا تفرد للوطء، فالكلام في الأمة الموطوءة التي اتخذت سِّريَّة وفِراشاً، وجُعِلَتْ كالزوجة أو أحظى منها لا في أمته التي هي أختُه من الرضاع ونحوها‏.‏

وقولُكم‏:‏ إن وطء زمعةَ لم يثُبت حتَّى يلحق به الولدُ، ليس علينا جوابُه، بل جوابُه على من حكم بلحوق الولد بزمعة، وقال لابنه‏:‏ هو أخوك‏.‏

وقولكم‏:‏ إنما ألحقه بالأخ لأنه استلحقه‏:‏ باطل، فإن المستلحق إن لم يُقِرَّ به جميعُ الورثة، لم يلحق بالمقر إلا أن يشهدَ منهم اثنان أنه وُلِدَ على فراش الميت، وعَبْدٌ لم يكن يُقِرُّ له جميعُ الورثة، فإن سودة زوجة النبى صلى الله عليه وسلم أخته، وهىَ لم تُقِرَّ به، ولم تَسْتَلحقهُ، وحتى لو أقَرَّت به مع أخيها عبدٍ، لكان ثبوتُ النسب بالفراش لا بالاستلحاق، فإن النبىَّ صلى الله عليه وسلم صرَّح عقيب حكمه بإلحاق النسب، بأن الولد للفراش معللاً بذلك، منبهاً على قضية كُلِّية عامة تتناولُ هذهِ الواقعةَ وغيرها‏.‏ ثم جوابُ هذا الاعتراض الباطل المحرِّم، أن ثبوتَ كون الأمة فراشاً بالإقرار من الواطىء، أو وارثه كافٍ في لحقوق النسب، فإن النبىَّ صلى الله عليه وسلم ألحقه به بقوله‏:‏ ‏(‏ابن وليدة أبى وُلِدَ على فراشه‏)‏، كيف وزَمْعَةُ كان صِهرَ النبىِّ صلى الله عليه وسلم، وابنتُه تحته، فكيف لا يثُبت عنده الفِراشُ الذي يلحق به النسب‏؟‏

وأما ما نقضتُم به علينا أَنَّه إذا استحلق ولداً مِن أمته، لم يلحقه ما بعدَه إلا بإقرارٍ مستأنَف، فهذا فيه قولان لأصحاب أحمد، هذا أحدُهما، والثانى‏:‏ أنه يلحقُه وإن لم يستأنِفْ إقراراً، ومن رجَّح القولَ الأول قال‏:‏ قد يستبرئها السيدُ بعد الوِلادة، فيزولُ حكمُ الفِراش بالاستبراء، فلا يلحقُه ما بعد الأول بإعتراف مستأنف أنه وطئها، كالحال في أول ولد‏.‏

ومن رجَّح الثانى قال‏:‏ قد يثبت كونُها فراشاً أولاً، والأصلُ بقاء الفراش حتى يَثْبُتَ ما يُزيله، إذ ليس هذا نظيرَ قولكم‏:‏ إنه لا يلحقُه الولدُ مع اعترافه بوطئها حتى يستلحِقَه، وأبطلُ من هذا الاعتراض قولُ بعضهم، إنه لم يُلحقه به أخاً، وإنما جعله له عبداً، ولهذا أتى فيه بلام التمليك فقال‏:‏ ‏(‏هُوَ لَكَ‏)‏، أى‏:‏ مملوك لك، وقوَّى هذا الاعتراض بأن في بعض ألفاظ الحديث ‏(‏هُوَ لَكَ عبد‏)‏، وبأنه أمر سودَةَ أن تحتجِبَ منه، ولو كان أخاً لها لما أمرها بالاحتجاب منه، فدلَّ على أنه أجنبى منها‏.‏ قال‏:‏ وقوله‏:‏ ‏(‏الولد للِفراش‏)‏، تنبيه على عدم لحوق نسبه بزمعة أى‏:‏ لم تكن هذه الأمة فراشاً له، لأن الأمة لا تكون فراشاً، والولد إنما هو للِفراش، وعلى هذا يَصِحُّ أمرُ احتجاب سودة منه، قال‏:‏ ويُؤكده أن في بعض طرق الحديث‏:‏ ‏(‏احتجبى منه، فإنه ليس لك بأخ‏)‏ قالوا‏:‏ وحينئذ فتبيَّن إنا أسعدُ بالحديث وبالقضاء النبوى منكم‏.‏

قال الجمهورُ‏:‏ الآن حَمِىَ الوطيسُ، والتقت حلقتا البطان فنقول واللَّه المستعان ‏:‏ أمّا قولُكم‏:‏ إنه لم يُلحقه به أخاً، وإنما جعله عبداً، يردُّه ما رواه محمد بن إسماعيل البخارى في ‏(‏صحيحه‏)‏ في هذا الحديث‏:‏ ‏(‏هو لك، هو أخوك يا عبد بن زمعة‏)‏ وليس اللام للتمليك، وإنما هي للاختصاص، كقوله‏:‏ ‏(‏الولد للفراش‏)‏‏.‏ فأما لفظة قوله‏:‏ ‏(‏هو لك عبد‏)‏، فرواية باطلة لا تَصِحُّ أصلاً‏.‏ وأما أمرُه سودة بالاحِتجاب منه، فإما أن يكونَ على طريقِ الاحتياطِ لمكان الشبهة التي أورثها الشَّبهُ البَيِّنُ بعُتبة، وإما أن يكون مراعاةً للشَّبهَيْنِ وإعمالاً للدليلين، فإن الفِراش دليلُ لحوق النسب، والشبه بغير صاحبه دليلُ نفيه، فأعمل أمرَ الفراش بالنسبة إِلى المدَّعى لقوته، وأعمل الشَّبه بعُتبة بالنسبة إلى ثبوت المحرمية بينه وبَين سودة، وهذا مِن أحسن الأحكام وأبينها، وأوضحها، ولا يمنع ثبوتُ النسبِ مِن وجه دونَ وجه، فهذا الزانى يثبُت النسبُ منه بينه وبين الولد في التحريم والبعضية دون الميراثِ والنفقةِ والوِلاية وغيرها، وقد يتخلَّف بعضُ أحكام النسب عنه مع ثبوته لمانع، وهذا كثيرٌ في الشريعة، فلا يُفكر مِن تخلُّف المحرمية بينَ سودة وبينَ هذا الغلام لمانع الشبه بعتبة، وهل هذا إلا محضُ الفقه‏؟‏ وقد علم بهذا معنى قوله‏:‏ ‏(‏ليس لكِ بأخ‏)‏، لو صحت هذه اللفظة مع أنها لا تصِحُّ، وقد ضعفها أهلُ العلم بالحديث، ولا نُبالى بصحتها مع قوله لعبد‏:‏ ‏(‏هُو أَخُوكَ‏)‏، وإذا جمعت أطرافَ كلام النبى صلى الله عليه وسلم، وقرنت قوله‏:‏ ‏(‏هو أخوك‏)‏، بقوله‏:‏ ‏(‏الولد للفراش، وللعاهر الحجرُ‏)‏، تبيَّن لك بطلانُ ما ذكروهُ من التأويل، وأن الحديثَ صريحٌ في خلافه لا يحِتملُه بوجه واللَّه أعلم‏.‏ والعجب أن منازعينا في هذه المسألة يجعلُون الزوجة فراشاً لمجرد العقد، وإن كان بينَها وبين الزوج بعد المشرقين، ولا يجعلونَ سُرِّيّتَه التي يتكرَّر استفراشُه لها ليلاً ونهاراً فِراشاً‏.‏

فصل

واختلف الفقهاءُ فيما تصيرُ به الزوجة فراشاً، على ثلاثة أقوال‏:‏

أحدُها‏:‏ أنه نفسُ العقد وإن علم أنه لم يجتمع بها، بل لو طلَّقها عقيبَه في المجلس، وهذا مذهب أبى حنيفة‏.‏

والثانى‏:‏ أنه العقدُ مع إمكان الوطء، وهذا مذهب الشافعى وأحمد‏.‏

والثالث‏:‏ أنه العقدُ مع الدخول المحقَّقِ لا إمكانه المشكوك فيه، وهذا اختيارٌ شيخ الإسلام ابن تيمية، وقال‏:‏ إن أحمد أشار إليه في رواية حرب، فإنه نص في روايته فيمن طلق قبل البناء، وأتت امرأتُه بولد، فأنكره أنه ينتفى عنه بغير لعان وهذا هو الصحيحُ المجزوم به، وإلا فكيف تصيرُ المرأة فراشاً ولم يدخُلْ بها الزوجُ ولم يَبْنِ لمجرد إمكان بعيدٍ‏؟‏ وهل يَعُدُّ أهلُ العرف واللغة المرأة فراشاً قبل البناء بها وكيف تأتى الشريعةُ بإلحاق نسبٍ بمن لم يبن بامرأته، ولا دخلَ بها، ولا اجتمع بها بمجرَّدِ إمكان ذلك‏؟‏ وهذا الإمكانُ قد يقطع بإنتفائه عادة، فلا تصيرُ المرأة فِراشاً إلا بدخول محقق، وباللَّه التوفيق‏.‏ وهذا الذي نص عليه في رواية حرب، هو الذي تقتضيه قواعِدُه وأصولُ مذهبه واللَّه أعلم‏.‏

واختلفوا أيضاً فيما تصير به الأمةُ فراشاً، فالجمهور على أنه لا تصير فراشاً إلا بالوطءِ، وذهب بعضُ المتأخرين من المالكية إلى أن الأمة التي تشترى للوطء دونَ الخِدمة، كالمرتفعة التي يُفهم من قرائن الأحوال أنها إنما تُراد للتسرى، فتصير فِراشاً بنفس الشراء، والصحيح أن الأمة والحرة لا تصيران فِراشاً بالدخول‏.‏

فصل

فهذا أحدُ الأمور الأربعة التي يثبتُ بها النسب، وهو الفراش‏.‏

الثانى‏:‏ الاستلحاق وقد اتفق أهلُ العلم على أن للأبِ أن يستلحِقَ فأما الجدُّ، فإن كان الأبُ موجوداً لم يؤثر استلحاقه شيئاً، وإن كان معدوماً، وهو كُلُّ الورثة، صح إقراره، وثبت نسبُ المُقِرِّ به، وإن كان بعضَ الورثة وصدَّقوه، فكذلك، وإلا لم يثْبُتْ نسبه إلا أن يكون أحد الشاهدين فيه‏.‏

والحكم في الأخ كالحكم في الجد سواء، والأصل في ذلك أن مَن حاز المالَ يثبُت النسبُ بإقراره واحداً كان أو جماعة، وهذا أصلُ مذهب أحمد والشافعى، لأن الورثة قامُوا مقامَ الميت، وحلُّوا محلَّه‏.‏ وأورد بعضُ الناس على هذا الأصل، أنه لو كان إجماعُ الورثة على إلحاق النسب يُثْبِتُ النسب، للزم إذا اجتمعوا على نفى حملٍ مِن أمة وطئها الميت أن يحلوا محلَّه في نفى النسب، كما حلوا محلَّه في إلحاقه، وهذا لاَ يَلْزَمُ، لأنا اعتبرنا جميعَ الورثة والحمل من الورثة، فلم يُجْمِعِ الورثة على نفيه‏.‏

فإن قيل‏:‏ فأنتم اعتبرتُم في ثبوت النسب إقرارَ جميع الورثة، والمقر هاهنا إنما هو عبدٌ، وسودةُ لم تُقِرَّ به وهى أختُه، والنبىُّ صلى الله عليه وسلم ألحقَهُ بعبد باستلحاقه، ففيه دليل على استلحاق الأخ وثبوت النسب بإقراره، ودليلٌ على أن استلحاقَ أحدِ الأخوة كافٍ‏.‏

قيل‏:‏ سودةُ لم تكن منكرة، فإن عبداً استلحقه، وأقرته سودةُ على استلحاقه، وإقرارُها وسكوتُها على هذا الأمر المتعدى حكمُه إليها من خلوته بها، وبرؤيته إياها وصيرورته أخاً لها تصديقٌ لأخيها عَبْدٍ، وإقرارٌ بما أقر به، وإلا لبادرت إلى الإنكار والتكذيبِ، فجرى رِضاها وإقرارُها مجرى تصدِيقها، هذا إن كان لَمْ يَصْدُرْ منها تصديقٌ صريح، فالواقعة واقعةُ عين، ومتى استلحق الأخُ أو الجدُّ أو غيرُهما نسبَ من لو أقَّر به مورثهم لحقه، ثبت نسبُه ما لم يكن هنا وارثٌ منازع، فالاستلحاقُ مقتضٍ لثبوتِ النسب، ومنازعة غيره مِن الورثة مانعٌ من الثبوتِ، فإِذا وُجِدَ المقتضى، ولم يمنع مانِعٌ من اقتضائه، ترتّبَ عليه حكمُه‏.‏ ولكن هاهنا أمر آخر، وهو أن إقرارَ من حاز الميراثَ واستلحاقه‏:‏ هل هو إقرارُ خلافةٍ عن الميت أو إِقرارُ شهادة‏؟‏ هذا فيه خلافٌ، فمذهبُ أحمد والشافعى رحمهما الله، أنه إقرارُ خِلافه، فلا تُشترط عدالة المستلحق، بل ولا إسلامُه، بل يَصِحُّ ذلك مِن الفاسق والدَّيِّن، وقالت المالكية‏:‏ هو إقرارُ شهادة، فتعتبرُ فيه أهليةُ الشهادة، وحكى ابن القصار عن مذهب مالك‏:‏ أن الورثة إذا أقرُّوا بالنسب، لحق، وإن لم يكونوا عدولاً، والمعروف من مذهب مالك خلافُه‏.‏

فصل

الثالث‏:‏ البينة، بأن يشهد شاهِدانِ أنَّه ابنه، أو أنه وُلِدَ على فراشه مِن زوجتِه أو أمته، وإذا شهد بذلك اثنان من الورثة لم يلتفت إلى إنكار بقيتهم وثبت نسبة، ولا يُعرف في ذلك نزاع‏.‏

فصل

الرابع‏:‏ القافة، حكم رسولِ الله صلى الله عليه وسلم وقضاؤُه باعتبار القافة وإلحاق النسب بها‏.‏

ثبت في ‏(‏الصحيحين‏)‏‏:‏ من حديث عائشة رضى الله عنها قالت‏:‏ دخل علىَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم ذاتَ يومٍ مسروراً تَبْرُقٌ أساريرُ وجهه، فقال‏:‏ ‏(‏أَلَمْ تَرَىْ أَنَّ مُجَزِّزاً المُدْلِجِى نَظَر آنفاً إِلى زَيْدِ بْنِ حَارِثَةَ وأُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ وعَلَيْهِمَا قَطِيفَةٌ قَدْ غَطَّيَا رُؤُوسَهُمَا وَبَدَتْ أَقْدَامُهُمَا، فقال‏:‏ إِنَّا هذِهِ الأَقْدَامَ بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ‏)‏، فَسُرَّ النبىّ صلى الله عليه وسلم بقول القائف ولو كانت كما يقول المُنازِعُونَ مِن أَمر الجاهلية كالكهانة ونحوها لما سُرَّ بها، ولا أُعْجِبَ بِهَا، ولكانت بمنزلة الكَهانة‏.‏ وقد صحَّ عنه وعيدُ مَن صَدَّق كاهناً‏.‏ قال الشافعي‏:‏ والنبىُّ صلى الله عليه وسلم أثبته عِلماً، ولم يُنْكِره، ولو كان خطأ لأنكره، لأن في ذلك قذفَ المحصَناتِ، ونفىَ الأنساب، انتهى‏.‏

كيف والنبىُّ صلى الله عليه وسلم قد صرَّح في الحديث الصحيح بصحتها واعتبارها، فقال في ولد الملاعنة‏:‏ ‏(‏إن جاءت به كذا وكذا فهو لهلالِ بنِ أمية، وإن جاءت به كذا وكذا فهو لشريك بن سَحْماء‏)‏، فلما جاءت به على شَبَهِ الذي رُمِيَتْ به قال‏:‏ ‏(‏لَوْلاَ الأيْمَانُ لَكَانَ لِى وَلَهَا شَأْنٌ‏)‏ وهل هذا إلا اعتبار للشبه وهو عينُ القافة، فإن القائِفَ يتبعُ أَثرَ الشبه، وينظرُ إلى من يتَّصِلُ، فيحكم به لصاحب الشبه، وقد اعتبر النبى صلى الله عليه وسلم الشبه وبيَّن سببه، ولهذا لما قالت له أمٌّ سلمة‏:‏ أو تحتلم المرأة، فقال‏:‏ ‏(‏مِمَّ يَكُونُ الشَّبَهُ‏)‏‏.‏

وأخبر في الحديث الصحيح، أن ماء الرَّجُل إذا سَبَقَ ماءَ المرأة، كان الشَّبَهُ لَهُ، وإِذا سَبَقَ مَأُوهَا مَاءَهُ، كان الشَّبَهُ لَهَا‏)‏‏.‏ فهذا اعتبار منه للشبه شرعاً وقدراً، وهذا أقوى ما يكون مِن طرق الأحكام أن يتوارَدَ عليه الخلقٌ والأمرُ والشرعُ والقدرُ ولهذا تبعه خلفاؤه الراشِدُونَ في الحُكم بالقَافه‏.‏

قال سعيد بن منصور‏:‏ حدثنا سفيان، عن يحيى بن سعيد، عن سليمان بن يسار، عن عمر في امرأة وَطئهَا رجلانِ في طهرٍ، فقال القائفُ، قد اشتركا فيه جميعاً، فجعلَه بينهما‏.‏

قال الشعبي‏:‏ وعلى يقول‏:‏ هو ابنُهما، وهما ابواه يرثانه، ذكره سعيد أيضاً‏.‏

وروى الأثرم بإسناده، عن سعيد بن المسيِّب، في رجلين اشتركا في طُهْرِ امرأةٍ فحملت، فولَدَتْ غُلاماً يُشبههما، فرُفِعَ ذلك إلى عمرَ بنِ الخطاب، فدعا القافة فنظرُوا، فقالوا‏:‏ نراه يُشِبهُهُمَا، فألحقه بهما، وجعَلَه يَرثُهما ويرثانه‏.‏

ولا يُعْرَفُ قطُّ في الصحابة مَنْ خالف عمر وعلياً رضى الله عنهما في ذلك، بل حكم عمر بهذا في المدينة، وبحَضرته المهاجرون والأنصار، فلم يُنْكِرْهُ منهم منكر‏.‏

قال الحنفية‏:‏ قد أجلبتم علينا في القافة بالخيلِ والرَّجلِ، والحُكُمُ بالقيافة تعويلٌ على مجرَّد الشَّبه والظن والتخمين، ومعلوم أن الشَّبه قد يُوجد من الأجانب، وينتفى عن الأقارب، وذكرتُم قِصة أسامة وزيد، ونسيتُم قِصةَ الذي ولدت امرأتُه غلاماً أسود يُخالِفُ لونَهما، فلم يُمكنه النبى صلى الله عليه وسلم من نفيه، ولا جَعَلَ للشبه ولا لِعدمه أثراً، ولو كان للِشبه أثر، لاكتفى به في وَلدِ الملاعنة، ولم يحتج إلى اللعان، ولكان ينتظِرُ ولادته، ثم يُلحق بصاحب الشبه، ويستغنى بذلك عن اللعان بل كانَ لا يَصِحُّ نفيُه مع وجودِ الشبه بالزوج، وقد دَلَّت السنةُ الصحيحةُ الصريحة على نفيه عن الملاعين، ولو كان الشبه له، فإن النبىّ صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏أَبْصِرُوها فإن جَاءَتْ بِهِ كَذَا وكَذَا، فَهُوَ لِهِلال بْنِ أُميَّة‏)‏، وهذا قاله بعد اللِّعان ونفى النسب عنه فعُلِمَ أنه لو جاء على الشبه المذكور، لم يَثْبُتْ نسبُه منه، وإنما كان مجيئه على شبه دليلاً على كذبه، لا على لحوق الولد به‏.‏

قالوا‏:‏ وأما قصةُ أسامةَ وزيدٍ، فالمنافقون كانوا يطعنون في نسبه من زيد لمخالفة لونه لون أبيه، ولم يكونوا يكتفون بالفِراش، وحكم الله ورسُولُه في أنه ابنُه، فلما شهد به القائفُ وافقت شهادتُه حكمَ اللَّهِ ورسوله، فسر به النبى صلى الله عليه وسلم لموافقتِها حكمه، ولتكذيبها قولَ المنافقين، لا أنه أثبت نسبه بها، فأين في هذا إِثباتُ النسب بقول القائف‏؟‏

قالوا‏:‏ وهذا معنى الأحاديث التي ذكر فيها اعتبارُ الشبه، فإنها إنما اعتبرت فيه الشبه بنسب ثابت بغير القافة، ونحن لا نُنكرُ ذلك‏.‏ قالوا‏:‏ وأما حكم عمر وعلى، فقد اختُلِفَ على عمر، فرُوى عنه ما ذكرتُم، ورُوى عنه أن القائف لما قال له‏:‏ قد اشتركا فيه، قال وَالِ أيَّهما شئت‏.‏ فلم يعتبر قولَ القائف

قالوا‏:‏ وكيف تقولون بالشبه، ولو أقر أحدُ الورثة بأخ، وأنكره الباقون، والشَّبَهُ موجود، لم تُثبِتُو النسبَ به، وقلُتم‏:‏ إن لم تتفق الورثة على الإقرارِ به لم يثبُتِ النَّسَبُ‏؟‏‏.‏

قال أهلُ الحديث‏:‏ مِن العجب أن يُنكِرَ علينا القولَ بالقافة، ويجعلَها مِن باب الحَدْسِ والتخمين مَنْ يُلْحِقُ ولدَ المشرقى بمن في أقصى المغرب، مع القطع بأنهما لم يتلاقيا طرفةَ عين، ويلُحق الولَد باثنين مع القطع بأنه ليس ابناً لأحدهما، ونحنُ إنما ألحقنا الولدَ بقول القائف المستند إلى الشبه المعتبر شرعاً وقدراً، فهو إستناد إلى ظن غالب، ورأى راجح، وأمارة ظاهرة بقول من هو مِن أهل الخبرة، فهو أولى بالقبول مِن قول المقومين، وهل يُنكر مجىءُ كثير من الأحكام مستنداً إلى الأمارات الظاهرة، واالظنون الغالبة‏؟‏

وأما وجود الشبه بين الأجانب، وانتفاؤه بين الأقارب، وإن كان واقعاً فهو مِن أندر شىء وأقَلَّه، والأحكام إنما هي للغالب الكثير، والنادرُ في حكم المعدوم‏.‏

وأما قصةُ من ولدت امرأتُه غلاماً أسود، فهو حجةٌ عليكم، لأنها دليل على أن العادة التي فطر الله عليها الناسَ اعتبارُ الشبه، وأن خلافَه يُوجب ريبة، وأن في طباع الخلق إنكارَ ذلك ولكن لما عارض ذلك دليلٌ أقوى منه وهو الفِراش، كان الحكمُ للدليل القوى، وكذلك نقول نحن وسائر الناس‏:‏ إن الفراش الصحيح إذا كان قائماً، فلا يُعارَض بقافة ولا شَبَهِ، فمخالفةُ ظاهر الشبه لدليلٍ أقوى منه وهو الفِراشُ غيرُ مستنكر، وإنما المستنكرُ مخالفةُ هذا الدليل الظاهر بغير شىء‏.‏

وأما تقديمُ اللعان على الشبه، وإلغاءُ الشبه مع وجوده، فكذلك أيضاً هو مِن تقديم أقوى الدليلين على أضعفهما، وذلك لا يمنع العملَ بالشبه مع عدم ما يُعارضه، كالبينة تُقدم على اليد والبراءة الأصلية، ويُعمل بهما عند عدمهما‏.‏ وأما ثبوتُ نسبِ أسامة من زيد بدون القيافة، فنحن لم نُثبت نسبه بالقيافة، والقيافةُ دليل آخر موافق لدليل الفِراش، فسرورُ النبى صلى الله عليه وسلم، وفرجُه بها، واستبشارُه لتعاضُد أدلة النسب وتضافرها، لا لإثبات النسب بقولِ القائف وحدَه، بل هو من باب الفرح بظهور أعلامِ الحق وأدلته وتكاثرها، ولو لم تصلُحِ القيافةُ دليلاً لم يَفْرَحْ بها ولم يُسر، وقد كان النبىُّ صلى الله عليه وسلم يقرح ويُسر إذا تعاضدت عنده أدلةُ الحق، ويُخبر بها الصحابةَ، ويُحب أن يسمعوها من المخبر بها، لأن النفوسَ تزدادُ تصديقاً بالحق إذا تعاضدت أدلته، وتُسُّر به وتفرح، وعلى هذا فطر اللَّهُ عباده، فهذا حكم اتفقت عليه الفطرة والشرعة وباللَّه التوفيق‏.‏

وأما ما رُوى عن عمر أنه قال‏:‏ وَالِ أيهما شئت، فلا تعرف صحته عن عمر، ولو صحّ عنه لكان قولاً عنه، فإن ما ذكرنا عنه في غاية الصحة، مع أن قوله‏:‏ وال أيهما شئت ليس بصريح في إبطال قول القائف، ولو كان صريحاً في إبطال قوله، لكان في مثل هذا الموضع إذا ألحقه باثنين، كما يقوله الشافعى ومن وافقه‏.‏

وأما إذا أقر أحدُ الورثة بأخ، وأنكره الباقون، فإنما لم يثبُتْ نسبُه لمجرد الإقرار، فأما إذا كان هناك شبهٌ يستنِدُ إليه القائف، فإنه لا يُعتبر إنكارُ الباقين، ونحن لا نقصُر القَافَةَ على بنى مُدْلِج، ولا نعتبِرُ تعدد القائف، بل يكفى واحد على الصحيح بناء على أنه خبر، وعن أحمد رواية أخرى‏:‏ أنه شهادة، فلا بد من اثنين، ولفظُ الشهادة بناء على اشتراط اللفظ‏.‏

فإن قيل‏:‏ فالمنقول عن عمر أنه ألحقه بأبوين، فما تقولون فيما إذا ألحقته القافة بأبوين، هل تُلحِقُونه بهما، أو لا تُلحقونه إلا بواحدٍ، وإذا ألحقتمُوه بأبوين، فهل يختصُّ ذلك باثنين، أم يلحقُ بهم وإن كثروا، وهل حُكمُ الاثنين في ذلك حكم الأبوين أم ماذا حُكمهما‏؟‏

قيل‏:‏ هذه مسائل فيها نزاع بين أهل العلم، فقال الشافعى ومن وافقه‏:‏ لا يُلحق بأبوين، ولا يكون للرجل إلا أبٌ واحد، ومتى ألحقته القافة باثنين، سقط قولُها، وقال الجمهورُ‏:‏ بل يلحق باثنين، ثم اختلفوا، فنص أحمد في رواية مهنا بن يحيى‏:‏ أنه يُلحق بثلاثة، وقال صاحب المغنى‏:‏ ومقتضى هذا أنه يُلحق بمن أحلقته القافةُ به وإن كثروا، لأنه إذا جاز إلحاقُه باثنين، جاز إلحاقه بأكثرَ من ذلك وهذا مذهبُ أبى حنيفة، لكنه لا يقولُ بالقافة، فهو يُلحقه بالمدَّعين وإن كثروا، وقال القاضى‏:‏ يجب أن لا يُلحق بأكثر من ثلاثة، وهو قولُ محمد بن الحسن، وقال ابنُ حامد‏:‏ لا يُلحق بأكثرَ من اثنين، وهو قولُ أبى يوسف، فمن لم يُلحقه بأكثرَ من واحد، قال‏:‏ قد أجرى الله سبحانه عادته أن للولد أباً واحداً، وأماً واحدة، ولذلك يُقال‏:‏ فلانُ ابن فلان، وفلان ابن فلانه فقط‏.‏ ولو قيل‏:‏ فلان ابن فلان وفلان، لكان ذلك منكراً، وعُد قذفاً، ولهذا إنما يُقال يومَ القيامة‏:‏ أين فُلان بن فلان‏؟‏ وهذه غَدْرَةُ فلان بن فلان، ولم يُعهد قطُّ في الوجود نسبة ولد إلى أبوين قط، ومن ألحقه باثنين، احتج بقول عمر، وإقرار الصحابة له على ذلك، وبأن الولد قد ينعقِدُ من ماء رجلين، كما ينعقد من ماء الرجل والمرأة، ثم قال أبو يوسف‏:‏ إنما جاء الأثرُ بذلك، فيُقتصر عليه‏.‏ وقال القاضى‏:‏ لا يتعدى به ثلاثة، لأن أحمد إنما نص على الثلاثة، والأصل ألا يُلحق بأكثرَ مِن واحد، وقد دل قول عمر على إلحاقه باثنين مع انعقاده من ماء الأم، فدل على إمكان انعقاده من ماء ثلاثة، وما زاد على ذلك، فمشكوكٌ فيه‏.‏

قال المُلْحِقُونَ له بأكثرَ مِن ثلاثة‏:‏ إذا جاز تخليقه من ماء رجلين وثلاثة، جاز خلقُه مِن ماء أربعة وخمسة، ولا وجه لاقتصاره على ثلاثة فقط، بل إما أن يُلحق بهم وإن كُثروا، وإما أن لا يتعدى به أحد، ولا قول سوى القولين واللَّه أعلم‏.‏

فإن قيل‏:‏ إذا اشتمل الرحمُ على ماء الرجل، وأراد الله أن يخلُق منه الولدَ، انضم عليه أحكمَ انضمام، وأتمّه حتى لا يَفٍسُدَ، فكيف يدخل عليه ماء آخر‏؟‏ قيل‏:‏ لا يمتنِعُ أن يَصِلَ الماءُ الثانى إلى حيث وصل الأول، فينضم عليهما، وهذا كما أن الولدَ ينعقِد من ماءِ الأَبَويْنِ، وقد سبق ماءُ الرجل ماء المرأة أو بالعكس، ومع هذا فلا يمتنِعُ وصولُ الماء الثانى إلى حيث وصل الأول، وقد علِم بالعادة أن الحامل إذا تُوبع وطؤها، جاء الولد عبل الجسم ما لم يُعارِضْ ذلك مانع، ولهذا ألهم الله سبحانَه الدوابَّ إذا حملت أن لا تُمكِّنَ الفحلَ أن ينزوَ عليها، بل تَنْفِرُ عنه كُلَّ النِّفار، وقال الإمام أحمد‏:‏ إن الوطء الثانى يزيد في سمع الولد وبصره، وقد شبَّهه النبىُّ صلى الله عليه وسلم بسقى الزرع، ومعلومٌ أن سقيَه يزيدُ في ذاته واللَّه أعلم‏.‏

فإن قيل‏:‏ فقد دلَّ الحديثُ على حكم استلحاق الولد، وعلى أن الولد للفراش، فما تقولون لو استلحق الزانى ولداً لا فِراش هُناك يُعارضه، هل يلحقُه نسبُه، ويثبتُ له أحكامُ النسب‏؟‏

قيل‏:‏ هذه مسألة جليلة اختلف أهلُ العلم فيها، فكان إسحاق بن راهويه يذهبُ إلى أن المولودَ مِن الزِّنى إذا لم يكن مولوداً على فراش يدَّعيه صاحبه، وادعاه الزانى، أُلحِقَ به، وأوَّل قول النبى صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏الولد للفراش‏)‏، على أنه حكم بذلك عند تنازُع الزانى وصاحب الفراش، كما تقدم، وهذا مذهب الحسن البصرى، رواه عنه إسحاق بإسناده، في رجل زنى بامرأة، فولدت ولداً، فادَّعى ولدَها فقال‏:‏ يُجلد ويلزمُه الولد، وهذا مذهبُ عروة بن الزبير، وسليمانَ بن يسار ذكر عنهما أنهما قالا‏:‏ أيُّما رجل أتى إلى غلام يزعم أنه ابن له، وأنه زنى بأمه ولم يَدَّعِ ذلك الغلامَ أحد، فهو ابنُه، واحتج سليمان، بأن عمر بن الخطاب كان يُلِيطُ أولادَ الجاهلية بمن ادعاهم في الإسلام، وهذا المذهبُ كما تراه قوة ووضوحاً، وليس مع الجمهور أكثرُ مِن ‏(‏الولد للفراش‏)‏ وصاحبُ هذا المذهب أوَّلُ قائل به، والقياسُ الصحيح يقتضيه، فإن الأبَ أحدُ الزانيين، وهو إذا كان يلحق بأمه، وينسب إليها وترثه ويرثُها، ويثبت النسب بينه وبين أقارب أمه مع كونها زنت به، وقد وُجِدَ الولدُ مِن ماء الزانيين، وقد اشتركا فيه، واتفقا على أنه ابنهُما، فما المانِعُ مِن لحوقه بالأب إذا لم يدَّعِهِ غيرُه‏؟‏ فهذا محضُ القياس، وقد قال جريج للغلام الذي زنت أمُّه بالراعى‏:‏ من أبوك يا غلام‏؟‏ قال‏:‏ فلان الراعى، وهذا إنطاق من الله لا يُمكن فيه الكذبُ‏.‏

فإن قيل‏:‏ فهل لِرسول الله صلى الله عليه وسلم في هذه المسألة حُكم‏؟‏ قيل‏:‏ قد رُوى عنه فيها حديثانِ، نحن نذكرُ شأنهما‏.‏

فصل‏:‏ ذكر حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم في استلحاقِ ولد الزنى وتوريثه

ذكر أبو داود في ‏(‏سننه‏)‏‏:‏ من حديث ابن عباس قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏لا مساعاة في الإسلام، من ساعى في الجاهلية فقد لحق بعصبته، ومن ادعى ولدا من غير رشدة، فلا يرث ولا يورث‏)‏‏.‏ المساعاة‏:‏ الزنى، وكان الأصمعي يجعلها في الإماء دون الحرائر، لأنهن يسعين لمواليهن، فيكتسبن لهم، وكان عليهن ضرائب مقررة، فأبطل النبي صلى الله عليه وسلم المساعاة في الاسلام، ولم يلحق النسب بها، وعفا عما كان في الجاهلية منها، وألحق النسب به‏.‏ وقال الجوهري‏:‏ يقال‏:‏ زنى الرجل وعهر، فهذا قد يكون في الحرة والأمة، ويقال في الأمة خاصة‏:‏ قد ساعاها‏.‏ ولكن في إسناد هذا الحديث رجل مجهول، فلا تقوم به حجة‏.‏ وروى أيضا في ‏(‏سننه‏)‏ من حديث عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده ‏(‏أن النبي صلى الله عليه وسلم، قضى أن كل مستلحق استلحق بعد أبيه الذي يدعى له، ادعاه ورثته، فقضى أن كل من كان من أمة يملكها يوم أصابها، فقد لحق بمن استلحقه، وليس له مما قسم قبله من الميراث، وما أدرك من ميراث لم يقسم، فله نصيبه، ولا يلحق إذا كان أبوه الذي يدعى له أنكره، وإن كان من أمة لم يملكها، أو من حرة عاهر بها، فإنه لا يلحق ولا يرث، وإن كان الذي يدعى له هو ادعاه، فهو من ولد زني من حرة كان أو أمة‏)‏‏.‏

وفي رواية‏:‏ ‏(‏وهو ولد زنى لأهل أمه من كانوا حرة أو أمة‏)‏‏.‏ وذلك فيما استلحق في أول الإسلام، فما اقتسم من مال قبل الإسلام، فقد مضى‏)‏ وهذا لأهل الحديث في إسناده مقال، لأنه من رواية محمد بن راشد المكحولي‏.‏ وكان قوم في الجاهلية لهم إماء بغايا، فإذا ولدت أمة أحدهم وقد وطئها غيره بالزنى، فربما ادعاه سيدها، وربما ادعاه الزاني، واختصما في ذلك، حتى قام الإسلام، فحكم النبي صلى الله عليه وسلم بالولد للسيد، لأنه صاحب الفراش، ونفاه على الزاني‏.‏

ثم تضمن هذا الحديث أمورا‏.‏ منها‏:‏ أن المستلحق إذا استلحق بعد أبيه الذي يدعى له ادعاه ورثته، فإن كان الولد من أمة يملكها الواطىء يوم أصابها، فقد لحق بمن استلحقه، يعني إذا كان الذي استلحقه ورثة مالك الأمة، وصار ابنه من يومئذ، ليس له مما قسم قبله من الميراث شيء، لأن هذا تجديد حكم نسبه، ومن يومئذ يثبت نسبه، فلا يرجع بما اقتسم قبله من الميراث، إذ لم يكن حكم البنوة ثابتا، وما أدرك من ميراث لم يقسم، فله نصيبه منه، لأن الحكم ثبت قبل قسمه الميراث، فيستحق منه نصيبه، وهذا نظير من أسلم على ميراث قبل قسمه، قسم له في أحد قولي العلماء، وهو إحدى الروايتين عن أحمد، وإن أسلم بعد قسم الميراث، فلا شيء له، فثبوت النسب هاهنا بمنزلة الإسلام بالنسبة إلى الميراث‏.‏ قوله‏:‏ ‏(‏ولا يلحق إذا كان أبوه الذي يدعى له أنكره‏)‏ هذا، يبين أن التنازع بين الورثة، وأن الصورة الأولى أن يستلحقه ورثة أبيه الذي كان يدعى له، وهذه الصورة إذا استلحقه ورثته وأبوه الذي يدعى له كان ينكر، فإنه لا يلحق، لأن الأصل الذي الورثة خلف عنه منكر له، فكيف يلحق به مع إنكاره‏؟‏ فهذا إذا كان من أمة يملكها، أما إذا كان من أمة لم يملكها، أو من حرة عاهر بها، فانه لا يلحق، ولا يرث، وإن ادعاه الواطىء وهو ولد زنية من أمة كان أو من حرة، وهذا حجة الجمهور على إسحاق ومن قال بقوله‏:‏ إنه لا يلحق بالزانى إذا ادعاه، ولا يرثه، وأنه ولد زنى لأهل أمه من كانوا حرة كانت أو أمة‏.‏

وأما ما اقتسم من مال قبل الإسلام، فقد مضى، فهذا الحديث يرد قول إسحاق ومن وافقه، لكن فيه محمد بن راشد، ونحن نحتج بعمرو بن شعيب، فلا يعلل الحديث به، فإن ثبت هذا الحديث، تعين القول بموجبه، والمصير إليه، وإلا فالقول قول إسحاق ومن معه، والله المستعان‏.‏

ذكر الحكم الذي حكم به علي بن أبي طالب رضي الله عنه في الجماعة الذين وقعوا على امرأة في طهر واحد، ثم تنازعوا الولد، فأقرع بينهم فيه، ثم بلغ النبي صلى الله عليه وسلم فضحك ولم ينكره

ذكر أبو داود والنسائي في ‏(‏سننهما‏)‏، من حديث عبد الله بن الخليل، عن زيد بن أرقم رضي الله عنه قال‏:‏ كنت جالسا عند النبي صلى الله عليه وسلم، فجاء رجل من أهل اليمن، فقال‏:‏ إن ثلاثة نفر من أهل اليمن أتوا عليا يختصمون إليه في ولد، قد وقعوا على امرأة في طهر واحد، فقال لاثنين‏:‏ طيبا بالولد لهذا فغليا، ثم قال لاثنين‏:‏ طيبا بالولد لهذا، فغليا، ثم قال لاثنين‏:‏ طيبا بالولد لهذا، فغليا، فقال‏:‏ أنتم شركاء متشاكسون، إني مقرع بينكم، فمن قرع، فله الولد وعليه لصاحبيه ثلثا الدية، فأقرع بينهم، فجعله لمن قرع، فضحك رسول الله حتى بدت أضراسه أو نواجذه‏.‏ وفي إسناده يحيى بن عبد الله الكندي الأجلح ولا يحتج بحديثه، لكن رواه أبو داود والنسائي بإسناد كلهم ثقات إلى عبد خير، عن زيد بن أرقم‏.‏ قال‏:‏ أتي علي بن أبي طالب بثلاثة وهو باليمن وقعوا على امرأة في طهر واحد، فسأل اثنين أتقران لهذا بالولد‏؟‏ قالا‏:‏ لا، حتى سألهم جميعا، فجعل كلما سأل اثنين قالا‏:‏ لا، فأقرع بينهم، فألحق الولد بالذي صارت عليه القرعة، وجعل عليه ثلثي الدية، قال‏:‏ فذكر ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم، فضحك حتى بدت نواجذه‏.‏ وقد أعل هذا الحديث بأنه روي عن عبد خير بإسقاط زيد بن أرقم، فيكون مرسلا‏.‏ قال النسائي‏:‏ وهذا أصوب‏.‏ وهذا أعجب، فإن إسقاط زيد بن أرقم من هذا الحديث لا يجعله مرسلا، فإنه عبد خير أدرك عليا وسمع منه، وعلي صاحب القصة، فهب أن زيد بن أرقم لا ذكر له في السند فمن أين يجيء الإرسال، إلا أن يقال‏:‏ عبد خير لم يشاهد ضحك النبي صلى الله عليه وسلم، وعلي إذ ذاك كان باليمن، وإنما شاهد ضحكه صلى الله عليه وسلم زيد بن أرقم أو غيره من الصحابة وعبد خير لم يذكر من شاهد ضحكه، فصار الحديث به مرسلا‏.‏ فيقال‏:‏ إذا‏:‏ قد صح السند عن عبد خير، عن زيد بن أرقم، متصلا، فمن رجح الاتصال، لكونه زيادة من الثقة فظاهر، ومن رجح رواية الأحفظ والأضبط، وكان الترجيح من جانبه ولم يكن علي قد أخبره بالقصة، فغايتها أن تكون مرسلة، وقد يقوى الحديث بروايته من طريق أخرى متصلا‏.‏

وبعد، فاختلف الفقهاء في هذا الحكم، فذهب إليه إسحاق بن راهويه، وقال‏:‏ هو السنة في دعوى الولد، وكان الشافعي يقول به في القديم، وأما الامام أحمد، فسئل عن هذا الحديث، فرجح عليه حديث القافة، وقال‏:‏ حديث القافة أحب إلي‏.‏ وهاهنا أمران، أحدهما‏:‏ دخول القرعة في النسب، والثاني‏:‏ تغريم من خرجت له القرعة ثلثي دية ولده لصاحبيه‏.‏ وأما القرعة، فقد تستعمل عند فقدان مرجح سواها من بينة أو إقرار، أو قافة، وليس ببعيد تعيين المستحق بالقرعة في هذه الحال، إذ هي غاية المقدور عليه من أسباب ترجيح الدعوى، ولها دخول في دعوى الإملاك المرسلة التي لا تثبت بقرينة ولا أمارة، فدخولها في النسب الذي يثبت بمجرد الشبه الخفي المستند إلى قول القائف أولى وأحرى‏.‏ وأما أمر الدية فمشكل جدا، فإن هذا ليس بموجب الآية، وإنما هو تفويت نسبه بخروج القرعة، فيقال‏:‏ وطء كل واحد صالح لجعل الولد له، فقد فوته كل واحد منهم على صاحبيه بوطئه، ولكن لم يتحقق من كان له الولد منهم، فلما أخرجته القرعة لأحدهم، صار مفوِّتا لنسبه عن صاحبيه، فأجري ذلك مجرى إتلاف الولد، ونزل الثلاثة منزلة أب واحد، فخصة المتلف منه ثلث الدية، إذ قد عاد الولد له، فيغرم لكل من صاحبيه ما يخصه، وهوثلث الدية‏.‏

ووجه آخر أحسن من هذا، أنه لما أتلفه عليهما بوطئه ولحوق الولد به، وجب عليه ضمان قيمته، وقيمة الولد شرعا هي ديته، فلزمه لهما ثلثا قيمته، وهي ثلثا الدية، وصار هذا كمن أتلف عبدا بينه وبين شريكين له، فإنه يجب عليه ثلثا القيمة لشريكيه، فإتلاف الولد الحر عليهما بحكم القرعة، كإتلاف الرقيق الذي بينهم‏.‏

ونظير هذا تضمين الصحابة المغرور بحرية الأمة قيمة أولاده لسيد الأمة لما فات رقهم على السيد لحريتهم، وكانوا بصدد أن يكونوا أرقاء، وهذا ألطف ما يكون من القياس وأدقه، وأنت إذا تأملت كثيرا من أقيسة الفقهاء وتشبيهاتهم، وجدت هذا أقوى منها، وألطف مسلكا، وأدق مأخذا، ولم يضحك منه النبي صلى الله عليه وسلم سدى‏.‏ وقد يقال‏:‏ لا تعارض بين هذا وبين حديث القافة، بل إن وجدت القافة تعين العمل بها، وإن لم توجد قافة، أو أشكل عليهم، تعين العمل بهذا الطريق، والله أعلم‏.‏

فصل‏:‏ ذكر حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم في الولد من أحق به في الحضانة

روى أبو داود في ‏(‏سننه‏)‏‏:‏ من حديث عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده عبد الله بن عمرو بن العاص، أن امرأة قالت‏:‏ يا رسول الله إن ابني هذا كان بطني له وعاء، وثديى له سقاء، وحجري له حواء، وإن أباهُ طلقني، فأراد أن ينتزعه منى، فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏أنت أحق به ما لم تنكحي‏)‏ وفي ‏(‏الصحيحين‏)‏‏:‏ من حديث البراء بن عازب، أن ابنة حمزة اختصم فيها على وجعفر، وزيد‏.‏ فقال على‏:‏ أنا أحق بها وهي ابنة عمى، وقال جعفر‏:‏ ابنة عمي وخالتها تحتي، وقال‏:‏ زيد‏:‏ ابنة أخي، فقضى بها رسول الله صلى الله عليه وسلم لخالتها، وقال‏:‏ ‏(‏الخالة بمنزلة الأم‏)‏‏.‏

وروى أهل السنن‏:‏ من حديث أبى هريرة رضىالله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خير غلاما بين أبيه وأمه‏.‏ قال الترمذي‏:‏ حديث صحيح‏.‏

وروى أهل السنن أيضا‏:‏ عنه، أن امرأة جاءت، فقالت يا رسول الله ‏!‏ إن زوجي يريد أن يذهب بابني، وقد سقاني من بئر أبى عنبة وقد نفعني، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏استهما عليه‏)‏، فقال زوجها من يحاقني في ولدي، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏هذا أبوك وهذه أمك خذ بيد أيهما شئت‏)‏، فأخذ بيد أمه، فانطلقت به‏.‏ قال الترمذي‏:‏ حديث حسن صحيح‏.‏ وفي ‏(‏سنن النسائي‏)‏‏:‏ عن عبد الحميد بن سلمة الأنصاري، عن أبيه، عن جده، أن جدَّه أسلم وأبت امرأتُه أن تسلم، فجاء بابن له صغير لم يَبلغ، قال فأجلس النبي صلى الله عليه وسلم الأب هاهنا والأم هاهنا، ثم خير وقال ‏(‏اللَّهُمَّ اهدِهِ‏)‏ فذهب إلى أبيه‏.‏

ورواه أبو داود عنه وقال‏:‏ أخبرنى جدي رافع بن سنان، أنه أسلم وأبت امرأته أن تسلم، فأتت النبى صلى الله عليه وسلم، فقالت‏:‏ ابنتى وهي فطيم أو شبهه، وقال رافع‏:‏ ابنتي، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏اقعد ناحية‏)‏، وقال لها‏:‏ ‏(‏اقعدي ناحية‏)‏، فأقعد الصبية بينهما، ثم قال‏:‏ ‏(‏ادعواها‏)‏، فمالت إلى أمها، فقال النبى صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏اللهم اهدها‏)‏، فمالت إلى أبيها، فأخذها‏.‏

فصل‏:‏ الكلام على هذه الأحكام

أما الحديث الأول، فهو حديث احتاج الناس فيه إلى عمرو بن شعيب، ولم يجدوا بدا من الاحتجاج هنا به، ومدار الحديث عليه، وليس عن النبى صلى الله عليه وسلم حديثٌ في سقوط الحضانة بالتزويج غير هذا، وقد ذهب إليه الأئمةُ الأربعة وغيرُهم، وقد صرح بأن الجد هو عبد اللّه بن عمرو، فبطل قولُ مَنْ يقولُ‏:‏ لعله محمد والدُ شعيب، فيكون الحديثُ مرسلاً‏.‏ وقد صحَّ سماعُ شعيب من جَدّه عبد اللّه بن عمرو، فبطل قولُ من قال‏:‏ إنه منقطع، وقد احتج به البخاريُّ خارجَ صحيحه، ونص على صحة حديثه، وقال‏:‏ كان عبدُ اللّه بن الزُّبير الحميدي، وأحمد وإسحاق وعلي بن عبد اللّه يحتجُّون بحديثه، فَمَن النَّاسُ بَعْدَهُم‏؟‏‏!‏ هذا لفظه‏.‏ وقال إسحاق بن راهويه‏:‏ هو عندنا، كأيوب عن نافع، عن ابن عمر‏.‏ وحكى الحاكم في ‏(‏علوم الحديث‏)‏ له الاتفاق على صحة حديثه، وقال أحمد بن صالح‏:‏ لايختلف على عبد اللّه أنها صحيفة‏.‏

وقولها‏:‏ كان بطني وعاء إلى آخره، إدلاءٌ منها، وتوسُّل إلى اختصاصها به، كما اختصَّ بها في هذه المواطنِ الثلاثة، والأبُ لم يُشاركها في ذلك، فنبهت في هذا الاختصاص الذي لم يُشارِكْها فيه الأبُ على الاختصاص الذي طلبته بالاستفتاء والمخاصمة‏.‏

وفي هذا دليل على اعتبار المعاني والعِلل، وتأثيرها في الأحكام، وإناطتها بها، وأن ذلك أمر مستقر في الفِطَرِ السَّليمةِ حتى فِطَر النساء، وهذا الوصفُ الذيَ أدلت به المرأةُ وجعلته سبباً لتعليق الحكم به، قد قرَّرهُ النبيُّ صلى الله عليه وسلم ورتَّب عليه أثره، ولو كان باطلاً ألغاه، بل ترتيبُه الحكمَ عقيبَه دليل على تأثيره فيه، وأنه سببه‏.‏

واستدل بالحديث على القضاء على الغائب، فإن الأبَ لم يذكر له حضورولا مخاصمة، ولا دلالة فيه لأنها واقعةُ عين، فإن كان الأبُ حاضراً، فظاهر، وإن كان غائباً، فالمرأة إنما جاءت مستفتية أفتاها النبيّ صلى الله عليه وسلم بمقتضى مسألتها، وإلا فلا يُفبل قولُها على الزوج‏:‏ إنه طلقها حتى يُحكم لها بالولد بمجرَّدِ قولها‏.‏

فصل

ودلّ الحديث على أنه إذا افترق الأبوانِ، وبينهما ولد، فالأمّ أحقُّ به من الأب ما لم يقم بالأمِّ ما يمنعُ تقديمَها، أو بالولد وصفٌ يقتضي تخييرَه، وهذا ما لا يُعرف فيه نزاعٌ، وقد قضى به خليفةُ رسولِ اللّه صلى الله عليه وسلم أبو بكر على عمر بن الخطاب، ولم يُنْكِرْ عليهِ مُنْكِر‏.‏ فلما وَليَ عمرُ قضى بمثله، فروى مالك في ‏(‏الموطأ‏)‏ عن يحيى بن سعيد أنه قال‏:‏ سمعت القاسم بن محمد يقول‏:‏ كانت عند عمرَ بن الخطاب رضي اللّه عنه امرأةٌ من الأنصار، فولدت له عاصمَ بن عمر، ثم إن عمرَ فارقها، فجاء عُمَرُ قُبَاء، فوجد ابنه عاصماً يلعب بفناء المسجد، فأخذ بعضدهِ، فوضعه بين يديه على الدابة، فأدركته جدةُ الغلام، فنازعته إيَّاه، حتَّى أتيا أبا بكر الصديق رضي اللّه عنه، فقال عمر‏:‏ ابني‏.‏ وقالت المرأة‏:‏ ابني، فقال أبو بكر رضي الله عنه‏:‏ خَلِّ بينها وبينه، فما راجعه عُمَرُ الكَلاَم قال ابن عبد البر‏:‏ هذا خبر مشهور من وجوه منقطعة ومتصلة، تلقاه أهل العلم بالقبول والعمل، وزوجة عمر أمُّ ابنه عاصم‏:‏ هي جميلة ابنة عاصم بن ثابت بن أبي الأقلح الأنصاري‏.‏

قال‏:‏ وفيه دليل على أن عمر كان مذهبُه في ذلك خلافَ أبي بكر، ولكنه سلم للقضاء ممن له الحكمُ والإِمضاء، ثم كانَ بعْدُ في خلافته يقضي به ويُفتي، ولم يُخالف أبا بكر في شيء منه ما دام الصبيُّ صغيراً لا يُميز، ولا مخالف لهما مِن الصحابة‏.‏

وذكر عبد الرزاق، عن ابن جريج، أنه أخبره عن عطاء الخراساني، عن ابن عباس قال‏:‏ طلق عمرُ بنُ الخطاب امرأتَه الأنصارية أمَّ ابنه عاصم، فلقيها تَحمِلُه بمحسر، وقد فُطِمَ ومشى، فأخذ بيده لينتزعهُ منها، ونازعها إياه حتَّى أوجعَ الغلام وبكى، وقال‏:‏أنا أحقُّ بإبني مِنْكِ، فاختصما إلى أبي بكر، فقضى لها بِهِ وقال‏:‏ ريحُها وفِراشُها وحجرُهَا خيرٌ له منك حتى يَشِبَّ ويختارَ لنفسه، ومحسر‏:‏ سوق بين قباء والمدينة‏.‏

وذكر عن الثوري، عن عاصم، عن عكرمة قال‏:‏ خاصمتِ امرأةُ عُمَرَ عُمَرَ إلى أبي بكر رضي اللّه عنه، وكان طلّقها، فقالَ أبو بكر رضي اللّه عنه‏:‏ الأم أعطفُ، وألطفُ، وأرحمُ، وأحنى، وأرأف، هي أحقُّ بولدها ما لم تتزوج‏.‏

وذكر عن معمر قال‏:‏ سمعتُ الزهريَّ يقول‏:‏ إن أبا بكر قضَى على عُمَرَ في ابنه مع أمِّه، وقال‏:‏ أمُّهُ أحقُّ به ما لم تتزوج‏.‏فإن قيل‏:‏ فقد اختلفت الروايةُ‏:‏ هل كانت المنازعةُ وقعت بينَه وبينَ الأم أولاً،ثم بينه وبين الجدة،أو وقعت مرة واحدة بينه وبين إحداهما‏.‏

قيل‏:‏الأمر في ذلك قريب،لأنها إن كانت من الأم فواضح،وإن كانت من الجدة،فقضاء الصديق رضى الله عنه لها يدل على أن الأم أولى‏.‏

فصل

والولاية على الطفل نوعان‏:‏ نوع يقدم فيه الأبُ على الأم ومن في جهتها، وهي ولاية المال والنكاح، ونوعٌ تُقدَّم فيه الأم على الأب، وهي ولايةُ الحضانة والرضاع، وقُدِّمَ كُلٌّ من الأبوين فيما جعل له من ذلك لتمام مصلحة الولد، وتوقف مصلحته على من يلي ذلك من أبويه، وتحصل به كفايته‏.‏

ولما كان النساءُ أعرفَ بالتربية، وأقدرَ عليها، وأصبَر وأرأفَ وأفرغ لها،لذلك قُدِّمَتِ الأم فيها على الأب‏.‏

ولما كان الرجالُ أقومَ بتحصيل مصلحةالولدوالاحتياط له في البضع، قُدِّمَ

الأبُ فيها على الأم، فتقديمُ الأم في الحضانة مِن محاسن الشريعة والاحتياط للأطفال، والنظر لهم، وتقديمُ الأب في ولاية المال والتزويج كذلك‏.‏

إذا عُرِفَ هذا، فهل قُدِّمتِ الأُمُّ لكون جهتها مقدمةً على جهة الأبوة في الحضانة، فقدمت لأجل الأمومة، أو قُدِّمت على الأب، لكون النساء أقوم بمقاصد الحضانة والتربية من الذكور، فيكون تقديمُها لأجل الأنوثة‏؟‏ ففي هذا للناس قولان وهما في مذهب أحمد يظهر أثرهُما في تقديم نساء العصبة على أقارب الأم أو بالعكس، كأم الأم، وأم الأب، والأخت من الأب، والأخت من الأم، والخالة، والعمة، وخالة الأم، وخالة الأب، ومن يُدلي من الخالات والعمات بأم، ومن يُدلي منهن بأب، ففيه روايتان عن الإِمام أحمد‏.‏ إحداهما تقديمُ أقاربِ الأم على أقاربِ الأبِ‏.‏ والثانية وهيَ أصحُّ دليلاً، واختيار شيخ الإِسلام ابن تيمية‏:‏ تقديمُ أقارب الأب وهذا هو الذي ذكره الخرقي في ‏(‏مختصره‏)‏ فقال والأختُ من الأب أحقُّ من الأخت من الأم وأحقُّ من الخالة، وخالة الأب أحقُّ مِن خالة الأم، وعلى هذا فأمُّ الأبِ مقدَّمة على أمِّ الأم كما نصَّ عليه أحمد في إحدى الروايتين عنه‏.‏‏.‏

وعلى هذه الرواية‏:‏ فأقاربُ الأب من الرجال مقدَّمون على أقارب الأم، والأخ للأب أحق من الأخ للأم، والعم أولى من الخال،هذا إن قلنا‏:‏إن لأقارب الأم من الرجال مدخلاً في الحضانة، وفي ذلك وجهان في مذهب أحمد والشافعي‏.‏ أحدهما‏:‏ أنه لا حضانة إلا لرجل مِن العصبة مَحْرَمٍ، أو لامرأة وارثة،أو مُدلية بعصبة، أو وارث‏.‏‏.‏

والثاني‏:‏ أن لهم الحضانة والتفريع على هذا الوجه، وهو قولُ أبي حنيفة،

وهذا يدل على رجحان جهة الأبوة على جهة الأمومة في الحضانة، وأن الأم إنما قدِّمت لكونها أنثى لا لتقديم جهتها، إذ لو كان جهتها راجحةً لترجَّحَ رجالها

ونساؤها على الرجالِ والنساءِ من جهة الأب، ولما لم يترجَّح رجالُها اتفاقاًفكذلك النساء، وما الفرقُ المؤثر‏؟‏وأيضاً فإن أصولَ الشرع وقواعِدَهُ شاهدةٌ بتقديم أقارب الأب في الميراث، وولاية النكاح، وولاية الموت وغير ذلك، ولم يُعهد في الشرع تقديمُ قرابة الأم على قرابة الأب في حكم من الأحكام، فمن قدَّمها في الحضانة، فقد خرج عن موجب الدليل‏.‏

فالصوابُ في المأخذ هو أن الأم إنما قُدِّمت، لأن النساءَ أرفقُ بالطفل، وأخبرُ بتربيته، وأصبرُ على ذلك، وعلى هذا فالجدَّةُ أم الأب أولى من أمِّ الأم، والأخت للأب أولى مِن الأخت للأم، والعمةُ أولى من الخالة، كما نصَّ عليه أحمد في إحدى الروايتين، وعلى هذا فتقدَمُ أتمُ الأب على أب الأب، كما تُقدَّم الأم على الأب‏.‏

وإذا تقرر هذا الأصل، فهو أصل مطَّرِد منضبط لا تتناقض فروعُه، بل إن اتفقت القرابةُ والدرجةُ واحدة قُدِّمت الأنثى على الذكر، فتُقدَّم الأخت على الأخ،والعمة على العم، والخالة على الخال، والجدةُ على الجد، وأصلُه تقديم الأم على الأب‏.‏ وإن اختلفت القرابةُ، قُدِّمت قرابةُ الأب على قرابة الأم، فتقدم الأخت للأب على الأخت للأم، والعمة على الخالة، وعمةُ الأب على خالته، وهلم جراً‏.‏

وهذا هو الاعتبارُ الصحيح، والقياسُ المطرد، وهذا هو الذي قضى به سيِّدُ قُضاةِ الإِسلام شريح، كما روى وكيع في ‏(‏مصنفه‏)‏ عن الحسن بن عقبة، عن سعيد بن الحارث قال‏:‏ اختصم عمُّ وخالٌ إلى شُريح في طفل، فقضى به للعم، فقال الخال‏:‏ أنا أُنفق عليه من مالي، فدفعه إليه شريح‏.‏

ومن سلكَ غيرَ هذا المسلك لم يجد بداً من التناقض، مثاله‏:‏ أن الثلاثة وأحمد في إحدى روايتيه، يُقدِّمُون أم الأم على أم الأب، ثم قال الشافعي في ظاهر مذهبه، وأحمد في المنصوص عنه‏:‏ تُقدَّم الأخت للأب على الأخت للأم، فتركوا القياسَ، وطرَّده أبو حنيفة، والمزني، وابن سريج، فقالوا‏:‏ تُقدَّم الأختُ للأم على الأخت للأب‏.‏ قالوا‏:‏ لأنها تُدلي بالأم، والأخت للأب بالأب، فلما قُدِّمَت الأم على الأب، قُدِّمَ من يُدلي بها على من يُدلي به، ولكن هذا أشدُّ تناقضاً من الأول لأن أصحاب القول الأول جَرَوْا على القياس والأصول في تقديمِ قرابة الأب على قرابة الأم، وخالفوا ذلك في أم الأم وأم الأب، وهؤلاء تركوا القياسَ في الموضعينِ، وقدَّموا القرابةَ التي أخَّرها الشرعُ، وأخَّروا القرابةَ التي قدَّمها، ولم يمكنهم تقديمُها في كُلِّ موضع، فقدَّموها في موضع، وأخَرُوها في غيرهِ مع تساويهما، ومن ذلك تقديمُ الشافعي في الجديد الخالةَ على العمة مع تقديمه الأخت للأب على الأخت للأم، وطرَّد قياسه في تقديم أم الأم على أم الأب، فوجب تقديمُ الأخت للأم، والخالة على الأخت للأب والعمة، وكذلكَ مَنْ قَدَّمَ مِن أصحاب أحمد الخالَة على العمة، وقدَّمَ الأخت للأب على الأخت للأم، كقول القاضي وأصحابه،وصاحب ‏(‏المغني‏)‏ فقد تناقضوا‏.‏

فإن قيل‏:‏ الخالةُ تُدلي بالأم، والعمة تُدلي بالأب، فكما قدِّمتِ الأم على الأب، قُدِّم من يُدلي بها، ويزيدُه بياناً كونُ الخالة أمّاً كما قال النبيُّ صلى الله عليه وسلم، فالعمةُ بمنزلة الأب‏.‏ قيل‏:‏ قد بينا أنه لم يقدم الأم على الأب لقوة الأمومة، وتقديم هذه الجهة، بل لكونها أنثى، فإذا وُجِدَ عمةٌ وخالة، فالمعنى الذي قُدِّمَتْ له الأم موجود فيهما، وامتازت العمةُ بأنها تُدلي بأقوى القرابتين، وهي قرابةُ الأب، والنبيُّ صلى الله عليه وسلم قضى بابنة حمزة لخالتها، وقال‏:‏ ‏(‏الخَالةُ أُم‏)‏حيث لم يكن لها مزاحم مِن أقارب الأب تُساويها في درجتها‏.‏

فإن قيل‏:‏ فقد كان لها عمة وهى صفيةُ بنت عبد المطلب أختُ حمزة، وكانت إذ ذاك موجودة في المدينة، فإنها هاجرت، وشهدت الخندقَ، وقتلت رجلاً مِن اليهود كان يطوفُ بالحِصن الذي هي فيه، وهي أوَّل امرأة قتلت رجلاً من المشركين، وبقيت إلى خلافة عمر رضي اللّه عنه، فقدَّم النبيُّ صلى الله عليه وسلم الخالة عليها، وهذا يدلُّ على تقديم من في جهة الأم على من في جهة الأب‏.‏

قيل‏:‏ إنما يدلُّ هذا إذا كانت صفية قد نازعت معهم، وطلبت الحضانة،

فلم يقض لها بها بعد طلبها، وقدَّم عليها الخالة، هذا إذا كانت لم تمنع منها لعجزها عنها، فإنها تُوفيت سنة عشرين عن ثلاث وسبعين سنة، فيكون لها وقتَ هذه الحكومة بِضعٌ وخمسون سنة، فيحتمِلُ أنها تركتها لعجزها عنها، ولم تطلبها مع قدرتها، والحضانةُ حقّ للمرأة، فإذا تركتها، انتقلت إلى غيرها‏.‏

وبالجملة‏:‏ فإنما يدل الحديث على تقديم الخالة على العمة إذا ثبت أن صفيةَ خاصمت في ابنة أخيها، وطلبت كفالَتها، فقدَّم رسولُ اللّه صلى الله عليه وسلم الخالة، وهذا لا سبيلَ إليه‏.‏

فصل

ومن ذلك أن مالكاً لما قدَّم أمَّ الأم على أمِّ الأب، قدم الخالةَ بعدها على الأب وأمه، واختلف أصحابه في تقديم خالة الخالة على هؤلاء، على وجهين، فأحدُ الوجهين‏:‏ تقديم خالة الخالة على الأب نفسِه، وعلى أمه، وهذا في غاية البعد، فكيف تُقدم قرابةُ الأم وإن بعدت على الأب نفسه، وعلى قرابته مع أن الأبَ وأقاربه أشفقُ على الطفل، وأرعى لمصلحة من قرابة الأم‏؟‏ فإنه ليس إليهم بحال، ولا يُنسب إليهم، بل هو أجنبيٌّ منهم، وإنما نسبه وولاؤه إلى أقاربِ أبيه، وهم أولى به، يعقِلُون عنه، وينفقون عليه عند الجمهور، ويتوارثون بالتعصيب وإن بعدتِ القرابةَ بينهم بخلاف قرابةِ الأم، فإنه لا يثبتُ فيها ذلك، ولا توارُثَ فيها إلا في أمهاتها، وأول درجة مِن فروعها، وهم ولدُها، فكيف تقدم هذه القرابة على الأب، ومن في جهته، ولا سيما إذا قيل بتقديم خالة الخالة على الأب نفسه وعلى أمه، فهذا القولُ مما تأباه أصولُ الشريعة وقواعِدُها‏.‏

وهذا نظيرُ إحدى الروايتين عن أحمد في تقديم الأخت على الأم، والخالة على الأب، وهذا أيضاً في غاية البعد، ومخالفة القياس‏.‏‏.‏وحجة هذا القول‏:‏ أن كلتيهما تُدليان بالأم المقدمة على الأب، فتُقدمان

عليه، وهذا ليس بصحيح، فإن الأم لما ساوت الأب في الدرجة، وامتازت عليه بكونها أقومَ بالحضانة، وأقدرَ عليها وأصبرَ، قُدِّمَتْ عليه، وليس كذلك الأختُ من الأم، والخالةُ مع الأب، فإنهما لا يُساويانه، وليس أحدٌ أقربَ إلى ولده منه، فكيف تُقَدَّمُ عليه بنتُ امرأته، أو أختها‏؟‏ وهل جعل اللّه الشفقة فيهما أكمل منه‏؟‏

ثم اختلف أصحاب الإِمام أحمد في فهم نصه هذا على ثلاثة أوجه‏.‏

أحدها‏:‏ إنما قدمها على الأب لأنوثتها، فعلى هذا تُقدَّمُ نساء الحضانة علىكل رجل، فتُقدَّمُ خالة الخالة وإن علت، وبنت الأخت على الأب‏.‏

الثاني‏:‏ أن الخالةَ والأخت للأم لم تدليا بالأب، وهما من أهل الحضانة،

فَتُقدَّمُ نساءُ الحضانة على كل رجلٍ إلا على من أدلين به، فلا تُقدمن عليه، لأنهن فرعه، فعلى هذا الوجه لا تُقَدَّم أمُّ الأب على الأب، ولا الأخت والعمة عليه، وتقدم عليه أم الأم، والخالة، والأخت للأم، وهذا أيضاً ضعيف جداً، إذ يستلزِمُ تقديم قرابة الأم البعيدة على الأب وأمه، ومعلوم أن الأبَ إذا قُدِّمَ على الأخت للأب فتقديمُه على الأخت للأم أولى، لأن الأخت للأب مقدمة عليها، فكيف تُقدَّم على الأب نفسه‏؟‏ هذا تناقض بيِّن‏.‏‏.‏

الثالث‏:‏ تقديمُ نساء الأم على الأب وأمهاته وسائر مَن في جهته، قالوا‏:‏‏.‏

فعلى هذا، فكل امرأة في درجة رجل تُقَدَّمُ عليه، ويُقدَّم من أدلى بها على من أدلى بالرجل، فلما قُدِّمَتِ الأمُّ على الأب وهي في درجته قدمت الأخت من الأم على الأخت من الأب، وقُدِّمَتِ الخالة على العمة‏.‏ هذا تقرير ما ذكره أبو البركات بن تيمية في ‏(‏محرره‏)‏ من تنزيل نص أحمد على هذه المحامل الثلاث، وهو مخالف لعامة نصوصه في تقديمِ الأخت للأب على الأخت للأم، وعلى الخالة، وتقديم خالة الأب على خالة الأم، وهو الذي لم يذكر الخرقي في‏(‏مختصره‏)‏ غيره، وهو الصحيحُ، وخرجها ابنُ عقيل على الروايتين في أم الأم، وأم الأب، ولكن نصه ما ذكره الخرقي، وهذه الرواية التي حكاها صاحب ‏(‏المحرر‏)‏ضعيفة مرجوحة، فلهذا جاءت فروعُها ولوازِمُها أضعفَ منها بخلاف سائر نصوصه في جادة مذهبه‏.‏

فصل

وقد ضبط بعض أصحابه هذا البابَ بضابط، فقال‏:‏ كُلُّ عصبة، فإنه يقدَّمُ على كل امرأة هي أبعدُ منه، ويتأخر عمن هي أقربُ منه، وإذا تساويا، فعلى وجهين‏.‏ فعلى هذا الضابط يُقدَّمُ الأب على أمه، وعلى أم الأم ومن معها، ويُقدَّم الأخ على ابنته وعلى العمة، والعم على عمة الأب، وتقدَّم أمُ الأب على جد الأب، في تقديمها على أب الأب وجهان‏.‏ وفي تقديم الأخت للأب على الأخ للأب وجهان، وفي تقديم العمة على العم وجهان‏.‏

والصواب‏:‏ تقديم الأنثى مع التساوي، كما قُدِّمَتِ الأمُّ على الأب لما استويا، فلا وجه لتقديم الذكر على الأنثى مع مساواتها له، وامتيازِها بقوة أسباب الحضانة والتربية فيها‏.‏واختُلفَ في بنات الإخوة والأخوات، هل يُقدمن على الخالات والعمات،أو تقدم الخالاتُ والعماتُ عليهن‏؟‏ على وجهين مأخذهُما‏:‏ أن الخالة والعمة تُدليان بأخوة الأم والأب، وبنات الإخوة والأخوات يُدلين ببنوة الأب، فمن قدَّم بنات الإِخوة، راعى قوة البنوة على الأخوة، وليس ذلك بجديد، بل الصوابُ تقديم العمة والخالة لوجهين‏.‏

أحدهما‏:‏ أنها أقرب إلى الطفل من بنات أخيه، فإن العمة أخت أبيه، وابنةالأخ ابنة ابن أبيه، وكذلك الخالةُ أخت أمه، وبنت الأخت من الأم، أو لأب بنت بنت أمه أو أبيه، ولا ريبَ أن العمة والخالة أقرب إليه من هذه القرابة‏.‏

الثاني‏:‏ أن صاحبَ هذا القول إن طرَّد أصله، لزمه ما لا قبل له به من تقديم بنت بنت الأخت وإن نزلت على الخالة التي هي أم، وهذا فاسدٌ من القول، وإن خصَّ ذلك ببنت الأخت دون من سفل منها، تناقض‏.‏

واختلف أصحابُ أحمد أيضاً في الجد والأخت للأب أيهما أولى‏؟‏ فالمذهب‏:‏ أن الجدَّ أولى منها وحكى القاضي في‏(‏المجرد‏)‏ وجهاً‏:‏ أنها أولى منه، وهذا يجيء على أحد التأويلات التي تأوَّل عليها الأصحابُ نص أحمد، وقد تقدمت‏.‏

فصل

ومما يُبين صحة الأصل المتقدِّم أنهم قالوا‏:‏ إذا عَدِمَ الأمهات، ومن في جِهَتِهِنَّ، انتقلت الحَضَانةُ إلى العصبات، وقُدِّمَ الأقربُ فالأقربُ منهم، كما في الميراث، فهذا جارٍ على القياس، فيقال لهم‏:‏ هَلاَّ راعيتُم هذا في جنس القرابة، فقدمتم القرابة القوية الراجحةَ على الضعيفة المرجوحة كما فعلتم في العصبات‏؟‏

وأيضاً فإن الصحيح في الأخوات عندكم أنه يُقدَّم منهن من كانت لأبوين،ثم من كانت لأب، ثم من كانت لأم، وهذا صحيح موافق للأصول والقياس، لكن إذا ضمَّ هذا إلى قولهم بتقديم قرابة الأم على قرابة الأب جاء التناقضُ، وتلك الفروعُ المشكلة المتناقضة‏.‏

وأيضاً فقد قالوا بتقديم أمهاتِ الأبِ والجدِّ على الخالات والأخواتِ للأم،وهو الصوابُ الموافقُ لأصول الشرع، لكنه مناقض لِتقديمهم أمهاتِ الأم على أمهاتِ الأب، ويُناقض تقديم الخالة والأخت للأم على الأب، كما هو إحدى الروايتين عن أحمد رحمه اللّه، والقول القديم للشافعي‏.‏ ولا ريب أن القول به أطردُ للأصل، لكنه في غاية البُعد من قياس الأصول كما تقدم، ويلزمهم من طَرْده أيضاً تقديمُ من كان من الأخوات لأم على من كان منهن لأب، وقد التزمه أبو حنيفة، والمزني، وابنُ سريج، ويلزمهم مِن طَرْدهِ أيضاً تقديمُ بنت الخالة على الأخت للأب، وقد التزمه زفر، وهو رواية عن أبي حنيفة، ولكن أبو يوسف استشنع ذلك، فقدَّم الأخت للأب كقول الجمهور، ورواه عن أبي حنيفة‏.‏

ويلزمهم أيضاً من طرده تقديم الخالة والأخت للأم على الجدة أم الأب،

وهذا في غاية البعد والوهن، وقد التزمه زفر، ومثلُ هذا من المقاييس التي حذر منها أبو حنيفة أصحابه، وقال لا تأخذوا بمقاييس زفر، فإنكم إن أخذتم بمقاييس زفر حرَّمْتُمُ الحَلاَلَ، وحلَّلتمُ الحَرَامَ‏.‏‏.‏

فصل

وقد رام بعضُ أصحاب أحمد ضبط هذا الباب بضابط زعم أنه يتخلَّص بِه مِن التناقض، فقال‏:‏ الاعتبارُ في الحضانة بالولادة المتحققة وهي الأمومة، ثم الولادة الظاهرة وهي الأبوة، ثم الميراث‏.‏ قال‏:‏ ولذلك تُقدَّمُ الأخت من الأب على الأخت من الأم، وعلى الخالة، لأنها أقوى إرثاً منهما‏.‏ قال‏:‏ ثم الإِدلاء، فتقدَّم الخالة على العمة لأن الخالة تدلي بالأم، والعمة تدلي بالأب، فذكر أربع أسباب للحضانة مرتبة‏:‏ الأمومة، ثم بعدها الأبوة، ثم بعدها الميراث، ثم الإِدلاء، وهذه طريقة صاحب ‏(‏المستوعب‏)‏، وما زادتهُ هذه الطريقةُ إلا تناقضاًوبعداً عن قواعد الشَّريعة، وهي من أفسد الطرق، وإنما يتبينُ فسادُها بلوازمها الباطلة، فإنه إن أراد بتقديم الأمومة على الأبوة تقديمَ من في جهتها على الأب ومَنْ في جهته، كانت تلك اللوازم الباطلة المتقدمة من تقديم الأخت للأم، وبنت الخالة على الأب وأمه، وتقديم الخالة على العمة، وتقديم خالة الأم على الأب وأمه، وتقديم بنات الأخت من الأم على أم الأب، وهذا مع مخالفته لِنصوص إمامه، فهو مخالفٌ لأصول الشرع وقواعده‏.‏

وإن أراد أن الأم نفسها تُقَدَّمُ على الأب، فهذا حق لكن الشأن في مناط هذا التقديم‏:‏ هل هو لكون الأم ومن في جهتها تقدم على الأب ومن في جهته، أو لكونها أنثى في درجة ذكر، وكل أنثى كانت في درجة ذكر قُدِّمَتْ عليه مع تقديم قرابة الأب على قرابة الأم‏؟‏ وهذا هو الصواب كما تقدم، وكذلك قولُه ‏(‏ثم الميراث‏)‏ إن أراد به أن المقدَم في الميراث مقدم في الحضانة فصحيح، وطرده تقديمُ قرابة الأب على قرابة الأم، لأنها مقدَّمة عليها في الميراث، فتقدم الأختُ على العمة والخالة‏.‏ وقوله وكذلك تقديمُ الأخت للأب على الأخت للأم، والخالة، لأنها أقوى إرثاً منهما، فيقال‏:‏لم يكن تقديمُها لأجل الإِرث وقوته، ولو كان لأجل ذلك، لكان العصبات أحقَّ بالحضانة من النساء، فيكون العمُّ أولى مِن الخالة والعمة، وهذا باطل‏.‏‏.‏

فصل

وقد ضبط الشيخ في ‏(‏المغني‏)‏ هذا الباب بضابط آخر فقال‏:‏ فصل في بيان الأولى فالأولى من أهل الحضانة عند اجتماع الرجال والنساء‏.‏ وأولى الكلّ بها‏:‏ الأمُّ، ثم أمهاتُها وإن علون يُقدَّم منهن الأقرب فالأقرب لأنهن نساء ولادتهن متحققة، فهن في معنى الأم‏:‏ وعن أحمد، أن أم الأب وأمهاتِها يُقدّمن على أم الأم، فعلى هذه الرواية يكون الأب أولى بالتقديم، لأنَّهنَّ يُدلين به، فيكون الأب بعد الأم، ثم أمهاته، والأولى هي المشهورة عند أصحابنا، فإن المقدَّم الأم، ثم أمهاتها، ثم الأب، ثم أمهاتُه، ثم الجدُّ، ثم أمهاتُه، ثم جدُّ الأب، ثم أمهاتُه، وإن كن غيرَ وارثات لأنهن يُدلين بعصبةٍ مِن أهل الحضانة، بخلاف أمِّ أب الأم‏.‏ وحُكي عن أحمد رواية أخرى‏:‏ أن الأختَ من الأم والخالة أحقّ من الأب، فتكون الأختُ من الأبوين أحقَّ منه، ومنهما، ومن جميع العصبات، والأولى هي المشهورة من المذهب، فإذا انقرض الآباء والأمهات، انتقلت الحضانة إلى الأخوات وتُقدّمُ الأختُ من الأبوين، ثم الأختُ من الأب، ثم الأختُ من الأم، وتقدَّمُ الأخت على الأخ لأنها امرأة من أهل الحضانة، فَقُدِّمَتْ على مَن في درجتها من الرجال، كالأم تُقدَّمُ على الأب، وأمُّ الأب على أب الأب، وكُل جدة في درجة جد تُقدَّمُ عليه لأنها تلي الحَضانة بنفسها، والرجلُ لا يليها بنفسه‏.‏‏.‏

وفيه وجه آخر‏:‏ أنه يقدم عليها لأنه عصبة بنفسه، والأول أولى، وفي تقديم الأخت من الأبوين، أو من الأب على الجد وجهان، وإذا لم تكن أخت فالأخ للأبوين أولى، ثم الأخُ للأب، ثم ابناهما، ولا حَضانة للأخ من الأمِّ لما ذكرنا‏.‏‏.‏

فإذا عدموا، صارت الحضانةُ للخالات على الصحيح، وترتيبُهن فيها كترتيبِ الأخوات، ولا حضانةَ للأخوال، فإذا عدموا، صارت للعمات ويقدَّمن على الأعمام كتقديمِ الأخوات على الإِخوة، ثم للعم للأبوين، ثم للعم للأب، ولا حضانة للعم من الأم، ثم ابناهما، ثم إلى خالاتِ الأب على قول الخرقي، وعلى القول الآخر‏:‏ إلى خالات الأم، ثم إلى عمات الأب، ولا حَضانة لعمات الأم، لأنهن يُدلين بأب الأم، ولا حضانة له‏.‏ وإن اجتمع شخصانِ أو أكثر مِن أهل الحضانة في درجة قدِّمَ المستحق منهم بالقرعة، انتهى كلامه‏.‏‏.‏

وهذا خيرٌ مما قبله من الضوابط، ولكن فيه تقديمُ أم الأم وإن علت علىالأب وأمهاته، فإن طَرَّدَ تقديم من في جهة الأم على من في جهة الأب جاءت تلك اللوازمُ الباطلة، وهو لم يُطرده، وإن قَدَّمَ بعضَ من في جهة الأب على بعض من في جهة الأم كما فعل، طولِبَ بالفرق، وبمَنَاط التقديم‏.‏وفيه إثباتُ الحضانة للأخت من الأم دون الأخِ مِن الأم، وهو في درجتها ومساوٍ لها من كل وجه، فإن كان ذلك لأنوثتها وهو ذكر، انتقض برجال العصبة كلهم، وإن كان ذلك لكونه ليس مِن العصبة، والحضانة لا تكون لرجل إلا أن يكون مِن العصبةِ‏.‏ قيل‏:‏ فكيف جعلتمُوها لِنساء ذوىَ الأرحام مع مساواتِ قرابتهن لقرابة مَنْ في درجتهن من الذكورِ من كل وجه‏؟‏ فإما أن تعتبِرُوا الأنوثة فلا تجعلُوها للذكر، أو الميراثَ فلا تجعلُوها لغير وارث، أو القرابة فلا تمنعوا منها الأخَ من الأم والخال وأبا الأم، أو التعصيبَ، فلا تعطوها لغير عصبة‏.‏

فإن قلتم‏:‏ بقي قسم آخر وهو قولنا، وهو اعتبار التعصيب في الذكور والقرابة في النساء‏.‏

قيل‏:‏ هذا مخالف لباب الولايات، وباب الميراث، والحضانة وِلاية على الطفل، فإن سلكتم بها مسلكَ الولايات، فخصُّوها بالأب والجد، وإن سلكتم بها مسلكَ الميراث، فلا تُعطوها لغير وارث، وكلاهما خلاف قولكم وقولِ الناس أجمعين‏.‏‏.‏

وفي كلامه أيضاً‏:‏ تقديمُ ابن الأخ وإن نزلت درجتُه على الخالة التي هي أم،وهو في غاية البعد، وجمهورُ الأصحاب إنما جعلوا أولاد الإِخوة بعد أب الأب والعمات وهو الصحيح، فإن الخالة أختُ الأم، وبها تُدلي، والأمُّ مقدَّمة على الأب، وابنُ الأخ إنما يُدلي بالأخ الذي يُدلي بالأب، فكيف يقدَّمُ على الخالة، وكذا العمةُ أختُ الأب وشقيقتُه، فكيف يقدمُ ابنُ ابنه عليها‏.‏

وقد ضبط هذا البابَ شيخُنا شيخُ الإِسلام ابن تيمية بضابط آخر‏.‏ فقال‏:‏أقربُ ما يُضبط به بابُ الحضانة أن يقال‏:‏ لما كانت الحضانة ولايةً تعتمد الشفقة والتربية والملاطفة كان أحق الناس بها أقومَهم بهذه الصفات وهم أقاربُه يقدَّم منهم أقربهم إليه وأقومُهم بصفات الحضانة‏.‏ فإن إجتمع منهم اثنان فصاعداً، فإن استوت درجتهم قُدِّم الأنثى على الذكر، فتُقدَّم الأمُّ على الأب، والجدة علىالجد، والخالة على الخال، والعمة على العم، والأخت على الأخ‏.‏ فإن كانا ذكرين أو انْثَيَيْن، قُدِّمَ أحدهما بالقرعة يعني مع استواء درجتهما، وإن اختلفت درجتُهُما من الطفل، فإن كانوا من جهة واحدة، قُدمَ الأقرب إليه، فتقدَّمُ الأخت على ابنتها، والخالةُ على خالة الأبوين، وخالةُ الأبوين على خالة الجد والجدة، والجد أبو الأم على الأخ للأم، هذا هو الصحيحُ لأن جهة الأبوة والأمومة في الحضانة أقوى مِن جهة الأخوة فيها‏.‏ وقيل‏:‏ يقدم الأخ للأم لأنه أقوى من أب الأم في الميراث‏.‏ والوجهان في مذهب أحمد‏.‏

وفيه وجه ثالث‏:‏ أنه لا حضانة للأخ من الأم بحال، لأنه ليس من العصبات، ولا من نساء الحضانة، وكذلك الخالُ أيضاً، فإن صاحب هذا الوجه يقولُ‏:‏ لا حضانة له، ولا نِزاع أن أبا الأم وأمهاته أولى مِن الخال وإن كانوا من جهتين، كقرابة الأم وقرابة الأب مثل العمة والخالة، والأخت للأب، والأخت للأم، وأم الأب، وأم الأم، وخالة الأب، وخالة الأم قدِّم من في جهة الأب في ذلك كله على إحدى الروايتين فيه‏.‏ هذا كلهُ إذا استوت درجتهم، أو كانت جهة الأب أقربَ إلى الطفل، وأما إذا كانت جِهةُ الأم أقرب، وقرابة الأب أبعد، كأم الأم، وأم أب الأب، وكخالة الطفل، وعمة أبيه، فقد تقابل الترجيحان، ولكن يُقدّمُ الأقربُ إلى الطفل لقوة شفقته وحنِّوه على شفقة الأبعد، ومن قَدَّم قرابةَ الأب، فإنما يُقدِّمها مع مساواةِ قرابة الأم لها، فأما إذا كانت أبعدَ منها، قُدمت قرابةُ الأم القريبة، وإلا لزم مِن تقديم القرابة البعيدة لوازم باطلة لا يقولُ بها أحد، فبهذا الضابِطِ يُمكن حصرُ جميع مسائل هذا الباب وجريها على القياس الشرعي، واطرادها وموافقتها لأصول الشرع، فأي مسألة وردت عليك أمكَن أخذُها من هذا الضابط مع كونه مقتضى الدليل، ومع سلامتِهِ من التناقض ومناقضة قياس ا لأصول، وبالله التوفيق‏.‏

فصل

وقوله صلى الله عليه وسلم ‏(‏أنتِ أحق به ما لم تنكحي‏)‏ فيه دليل على أن الحَضانة حقّ للأم، وقد اختلف الفقهاءُ، هل هي للحاضن أم عليه‏؟‏ على قولين في مذهب أحمد ومالك، وينبني عليهما هل لمن له الحَضانة أن يُسقِطَها فينزل عنها‏؟‏ على قولين‏.‏‏.‏ وأنه لا يجب عليه خدمةُ الولد أيامَ حَضانته إلا بالأجرة إن قلنا‏:‏الحق له، وإن قلنا الحق عليه، وجب خدمته مجاناً‏.‏ وإن كان الحاضن فقيراً، فله الأجرةُ على القولين‏.‏

وإذا وهبت الحضانة للأب، وقلنا‏:‏ الحق لها، لزمت الهبة ولم ترجع فيها،وإن قلنا‏:‏ الحق عليها، فلها العود إلى طلبها‏.‏والفرق بين هذه المسألة وبين ما لم يثبت بعد كهبة الشفعة قبل البيع حيث لاتلز م في أحد القولين‏:‏ أن الهبة في الحضانة قد وُجِدَ سببُها، فصار بمنزلة ما قد وجد، وكذلك إذا وهبت المرأةُ نفقتها لزوجها شهراً ألزمت الهبة، ولم ترجع فيها‏.‏ هذا كلهُ كلام أصحابِ مالك وتفريعهم، والصحيحُ أن الحضانة حق لها، وعليها إذا احتاج الطفل إليها، ولم يُوجد غيرُها، وإن اتفقت هي، وولي الطفل على نقلها إليه جاز، والمقصودُ أن في قوله صلى الله عليه وسلم‏(‏أنت أحق به‏)‏، دليلاً على أن الحضانة حقّ لها‏.‏

فصل

وقوله ‏(‏ما لم تنكحي‏)‏، اختلف فيه‏:‏ هل هو تعليل أو توقيت، على قولين ينبغي عليهما‏:‏ ما لو تزوَّجت وسقطت حضانتها، ثم طُلِّقت، فهل تعودُ الحضانة‏؟‏ فإن قيل‏:‏ اللفظُ تعليل، عادت الحضانة بالطلاق، لأن الحكم إذا ثبت بعلة زال بزوالها، وعلة سقوط الحضانة التزويج، فإن طلقت، زالت العلة، فزال حكمها، وهذا قولُ الأكثرين، منهم‏:‏ الشافعي، وأحمد، وأبو حنيفة‏.‏

ثم اختلفوا فيما إذا كان الطلاق رجعياً، هل يعودُ حقُّها بمجرده، أو يتوقف عودُها على انقضاء العدة‏؟‏ على قولين، وهما في مذهب أحمد والشافعي، أحدهما‏:‏ تعود بمجرده، وهو ظاهر مذهب الشافعي‏.‏ والثاني‏:‏ لا تعود حتى تنقضيَ العدةِ، وهو قول أبي جنيفة والمزني، وهذا كله تفريع على أن قوله‏:‏ ما لم تنكحي ‏"‏ تعليل، وهو قولُ الأكثرين‏.‏ وقال مالك في المشهور من مذهبه‏:‏ إذا تزوجت ودخل بها، لم يَعُد حقها من الحضانة، وإن طلقت، قال بعضُ أصحابه‏:‏ وهذا بناء على أن قوله‏:‏ ‏(‏ما لم تنكحي‏)‏ ، للتوقيت أي‏:‏ حقك من الحضانة مُوقّت إلى حين نكاحك، فإذا نكحت، انقضى وقت الحضانة، فلا تعودُ بعد انقضاء وقتها، كما لو انقضى وقتُها ببلوغ الطفل واستغنائه عنها‏.‏ وقال بعض أصحابه‏:‏ يعودُ حقها إذا فارقها زوجُها، كقول الجمهور، وهو قول المغيرة، وابن أبي حازم‏.‏ قالُوا‏:‏ لأن المقتضي لحقها من الحضانة هو قرابتُها الخاصة، وإنما عارضها مانع النكاح لما يُوجبه من إضاعة الطفل، واشتغالها بحقوقِ الزوج الأجنبي منه عن مصالحه، ولما فيه من تغذيته وتربيته في نعمة غير أقاربه، وعليهم في ذلك مِنَّةٌ وغَضَاضَة، فإذا انقطع النكاحُ بموتٍ، أو فُرقةٍ، زال المانع، والمقتضي قائم، فترتب عليه أثره، وهكذا كُلُّ من قام به من أهل الحضانة مانع منها، ككفر، أورِق، أو فسق، أو بدو، فإنه لا حضانة له، فإن زالت الموانعُ، عاد حقُّهم من الحضانة، فهكذا النكاح والفرقة‏.‏

وأما النزاعُ في عود الحضانة بمجرد الطلاق الرجعي، أو بوقفه على انقضاء العدة، فمأخذُه كون الرجعية زوجة في عامة الأحكام، فإنه يثبت بينهما التوارثُ والنفقة، ويَصِحُّ منها الظهارُ والإيلاء‏:‏ ويحرم أن يَنكحَ عليها أختها، أو عمتها، أو خالتها، أو أربعاً سواها، وهي زوجة، فمن راعى ذلك، لم تعد إليها الحضانة بمجرد الطلاق الرجعي حتى تنقضي العدة، فتبينُ حينئذ، ومن أعاد الحضانة بمجرد الطلاق، قال‏:‏ قد عزلها عن فِراشه، ولم يبق لها عليه قَسْمّ، ولا لها به شغل، والعِلة التي سقطت الحضانة لأجلها قد زالت بالطلاق، وهذا هو الذي رجحه الشيخ في ‏"‏المغني‏"‏ وهو ظاهر كلام الخرقي، فإنه قال‏:‏ وإذا أخذ الولد من الأم إذا تزوجت ثم طلقت، رجعت على حقها من كفالته‏.‏‏.‏

فصل

وقوله ‏(‏ما لم تنكحي‏)‏، اختُلِفَ فيه‏:‏ هل المراد به مجرد العقد، أو العقد مع الدخول‏؟‏ وفي ذلك وجهان‏.‏ أحدهما‏:‏ أن بمجرد العقد تزول حضانتها، وهو قول الشافعي، وأبي حنيفة، لأنه بالعقد يَملِكُ الزوج منافع الاستمتاع بها، ويَملِك نفعها من حضانة الولد‏.‏ والثاني‏:‏ أنها لا تزول إلا بالدخول، وهو قولُ مالك، فإن بالدخول يتحقق اشتغالها عن الحضانة، والحديث يحتمل الأمرين، والأشبه سقوطُ حضانتها بالعقد، لأنها حينئذ صارت في مظنة الاشتغال عن، الولد والتهيؤ للدخول، وأخذها حينئذ في أسبابه، وهذا قولُ الجمهور‏.‏

فصل

واختلف الناسُ في سقوط الحضانة بالنكاح، على أربعة أقوال‏.‏

أحدُها‏:‏ سقوطها به مطلقاً، سواء كان المحضون ذكراً، أو أنثى، وهذا مذهب الشافعي، ومالك، وأبي حنيفة، وأحمد في المشهور عنه‏.‏ قال ابن المنذر‏:‏ أجمع على هذا كلُ من أحفظ عنه من أهل العلم، وقضى به شريح‏.‏‏.‏

والقولُ الثاني‏:‏ أنها لا تسقطُ بالتزويج بحال، ولا فرق في الحضانة بين الأيِّم وذوات البعل، وحُكي هذا المذهبُ عن الحسن البصري، وهو قول أبي محمد ابن حزم‏.‏

القول الثالث‏:‏ أن الطفل إن كان بنتاً لم تسقط الحضانة بنكاح أمها، وإن كان ذكراً سقطت، وهذه إحدى الروايتين عن أحمد رحمه اللّه نص عليه في رواية مهنا بن يحي الشامي، فقال‏:‏ إذا تزوجت الأمُّ وابنُها صغير، أُخذَ منها‏.‏ قيل له‏:‏ والجارية مثل الصبي‏؟‏ قال‏:‏ لا، الجاريةُ تكون مع أمها إلى سبع سنين‏.‏ وعلى هذه الرواية‏:‏ فهل تكون عندها إلى سبع سنين أو إلى أن تبلغ‏؟‏ على روايتين‏.‏ قال ابنُ أبي موسى‏:‏ وعن أحمد، أن الأم أحقُّ بحضانة البنت وإن تزوجت إلى أن تبلغ‏.‏والقول الرابع‏:‏ أنها إذا تزوجت بنسيب من الطفل لم تسقط حضانتها، ثم اختلف أصحاب هذا القول، على ثلاثة أقوال‏.‏ أحدها‏:‏ أن المشترط أن يكون الزوج نسيباً للطفل فقط، وهذا ظاهرُ قولِ أصحاب أحمد‏.‏ الثاني‏:‏ أنه يشترط أن يكون مع ذلك ذا رحم محرم، وهو قولُ أصحاب أبي حنيفة‏.‏ الثالث‏:‏ أنه يشترط أن يكون بين الزوج وبين الطفل إيلاد، بأن يكون جداً للطفل، وهذا قولُ مالك، وبعض أصحاب أحمد، فهدا تحرير المذاهب في هذه المسألة‏.‏

فأما حُجةُ مَنْ أسقط الحضانة بالتزويج مطلقاً، فثلاث حجج‏:‏إحداها، حديث عمرو بن شعيب المتقدم ذكره‏.‏ الثانية‏:‏ اتفاق الصحابة على ذلك، وقدُ تقدَّم قول الصدِّيق لعمر‏:‏ هي أحق به ما لم تتزوج، وموافقة عمر له على ذلك، ولا مخالف لهما من الصحابة ألبتة، وقضى به شريح، والقضاة بعده إلى اليوم في سائر الأعصار والأمصار‏.‏

الثالثة‏:‏ ما رواه عبد الرزاق‏:‏ حدثنا ابن جريج، حدثنا أبو الزبير، عن رجل صالح من أهل المدينة، عن أبي سلمة بن عبد الرحمن، قال‏:‏ كانت امرأةٌ من الأنصار تحتَ رجل من الأنصار، فقُتِلَ عنها يومَ أحد وله منها ولد، فخطبها عمُّ ولدها وَرَجُلٌ آخر إلى أبيها، فأنكح الآخرَ، فجاءت إلى النبيِّ صلى الله عليه وسلم، فقالت‏:‏ أنكحني أبي رجلاً لا أريدُه، وترك عمَّ ولدي، فيؤخذ مني ولدي، فدعا رسولُ اللّه صلى الله عليه وسلم أباها، فقال‏:‏ أنكحت فلاناً فلانة‏؟‏ قال‏:‏ نعم، قال ‏(‏أَنتَ الذي لا نِكَاحَ لَكَ، اذْهَبِي فَانْكِحِي عمَّ وَلَدِكِ‏)‏، فلم ينكر أخذَ الولد منها لما تزوجت، بل أنكحها عم الولد لتبقى لها الحضانة، ففيه دليل على سقوط الحضانة بالنكاح، وبقائها إذا تزوجت بنسيب من الطفل‏.‏

واعترض أبو محمد بن حزم على هذا الاستدلال، بأن حديث عمرو بن شعيب صحيفة، وحديث أبي سلمة هذا مرسل، وفيه مجهول‏.‏ وهذان الاعتراضان ضعيفان، فقد بينا احتجاجَ الأئمة بعمرو في تصحيحهم حديثه، وإذا تعارض معنا في الاحتجاج برجل قولُ ابن حزم، وقولُ البخاري، و أحمد، وابن المديني، والحميدي وإسحاق بن راهويه وأمثالهم، لم تلتفت إلى سواهم‏.‏

وأما حديث أبي سلمة هذا، فإن أبا سلمة مِن كبار التابعين، وقد حكى القِصة عن الأنصارية، ولا يُنكر لقاؤه لها، فلا يتحقق الإِرسال، ولو تحقق، فمرسل جيد، له شواهد مرفوعة وموقوفة، وليس الاعتمادُ عليه وحدَه، وعنى بالمجهول الرجل الصالح الذي شهد له أبو الزبير بالصلاح، ولا رَيبَ أن هذه الشهادة لا تُعرِّفُ به، ولكن المجهول إذا عدَّله الراوي عنه الثقة ثبتت عدالته وإن كان واحداً على أصح القولين، فإن التعديلَ من باب الإِخبار والحكم لا من باب الشهادة،‏؟‏لا سيما التعديل في الرواية، فإنهُ يكتفى فيه بالواحد، ولا يزيد على أصل نصاب الرواية، هذا مع أن أحد القولين‏:‏ إن مجرد رواية العدل عن غيره تعديل له وإن لم يصرح بالتعديل، كما هو إحدى الروايتين عن أحمد، وأما إذا روى عنه وصرحِ بتعديله، فقد خرج عن الجهالة التي ترد لأجلها روايته لا سيَّما إذا لم يكن معروفاَ بالرواية عن الضعفاء والمتهمين، وأبو الزبير وإن كان فيه تدليس، فليس معروفاً بالتدليس عن المتهمين والضعفاء، بل تدليسُه من جنس تدليس السلف، لم يكونوا يُدلِّسون عن متهم ولا مجروح، وإنما كثر هذا النوعُ من التدليس في المتأخرين‏.‏

واحتج أبو محمد على قوله، بما رواه من طريق البخاري، عن عبد العزيز بن صُهيب، عن أنس قال‏:‏ قَدِمَ رسولُ اللّه صلى الله عليه وسلم المدينة وليس له خادم، فأخذ أبو طلحة بيدي، وانطلق بي إلى رسولِ اللّه صلى الله عليه وسلم، فقال‏:‏ يا رسول اللّه‏!‏ إن أنساً غلامٌ كيِّسٌ، فَلْيَخْدُمْك‏.‏ قال‏:‏ فخدمتُه في السفر والحضر‏.‏ وذكر الخبر‏.‏

قال أبو محمد‏:‏ فهذا أنس في حضانة أمه، ولها زوج، وهو أبو طلحة بعلم رسول اللّه صلى الله عليه وسلم وهذا الاحتجاجُ في غاية السقوط، والخبرُ في غاية الصحة، فإن أحداً من أقارب أنس لم يُنَازعْ أمه فيه إلى النبي صلى الله عليه وسلم وهو طفل صغير لم يَثَّغِز، ولم يأكل وحدَه، ولم يشرب وحدَه، ولم يميز، وأمه مزوجة، فحكم به لأمه، وإنما يَتمُّ الاستدلال بهذه المقدمات كلها، والنبيُّ صلى الله عليه وسلم لما قَدِمَ المدينة كان لأنس من العمر عشرُ سنين، فكان عند أمه، فلما تزوَّجت أبا طلحة لم يأت أحدٌ من أقارب أنس يُنازعها في ولدها ويقول‏:‏ قد تزوجتِ فلا حضانةَ لكِ، وأنا أطلبُ انتزاعَه مِنْكِ، ولا ريبَ أنه لا يحرم على المرأة المزوجة حضانةُ ابنها إذا اتفقت هي والزوجُ وأقارب الطفل على ذلك، ولا ريبَ أنه لا يجب، بل لا يجوزَ أن يفرّق بين الأم وولدها إذا تزوجت من غير أن يُخاصمها مَنْ له الحضانة، ويَطْلُب انتزاع الولد، فالاحتجاجُ بهذه القصة من أبعدِ الاحتجاج وأبرده‏.‏

ونظيرُ هذا أيضاً، احتجاجُهم بأن أمَّ سلمة لما تزوجت برسول الله صلى الله عليه وسلم لم تسقط كفالتها لابنها، بل استمرت على حضانتها، فيا عجبا من الذي نازع أمَّ سلمة في ولدها، ورغب عن أن يكون في حجر النبيِّ صلى الله عليه وسلم‏.‏

واحتج لهذا القول أيضاً بأن رسولَ اللّه ِصلى الله عليه وسلم قض بابنة حمزة لخالتها وهي مزوَّجة بجعفر، فلا ريب أن للناسِ في قصة ابنة حمزة ثلاثَ مآخذ‏.‏

أحدها‏:‏ أن النكاحَ لا يُسقط الحضانة‏.‏ الثاني‏:‏ أن المحضونةَ إذا كانت بنتاً، فنكاحُ أمهَا لا يُسقِطُ حضانتها، ويسقِطُها إذا كان ذكراً‏.‏ الثالث‏:‏ أن الزوج إذا كان نسيباً من الطفل، لم تسقط حضانتها، وإلا سقطت، فالاحتجاجُ بالقصة على أن النكاحَ لا يُسقط الحضانَة مطلقاً لا يَتِمُّ إلا بعدَ إبطال ذينك الاحتمالين الآخرين‏.‏

فصل

وقضاؤه صلى الله عليه وسلم بالولد لأمه، وقوله‏(‏أنْتِ أحَقُ بِهِ ما لَم تَنْكِحي‏)‏، لا يُستفاد منه عمومُ القضاء لكل أمٍّ حتّى يقضِي به للأم‏.‏ وإن كانت كافرة، أو رقيقة، أو فاسقة، أو مسافِرة، فلا يَصحُّ الاحتجاج به على ذلك، ولا نفيُه، فإذا دلّ دليلٌ منفصِلٌ على اعتبار الإِسلام والحرية والديانة والإِقامة، لم يكن ذلك تخصيصاً ولا مخالفة لِظاهر الحديث‏.‏

وقد اشترط في الحاضن ستة شروط‏:‏

اتفاقهما في الدِّين، فلا حضانة لكافر على مسلم لوجهين‏.‏

أحدهما‏:‏ أن الحاضن حريصٌ على تربيةِ الطفل على دينه، وأن ينشأَ عليه، ويتربَّى عليه، فيصعبُ بعد كِبره وعقله انتقاله عنه، وقد يُغيره عن فطرة اللّه التي فطر عليها عبادَه، فلا يُراجعها أبداً، كما قال النبيُّ صلى الله عليه وسلم ‏(‏كُلُّ مَوْلُود يولَدُ عَلى الفِطرَةِ فَأَبَواه يَهَوِّدَانِهِ أو يُنَصِّرَانِهِ، أو يُمَجِّسَانِه‏)‏ فلا يُؤمن تهويدُ الحاضن وتنصيرُه للطفل المسلم‏.‏

فإن قيل‏:‏ الحديثُ إنما جاء في الأبوين خاصة‏.‏ قيل‏:‏الحديث خرجَ مخرج الغالِب إذ الغالب المعتادُ نشوء الطفل بين أبويه، فإن فُقِدَ الأبوانِ أو أحدُهما قامَ ولي الطفل مِن أقاربه مقامهما‏.‏

الوجه الثاني‏:‏أن اللّهَ سبحانه قطعَ الموالاة بين المسلمين والكفار، وجعلَ المسلمين بعضهم أولياءَ بعض، والكفارَ بعضَهم مِن بعض، والحضانةُ مِن أقوى أسباب الموالاة التي قطعها اللّه بين الفريقين‏.‏ وقال أهلُ الرأي، وابنُ القاسم، وأبو ثور‏:‏ تثبتُ الحضانة لها مع كُفرها وإسلام الولد، واحتجُّوا بما روى النسائي في سننه، من حديث عبد الحميد بن جعفر عن أبيه، عن جدِّه رافع بن سنان، أنه أسلم وأبت امرأتُه أن تُسلم، فأتت النبيَّ صلى الله عليه وسلم،فقالت‏:‏ ابنتي وهي فطيمٌ أو يشبهُه، وقال رافع‏:‏ ابنتي، فقال النبيُ صلى الله عليه وسلم ‏(‏اقْعُدْ ناحِيَةً‏)‏، وقال لها‏:‏‏(‏اقْعُدِي نَاحِيَةً‏)‏،وقال لهما‏(‏ادْعُواها‏)‏، فمالت الصبيةُ إلى أمها، فقال النبيُّ صلى الله عليه وسلم،‏(‏اللهم إهدها‏)‏ فمالت إلى أبيها فأخذها

قالوا‏:‏ ولأن الحضانة لأمرين‏:‏ الرضاعِ، وخدمةِ الطفل، وكلاهما يجوزُ من الكافرة‏.‏

قال الآخرون‏:‏ هذا الحديثُ مِن رواية عبد الحميد بن جعفر بن عبد اللّه بن الحكم بن رافع بن سنان الأنصاري الأوسي، وقد ضعفه إمامُ العلل يحيى بن سعيد القطان، وكان سفيان الثوري يَحمِلُ عليه، وضعف ابنُ المنذر الحديث، وضعفه غيرُه، وقد اضطرب في القصة، فروَى أن المخيَّر كان بنتاً، وروَى أنه كان ابناً‏.‏ وقال الشيخ في ‏(‏المغنى‏)‏وأما الحديث، فقد روي على غير هذا الوجه، ولا يثبته أهل النقل‏.‏ وفي إسناده مقال، قاله ابن المنذر‏.‏‏.‏

ثم إن الحديث قد يحتج به على صحة مذهب من اشترط الإِسلام، فإن الصبيَّة لما مالت إلى أمها دعا النبي صلى الله عليه وسلم لها بالهداية، فمالت إلى أبيها، وهذا يدل على أن كونَها مع الكافر خلافُ هُدى اللّه الذي أرادهُ مِن عبادِه، ولو استنكر جعلها مع أمها، لكان فيه حجة، بل أبطله اللّه سبحانه بدعوة رسوله‏.‏

ومن العجب أنهم يقولون‏:‏لا حضانةَ للفاسقِ، فأيَُّ فِسق أكبر مِن الكفر‏؟‏ وأينَ الضّررُ المتوقع من الفاسق بنشوء الطفل على طريقته إلى الضرر المتوقَّع من الكافر، مع أن الصوابَ أنه لا تشترط العدالة في الحاضن قطعاً، وإن شرطها أصحاب أحمد والشافعي وغيرهم، واشتراطها في غاية البعد‏.‏

ولو اشترط في الحاضن العدالة لضاع أطفال العالم، ولعظمت المشقة على الأمة، واشتد العنتُ، ولم يزل من حين قام الإِسلام إلى أن تقومَ الساعة أطفال الفساق بينهم لا يتعرض لهم أحدٌ في الدنيا، مع كونهم الأكثرين‏.‏ ومتى وقع في الإِسلام انتزاع الطفل من أبويه أو أحدهما بفسقه‏؟‏ وهذا في الحرج والعسر -واستمرارُ العمل المتصل في سائر الأمصار والأعصار على خلافه بمنزلة اشتراط العدالة في ولاية النكاح، فإنه دائمُ الوقوع في الأمصار والأعصار، والقرى والبوادي، مع أن أكثر الأولياء الذين يلون ذلك، فساق، ولم يزل الفسقُ في الناس، ولم يمنع النبيِ صلى الله عليه وسلم، ولا أحدٌ من الصحابة فاسقاً من تربية ابنه وحضانته له، ولا مِن تزويجه مولِّيته، والعادةُ شاهدة بأن الرجل ولو كان من الفساق، فإنه يحتاط لابنته، ولا يُضيعها، ويحرص على الخير لها بجهده، وإن قُدِّرَ خلاف ذلك، فهو قليل بالنسبة إلى المعتاد، والشارع يكتفي في ذلك بالباعث الطبيعي، ولو كان الفاسق مسلوبَ الحضانة، وولاية النكاح، لكان بيانُ هذا للأمة من أهم الأمور، واعتناء الأمة بنقله، وتوارث العملِ به مقدّماً على كثير مما نقلوه، وتوارثوا العمل به، فكيف يجوز عليهم تضييعُه واتصالُ العمل بخلافه‏.‏ ولو كان الفِسق ‏!‏ينافي الحضانة، لكان من زنى أو شرب خمراً، أو أتى كبيرةً، فرق بينه وبين أولاده الصغار، والتمِسَ لهم غيره واللّه أعلم‏.‏

نعم، العقل مشترط في الحضانة، فلا حضَانة لمجنون ولا معتوه ولا طفل، لأن هؤلاء يحتاجون إلى من يحضنُهم ويكفُلُهم، فكيف يكونون كافلين لغيرِهم‏.‏

وأما اشتراطُ الحرية، فلا ينتهِضُ عليه دليلٌ يَركَنُ القلب إليه، وقد اشترطه أصحابُ الأئمه الثلاثة‏.‏ وقال مالك في حُرٍّ له ولد مِن أمة‏:‏إن الأم أحقُ به إلا أن تباع، فتنتقل، فيكون الأب أحق بها، وهذا هو الصحيح، لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال ‏(‏لا تُوَلَّهُ والدَةٌ عن وَلِدِهَا‏)‏ ‏,‏وقال ‏(‏مَنْ فَرَّقَ بَيْنَ الوالدة وَوَلَدِهَا، فَرقَ اللّهُ بَيْنَهُ وبَيْنَ أحِبَّتِهِ يَوْمَ القِيامَةِ‏)‏ وقد قالوا‏:‏ لا يجوزُ التفريقُ في البيع بين الأمِّ وولدها الصغير فكيف يُفرِّقون بينهما في الحضانة‏؟‏ وعمومُ الأحاديث تمنعُ مِن التفريق مطلقاً في الحضانة والبيع، واستدلاَلُهم بكون منافِعها مملوكةً للسيد، فهي مستغرِقَة في خدمته، فلا تَفرُغُ لِحَضانةِ الولد ممنوع، بل حَقُّ الحَضانةِ لها، تُقدَّم به في أوقات حاجة الولد على حقِّ السيد، كما في البيع سواء‏.‏ وأما اشتراطُ خلوها من النكاح، فقد تقدم‏.‏

وهاهنا مسألة ينبغي التنبيهُ عليها وهي أنا إذا أسقطنا حقَّها مِن الحضانة بالنكاح، ونقلناها إلى غيرها فاتُّفِق أنه لم يكن له سِواها، لم يَسقُطْ حقُها من الحضانة، وهي أحقُّ به من الأجنبي الذي يدفعه القاضي إليه، وتربيته في حجر أمه ورأيه أصلحُ مِن تربيته في بيتِ أجنبي محض لا قرابة بينهما توجِب شفقته ورحمته وحنُوّه، ومنَ المحالِ أن تأتيَ الشريعة بدفع مفسدة بمفسدة أعظمَ منها بكثير، والنبيُّ صلى الله عليه وسلم لم يحكم حكماً عاماً كلياً‏:‏ أن كل امرأة تزوجت سقطت حضانتُها في جمِيع الأحوال حتى يكونَ إثباتُ الحضانة للأم في هذه الحالة مخالفة للنص‏.‏

وأما اتحاد الدار، فإن كان سفرُ أحدهما لحاجة، ثم يعود والآخر مقيم، فهو أحقُّ به، لأن السفر بالولد الطفل ولا سيما إن كان رضيعاً إضرارٌ به وتضييعٌ له، هكذا أطلقوه، ولم يستثنوا سفرَ الحج من غيره، وإن كان أحدهما منتقلاً عن بلد الآخر للإِقامة، والبلدُ وطريقُه مخوفان، أو أحدهُما، فالمقيمُ أحقُّ، وإن كان هو وطريقُه آمنين، ففيه قولانِ، وهما روايتان عن أحمد، إحداهما أن الحضانةَ للأب ليتمكن من تربية الولد وتأديبه وتعليمِه، وهو قولُ مالك والشافعي، وقضى به شريح‏.‏ والثانية‏:‏ أن الأم أحقُّ‏.‏ وفيها قول ثالث‏:‏ أن المنتقل إن كان هو الأب، فالأمُّ أحقُّ به، وإن كان الأم، فإن انتقلت إلى البلد الذي كان فيه أصلُ النكاح فهي أحقُّ به، وإن انتقلت إلى غيره، فالأبُ أحق، وهو قول الحنفية‏.‏وحكوا عن أبي حنيفة رواية أخرى أن نقلها إن كان من بلد إلى قرية، فالأبُ أحق، وإن كان من بلدٍ إلى بلد، فهي أحق، وهذه أقوالٌ كُلها كما ترى لا يقوم عليها دليلٌ يسكن القلبُ إليه، فالصوابُ النظر والاحتياط للطفل في الأصلح له والأنفع مِن الإِقامة أو النقلة، فأيُّهما كان أنفعَ له وأصونَ وأحفظَ، روعي، ولا تأثيرَ لإِقامة ولا نقلة، هذا كلُّهُ ما لم يُرِدْ أحدُهما بالنقلة مضارةَ الآَخر، وانتزاعَ الولد منه‏.‏ فإن أراد ذلك، لم يُجب إليه، واللّه الموفق‏.‏

فصل

وقوله ‏(‏أنتِ أحق به ما لم تَنكحي‏)‏، قيل‏:‏ فيه إضمارٌ تقديره‏:‏ ما لم تنكحي، ويدخلْ بك الزوج، ويحكم الحاكم بسقوط الحضانة‏.‏ وهذا تعسف بعيد لا يُشعرُ به اللفظ، ولا يدل عليه بوجه، ولا هو من دلالة الاقتضاء التي تتوقف صحةُ المعنى عليها، والدخولُ داخل في قوله‏(‏تنكحي‏)‏، عند من اعتبره، فهو كقوله‏(‏حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهً‏)‏، ومن لم يعتبره، فالمراد بالنكاح عنده العقد‏.‏

وأما حكمُ الحاكم بسقوط الحضانة، فذاك إنما يحتاجُ إليه عند التنازع والخصومة بين المتنازعين، فيكون منفذاً لِحكم رسول اللّه صلى الله عليه وسلم، لا أن رسولَ اللّه صلى الله عليه وسلم أوقفَ سقوطَ الحضانة على حكمه، بل قد حكم هو بسقوطها، حَكَمَ به الحُكَّام بعده أو لم يحكمُوا‏.‏ والذي دل عليه هذا الحكمُ النبوي، أن الأمَّ أحقُّ بالطفل ما لم يُوجد منها النكاحُ، فإذا نكحت، زال ذلك الاستحقاقُ، وانتقل الحقُّ إلى غيرها‏.‏ فأما إذا طلبه من له الحق، وجب على خصمه أن يبذله له، فإن امتنع، أجبره الحاكمُ عليه، وإن أسقط حقَّه، أو لم يطالب به، بقي على ما كان عليه أولاً، فهذه قاعدة عامة مستفادَة من غير هذا الحديث‏.‏