فصل: ذكر ما روي من حكم رسول اللّه صلى الله عليه وسلم في تمكين المرأة من فراق زوجها إذا أعسر بنفقتها.

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: زاد المعاد في هدي خير العباد **


فصل

وقد احتج من لا يرى التخييرَ بين الأبوين بظاهر هذا الحديثِ، ووجهُ الاستدلال أنه قال ‏(‏أنت أحق به‏)‏، ولو خُيِّرَ الطفل لم تكن هي أحقَّ به إلا إذا اختارها، كما أن الأبَ لا يكون أحقَّ به إلا إذا اختاره، فإن قدر‏:‏ أنت أحقّ به إن اختارك، قُدِّرَ ذلكَ في جانب الأب، والنبيُّ صلى الله عليه وسلم جعلها أحقَّ به مطلقاً عند المنازعة، وهذا مذهب أبي حنيفة ومالك‏.‏ ونحن نذكر هذه المسألة‏:‏ ومذاهب الناس فيها، والاحتجاج لأقوالهم، ونرجح ما وافق حكم رسول اللّه صلى الله عليه وسلم‏.‏

ذكر قول أبي بكر الصديق رضي اللّه عنه‏.‏

ذكر عبد الرزاق عن ابن جريج، عن عطاء الخراساني، عن ابن عباس رضي اللّه عنهما قال‏:‏ طلق عمر بن الخطاب رضي اللّه عنه امرأته، فذكر الأثرَ المتقدم، وقال فيه‏:‏ ريحُها وفراشُها خير له منك حتى يَشِبَّ ويختار لنفسه، فحكم به لأمِّه حين لم يكن له تمييزٌ إلى أن يَشبَّ ويُميز ويخير حينئذ‏.‏

ذكر قول عمر بن الخطاب رضي اللّه عنه

قال الشافعي‏:‏حدثنا ابن عيينة، عن يزيد بن يزيد بن جابر، عن إسماعيل بن عُبيد الله بن أبي المهاجر، عن عبد الرحمن بن غَنم، أن عمر بن الخطاب رضي اللّه عنه‏.‏خَيَّرَ غلاماً بين أبيه وأمه‏.‏

وقال عبد الرزاق‏:‏ أخبرنا ابن جريج،عن عبد الله بن عبيد بن عمير، قال‏:‏خيرَ عمر رضي اللّه عنه غلاماً ما بينَ أبيه وأمه، فاختار أمّه، فانطلقت به‏.‏

وذكر عبد الرزاق أيضاً‏:‏عن معمر، عن أيوب، عن إسماعيل بن عبيد اللّه، عن عبد الرحمن بن غنم، قال‏:‏ اختُصمَ إلى عمرَ بنِ الخطاب في غلام، فقال‏:‏ هو مع أمه حتى يُعْرِبَ عنه لِسانُه ليختار‏.‏وذكر سعيد بن منصور عن هشيم، عن خالد، عن الوليد بن مسلم، قال‏:‏ اختصموا إلى عمر بن الخطاب رضي اللّه عنه في يتيم فخيَّره، فاختار أمه على عمه، فقال عمر‏:‏ إنَّ لُطْفَ أمك خيرٌ مِن خِصب عمِّكَ‏.‏

ذكر قول علي بن أبي طالب رضي اللّه عنه‏.‏

قال الشافعي رحمه الله تعالى‏:‏ أنبأنا ابن عيينة، عن يونس بن عبد اللّه الجَرْمي، عن عمارة الجرمي، قال‏:‏خيرني علي بين أمي وعَمّي، ثم قال لأخ لي أصغر مني‏:‏ وهذا أيضاً لو بلغ مبلغ هذا لخيرتُه‏.‏

قال الشافعي رحمه اللّه‏.‏قال إبراهيم‏:‏عن يونس عن عمارة عن علي مثله قاله في الحديث‏:‏ وكنتُ ابن سبع سنين، أو ثمانِ سنين‏.‏

قال يحيى القطان‏:‏ حدثنا يونس بنُ عبدِ اللّه الجرمي، حدثني عُمارة ابن رويبة، أنه تخاصمَتْ فيه أمُّه وعمُّه إلى علي بن أبي طالب رضي اللّه عنه، قال‏:‏ فخيرني علي ثلاثاً، كُلَّهُنَّ أختارُ أمي، ومعي أخٌ لي صغير، فقال علي‏:‏ هذا إذا بلغ مبلغ هذا خُيِّر‏.‏

ذكر قول أبي هريرة رضي اللّه عنه

قال أبو خيثمة زهير بن حرب‏:‏ حدثنا سفيانُ بنُ عيينة، عن زياد بن سعد، عن هِلال بن أبي ميمونة قال‏:‏ شهدت أبا هريرة خيَّر غلاماً بين أبيه وأمه، وقال‏:‏إنَّ رسولَ اللّهِ صلى الله عليه وسلم خَيَّرَ غُلاماً بينَ أبيه وأمه‏.‏

فهذا ما ظفرت به عن الصحابة‏.‏وأما الأئمة، فقال حرب بن إسماعيل‏:‏ سألت إسحاق بن راهويه، إلى متى يكون الصبيُّ والصبية مع الأم إذا طلِّقت‏؟‏ قال أحَبُّ إليَّ أن يكونَ مع الأم إلى سبع سنين، ثم يُخيَّر‏.‏ قلت له‏:‏ أترى التخيير‏؟‏ قال شديداً‏.‏قلت‏:‏ فأقلّ مِن سبع سنين لا يُخير‏؟‏ قال‏:‏ قد قال بعضهم‏:‏ إلى خمس، وأنا أحَبُّ إليَّ سبع‏.‏

وأما مذهب الإِمام أحمد، فإما أن يكونَ الطفلُ ذكراً أو أنثى، فإن كان ذكراً، فإما أن يكونَ ابنَ سبع أو دونَها، فإن كان له دون السبع، فأمُّه أحقُّ بحضانته من غير تخيير، وإن كان له سبعٌ، ففيه ثلاث روايات‏.‏

إحداها- وهي الصحيحة المشهورة من مذهبه- أنه يخير، وهي اختيار أصحابِه، فإن لم يختر واحداً منهما، أقرع بينهما، وكانَ لمن قرع، وإذا اختار أحدَهما، ثم عاد فاختار الآخر، نقل إليه، وهكذا أبداً‏.‏

والثانية‏:‏ أن الأبَ أحقُّ بهِ مِن غير تخيير‏.‏

والثالثة‏:‏ أن الأم أحق به كما قبل السبع‏.‏ وأما إذا كان أنثى، فإن كان لها دونَ سبع سنين، فأمّها أحقُّ بها من غير تخيير، وإن بلغت سبعاً، فالمشهورُ من مذهبه، أن الأمّ أحقُّ بها إلى تسع سنين، فإذا بلغت تسعاً، فالأبُ أحقُّ بها من غير تخيير‏.‏

وعنه رواية رابعة‏:‏ أن الأمّ أحقٌ بها حتى تبلغ، ولو تزوجت الأم‏.‏

وعنه رواية خامسة‏:‏ أنها تخير بعد السبع كالغلام، نصَّ عليها، وأكثر أصحابه إنما حكوا ذلك وجهاً في المذهب، هذا تلخيصُ مذهبه وتحريرُه‏.‏

وقال الشافعي‏:‏ الأمُّ أحقُ بالطفل ذكراً كان أو أنثى إلى أن يبلُغا سبع سنين، فإذا بلغا سبعاً وهما يعقِلان عقل مثلهما، خيِّرَ كُلّ منهما بينَ أبيه وأمه، وكان مع من اختار‏.‏

وقال مالك وأبو حنيفة لا تخيير بحال، ثم اختلفا فقال أبو حنيفة، الأمّ أحق بالجارية حتى تبلغ، وبالغلام حتى يأكل وحده، ويشربَ وحدَه، ويلبسَ وحده، ثم يكونان عند الأب، ومن سوى الأبوين أحقُّ بهما حتى يستغنيا، ولا يُعتبر البلوغ، وقال مالك‏:‏ الأمُّ أحقُ بالولد ذكراً كان أو أنثى حتى يثَّغِر،هذه رواية ابن وهب، وروى ابنُ القاسم‏:‏ حتى يَبْلُغَ، ولا يُخيَّرُ بحال‏.‏

وقال الليثُ بن سعد‏:‏ الأمُّ أحقُّ بالابن حتى يَبْلُغَ ثمان سنين، وبالبنت حتى تبلغ، ثم الأبُ أحقُّ بهما بعد ذلك‏.‏

وقال الحسنُ بن حَي‏:‏ الأمُ أولى بالبنت حتى يَكْعُبَ ثدياها، وبالغلام حَتَى يَيْفَعَ، فيُخيران بعدَ ذلك بين أبويهما، الذكرُ والأنثى سواء‏.‏

قال المخيِّرون في الغلام دون الجارية‏:‏ قد ثبت التخييرُ عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم في الغلام، من حديث أبي هريرة‏:‏وثبت عن الخلفاء الراشدين، وأبي هريرة، ولا يُعرف لهم مخالفٌ في الصحابة ألبتة، ولا أنكره منك‏.‏ قالوا‏:‏ وهذا غايةٌ في العدل الممكن، فإن الأمَّ إنما قُدِّمتْ في حال الصغر لحاجة الولد إلى التربية والحمل والرضاع والمداراة التي لا تتهيأ لِغير النساء، وإلا فالأمُّ أحد الأبوين، فكيف تُقدَّم عليه‏؟‏ فإذا بلغ الغلام حداً يُعْرِبُ فيه عن نفسه، ويستغني عن الحمل والوضع وما تُعانيه النساء، تساوى الأبوانِ، وزال السببُ الموجبُ لتقديم الأم، والأبوانِ متساويانِ فيه، فلا يُقَدَّمُ أحدُهما إلا بمرجِّح، والمرجِّحُ إما من خارج، وهو القرعةُ، وإما من جهة الولد، وهو اختيارُه، وقد جاءت السنةُ بهذا وهذا، وقد جمعهما حديثُ أبي هريرة، فاعتبرناهما جميعاَ، ولم ندفع أحدهما بالآخر‏.‏

وقدمنا ما قدمه النبيّ صلى الله عليه وسلم، وأخّرنا ما أخره، فقدم التخييرُ، لأن القُرعة إنما يُصار إليها إذا تساوت الحقوقُ مِن كل وجه، ولم يبق مرجِّحٌ سواها، وهكذا فعلنا هاهنا قدمنا أحدَهما بالاختيار، فإن لم يختر، أو اختارهما جميعاً، عدلنا إلى القُرعة، فهذا لو لم يكن فيه موافقة السنة، لكان مِن أحسن الأحكام، وأعدلها، وأقطعها للنزاع بتراضي المتنازعين‏.‏ وفيه وجه آخر في مذهب أحمد والشافعي‏:‏ أنه إذا لم يختر واحداً منهما كان عند الأم بلا قُرعة، لأن الحضانة كانت لها، وإنما ننقلُه عنها باختياره، فإذا لم يختر، بقي عندها على ما كان‏.‏

فإن قيل‏:‏ فقد قدمتُمُ التخييرَ على القُرعة، والحديث فيه تقديمُ القُرعة أولاً، ثم التخيير، وهذا أولى، لأن القرعة طريق شرعي للتقديم عند تساوي المستحقين، وقد تساوى الأبوانِ، فالقياسُ تقديمُ أحدهما بالقُرعة، فإن أبيا القُرعة، لم يبق إلا اختيارُ الصبي، فيُرجح به، فما بالُ أصحابِ أحمد والشافعي قدَّموا التخييرَ على القرعة‏.‏

قيل‏:‏ إنما قُدّمَ التخيير، لاتفاق ألفاظِ الحديث عليه، وعملِ الخلفاء الراشدين به، وأما القُرعة، فبعضُ الرواة ذكرها في الحديث، وبعضُهم لم يذكرها، وإنما كانت في بعضِ طُرق أبي هريرة رضي اللّه عنه وحده، فَقُدِّمَ التخييرُ عليها، فإذا تعذر القضاء بالتخيير، تعينت القُرعة طريقاً للترجيح إذ لم يبق سواها‏.‏

ثمَّ قال المخيرون للغلام والجارية‏:‏ روى النسائي في ‏(‏سننه‏)‏، والإِمام أحمد في ‏(‏مسنده‏)‏ من حديث رافع بن سنان رضي اللّه عنه أنه تنازع هو وأمٌّ في ابنتهما، وأن النبيَّ صلى الله عليه وسلم أقعَده ناحية، وأقعد المرأة ناحية، وأقعد الصبيةَ بينهما، وقال‏:‏ ‏(‏ادْعُوَاها‏)‏، فمالَت إلى أُمِّها فقال النبيُّ صلى الله عليه وسلم ‏(‏اللَّهُمَّ اهْدِهَا‏)‏ فمَالَت إلى أَبِيهَا فَأَخَذَهَا قالُوا‏:‏ ولو لم يَرِدْ هذا الحديثُ لكان حديثُ أبي هريرة رضي الله عنه، والآثار المتقدمة حجةً في تخيير الأنثى، لأن كون الطفل ذكراً لا تأثير له في الحكم، بل هي كالذكر في قوله صلى الله عليه وسلم ‏(‏مَنْ وَجَدَ مَتَاعه، عِنْدَ رَجُل قَدْ أَفْلَسَ‏)‏ وفي قوله ‏(‏مَنْ أَعْتَقَ شِرْكاً لَهُ في عَبْدٍ‏)‏، بل حديثُ الحَضَانة أولى بعدم اشتراط الذكورية فيه، لأن لَفظ الصَبي ليس مِن كلام الشارع، إنما الصحابيُّ حكى القِصة، وأنها كانت في صبي، فإذا نُقِّحَ المناطُ تبين أنه لا تأثير، لكونه ذكراً‏.‏

قالت الحنابلة‏:‏ الكلامُ معكم في مقامين، أحد هما‏:‏ استدلالُكم بحديثِ رافع، والثاني‏:‏ إلغاؤكم وصفَ الذكورية في أحاديث التخيير‏.‏

فأما الأول، فالحديثُ قد ضعّفه ابنُ المنذر وغيرُه، وضعف يحيى بن سعيد والثوري عبدَ الحميد بن جعفر، وأيضاً لقد اختلف فيه على قولين‏.‏ أحدهما‏:‏ أن المخيَّر كان بنتاً، وروي‏:‏ أنه كان ابناً‏.‏ فقال عبد الرزاق‏:‏ أخبرنا سفيان، عن عثمان البتي، عن عبد الحميد بن سلمة، عن أبيه، عن جده، أن أبويه اختصما إلى النبيِّ صلى الله عليه وسلم أحدهما مسلم، والآخرُ،كافر، فتوجه إلى الكافر، فقال النبيِّ صلى الله عليه وسلم ‏(‏اللَّهُمَّ اهْدِهِ‏)‏، فتوجه إلى المسلم، فقضى، له به‏.‏

قال أبو الفرج ابن الجوزي‏:‏ ورواية من روى أنه كان غلاماً أصحُّ‏.‏‏.‏ قالوا‏:‏ ولو سلم لكم أنه كان أنثى، فأنتم لا تقولون به، فإن فيه أن أحدهما كان مسلماً،

والآخر كافراً، فكيف تحتجون بما لا تقولون به‏.‏

قالوا‏:‏ وأيضاً فلو كانا مسلمين، ففي الحديث أن الطفل كان فطيماً، وهذا قطعاً دون السبع، والظاهر أنّه دون الخمس، وأنتم لا تُخيرون من له دون السبع، فظهر أنه لا يُمكنكم الاستدلالُ بحديث رافع هذا على كل تقدير‏.‏

فبقي المقام الثاني، وهو إلغاء وصف الذكورة في أحاديث التخيير وغيرها، فنقول‏.‏ لاريب أن مِن الأحكام ما يكفي فيها وصفُ الذكورة، أو وصفُ الأنوثة قطعاً، ومنها ما لا يكفي فيه، بل يُعتبر فيه إمّا هذا وإمّا هذا، فيُلغى الوصف في كل حكم تعلَّق بالنوع الإِنساني المشترك بين الأفراد، ويُعتبر وصفُ الذكورة في كل موضع كان له تأثير فيه، كالشهادة والميراث، والولاية في النكاح، ويعتبر وصفُ الأنوثة في كلِّ موضع يختصُّ بالإناث، أو يُقدمن فيه على الذكور، كالحضانة، إذا استوى في الدرجة الذكرُ والأنَثى، قُدِّمت الأنثى‏.‏بقي النظر فيما نحن فيه من شأن التخيير، هل لِوصف الذكورة تأثيرٌ في ذلك فيُلحق بالقسم الذي تعتبر فيه، أو لا تأثير له فيلحق بالقسم الذي يلغى فيه‏؟‏ ولا سبيل إلى جعلها من القسم الملغى فيه وصفُ الذكورة، لأن التخيير هاهنا تخيير شهوة، لا تخيير رأي ومصلحة، ولهذا إذا اختار غيرَ مَن اختاره أولاً، نقل إليه، فلو خيرت البنت، أفضى ذلك إلى أن تكونَ عند الأب تارة، وعند الأم أخرى، فإنها كلما شاءت الانتقال، أجيبت إليه، وذلك عكسُ ما شرع للإِناث مِن لزوم البيوت، وعدمِ البروز، ولزوم الخدور وراء الأستار، فلا يليقُ بها أن تمكن مِن خلاف ذلك‏.‏ وإذا كان هذا الوصفُ معتبراً قد شهد له الشرعُ بالاعتبار لم يمكن إلغاؤه‏.‏

قالوا‏:‏ وأيضاً فإن ذلك يُفضي إلى ألا يبقى الأبُ موكّلاً بحفظها، ولا الأم لتنقُّلِها بينهما، وقد عُرِفَ بالعادة أن ما يتناوبُ الناسُ على حفظه، ويتواكلون فيه، فهو آيل إلى ضياع، ومن الأمثال السائرة ‏(‏لا يصلُحُ القِدْرُ بَيْنَ طَبَّاخَيْنِ‏)‏‏.‏

قالوا‏:‏ وأيضاً فالعادة شاهدة بأن اختيار أحدهما يُضعف رغبة الآخر فيه بالإِحسان إليه وصيانته، فإذا اختار أحدَهما، ثم انتقل إلى الآخر لم يبق أحدُهما تامَ الرغبة في حفظه والإِحسان إليه‏.‏

فإن قلتم‏:‏ فهذا بعينه موجودٌ في الصبي، ولم يمنع ذلك تخييره‏.‏ قلنا‏:‏ صدقتم لكن عارضَه كونُ القلوب مجبولةً على حُبِّ البنين، واختيارِهم على البناتِ، فإذا اجتمع نقصُ الرغبة،‏.‏ ونقصُ الأنوثة، وكراهةُ البنات في الغالب، ضاعت الطِّفلَةُ، وصارت إلى فسَاد يَعْسُرُ تلافِيه، والواقعُ شاهِدٌ بهذا، والفقه تنزيل المشروع على الواقع، وسِرّ الفرق أن البنتَ تحتاجُ مِن الحفظ والصيانةِ فوقَ ما يحتاجُ إليه الصبيُّ، ولهذا شُرِعَ في حق الإِناثِ مِنَ الستر والخَفَرِ ما لم يُشرع مثلُه للذكور في اللباس وإرخاء الذيل شِبراً أو أكثر، وجمع نفسِها في الركوع والسجود دونَ التجافي، ولا ترفعُ صوتَها بقراءة القرآن، ولا تَرْمُلُ في الطواف، ولا تتجرَّدُ في الإِحرام عن المخيط، ولا تكشِفُ رأسها، ولا تُسافِرُ وحدَها، هذا كلّهُ مع كبرها ومعرفتها، فكيف إذا كانت في سنِّ الصغر‏.‏ وضعفِ العقل الذي يقبل فيه الانخداع‏؟‏ ولا ريب أن تردّدَها بين الأبوينِ مما يعودُ على المقصود بالإِبطال، أو يُخِلُّ به، أو يَنْقُصُه لأنها لا تستقِر في مكان معين، فكان الأصلحُ لها أن تجعل عند أحد الأبوين من غير تخيير، كما قاله الجمهور‏:‏ مالك، وأبو حنيفة، وأحمد، وإسحاق، فتخييرُها ليس منصوصاً عليه، ولا هو في معناه فيلحق به‏.‏

ثم هاهنا حصل الاجتهادُ في تعيينِ أحدِ الأبوين لمقامها عنده، وأيهما أصلحُ لها، فمالك، وأبو حنيفة، وأحمد في إحدى الروايتين عنه‏:‏ عيَّنوا الأم، وهو الصحيحُ دليلاً، وأحمد رحمه اللّه في المشهور عنه، واختيارُ عامة أصحابه عيَّنوا الأبَ‏.‏قال مَن رجَّح الأم‏:‏ قد جرت العادةُ بأن الأبَ يتصرَّف في المعاش، والخروج، ولقاءِ الناسِ، والأمُّ في خِدرها مقصورة في بيتها، فالبنت عندها أصونُ وأحفظ بلا شك، وعينُها عليها دائماً بخلاف الأبِ، فإنه في غالب الأوقات غائبٌ عن البنت، أو في مَظِنَّةِ ذلك، فجعلُها عند أمها أصونُ لها وأحفظ‏.‏

قالوا‏:‏ وكل مفسدة يعرِضُ وجودُها عند الأم، فإنها تَعرِضُ أو أكثرُ منها عند الأب، فإنه إذا تركها في البيت وحدَها لم يأمن عليها، وإن ترك عندها امرأته أو غيرها، فالأم أشفَقُ عليها وأصونُ لها من الأجنبية‏.‏

قالوا‏:‏ وأيضاً فهي محتاجة إلى تعلُم ما يصلُح للنساء من الغزل والقيامِ بمصالحِ البيت، وهذا إنما تقوم به النساءُ لا الرجال، فهي أحوجُ إلى أمها لتعلمها ما يصلح للمرأة، وفي دفعها إلى أبيها تعطيلُ هذه المصلحة، وإسلامها إلى امرأة أجنبية تُعلِّمها ذلك، وترديدها بين الأم وبينه، وفي ذلك تمرين لها على البروز والخروج، فمصلحةُ البنت والأم والأبِ أن تكونَ عند أمها، وهذا القولُ هو الذي لا نختار سواه‏.‏

قال من رجح الأب‏:‏ الرجالُ أغيرُ على البنات مِن النِساء، فلا تستوي غيرةُ الرجل على ابنته، وغيرةُ الأم أبداً، وكم مِن أمٍّ تُساعِدُ ابنتها على ما تهواه، ويحملُها على ذلك ضعفُ عقلها، وسُرعةُ انخداعها، وضعفُ داعي الغيرةِ في طبعها، بخلافِ الأب، ولهذا المعنى وغيرِه جعل الشارعُ تزويجَها إلى أبيها دونَ أمها، ولم يجعل لأمها ولاية على بُضعها البتة، ولا على مالها، فكان مِن محاسن الشريعة أن تكون عند أمِّها ما دامت محتاجةً إلى الحضانة والتربية، فإذا بلغت حداً تُشتهى فيه، وتصلحُ للرجالِ، فَمِنْ محاسِن الشريعة أن تكونَ عند من هو أغيرُ عليها، وأحرصُ على مصلحتها، وأصونُ لها من الأم‏.‏قالوا‏:‏ ونحن نرى في طبيعة الأب وغيره من الرجال من الغَيْرَةِ، ولو مع فسقه وفجوره ما يحمله على قتل ابنته وأخته وموليته إذا رأى منها ما يُريبه لِشدة الغيرة، ونرى في طبيعة النساء من الانحلال والانخداع ضدَّ ذلك، قالوا‏:‏ فهذا هو الغالبُ على النوعين، ولا عبرة بما خرج عن الغالب، على أنا إذا قدمنا أحد ا الأبوين فلا بد أن نُراعي صيانته وحفظَه للطفل، ولهذا قال مالك والليث‏:‏ إذا لم تحن الأم في موضع حرزٍ وتحصين، أو كانَتْ غيرَ مرضية، فللأب أخذُ البنت منها، وكذلك الإِمامُ أحمد رحمه اللّه في الرواية المشهورة عنه، فإنه يعتبر قدرتَه على الحفظ والصيانة‏.‏ فإن كان مهملاً لذلك، أو عاجزاً عنه، أو غيرَ مرضي، أو ذا دِياثة والأم بخلافه، فهي أحقُّ بالبنتِ بلا ريب، فمن قدمناه بتخيير أو قرُعة أو بنفسه، فإنما نُقدِّمه إذا حصلت به مصلحة الولد، ولو كانت الأم أصون مِن الأب وأغيرَ منه قدمت عليه، ولا التفات إلى قرعة ولا اختيار الصبي في هذه الحالة، فإنه ضعيفُ العقل يؤثِرُ البطالة واللعب، فإذا اختار من يُساعِدُهُ على ذلك، لم يُلتفت إلى اختياره، وكان عند من هو أنفعُ له وأخيرُ، ولا تحتمِلُ الشريعة غيرَ هذا، والنبي صلى الله عليه وسلم قد قال‏:‏ ‏(‏مُرُوهُم بِالصَّلاةِ لِسَبْعٍ واضْرِبُوهُم عَلى تَرْكِها لِعَشْرٍ وفَرِّقُوا بَينَهُم في المَضَاجِع‏)‏ والله تعالى يقول‏:‏ ‏{‏يَأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفسُكُم وأَهْلِيكُمْ نَاراً وَقُودُهَا النَّاسُ والحِجَارَةُ‏}‏ ‏[‏التحريم‏:‏ 6‏]‏‏.‏ وقال الحسن‏:‏ علِّموهُم وأدبوهم وفقهوهم، فإذا كانت الأم تتركُه في المكتب، وتعلمه القرآن والصبيُّ يؤثر اللعب ومعاشرةَ أقرانه، وأبوهُ يُمكنه مِن ذلك، فإنه أحق به بلا تخيير، ولا قرعة، وكذلك العكسُ، ومتى أخل أحدُ الأبوين بأمر اللّه ورسوله في الصبي وعطَّله، والآخر مُراعٍ له، فهو أحق وأولى به‏.‏

وسمعت شيخنا رحمه اللّه يقول‏:‏ تنازع أبوان صبياً عند بعض الحكام، فخيَّرَهُ بينهما، فاختار أباه، فقالت له أمه‏:‏ سَلْهُ لأي شيء يختار أباه، فسأله، فقال‏:‏ أمي تبعثني كل يوم للكتاب، والفقيه يضربني، وأبي يتركني للعب مع الصبيان، فقضى به للأم‏.‏ قال‏:‏ أنتِ أحق به‏.‏

قال شيخنا‏:‏ وإذا ترك أحدُ الأبوين تعليم الصبي، وأمره الذي أوجبه اللّه عليه، فهو عاصٍ، ولا وِلاية له عليه، بل كُلُّ من لم يقم بالواجب في ولايته، فلا ولاية له، بل إما أن تُرفع يدُه عن الولاية ويُقام من يفعل الواجب، وإما أن يُضم إليه مَنْ يقومُ معه بالواجب، إذ المقصودُ طاعةُ الله ورسوله بحسب الإِمكان‏.‏ قال شيخنا‏:‏ وليس هذا الحقُّ من جنس الميراث الذي يحصل بالرحم، والنكاح، والولاء، سواء كان الوارث فاسقاً أو صالحاً، بل هذا مِن جنس الولاية التي لا بُدَّ فيها من القدرة على الواجب والعلم به، وفعله بحسب الإِمكان‏.‏ قال‏:‏ فلو قدر أن الأب تزوج امرأة لا تراعي مصلحة ابنته، ولا تقوم بها وأمها أقوم بمصلحتها من تلك الضرة، فالحضانة للأم قطعاً، قال‏:‏ ومما ينبغي أن يعلم أن الشارع ليس عنه نص عام في تقديم أحد الأبوين مطلقاً، ولا تخيير الولد بين الأبوين مطلقاً، والعلماء متفقون على أنه لا يتعين أحدهما مطلقاً، بل لا يقدم ذو العُدوان والتفريط على البَرِّ العادل المحسن، والله أعلم‏.‏

قالت الحنفية والمالكية‏:‏ الكلامُ معكم في مقامين، أحدهما‏:‏ بيان الدليل الدال على بطلان التخيير، والثاني‏:‏ بيانُ عدم الدلالة في الأحاديث التي استدللتم بها على التخيير، فأما الأول‏:‏ فيدُل عليه قوله صلى الله عليه وسلم ‏(‏أنت أحق به‏)‏، ولم يُخيره‏.‏ وأما المقامُ الثاني‏:‏ فما رويتُم مِن أحاديث التخيير مطلقة لا تقييد فيها، وأنتم لا تقولون بها على إطلاقها، بل قيدتم التخيير بالسبع، فما فوقها، وليس في شيء من الأحاديث مَا يدُلُّ على ذلك، ونحن نقول‏:‏ إذا صار للغلام اختيار معتبر، خيَرَ بين أبويه، وإنما يعتبر اختيارُه إذا اعتبر قوله، وذلك بعد البلوغ، وليس تقييدكم وقتَ التخيير بالسبع أولى مِن تقييدنا بالبلوغ، بل الترجيحُ مِن جانبنا، لأنه حينئذ يعتبَرُ قولُه ويدل عليه قولها ‏(‏وقد سقاني من بئر أبي عنبة‏)‏، وهي على أميال من المدينة، وغيرُ البالغ لا يتأتى منه عادةً أن يَحْمِلَ الماءَ مِن هذهِ المسافة ويستقي من البئر، سلمنا أنه ليس في الحديث ما يدل على البلوغ، فليس فيه ما ينفيه، والواقعةُ واقعة عين، وليس عن الشارع نص عام في تخيير من هو دونَ البلوغ حتى يجبَ المصيرُ إليه، سلمنا أنه فيه ما ينفي البلوغ، فمن أين فيه ما يقتضي التقييدَ بسبع كما قلتم‏؟‏

قالت الشافعية والحنابلة ومن قال بالتخيير‏:‏ لا يتأتَّى لكم الاحتجاجُ بقوله صلى الله عليه وسلم ‏(‏أنتِ أحقُ به ما لم تَنكِحي‏)‏، بوجه من الوجوه، فإن منكم من يقول‏:‏ إذا استغنى بنفسه، وأكل بنفسه، وشرب بنفسه، فالأبُ أحقُّ به بغير تخيير، ومنكم من يقول‏:‏ إذا اثَغَرَ، فالأبُ أحق به‏.‏

فنقول‏:‏ النبي صلى الله عليه وسلم قد حكم لها به ما لم تنكح، ولم يفرق بين أن تَنْكِحَ قبل بلوغ الصبيِّ السِّنَّ الذي يكون عنده أو بعده، وحينئذ فالجوابُ يكون مشتركاً بيننا وبينكم، ونحن فيه على سواء، فما أجبتُم به، أجاب به منازعوكم سواء، فإن أضمرتُم أضمرُوا، وإن قيَدتُم قيَّدوا، وإن خَصَّصْتُمْ خصَّصُوا‏.‏ وإذا تبين هذا، فنقول‏:‏ الحديث اقتضى أمرين‏.‏

أحدهما‏:‏ أنها لا حقَّ لها في الولد بعد النكاح‏.‏ والثاني‏:‏ أنها أحق به ما لم تنكح، وكونها أحق به له حالتان، إحداهما‏:‏ أن يكون الولدُ صغيراً لم يميز، فهي أحق به مطلقاً مِن غير تخيير‏.‏ الثاني‏:‏ أن يبلغ سِنَّ التمييز، فهي أحقُّ به أيضاً، ولكن هذه الأولوية مشروطة بشرط، والحكم إذا عُلقَ بشرطٍ صدق إطلاقُه اعتماداً على تقدير الشرط، وحينئذ فهي أحقُّ به بشرط اختياره لها، وغايةُ هذا أنه تقييد للمطلق بالأدلة الدالةِ على تخييره‏.‏ ولو حمل على إطلاقه، وليس بممكن ألبتة، لاستلزم ذلك إبطالَ أحاديث التخيير، وأيضاً فإذا كنتم قيدتموه بأنها أحق به إذا كانت مقيمة وكانت حرة ورشيدة وغير ذلك من القيود التي لا ذكر لشيء منها في الأحاديث ألبتة، فتقييدُه بالاختيار الذي دلت عليه السنة، واتفق عليه الصحابةُ أولى‏.‏

وأما حملكم أحاديث التخيير على ما بعد البلوغ، فلا يصح لخمسة أوجه‏.‏ أحدها‏:‏ أن لفظ الحديث أنه خيَّر غلاماً بين أبويه، وحقيقةُ الغلام من لم يبلُغ، فحمله على البالغ إخراج له عن حقيقته إلى مجازه بغير موجب، ولا قرينة صارفة‏.‏

الثاني‏:‏ أن البالغَ لا حضانة عليه، فكيف يَصِحُّ أن يخير ابنُ أربعين سنة بين أبوين‏؟‏ هذا مِن الممتنع شرعاً وعادة، فلا يجوز حملُ الحديث عليه‏.‏

الثالث‏:‏ أنه لم يفهم أحدٌ من السامعين أنهم تنازعُوا في رجل كبير بالغ عاقل، وأنه خُيِّر بين أبويه، ولا يسبق إلى هذا فهمُ أحد ألبتة، ولو فرض تخييرُه، لكان بين ثلاثة أشياء‏:‏ الأبوين، والانفراد بنفسه‏.‏

الرابع‏:‏ أنه لا يُعقل في العادة ولا العرف ولا الشرع أن تنازع الأبوان في رجل كبير بالغٍ عاقل، كما لا يعقلُ في الشرع تخييرُ من هذه حاله بين أبويه‏.‏

الخامس‏:‏ أن في بعض ألفاظِ الحديث أن الولد كان صغيراً لم يبلغ ذكره النسائي، وهو حديثُ رافع بن سنان، وفيه‏:‏ فجاء ابن لها صغير لم يبلغ، فأجلس النبي صلى الله عليه وسلم الأب هاهنا، والأم هاهنا ثم خيَّره‏.‏

وأما قولكم‏:‏ إن بئر أبي عنبة على أميال من المدينة، فجوابُه مطالبتكم أولاً‏:‏ بصحة هذا الحديث ومَن ذكره، وثانياً‏:‏ بأن مسكن هذه المرأة كان بعيداً مِن هذه البئر، وثالثاً، بأن من له نحو العشر سنين لا يمكنه أن يستقي من البئر المذكور عادة، وكُلُ هذا مما لا سبيل إليه، فإن العرب وأهلَ البوادي يستقي أولادُهم الصغار مِن آبار هي أبعدُ من ذلك‏.‏

وأما تقييدنا له بالسبع، فلا ريب أن الحديث لا يقتضي ذلك، ولا هو أمرٌ مجمع عليه، فإن لِلمخيِّرين قولين، أحدهما‏:‏ أنه يخيَّرُ لخمس، حكاه إسحاق بن راهويه، ذكره عنه حرب في‏(‏مسائله‏)‏، ويحتج لهؤلاء بأن الخمس هي السن التي يَصح فيها سماعُ الصبي، ويمكن أن يعقل فيها، وقد قال محمود بن الربيع‏:‏

عقلتُ عن النبي صلى الله عليه وسلم مجة مجَّها في فيَّ وأنا ابن خمس سنين او القول الثاني‏:‏ أنه إنما يُخيَّر لسبع، وهو قول الشافعي، وأحمد وإسحاق رحمهم اللّه، واحتج لهذا القول بأن التخييرَ يستدعي التمييزَ والفهم، ولا ضابطَ له في الأطفال، فضبط بمَظنَّتهه وهي السبعُ، فإنها أول سن التمييز، ولهذا جعلها النبي صلى الله عليه وسلم حداً للوقت الذي يُؤمر فيه الصَّبِى بالصلاة‏.‏ وقولكم‏:‏ إن الأحاديثَ وقائعُ أعيان، فنعم هي كذلك، ولكن يمتنع حملُها على تخيير الرجال البالغين، كما تقدم‏.‏ وفي بعضها لفظ‏:‏ غلام، وفي بعضها لفظ‏:‏ صغير لم يبلغ، وبالله التوفيق‏.‏

فصل

وأما قصة بنت حمزة، واختصام علي، وزيد، وجعفر رضي اللّه عنهم فيها، وحكم رسول اللّه صلى الله عليه وسلم بها لجعفر، فإنّ هذه الحكومَة كانت عَقِيبَ فراغهم من عُمرة القضاء، فإنهم لما خرجُوا مِن مكة تبعتهم ابنة حمزة تنادي يا عم يا عم، فأخذ علي بيدها، ثم تنازع فيها هو وجعفرٌ وزيدٌ، وذكر كُلّ واحد من الثلاثة ترجيحاً، فذكر زيد أنها ابنة أخيه للمؤاخاة التي عقدها رسولُ اللّه صلى الله عليه وسلم بينَه وبينَ حمزة، وذكر علي كونها ابنةَ عمّه، وذكر جعفر مرجِّحين‏:‏ القرابة، وكونَ خالتها عنده، فتكون غد خالتها، فاعتبر النبيُّ صلى الله عليه وسلم مرجِّحَ جعفر دون مرجِّح الآخرين، فحكم له، وجبر كلَّ وَاحد منهم وطيَّب قلبَه بما هو أحبُّ إليه من أخذ البنت‏.‏

فأما مرجح المؤاخاة، فليس بمقتض للحضانة، ولكنَّ زيداً كان وصي حمزة، وكان الإِخاء حينئذ يثبُتُ به التوارثُ، فظن زيدٌ أنه أحقُّ بها لذلك‏.‏

وأمَّا مرجِّحُ القرابة هاهنا وهي بنوة العم، فهل يُستحق بها الحضانة‏؟‏ على قولين‏.‏ أحدهما‏:‏ يُستحق بها وهو منصوص الشافعي، وقول مالك، وأحمد، وغيرهم، لأنه عصبة، وله وِلاية بالقرابة، فقدم على الأجانب، كما يُقدَّمُ عليهم في الميراث، وولاية النكاح، وولاية الموت، ورسولُ اللّه صلى الله عليه وسلم يُنكر على جعفر وعلي ادِّعاءَهما حضانتها، ولو لم يكن لهما ذلك، لأنكر عليهما الدعوى الباطلة، فإنها دعوى ما ليس لهما، وهو لا يُقِرُّ على، باطل‏.‏ والقول الثاني‏:‏ أنه لا حضانة لأحد من الرجال سوى الآباء والأجداد، هذا قولُ بعضِ أصحابِ الشافعي، وهو مخالف لنصه، وللدليل‏.‏ فعلى قول الجمهور- وهو الصواب- إذا كان الطفل أنثى، وكان ابنُ العم محرماً لها برضاع أو نحوه، كان له حضانتُها وإن جاوزت السبعَ، وإن لم يكن محرماً، فله حضانتها صغيرةً حتى تبلُغ سبعاً، فلا يبقى له حضانتُها، بل تُسَلَّم إلى محرمها، أو امرأة ثقة‏.‏ وقال أبو البركات في ‏(‏محرره‏)‏‏:‏ لا حضانة له ما لم يكن محرماً برضاع أو نحوه‏.‏

فإن قيل‏:‏ فالحكمُ بالحضانة مِن النبي صلى الله عليه وسلم في هذه القصة، هل وقع للخالة‏؟‏ أو لجعفر‏؟‏

قيل‏:‏ هذا مما اختُلِفَ فيهِ على قولين، منشؤهما اختلافُ ألفاظ الحديث في ذلك، ففي ‏(‏صحيح البخاري‏)‏، من حديث البراء‏:‏ فقض بها النبيُّ صلى الله عليه وسلم لخالتها‏.‏

وعن أبي داود‏:‏ من حديث رافع بن عجير، عن أبيه، عن علي في هذه القصة ‏(‏وأما الجاريةُ، فأقضي بها لجعفر، تكونُ مع خالتها، وإنما الخالةُ أم‏)‏ ثم ساقه من طريق عبد الرحمن بن أبي ليلى وقال‏:‏ قضى بها لجعفر، لأن خالتها عنده، ثم ساقه من طريق إسرائيل عن أبي إسحاق عن هانىء بن هانىء، وهبيرة بن يَريم، وقال‏:‏ ‏(‏فقضى بها النبيُّ لخالتها، وقال الخَالَةُ بمَنْزِلَةِ ا لأُمِّ‏)‏

واستشكل كثير من الفقهاء هذا وهذا، فإن القضاءَ إن كان لجعفر، فليس محرما لها، وهو وعلي في القرابة منها سواء، وإن كان للخالة، فهي مزوجه، والحاضنة إذا تزوَّجت، سقطت حضانتُها‏.‏

ولما ضاق هذا على ابن حزم، في القصة بجميع طرقها، وقال‏:‏ أما حديثُ البخاري، فمن رواية إسرائيل، هو ضعيف، وأما حديث هانىءِ وهبيرة، فمجهولان، وأما حديث ابن أبي ليلى، فمرسل، وأبو فروة الراوي عنه هو مسلم بن سالم الجهني ليس بالمعروف، وأما حديث نافع ابن عجير، فهو وأبوه مجهولان، ولا حُجة في مجهول، قال‏:‏ إلا أن هذا الخبرَ بكل وجه حجة على الحنفية والمالكية والشافعية، لأن خالتها كانت مزوَّجة بجعفر، وهو أجملُ شاب في قريش، وليس هو ذا رحم محرم مِن بنت حمزة‏.‏ قال‏:‏ ونحن لا نُنكرُ قضاءَه بها لجعفر مِن أجل خالتها، لأن ذلك أحفظُ لها‏.‏

قلت‏:‏ وهذا من تهورِهِ رحمه اللّه، وإقدامِه على تضعيف ما اتفقت الناس على صحته، فخالفهم وحده، فإن هذِه القصةَ شهرتُها في الصحاح، والسنن، والمسانيد، والسير، والتواريخ تغني عن إسنادها، فكيف وقد اتفق عليها صاحب الصحيح، ولم يحفظ عن أحد قبله الطعنُ فيها ألبتة، وقوله‏:‏ إسرائيل ضعيف، فالذي غره في ذلك تضعيفُ علي بن المديني له، ولكن أبى ذلك سائرُ أهلِ الحديث، واحتجوا به، ووثَّقوه وثبتوه‏.‏ قال أحمد‏:‏ ثقة وتعجَّب مِن حفظه، وقال أبو حاتم‏.‏ وهو من أتقن أصحاب أبي إسحاق ولا سيما وقد روى هذا الحديثَ عن أبي إسحاق، وكان يحفظ حديثَه كما يحفظ السورة من القرآن‏.‏ وروى له الجماعة كلهم محتجين به‏.‏وأما قوله‏:‏ إن هانئاً وهبيرة مجهولان، فنعم مجهولان عنده، معروفان عند أهل السنن، وثَّقهما الحفاظ، فقال النسائي‏.‏ هانىء بن هانىء ليس به بأس، وهُبيرة روى له أهل السنن الأربعة، وقد وثق‏.‏

وأما قوله‏:‏ حديث ابن أبي ليلى، وأبو فروة الراوي عنه مسلم بن مسلم الجهني ليس بالمعروف، فالتعليلان باطلان، فإن عبد الرحمن بن أبي ليلى روى عن علي غير حديث، وعن عمر، ومعاذ رضي اللّه عنهما‏.‏ والذي غر أبا محمد أن أبا داود قال‏:‏ حدثنا محمد بن عيسى، حدثنا سفيان عن أبي فروة، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى بهذا الخبر، وظن أبو محمد، أن عبد الرحمن لم يذكر علياً في الرواية، فرماه بالإِرسال، وذلك من وهمه، فإن ابن أبي ليلى روى القصة عن علي، فاختصرها أبو داود، وذكر مكان الاحتجاج، وأحال على العلم المشهور برواية عبد الرحمن بن أبي ليلى، عن علي، وهذه القصة قد رواها علي، وسمعها منه أصحابه‏:‏ هانىء بن هانىء، وهُبيرة بن يَرِيم، وعجير بن عبد يزيد، وعبد الرحمن بن أبي ليلى، فذكر أبو داود حديثَ الثلاثة الأولين لسياقهم لها بتمامها، وأشار إلى حديثِ ابن أبي ليلى، لأنه لم يتمه، وذكر السند منه إليه، فبطل الإِرسال، ثم رأيتُ أبا بكر الإِسماعيلي قد روى هذا الحديث في مسند علي مصرحاً فيه بالاتصال، فقال‏:‏ أخبرنا الهيثم بن خلف، حدثنا عثمانُ بنُ سعيد المقري، حدثنا يوسفُ بن عدي، حدثنا سفيانُ، عن أبي فروة، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى، عن علي، أنه اختصم هو وجعفر وزيد، وذكر الحديث‏.‏

وأما قوله‏:‏ إن أبا فروة ليس بالمعروف، فقد عرفه سفيانُ بن عيينة وغيره، وخرجا له في ‏(‏الصحيحين‏)‏‏.‏

وأما رميه نافع بن عجير وأباه بالجهالة‏:‏ فنعم، ولا يُعرف حالهما، وليسا مِن المشهورين بنقل العلم، وإن كان نافع أشهرَ مِن أبيه لرواية ثقتين عنه‏:‏ محمد بن إبراهيم التميمي، وعبد الله بن علي، فليس الاعتمادُ على روايتهما، وباللّه التوفيق، فثبتت صحة الحديث‏.‏

وأما الجواب عن استشكال من استشكله، فنقول وباللّه التوفيق‏:‏ لا إشكال،سواء كان القضاء لجعفر أو للخالة، فإن ابنة العم إذا لم يكن لها قرابة سوى ابن عمها، جاز أن تجعل مع امرأته في بيته، بل يتعيّن ذلك وهو أولى من الأجنبي لا سيما إن كان ابنُ العم مبرزاً في الديانة، والعِفة، والصِّيانة، فإنه في هذه الحال أولى من الأجانب بلا ريب‏.‏

فإن قيل‏:‏ فالنبيُّ صلى الله عليه وسلم كان ابنَ عمها، وكان محرماً لها، لأن حمزة كان أخاه مِن الرضاعة، فهلا أَخَذَهَا هو‏؟‏

قيل رسولُ اللّه صلى الله عليه وسلم كان في شُغل شاغل بأعباء الرسالة، وتبليغ الوحي، والدعوة إلى اللّه، وجهادِ أعداء اللّه عن فراغه للحضانة، فلو أخذها، لدفعها إلى بعض نسائه، فخالتُها أمسُّ بها رحماً وأقربُ‏.‏

وأيضاً فإن المرأة من نسائه لم تكن تجيئُها النوبةُ إلا بعد تسع ليال، فإن دارت الصبيةُ معه حيث دار، كان مشقةً عليها، وكان فيه مِن بروزها وظهورِها كُلَّ وقت ما لا يخفى، وإن جلست في بيت إحداهن كانت لها الحضانة وهي أجنبيةٌ‏.‏ هذا إن كان القضاءُ لجعفر، وإن كان للخالة-وهو الصحيح وعليه يدل الحديث الصحيح الصريح - فلا إشكال لوجوه‏.‏ أحدها‏:‏ أن نكاح الحاضنة لايُسْقِطُ حضانة البنت كما هو إحدى الروايتين عن أحمد وأحدُ قولي العلماء، وحجةُ هذا القول الحديثُ، وقد تقدم سِرُّ الفرقِ بين الذكر والأنثى‏.‏ الثاني‏:‏ أن نكاحَها قريباً من الطفل لا يُسْقِطُ حضانَتها، وجعفر ابن عمها‏.‏

الثالث‏:‏ أن الزوج إذا رضي بالحَضانة، وآثر كونَ الطفل عنده في حجره، لم تسقط الحضانة، هذا هو الصحيحُ، وهو مبني على أصل، وهو أن سقوطَ الحضانة بالنكاح هو مراعاةٌ لحقِّ الزوج، فإنه يتنغص عليه الاستمتاعُ المطلوبُ من المرأة لحضانتها لولد غيره، ويتنكَّدُ عليه عيشُه مع المرأة، لا يُؤمن أن يَحصلَ بينهما خلاف المودة والرحمة، ولهذا كان للزوج أَن يمنعها مِن هذا مع اشتغالها هي بحقوقِ الزوج، فتضيغ،مصلحة الطفل، فإذا آثر الزوجُ ذلك وطلبه، وحَرَص عليه، زالت المفسدةُ التي لأجلها سقطت الحضانة، والمقتضي قائم، فيترتب عليه أثُره، يوضّحه أن سقوطَ الحضانة بالنكاح ليست حقاً للّه، وإنما هي حقّ للزوج وللطفل وأقاربه، فإذا رضيَ من له الحق جاز، فزال الإِشكال على كل تقدير،،ظهر أن هذا الحكمَ مِن رسولِ اللّهِ صلى الله عليه وسلم من أحسن الأحكام وأوضحِها وأشدِّها موافقة للمصلحة، والحكمة، والرحمة، والعدل، وباللّه التوفيق‏.‏

فهذه ثلاثة مدارك في الحديث للفقهاء‏.‏ أحدها‏:‏ أن نكاح الحاضنة لا يُسْقطُ حضانتها، كما قاله الحسن البصري، وقضى به يحي بن حمزة، وهو مذهبُ أبي محمد بن حزمٍ‏.‏ والثاني‏:‏ أن نكاحَها لا يُسقِطُ حضانة البنت، ويسقط حضانة الابن، كما قاله أحمد في إحدى روايتيه‏.‏

والثالث‏:‏ أن نِكاحَها لقريب الطِفل لا يُسقط للأجنبي يسقطها، كما هو المشهور من مذهب أحمد‏.‏

وفيه مدرك رابع لمحمد بن جرير الطبري، وهو أن الحاضنة إن كانت أمّاً والمنازعُ لها الأب، سقطت حضانتها بالتزويج، وإن كانت خالةً أو غيرَها مِن نساء الحضانة، لم تسقط حضانتُها بالتزويج، وكذلك إن كانت أمّاً، والمنازعُ لها غيرُ الأب من أقارب الطفل لم تسقط حضانتُها‏.‏

ونحن نذكر كلامه، وما له وعليه فيه، قال في ‏(‏تهذيب الآثار‏)‏بعد ذكر حديث ابنة حمزة‏:‏ فيه الدلالةُ الواضحة على أن قيِّمَ الصبية الصغيرة، والطفل الصغير من قرابتهما من قبل أمهاتهما من النساء أحقُ بحضانتهما مِن عصباتهما من قبل الأب، وإن كُنَّ ذواتِ أزواج غير الأب الذي هما منه، وذلك أن رسولَ اللّه صلى الله عليه وسلم قضى بابنة حمزةَ لخالتها في الحضانة، وقد تنازع فيها ابنا عمها عليّ وجعفر ومولاها وأخو أبيها الذي كان رسولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم آخى بينَه وبينَه، وخالتها يومئذ لها زوج غير أبيها وذلك بعد مقتل حمزة، وكان معلوماً بذلك صحة قول من قال‏:‏ لا حق لعصبة الصغير والصغيرة من قبل الأب في حضانته ما لم تبلغ حد الاختيار، بل قرابتُهُما من النساء مِن قبل أمهما أحقُ، وإن كن ذوات أزواج‏.‏

فإن قال قائل‏:‏ فإن كان الأمر في ذلك عندك على ما وصفت من أن أمَّ الصغير والصغيرة وقرابتهما من النساء من قبل أمهاتهما أحقُّ بحضانتهما، وإن كُنَّ ذوات أزواج من قرابتهما من قبل الأب من الرجال الذين هم عصبتهما، فهلاَّ كانت الأمُّ ذات الزوج كذلك مع والدهما الأدنى والأبعد، كما كانت الخالة أحق بهما‏؟‏ وإن كان لها زوج غير أبيهما، وإلا فما الفرق‏؟‏

قيل‏:‏ الفرقُ بينهما واضح، وذلك لقيام الحجة بالنقل المستفيض روايته عن النبي صلى الله عليه وسلم أن الأم أحقُ بحضانة الأطفال إذا كانت بانت من والدهم ما لَمْ تَنكِحْ زوجاً غيره، ولم يُخالف في ذلك من يجوز الاعتراضُ به على الحجة فيما نعلمه‏.‏ وقد روي في ذلك خبر، وإن كان في إسناده نظر، فإن النقل الذي وصفتُ أمره دال على صحته، وإن كان واهيَ السند‏.‏ ثم ساق حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده‏:‏ ‏(‏أَنْتِ أَحَقُّ به مَا لَم تَنكِحِي‏)‏ من طريق المثنى بن الصباح عنه‏.‏ثم قال‏:‏ وأما إذا نازعها فيه عصبةُ أبيه، فصحة الخبر عن النبي صلى الله عليه وسلم الذي ذكرناه أنه جعل الخالة ذات الزوج غير أبي الصبية أحقَّ بها من بني عمها وهم عصبتُها، فكانت الأمُّ أحقَّ بأن تكون أولى منهم وإن كان لها زوج غير أبيها، لأن النبي صلى الله عليه وسلم إنما جعل الخالة أولى منهم لقرابتها من الأم، وإذا كان ذلك كالذي وصفنا، تبيَن أن القول الذي قُلناه في المسألتين أصلُ إحداهما من جهة النقل المستفيض، والأخرى من جهة نقل الآحاد العدول، فإذا كان كذلك، فغيرُ جائز رَدُّ حكمِ إحداهما إلى حكم الأخرى، إذ القياسُ إنما يجوز استعمالُه فيما لا نص فيه من الأحكام، فأما ما فيه نص من كتاب الله، أو خبر عن رسول اللّه صلى الله عليه وسلم برقي، فلا حظَ فيه للقياس‏.‏

فإن قال قائل‏:‏ زعمتَ أنك إنما أبطلت حق الأم من الحضانة إذا نكحت زوجاً غير أبي الطفل، وجعلت الأب أولى بحضانتها منها بالنقل المستفيض، فكيف يكونُ ذلك كما قلت‏؟‏ وقد علمتَ أن الحسن البصري كان يقول‏:‏ المرأةُ أحقُ بولدها، وإن تزوجت، وقضى بذلك يحيى بن حمزة‏.‏

قيل‏:‏ إن النقل المستفيض الذي تلزمُ به الحجةُ في الدين عندنا ليس صفته ألا يكونَ له مخالف، ولكن صفته أن ينقلَه قولاً وعملاً من علماء الأمة مَنْ يَنْتَفي عنه أسبابُ الكذب والخطأ، وقد نَقَلَ مَنْ صِفَتُه ذلِك من علماء الأمة، أن المرأة إذا نكحت بعد بينونتها من زوجها زوجاً غيره، أن الأبَ أولى بحضانة ابنتها منها، فكان ذلك حجًة لازمة غيرَ جائز الاعتراض عليها بالرأي، وهو قول من يجوز عليه الغلط في قوله، انتهى كلامه‏.‏

ذكر ما في هذا الكلام من مقبول ومردود

فأما قوله‏:‏ إن فيه الدلالة على أن قرابة الطفلِ من قبل أمهاته من النساء أحقُ بحضانته مِن عصباته من قبل الأب وإن كن ذواتِ أزواجٍ، فلا دلالة فيه على ذلك ألبتة، بل أحدُ ألفاظِ الحديثِ صريحٌ في خلافه، وهو قولُه صلى الله عليه وسلم‏:‏ وأما الابنة فإني أقضي بها لجعفر، وأما اللفظ الآخر، ‏(‏فقضى بها لخالتها، وقال‏:‏ هي أم‏)‏ وهو اللفظ الذي احتج به أبو جعفر، فلا دليل على أن قرابة الأم مطلقاً أَحَقُ من قرابة الأب، بل إقرارُ النبي علياً وجعفراً على دعوى الحضانة يدل على أن لِقرابة الأب مدخلاً فيها، وإنما قدم الخالة لكونها أنثى من أهل الحضانة، فتقديمُها على قرابة الأب كتقديم الأم على الأب، والحديث ليس فيه لفظ عام يدل على ما ادّعاه، لا من أن من كان من قرابة الأم أحقُّ بالحضانة من العصبةِ مِن قِبَلِ الأب، حتى تكونَ بنتُ الأخت للأم أحقَّ من العم، وبنت الخالة أحقَّ من العم، والعمة، فأين في الحديث دلالة على هذا فضلاً عن أن تكونَ واضحة‏.‏ قوله‏:‏ وكان معلوماً بذلك صحة قول من قال‏:‏ لا حق لعصبة الصغير والصغيرة مِن قبل الأبِ في حضانته ما لم يبلغ حد الاختيار، يعني‏:‏ فيخيَّر بين قرابة أبيه وأمه، فيقال‏:‏ ليس ذلك معلوماً من الحديث، ولا مظنوناً، وإنما دل الحديثُ على أن ابن العم المزوَّج بالخالة أولى من ابن العم الذي ليس تحته خالة الطفل، ويبقى تحقيقُ المناط‏:‏ هل كانت جهةُ التعصيب مقتضيةً للحضانة فاستوت في شخصين‏؟‏ فرجح أحدهما بكون خالة الطفل عنده وهي من أهل الحضانة، كما فهما طائفةٌ من أهل الحديث، أو أن قرابةَ الأم وهي الخالة أولى بحضانة الطفل مِن عصبة الأب، ولم تسقط حضانتُها بالتزويج إما لكون الزوج لا يُسقِطُ الحضانة مطلقاً، كقول الحسن ومن وأفقه، وإما لكون المحضونة بنتاً كما قاله أحمد في رواية، وإما لكون الزوج قرابةَ الطفل كالمشهورِ من مذهب أحمد، وإما لكون الحاضِنةِ غير أمٍّ نازعها الأبُ، كما قاله أبو جعفر، فهذه أربعة مدارك، ولكن المدرك الذي اختاره أبو جعفر ضعيف جداً، فإن المعنى الذي أسقط حضانة الأم بتزويجها هو بعينه موجود في سائر نساء الحضانة، والخالة غايتُها أن تقومَ مقام الأم، وتُشبّه بها، فلا تكون أقوى منها، وكذلك سائرُ قرابة الأم، والنبي صلى الله عليه وسلم لم يحكم حكماً عاماً أن سائر أقارب الأم من كن لا تسقط حضانتهن بالتزويج، وإنما حكم حكماً معيناً لخالة ابنةِ حمزة بالحضانة مع كونها مزوجةً بقريب من الطفل، والطفل ابنة‏.‏

وأما الفرق الذي فرق بين الأم وغيرها بالنقل المستفيض إلى آخره، فيريد به الإِجماعَ الذي لاَ ينقضه عنده مخالفة الواحد والاثنين، وهذا أصل تفرد به، ونازعه فيه الناسُ‏.‏

وأما حكمه على حديث عمرو بن شعيب بأنه واهٍ، فمبني على ما وصل إليه مِن طريقه، فإن فيه المثنى بن الصبَّاح، وهو ضعيف أو متروك، ولكن الحديث قد رواه الأوزاعي عن عمرو بن شعيب، عن أبيه عن جده رواه أبو داود في ‏(‏سننه‏)‏‏.‏

فصل

وفي الحديث مسلك خامس وهو أن النبي صلى الله عليه وسلم قضى بها لخالتها وإن كانت ذاتَ زوج، لأن البنتَ تحرُم على الزوج تحريمَ الجمعِ بين المرأة وخالتها، وقد نبه النبيُّ صلى الله عليه وسلم على هذا بعينه في حديث داود بن الحصين، عن عكرمة، عن ابن عباس، فذكر الحديث بطوله، وقال فيه‏:‏ ‏(‏وَأَنْتَ يَا جَعْفَرُ أَوْلَى بِهَا‏:‏ تَحتَكَ خَالَتُهَا، وَلاَ تُنْكَحُ المَرْأَةُ عَلَى عَمَّتِهَا، ولاَ عَلَى خَالَتِهَا‏)‏، وليس عن النبي صلى الله عليه وسلم نصٌ يقتضي أن يكون الحاضن ذا رحم تحرم عليه البنتُ على التأبيد حتى يُعترض به على هذا المسلك، بل هذا مما لا تأباه قواعدُ الفقه وأصول الشريعة، فإن الخالة ما دامت في عصمة الحاضن، فبنتُ أختها محرمة عليه، فإذا فارقها، فهي مع خالتها، فلا محذورَ في ذلك أصلاً، ولا ريبَ أن القولَ بهذا أخير وأصلحُ للبنتِ مِن رفعها إلى الحاكم يدفعُها إلى أجنبي تكون عنده، إذ الحاكمُ غير متصد للحضانة بنفسه، فهل يشكُّ أحد أن ما حكم به النبي صلى الله عليه وسلم في هذه الواقعة هو عينُ المصلحة والحكمة والعدل، وغايةُ الاحتياط للبنت والنظر لها، وأن كُلَّ حكم خالفه لا ينفك عن جَوْرٍ أو فسادٍ لا تأتي به الشريعةُ، فلا إشكالَ في حكمه صلى الله عليه وسلم، والإِشكالُ كُلُّ الإِشكالِ فيما خالفه، واللّه المستعان، وعليه التكلان‏.‏

ذكر حكمه صلى الله عليه وسلم في النفقة على الزوجات وأنه لم يُقدِّرها، ولا ورد عنه ما يَدُلَّ على تقديرها، وإنما ردَّ الأزواج فيها إلى العرف‏.‏

ثبت عنه في ‏(‏صحيح مسلم‏)‏‏:‏ ‏(‏أنه قال في خطبة حَجة الوداع بمحضر الجمع العظيم قبل وفاته ببضعة وثمانين يوماً ‏(‏واتَّقُوا اللّهَ في النِّسَاءِ فَإنَكُم أخَذْتُمُوهُنَّ بأَمَانَة اللّه، واسْتَحلَلْتُمْ فُرُوجَهُنّ َبكَلمَة ِاللّه‏.‏ ولَهنَّ عَلَيْكُم رِزقُهن‏.‏ولهنَّ عليكم رزقُهُنَّ وكسوتُهُنَّ بالمعروفِ‏)‏

وثبت عنه صلى الله عليه وسلم في ‏(‏الصحيحين‏)‏‏:‏ أن هنداً امرأة أبي سفيان قالت له‏:‏ إن أبا سُفيان رجلٌ شحيحٌ ليس يُعطيني من النفقة ما يكفيني وولدي إلا ما أخذتُ منه وهو لا يعلم، فقال‏:‏ ‏(‏خُذِي مَا يَكْفِيكِ وَوَلَدَكِ بِالمَعْرُوفِ‏)‏‏.‏ وفي ‏(‏سنن أبي داود‏)‏‏:‏ من حديث حكيم بن معاوية، عن أبيه رضي اللّه عنه، قال‏:‏ أتيت رسول اللّه صلى الله عليه وسلم فقلتُ‏:‏ يا رسول اللّه ‏!‏ ما تقولُ في نسائنا‏؟‏ قال‏:‏ ‏(‏أَطْعِمُوهُنَّ مِمَّا تَأْكُلُونَ، وَاكْسُوهُنَّ مِمَّا تَلْبَسُونَ، وَلاَ تَضْرِبُوهُنَّ وَلاَ تُقَبِّحُوهُنَّ‏)‏‏.‏ وهذا الحكمُ من رسولِ اللّه صلى الله عليه وسلم مطابق لكتابِ اللّه عز وجل حيث يقول‏:‏ ‏{‏وَالوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلاَدَهُنَّ حَولَيْنِ كَامِلَينِ لِمَن أَرَادَ أَن يتِمَّ الرَضَاعَةَ وَعَلى المَوْلُودِ لَه رِزْقُهنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بالمعروفِ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 233‏]‏‏.‏ والنبي صلى الله عليه وسلم جعل نفقَةَ المَرأة مثل نفقة الخَادم، وسوَّى بينهما في عدم التقدير، وردَهما إلى المعروف، فقال‏:‏ ‏(‏لِلْمَمْلوكِ طَعَامُهُ وكِسْوَتُه بِالمَعْرُوفِ‏)‏‏.‏ فجعل نفقتهما بالمعروفِ، ولا ريب أن نفقة الخادم غيرُ مقدَّرة، ولم يقل أحد بتقديرها‏.‏ وصح عنه في الرقيق أنه قال‏:‏ ‏(‏أَطْعِمُوهُم مِمَّا تَأكُلُونَ، وأَلْبِسُوهُمْ مِمَّا تَلْبَسُونَ‏)‏‏.‏ رواه مسلم، كما قال في الزوجة سواء‏.‏

وصح عن أبي هريرة رضي الله عنه أنه قال‏:‏ امرأتُك تقولُ‏:‏ إما أن تُطعِمَنى، وإما أن تُطَلِّقَني، ويقول العبد‏:‏ أَطْعمني واستعملني‏.‏ ويقول الابن أطعمني إلى مَنْ تَدَعُني‏.‏ فجعل نفقة الزوجة والرقيق والولد كلَّها الإِطعام لا التمليك‏.‏وروى النسائي هذا مرفوعاً إلى النبي صلى الله عليه وسلم كما سيأتي‏.‏ وقال تعالى‏:‏ ‏{‏مِنْ أوسَطِ مَا تطْعِمُونَ أَهْلِيكُم أَو كِسْوَتُهُمْ‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 89‏]‏، وصح عن ابن عباس رضي اللّه عنهما أنه قال‏:‏ الخبز والزيت، وصح عن ابن عمر رضي اللّه عنه‏:‏ الخبز والسمن، والخبز والتمر، ومِن أفضل ما تطعمون الخبز واللحم‏.‏ ففسر الصحابة إطعامَ الأهلِ بالخبز مع غيره من الأدم، واللّه ورسولُه ذكرا الإِنفاق مطلقاً من غير تحديد، ولا تقدير، ولا تقييد، فوجب رَدُّه إلى العُرفِ لو لم يرده إليه النبيُّ صلى الله عليه وسلم، فكيف وهو الذي رد ذلك إلى العرف، وأرشد أمته إليه‏؟‏ ومن المعلوم أن أهلَ العُرف إنما يتعارفون بينهم في الإِنفاق على أهليهم حتى من يُوجب التقدير‏:‏ الخبز والإِدام دون الحَبِّ، والنبيُّ صلى الله عليه وسلم وأصحابُه إنما كانوا يُنفقون على أزواجهم، كذلك دون تمليك الحب وتقديره، ولأنها نفقة واجبة بالشرع، فلم تقدر بالحب كنفقة الرقيق، ولو كانت مقدرة، لأمر النبي صلى الله عليه وسلم هنداً أن تأخذ المقدَّرَ لها شرعاً، ولما أمرها أن تأخذ ما يكفيها مِن غير تقدير، وردَّ الاجتهادَ في ذلك إليها، ومن المعلوم أن قدر كفايتها لا ينحصر في مُدَّين، ولا في رطلين بحيث لا يزيد عليهما ولا يَنْقُص، ولفظه لم يدل على ذلك بوجه، ولا إيماء، ولا إشارة، وإيجاب مدَّين أو رطلين خبزاً قد يكون أقلّ من الكفاية، فيكون تركاً للمعروف، وإيجابُ قدر الكفاية مما يأكل الرجل وولده ورقيقه وإن كان أقلَّ من مد أو من رطلي خبز، إنفاق بالمعروف، فيكون هذا هو الواجبَ بالكتاب والسنة، ولأن الحب يحتاجُ إلى طحنه وخبزه وتوابع ذلك، فإن أخرجت ذلك من مالها، لم تحصل الكفاية بنفقة الزوج، وإن فرض عليه ذلك لها من ماله كان الواجب حباً ودراهم، ولو طلبت مكان الخبز دراهم أو حباً أو دقيقاً أو غيرَه، لم يلزمه بذلُه، ولو عرض عليها ذلك أيضاً، لم يلزمها قبولُه لأن ذلك معاوضة، فلا يُجبر أحدُهما على قبولها، ويجوز تراضيهما على ما اتفقا عليه‏.‏

والذين قدّروا النفقة اختلفوا، فمنهم من قدَّرها بالحب وهو الشافعي، فقال‏:‏ نفقة الفقير مدٌ بمد النبى صلى الله عليه وسلم، لأن أقل ما يدفع في الكفارة إلى الواحد مُدٌّ، واللّه سبحانه اعتبر الكفارة بالنفقة على الأهل، فقال‏:‏ ‏{‏فكَفَّارتُه إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُم أَو كِسْوَتُهُم‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 89‏]‏ قال‏:‏ وعلى المُوسِرِ مُدَّانِ، لأن أكثر ما أوجب اللّه سبحانه للواحد مُدَّانِ في كفارة الأذى، وعلى المتوسط مُدٌ ونِصفٌ، نِصف نَفَقَة الموسِر، ونصف نفقة الفقير‏.‏

وقال القاضي أبو يعلى‏:‏ مقدرة بمقدارٍ لا يختلِفُ في القِلة والكثرة، والواجب رِطلانِ من الخبز في كل يوم في حق المُوسِرِ والمُعْسِرِ اعتباراً بالكفارات، وإنما يختلفان في صفته وجودته، لأن المُوسِرَ والمُعْسِرَ سواء في قدر المأكول، وما تقُومُ به البنيةُ، وإنما يختلفان في جودته، فكذلك النفقة الواجبة‏.‏

والجمهور قالوا‏:‏ لا يُحفظ عن أحد من الصحابة قطُّ تقديرُ النفقة، لا بمُدٍّ، ولا برطل، والمحفوظ عنهم، بل الذي اتصل به العملُ في كل عصر ومصر ما ذكرناه‏.‏

قالوا‏:‏ ومن الذي سلَّم لكم التقدير بالمُد والرطل في الكفارة، والذي دلَّ عليه القرآن والسنة أن الواجبَ في الكفارة الإِطعامُ فقط لا التمليك، قال تعالى في كفارة اليمين‏:‏ ‏{‏فكفَّارتُهُ إطعامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ ما تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُم‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 89‏]‏، وقال في كفارة الظهار‏:‏ ‏{‏فَمنَ لَمْ يَسْتَطعْ فَإطْعَامُ سِتِّينَ مسْكِينا‏}‏ ‏[‏المجادلة‏:‏ 4‏]‏، وقال في فدية الأذى‏:‏‏{‏فَفِدْيةٌ مِنْ صيَامٍ أوْ صدَقَةٍ أَو نُسُكٍ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 196‏]‏، وليس في القرآن في إطعام الكفارات غيرُ هذا، وليس في موضع واحد منها تقدير ذلك بمد ولا رطل، وصح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال لمن وطىء في نهار رمضان‏:‏ ‏(‏أَطْعِمْ سِتِّينَ مِسْكِيناً‏)‏‏.‏ وكذلك قال للمظاهرِ، ولم يَحُدَّ ذلك بمد ولا رطل‏.‏

فالذي دل عليه القراَن والسنة، أن الواجب في الكفارات والنفقات هو الإِطعامُ لا التمليكُ، وهذا هو الثابتُ عن الصحابة رضي اللّه عنهم‏.‏ قال أبو بكر بن أبي شيبة‏:‏ حدثنا أبو خالد، عن حجاج، عن أبي إسحاق عن الحارث عن علي‏:‏ يُغدِّيهم، ويُعشِّيهم خبزاً وزيتاً‏.‏

وقال إسحاق، عن الحارث كان عليّ يقول في إطعام المساكين في كفارة اليمين‏:‏ يُغدِّيهم ويُعشيهم خبزاً وزيتاً، أو خبزاً وسمناً‏.‏

وقال ابن أبي شيبة‏:‏ حدثنا يحيى بن يعلى، عن ليث، قال‏:‏ كان عبدُ اللّه بن مسعود رضي اللّه عنه يقول‏:‏‏{‏مِن أوسطِ ما تطعِمُون أهليكم‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 89‏]‏ قال‏:‏ الخبز والسمن، والخبز والزيت، والخبز واللحم‏.‏

وصح عن ابن عمر رضي اللّه عنهما قال‏:‏ أوسط ما يُطعم الرجل أهله‏:‏الخبز واللبن،والخبز والزيت،والخبز والسمن،ومن أفضل ما يطعم الرجل أهله‏:‏الخبز واللحم‏.‏

وقال يزيد بن زريع‏:‏ حدثنا يونس، عن محمد بن سيرين، أن أبا موسى الأشعري كفَّر عن يمين له مرة، فأمر بجيراً أو جبيراً يُطعم عنه عشرة مساكين خبزاً ولحماً وأمر لهم بثوب مُعقَد أو ظهراني‏.‏

وقال ابن أبي شيبة‏:‏ حدثنا يحيى بن إسحاق حدثنا يحيى بن أيوب، عن حميد، أن أنساً رضي اللّه عنه مرض قبلَ أن يموتَ، فلم يستطعْ أن يصوم، وكان يجمعُ ثلاثين مسكيناً فيطعمهم خبزاً ولحماً أكلة واحدة‏.‏

وأما التابعون،فثبت ذلك عن الأسود بن يزيد، وأبي رزين، وعبيدةَ، ومحمد بن سيرين، والحسن البصري، وسعيد بن جُبير، وشُريح، وجابر بن زيد، وطاووس، والشعبي، وابن بريدة،والضحاك،والقاسم، وسالم، ومحمد بن إبراهيم، ومحمد بن كعب، وقتادة،وإبراهيم النخعي، والأسانيد عنهم بذلك في أحكام القرآن لإِسماعيل بن إسحاق، منهم من يقول‏:‏ يغذَي المساكينَ ويُعشِّيهم، ومنهم من يقول‏:‏ أكلة واحدة، ومنهم من يقول‏:‏ خبز ولحمٌ، خبز وزيت، خبز وسمن، وهذا مذهب أهل المدينة، وأهل العراق، وأحمد في إحدى الروايتين عنه، والرواية الأخرى‏:‏ أن طعامَ الكفارة مقدَّر دون نفقة الزوجات‏.‏

فالأقوال ثلاثة‏:‏ التقدير فيهما، كقول الشافعي وحدَه، وعدمُ التقدير فيهما، كقول مالك وأبي حنيفة، وأحمد في إحدى الروايتين‏.‏ والتقديرُ في الكفارة دون النفقة، كالرواية الأخرى عنه‏.‏

قال من نصر هذا القول‏:‏ الفرقُ بين النفقة والكفارة‏:‏ أن الكفارة لا تختلِفُ باليسار والإِعسار، ولا هي مقدَّرة بالكفاية، ولا أوجبها الشارعُ بالمعروف، كنفقةِ الزوجة والخادم، والإِطعامُ فيها حق للّه تعالى لا لآَدمي معين، فيُرضى بالعوض عنه، ولهذا لو أخرج القيمة لم يُجْزِه، ورُوي التقديرُ فيها عن الصحابة، فقال القاضي إسماعيل‏:‏ حدثنا حجَّاج بن المنهال، حدثنا أبو عَوانة، عن منصور، عن أبي وائل، عن يسار بن نمير، قال‏:‏ قال عمر‏:‏ إن ناساً يأتوني يسألوني، فأَحلِفُ أني لا أُعطيهم، ثم يبدو لي أن أُعْطيهم، فإذا أمرتُك أن تكَفِّرَ، فأطعم عنِّي عشرة مساكين، لِكُلِّ مسكينٍ صاعاً من تمر أو شعير، أو نصف صاع من بر‏.‏

حدثنا حجاج بن المنهال وسليمان بن حرب، قالا حدثنا حمادُ بن سلمة، عن سلمة بن كهَيْل، عن يحيى بن عباد، أن عمر بن الخطاب رضي اللّه عنه قال‏:‏ يَايَرْفا‏!‏ إذا حلفتُ فحنثتُ، فأطعم عني ليميني خمسة أصْوُعٍ عشرة مساكين‏.‏

وقال ابن أبي شيبة، حدثنا وكيع، عن ابن أبي ليلى، عن عُمر بن أبي مرة، عن عبد اللّه بن سلمة، عن علي قال‏:‏ كفارةُ اليمين‏:‏ إطعام عشرةِ مساكين لِكل مسكين نصفُ صاع‏.‏

حدثنا عبد الرحيم، وأبو خالد الأحمر، عن حجاج، عن قُرط، عن جدته، عن عائشة رضي الله عنها قالت‏:‏ إنا نُطعِمُ نصفَ صاعٍ مِن بُر، أو صاعاً من تمر في كفارة اليمين‏.‏ وقال إسماعيل‏:‏ حدثنا مسلم بن إبراهيم، حدثنا هشام بن أبي عبد الله، حدثنا يحيى بن أبي كثير، عن أبي سلمة، عن زيد بن ثابت، قال‏:‏ يُجزىء في كفارة اليمينِ لِكل مسكين مُدُّ حِنطة‏.‏ حدثنا سليمان بن حرب، حدثنا حماد بن يزيد، عن أيوب، عن نافع، أن ابن عمر رضي اللّه عنه كان إذا ذكر اليمين، أعتق، وإذا لم يذْكُرْها، أطعم عشرةَ مساكين، لكل مسكين مُدٌّ مُدّ‏.‏

وصحَّ عن ابن عباس رضي اللّه عنهما‏:‏ في كفارة اليمين مُدّ، ومعه أدمُهُ‏.‏

وأما التابعون، فثبت ذلك عن سعيد بن المسيب، وسعيد بن جبير، ومجاهد، وقال‏:‏ كل طعام ذكر في القرآن للمساكين، فهو نصف صاع، وكان يقولُ في كفارة الأَيمان كلها‏:‏ مُدَانِ لِكُلِّ مسكين‏.‏

وقال حمادُ بن زيد عن يحيى بن سعيد، عن سليمان بن يسار‏:‏ أدركتُ الناسَ وهم يُعطون في كفارة اليمين مداً بالمدِّ الأول‏.‏ وقال القاسم، وسالم، وأبو سلمة، مُدٌّ مُدّ من بر، وقال عطاء‏:‏ فرقاً بين عشرة، ومرة قال‏:‏ مُدٌّ مدٌ‏.‏

قالوا‏:‏ وقد ثبت في ‏(‏الصحيحين‏)‏ أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لِكَعْب بن غجْرَةَ في كفارة فدية الأذى‏:‏ أَطْعِمْ سِتَّةَ مَسَاكِينَ نِصْفَ صاعٍ نِصْفَ صَاعٍ طَعَاماً لِكُلِّ مِسْكينٍ‏.‏ فقدَّر رسول اللّه صلى الله عليه وسلم فِدية الأذى، فجعلنا تقديرها أصلاً، وعدَّيناها إلى سائر الكفارات،ثم قال من قدّر طعام الزوجة‏:‏ ثم رأينا النفقاتِ و الكفاراتِ قد اشتركا في الوجوب، فاعتبرنا إطعامَ النفقة بإطعام الكفارة، ورأينا اللّه سبحانه قد قال في جزاء الصيد‏:‏ ‏{‏أَو كَفَّارَةٌ طَعَامُ مَسَاكِينَ‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 95‏]‏، وما أجمعت الأمة أن الطعام مقدَّر فيها، ولهذا لو عَدِمَ الطعام، صام عن كل مدٍّ يوماً، كما أفتى به ابنُ عباس والناسُ بعده، فهذا ما احتجت به هذه الطائفةُ على تقدير طعام الكفارة‏.‏

قال الآخرون‏:‏ لا حُجة في أحد دونَ الله ورسوله وإجماع الأمة، وقد أمرنا تعالى أن نَرُدَّ ما تنازعنا فيه إليه وإلى رسوله، وذلك خيرٌ لنا حالاً وعاقبةً، ورأينا اللّهَ سبحانه إنما قال في الكفارة‏:‏ ‏{‏إطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 89‏]‏، ‏{‏فإِطْعَام سِتَينَ مسكِيناً‏}‏ ‏[‏المجادلة‏:‏ 4‏]‏، فعلق الأمر بالمصدر الذي هو الإِطعام، ولم يحد لنا جنسَ الطعام ولا قدره، وحدَّ لنا جنس المطعمين وقدرَهم، فأطلق الطعام وقيَّدَ المطعومين، ورأيناه سبحانه حيث ذكر إطعامَ المسكين في كتابه، فإنما أراد به الإِطعامَ المعهود المتعارفَ، كقوله تعالى‏:‏‏{‏ومَا أَدراكَ مَا العَقَبَةُ فَك رَقَبَةٍ أَو إِطْعَامٌ في يَومٍ ذي مَسْغَبَةٍ يَتِيماً‏}‏ ‏[‏البلد‏:‏ 12-15‏]‏‏.‏ وقال‏:‏ ‏{‏ويُطعِمُونَ الطَّعامَ عَلى حبِّهِ مِسكِيناً ويَتِيماً وأَسيراً‏}‏ ‏[‏الإِنسان‏:‏ 8‏]‏ وكان من المعلوم يقيناً، أنهم لو غدَّوهم أو عشَّوهم أو أطعمُوهم خبزاً ولحماً أو خبزاً ومرقاً ونحوه لكانوا ممدوحين داخلين فيمن أثنى عليهم، وهو سبحانه عَدَلَ عن الطعام الذي هو اسم للمأكول إلى الإِطعام الذي هو مصدرٌ صريح، وهذا نصّ في أنه إذا أطعم المساكينَ، ولم يُملكهم، فقد امتثل ما أمر به، وصحَّ في كل لغة وعرف‏:‏ أنه أطعمهم‏.‏ قالوا‏:‏ وفي أي لغة لا يصدق لفظُ الإِطعام إلا بالتمليك‏؟‏ ولِما قال أنس رضي اللّه عنه‏:‏ إن النبي صلى الله عليه وسلم أطعَمَ الصحابة في وليمة زينب خبزاً ولحماً‏.‏ كان قد اتخذ طعاماً، ودعاهم إليه على عادة الولائم، وكذلك قولُه في وليمة صفية‏:‏ ‏(‏أطْعَمَهُم حَيْساً‏)‏، وهذا أظهر من أن نذكر شواهدَه، قالوا‏:‏ وقد زاد ذلك إيضاحاً وبياناً بقوله‏:‏ ‏{‏مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُم‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 89‏]‏، ومعلوم يقيناً، أن الرجل إنما يُطعم أهله الخبزَ واللحمَ، والمرق واللبنَ، ونحو ذلك، فإذا أطعم المساكينَ مِن ذلك، فقد أطعمهم مِن أوسط ما يُطعم أهلَه بلا شك، ولهذا اتفق الصحابةُ رضي اللّه عنهم في إطعامِ الأهلِ على أنه غيرُ مقدر، كما تقدَّمَ، واللّه سبحانه جعله أصلاً لطعام الكفارة، فدلَّ بطريق الأولى على أن طعام الكفارة غيرُ مقدَّر‏.‏

وأما من قدَّر طعام الأهل، فإنما أخذ من تقدير طعام الكفارة، فيُقال‏:‏ هذا خلافُ مقتضى النص، فإن اللّه أطلق طعامَ الأهل، وجعله أصلاً لطعام الكفارة، فعُلِمَ أن طعام الكفارة لا يتقدَّر كما لا يتقدَرُ أصله، ولا يُعرف عن صحابي البتة تقديرُ طعام الزوجة مع عموم هذه الواقعة في كل وقت‏.‏ قالوا‏:‏ فأما الفروق التي ذكرتمُوها، فليس فيها ما يستلزِمُ تقديرَ طعام الكفارة، وحاصلُها خمسةُ فروق، أنها لا تختلِفُ باليَسار والإِعسار، وأنها لا تتقدَّر بالكِفاية، ولا أوجبها الشارعُ بالمعروف، ولا يجوز إخراجُ العِوَضِ عنها، وهي حقّ للّه لا تسقُط بالإِسقاط بخلاف نفقة الزوجة، فيقال‏:‏ نعم لا شك في صحة هذه الفروق، ولكن من أين يستلزم وجوب تقديرها بمد ومدين‏؟‏ بل هي إطعامٌ واجب من جنس ما يُطْعِمُ أهله، ومع ثبوت هذه الأحكام لا يدل على تَقديرها بوجه‏.‏

وأما ما ذكرتم عن الصحابة من تقديرها، فجوابه من وجهين‏.‏

أحدهما‏:‏ أنا قد ذكرنا عن جماعة، منهم علي، وأنس، وأبو موسى، وابن مسعود رضي اللّه عنهم أنهم قالوا‏:‏ يُجزىء أن يغدِّيَهم ويعشِّيَهم‏.‏

الثاني‏:‏ أن مَنْ رُوي عنهم المد والمدان لم يذكروا ذلك تقديراً وتحديداً، بل تمثيلاً، فإن منهم من رُويَ عنه المد، ورُوي عنه مدان، ورُوي عنه مكّوك، وروي عنه جوازُ التغدية والتعشية، ورُوي عنه أكلة، ورُوي عنه رغيفٌ أو رغيفانِ، فإن كان هذا اختلافاً، فلا حجة فيه، وإن كان بحسب حال المستفتي وبحسب حال الحالف والمكفِّر، فظاهر، وإن كان ذلك على سبيل التمثيل، فكذلك‏.‏ فعلى كُلِّ تقدير لا حجة فيه على التقديرين‏.‏

قالوا‏:‏ وأما الإِطعامُ في فِدية الأذى، فليس من هذا الباب، فإن الله سبحانه‏:‏‏{‏فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 196‏]‏، واللّهُ سبحانه أطلق هذه الثلاثة ولم يقيدها‏.‏ وصح عن النبي صلى الله عليه وسلم تقييدُ الصيام بثلاثة أيام، وتقييد النسك بذبح شاة، وتقييدُ الإِطعام بستة مساكين، لكل مسكين نِصفُ صاع، ولم يقل سبحانه في فدية الأذى‏:‏ فإطعام ستة مساكين، ولكن أوجب صدقة مطلقة، وصوماً مطلقاً، ودماً مطلقاً، فعيَّنه النبيُ صلى الله عليه وسلم بالفَرْقِ، والثلاثة الأيام، والشاة‏.‏

وأما جزاءُ الصيد، فإنه مِن غير هذا الباب، فإن المُخْرِجَ إنما يُخرج قيمة الصيد من الطعام، وهي تختلف بالقلة والكثرة، فإنها بَدَل مُتْلَفٍ لا يُنظر فيها إلف عدد المساكين، وإنما تنظر فيها إلى مبلغ الطعام، فيُطعمه المساكين على ما يرى من إطعامهم وتفضيل بعضهم على بعض، فتقديرُ الطعام فيها على حسب المتلف، وهو يَقِلُّ ويكثُر، وليس ما يُعطاه كلُّ مسكين مقدراً‏.‏

ثم إن التقدير بالحَبِّ يستلزِمُ أمراً باطلاً بيِّنَ البُطلان، فإنه إذا كان الواجبُ لها عليه شرعاً الحب، وأكثر الناس إنما يطعم أهله الخبز، فإن جعلتم هذا معاوضة كان رباً ظاهراً، وإن لم تجعلوه معاوضة، فالحبُّ ثابت لها في ذمته، ولم تَعْتَضْ عنه، فلم تبرأ ذمتُه منه إلا بإسقاطها وإبرائها، فإذا لم تُبرئه طالبته بالحب مدةً طويلة مع إنفاقه عليها كلَّ يومٍ حاجتها من الخبز والأدم،و إن مات أحدُهما كان الحب ديناً له أو عليه، يُؤخذ من التركة مع سعة الإِنفاق عليها كُلَّ يوم‏.‏ومعلوم أن الشريعة الكاملة المشتمِلَةَ على العدل والحكمة والمصلحة تأبى ذلك كُلَّ الإِباء، وتدفعُه كُلَّ الدفع كما يدفعُه العقل والعُرف، ولا يُمكِنُ أن يُقال‏:‏ إن النفقة التي في ذمته تسقُط بالذي له عليها من الخبز والأدم لوجهين، أحدهما‏:‏ أنه لم يبعه إياها، ولا اقترضه منها حتى يثبت في ذمتها، بل هي معه فيه على حكم الضيف، لامتناع المعاوضة عن الحب بذلك شرعاً‏.‏ ولو قدِّرَ ثبوتُه في ذمتها، لما أمكنت المقاصة، لاختلاف الدينين جنساً، والمقاصة تعتمِدُ اتفاقهما‏.‏ هذا وإن قيل بأحد الوجهين‏:‏ إنه لا يجوزُ المعاوضة على النفقة مطلقاً لا بدراهم ولا بغيرها لأنه معاوضة عما لم يستقر، ولم يجب، فإنها إنما تجب شيئاً فشيئاً، فإنه لا تَصِحُّ المعاوضةُ عليها حتى تستقر بمُضي الزمان، فيعاوض عنها كما يُعاوض عما هو مستقر في الذمة من الديون، ولما لم يجد بعضُ أصحاب الشافعي من هذا الإِشكال مخلصاً قال‏:‏ الصحيح أنها إذا أكلت، سقطت نفقتها‏.‏ قال الرافعي في ‏(‏محرره‏)‏‏:‏ أولى الوجهين السقوطُ، وصححه النووي لجريان الناس عليه في كل عصر ومصر، واكتفاء الزوجة به‏.‏ وقال الرافعي في ‏(‏الشرح الكبير‏)‏، و‏(‏الأوسط‏)‏‏:‏ فيه وجهان‏.‏ أقيسهُما‏:‏ أنها لا تسقط، لأنه لم يوفِ الواجب، وتطوع بما ليس بواجب، وصرَّحوا بأن هذين الوجهين في الرشيدة التي أذن لها قَيِّمُها، فإن لم يأذن لها، لم تسقط وجهاً واحداً‏.‏

فصل

وفي حديث هند‏:‏ دليل على جواز قول الرجل في غريمه ما فيه من العيوب عند شكواه، وأن ذلك ليسر بغيبة، ونظيرُ ذلك قول الآخر في خصمه‏:‏ يا رسول اللّه ‏!‏ إنه فاجر لا يُبالي ما حلف عليه‏.‏

وفيه دليل على تفرد الأب بنفقة أولاده، ولا تُشارِكُه فيها الأم، وهذا إجماع من العلماء إلا قول شاذ لا يلتفت إليه، أن على الأم من النفقة بقدر ميراثها، وزعم صاحبُ هذا القول‏:‏ أنه طرَّدَ القياس على كل من له ذكر وأنثى في درجة واحدة، وهما وارثان، فإن النفقة عليهما، كما لو كان له أخٌ وأخت، أو أم وجد، أو ابن وبنت، فالنفقةُ عليهما على قدر ميراثهما، فكذلك الأبُ والأمُّ‏.‏ والصحيح‏:‏ انفرادُ العصبة بالنفقة، وهذا كُلهُ كما ينفرد الأب دون الأم بالإِنفاق، وهذا هو مقتضى قواعد الشرع، فإن العصبة تنفردُ بحمل العقل، وولاية النكاح، وولاية الموت والميراث بالولاء، وقد نص الشافعيُّ على أنه إذا اجتمع أم وجد أو أب، فالنفقةُ على الجد وحده، وهو إحدى الروايات عن أحمد، وهي الصحيحة في الدليل، وكذلك إن اجتمع ابن وبنت، أو أم وابن، أو بنت وابن ابن، فقال الشافعي‏:‏ النفقةُ في هذه المسائل الثلاث على الابن لأنه العصبة، وهي إحدى الروايات عن أحمد‏.‏ والثانية‏:‏ أنها على قدر الميراث في المسائل الثلاث، وقال أبو حنيفة‏:‏ النفقة في مسألة الابن والبنت عليهما نصفان لتساويهما في القرب، وفي مسألة بنت وابن ابن‏:‏ النفقة على البنت لأنها أقرب، وفي مسألة أم وبنت على الأم الربع، والباقي على البنت، وهو قولُ أحمد، وقال الشافعي‏:‏ تنفرد بها البنتُ، لأنها تكون عصبةً مع أخيها، والصحيحُ‏:‏ انفراد العصبة بالإِنفاق، لأنه الوارث المطلق‏.‏

وفيه دليلٌ على أن نفقة الزوجة، والأقارب مقدَّرة بالكفاية، وأن ذلك بالمعروف، وأن لِمَن له النفقة له أن يأخذها بنفسه إذا منعه إياها مَنْ هي عليه‏.‏

وقد احتجَّ بهذا على جواز الحكم على الغائب، ولا دليل فيه، لأن أبا سفيان كان حاضراً في البلد لم يكن مسافراً، والنبي صلى الله عليه وسلم لم يسألها البينَة، ولا يُعطى المدَّعي بمجرد دعواه، وإنما كان هذا فتوى منه صلى الله عليه وسلم‏.‏

وقد احتج به على مسألة الظَّفر، وأن للإِنسان أن يأخذ من مال غريمه إذا ظفر به بقدر حقه الذي جحده إياه، ولا يدل لثلاثة أوجه، أحدُها‏:‏ أن سببَ الحق هاهنا ظاهر، وهو الزوجية، فلا يكون الأخذُ خيانةً في الظاهر، فلا يتناولُه قول النبيِّ صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏أَدِّ الأمَانَةَ إلى من ائْتَمَنَكَ، وَلاَ تَخُنْ مَنْ خَانَكَ‏)‏‏.‏ ولهذا نص أحمد على المسألتين مفرقاً بينهما، فمنع من الأخذ في مسألة الظفر، وجوَّز للزوجة الأخذَ، وعمل بكلا الحديثين‏.‏

الثاني‏:‏ أنه يشق على الزوجة أن ترفعَه إلى الحاكم، فيلزمه بالإِنفاق أو الفراق، وفي ذلك مضرَّة عليها مع تمكنها من أخذ حقها‏.‏ الثالث‏:‏ أن حقها يتجددُ كُلَّ يوم فليس هو حقاً واحداً مستقراً يُمكن أن تستدينَ عليه، أو ترفعه إلى الحاكم بخلاف حق الدين‏.‏

فصل

وقد احتج بقصة هند هذه على أن نفقة الزوجة تَسْقُطُ بمضي الزمان، لأنه لم يُمكنها من أخذ ما مضى لها مِن قدر الكفاية مع قولها‏:‏ إنه لا يُعطيها ما يكفيها، ولا دليلَ فيها، لأنها لم تدع به ولا طلبته، وإنما استفتته‏:‏ هل تأخذ في المستقبل ما يكفيها‏؟‏ فأفتاها بذلك‏.‏ وبعد، فقد اختلف الناسُ في نفقة الزوجات والأقارب، هل يسقُطانِ بمضى الزمان كلاهما، أو لا يسقطان، أو تسقُطُ نفقةُ الأقارب دون الزوجات‏؟‏ على ثلاثة أقوال‏.‏

أحدها‏:‏ أنهما يسقطان بمضي الزمان، وهذا مذهب أبي حنيفة، وإحدى الروايتين عن أحمد‏.‏

والثاني‏:‏ أنهما لا يسقُطان إذا كان القريبُ طفلاً، وهذا وجه للشافعية‏.‏

والثالث‏:‏ تسقُط نفقةُ القريب دون نفقة الزوجة، وهذا هو المشهورُ من مذهب الشافعي وأحمد ومالك‏.‏ ثم الذين أسقطوه بمضي الزمان، منهم من قال‏:‏ إذا كان الحاكمُ قد فرضها لم تسقط، وهذا قولُ بعض الشافعية والحنابلة‏.‏ ومنهم من قال‏:‏ لا يُؤثِّر فرضُ الحاكم في وجوبها شَيْئاً إذا سقطت بمضى الزمان، والذي ذكره أبو البركات في ‏(‏محرَّرِهِ‏)‏، الفرق بين نفقة الزوجة ونفقة القريب في ذلك، فقال‏:‏ وإذا غاب مُدةً ولم يُنفق، لزمه نفقةُ الماضي، وعنه‏:‏ لا يلزمه إلا أن يكون الحاكمُ قد فرضها‏.‏

وأما نفقةُ أقاربه، فلا تلزمه لِما مضى وإن فرضت إلا أن يستدان عليه بإذن الحاكم وهذا هو الصوابُ، وأنه لا تأثير لفرض الحاكم في وجوب نفقة القريب لما مضى من الزمان نقلاً وتوجيهاً، أما النقلُ، فإنه لا يُعرف عن أحمد، ولا عن قدماء أصحابه استقرارُ نفقة القريب بمضي الزمان إذا فرضها الحاكم، ولا عن الشافعي، وقدماء أصحابه والمحققين لمذهبه منهم، كصاحب ‏(‏المهذب‏)‏، و‏(‏الحاوي‏)‏، و‏(‏الشامل‏)‏، و‏(‏النهاية‏)‏، و‏(‏التهذيب‏)‏، و‏(‏البيان‏)‏، و‏(‏الذخائر‏)‏ وليس في هذه الكتب إلا السقوطُ بدون استثناء فرض، وإنما يُوجد استقرارُها إذا فَرَضَها الحاكم في ‏(‏الوسيط‏)‏ و‏(‏الوجيز‏)‏، وشرح الرافعي وفروعه، وقد صرح نصر المقدسي في ‏(‏تهذيبه‏)‏، والمحاملي في ‏(‏العدة‏)‏، ومحمد بن عثمان في ‏(‏التمهيد‏)‏، والبندنيجي في ‏(‏المعتمد‏)‏ بأنها لا تستقر ولو فرضها الحاكم، وعلَّلوا السقوط بأنها تجِبُ على وجه المواساة لإِحياء النفس، ولهذا لا تجب مع يسار المنفق عليه، وهذا التعليلُ يُوجب سقوطَها فرضت أو لم تفرض‏.‏ وقال أبو المعالي‏:‏ ومما يدل على ذلك أن نفقة القريب إمتاع لا تمليك، وما لا يجب فيه التمليك، وانتهى إلى الكفاية، استحال مصيرُه ديناً في الذمة، واستبعد لهذا التعليل قول من يقول‏:‏ إن نفقةَ الصغير تستقِرُّ بمضي الزمان، وبالغ في تضعيفه من جهة أن إيجابَ الكفاية مع إيجاب عوض ما مضى متناقض، ثم اعتذر عن تقديرها في صورة الحمل على الأصح‏.‏ إذا قلنا‏:‏ إن النفقة له بأن الحامل مستحقة لها أو منتفعة بها فهي كنفقة الزوجة‏.‏ قال‏:‏ولهذا قُلنا‏:‏ تتقدر،ثم قال‏:‏ هذا في الحمل والولد الصغير، أما نفقة غيرهما، فلا تصير ديناً أصلاً‏.‏ انتهى‏.‏

وهذا الذي قاله هؤلاء هو الصوابُ، فإن في تصورِ فرض الحاكم نظرا، لأنه إما أن يعتقد سقوطَها بمضي الزمان أو لا، فإن كان يعتقده، لم يسغ له الحكم بخلافه، وإلزام ما يعتقد أنه غيرُ لازم، وإن كان لا يعتقد سقوطَها مع أنه لا يعرف بهِ قائل إلا في الطفل الصغير على وجه لأصحاب الشافعي‏.‏ فإما أن يعني بالفرض الإِيجاب، أو إثباتَ الواجب، أو تقديرَه أو أمراً رابعاً فإن أُريدَ به الإِيجابُ، فهو تحصيلُ الحاصل ولا أثرَ لفرضه، وكذلك إن أريد به إثباتُ الواجب، ففرضُه وعَدَمُهُ سِيّان، وإن أريد به تقديرُ الواجب،، فالتقديرُ إنما يُؤَثِّر في صفة الواجب من الزيادة والنقصان، لا في سقوطِه ولا ثبوتِه، فلا أثر لفرضه في الواجب البتة، هذا مع ما في التقدير مِن مُصادمة الأدلةِ التي تقدمت، على أن الواجبَ النفقةُ بالمعروف، فيُطعمهم مما يأكل، ويكسوهم مما يلبس،‏.‏ وإن أريد به أمرٌ رابع، فلا بد من بيانه لينظر فيه‏.‏

فإن قيل‏:‏ الأمرُ الرابع المرادُ هو عدمُ السقوط بمضي الزمان، فهذا هو محلُّ الحكم، وهو الذي أثر فيه حكمُ الحاكم، وتعلَّق به‏.‏ قيل‏:‏ فكيف يُمكنُ أن يعتقِدَ السقوط، ثم يُلزم ويقضي بخلافه‏؟‏ وإن اعتقد عدمَ السقوط، فخلاف الإِجماع، ومعلومٌ أن حكم الحاكم لا يزيلُ الشيءَ عن صفته، فإذا كانت صفة هذا الواجِب سقوطه بمضي الزمان شرعاً لم يُزله حكم الحاكم عن صفته‏.‏ فإن قيل‏:‏ بقي قسم آخر، وهو أن يعتقد الحاكمُ السقوطَ بمضي الزمان ما لم يفرِضْ، فإن فُرِضَت، استقرت فهو يحكم باستقرارها لأجل الفرض لا بنفس مضي الزمان‏.‏ قيل‏:‏ هذا لا يُجدي شيئاً، فإنه إذا اعتقد سقوطها بمضي الزمان، وإن هذا هو الحقُّ والشرع، لم يَجُز له أن يلزم بما يعتقد سقوطه وعدم ثبوته، وما هذا إلا بمثابة ما لو ترافع إليه مضطر، وصاحبُ طعام غير مضطر، فقضي به للمضطر بعوضه، فلم يتفق أَخْذُهُ حتى زال الاضطرارُ، ولم يعط صاحبه العوضَ أنه يلزمه بالعوض، ويُلْزَمُ صاحِبُ الطعام ببذله له، والقريبُ يستحق النفقة لإِحياء مُهجته، فإذا مضى زمنُ الوجوب، حصل مقصودُ الشارع من إحيائه، فلا فائدة في الرجوع بما فات من سبب الإِحياء، ووسيلته مع حصول المقصود والاستغناء عن السبب بسبب آخر‏.‏

فإن قيل‏:‏ فهذا ينتقِضُ عليكم بنفقةِ الزوجة، فإنها تستقِرُّ بمضي الزمان، ولو لم تُفرض مع حصول هذا المعنى الذي ذكرتموه بعينه‏.‏ قيل‏:‏ النقضُ لا بُد أن يكون بمعلومِ الحكم بالنص أو الإِجماع، وسقوطُ نفقة الزوجة بمضي الزمان مسألة نزاع، فأبو حنيفة وأحمد في رواية يُسقطانها، والشافعي وأحمد في الرواية الأخرى لا يُسقطانها، والذين لا يُسقطونها فرَّقوا بينها وبين نفقة القريب بفروق‏.‏

أحدها‏:‏ أن نفقة القريب صلة‏.‏

الثاني‏:‏ أن نفقة الزوجة تجب مع اليسار والإِعسار بخلاف نفقة القريب‏.‏ الثالث‏:‏ أن نفقة الزوجة تجب مع استغنائها بمالها، ونفقة القريب لا تجب إلا مع إعساره وحاجته‏.‏

الرابع‏:‏ أن الصحابة رضي اللّه عنهم أوجبوا للزوجة نفقة ما مضى، ولا يُعرف عن أحد منهم قط أنه أوجب للقريب نفقة ما مضى، فصح عن عمر

رضي الله عنه أنه كتب إلى أمراء الأجناد في رجال غابوا عن نسائهم، فأمرهم بأن يُنفقوا أو يُطلقوا، فإن طلقوا، بعثوا بنفقة ما مضى، ولم يُخالف عمر رضي اللّه عنه في ذلك منهم مخالف‏.‏ قال ابن المنذر رحمه اللّه‏:‏ هذه نفقةٌ وجبت بالكتاب والسنة والإِجماع، ولا يزول ما وجب بهذه الحجج إلا بمثلها‏.‏

قال المسقطون‏:‏ قد شكت هند إلى النبي صلى الله عليه وسلم أن أبا سفيان لا يُعطيها كفايتها، فأباح لها أن تأخذ في المستقبل قدر الكفاية، ولم يُجَوِّز لها أخذ ما مضى، وقولُكم‏:‏ إنها نفقة معاوضة، فالمعاوضة إنما هي بالصداق، وإنما النفقة لكونها في حبسه، فهي عانِيةٌ عنده كالأسير، فهى من جملة عياله، ونفقتها مواساة، وإلا فكل من الزوجين يحصُلُ له من الاستمتاع مثلُ ما يحصل للآخر، وقد عاوضها على المهر، فإذا استغنت عن نفقة ما مضى فلا وجه لإِلزام الزوج به، والنبيُّ صلى الله عليه وسلم جعل نفقة الزوجة كنفقة القريب بالمعروف، وكنفقة الرقيق فالأنواع الثلاثة إنما وجبت بالمعروف مواساة لإِحياء نفس من هو في ملكه وحبسه، ومن بينه وبينه رحم وقرابة، فإذا استغنى عنها بمضي الزمان، فلا وجه لإِلزام الزوج بها، وأيُّ معروف في إلزامه نفقة ما مضى وحبسه على ذلك، والتضييق عليه، وتعذيبه بطول الحبس، وتعريض الزوجة لقضاء أوطارها مِن الدخول والخروج وعُشرةِ الأخدان بانقطاع زوجها عنها، وغيبةِ نظره عليها، كما هو الواقع، وفي ذلك من الفساد المنتشر ما لا يعلمه إلا اللّه، حتى إن الفروج لَتَعُجُّ إلى اللّه من حبس حماتها ومن يصونها عنها، وتسييبها في أوطارها، ومعاذ اللّه أن يأتي شرع اللّه لهذا الفساد الذي قد استطار شرارُه، واستعرت نارُه، وإنما أمر عمرُ بن الخطاب الأزواجَ إذا طلقوا أن يبعثوا بنفقة ما مضى، ولم يأمرهم إذا قَدِموا أن يفرضوا نفقَة ما مضى، ولا يُعْرَفُ ذلك عن صحابي البتة، ولا يلزم من الإِلزم بالنفقة الماضية بعدَ الطلاق وانقطاعها بالكُلية الإِلزامُ بها إذا عاد الزوج إلى النفقة والإِقامة، واستقبل الزوجةَ بكل ما تحتاج إليه، فاعتبارُ أحدهما بالآخر غيرُ صحيح، ونفقة الزوجة تجب يوماً بيوم، فهي كنفقةِ القريب، وما مضى فقد استغنت عنه بمضي وقته، فلا وجهَ لإِلزام الزوج به، وذلك منشأ العداوة والبغضاء بين الزوجين، وهو ضِدُّ ما جعله الله بينهما من المودة والرحمة، وهذا القولُ هو الصحيحُ المختارُ الذي لا تقتضي الشريعةُ غيره، وقد صرح أصحابُ الشافعي، بأن كسوة الزوجة وسكنها يسقُطان بمضى الزمان إذا قيل‏:‏ إنهما إمتاع لا تمليك، فإن لهم في ذلك وجهين‏.‏

فصل

وأما فرضُ الدراهم، فلا أصل له في كتاب الله تعالى، ولا سنة رسولِه صلى الله عليه وسلم، ولا عن أحد من الصحابة رضي اللّه عنهم البتة، ولا التابعين، ولا تابعيهم، ولا نصَّ عليه أحدّ من الأئمة الأربعة، ولا غيرُهم من أئمة الإِسلام، وهذه كتبُ الآثار والسنن، وكلامُ الأئمة بين أظهرنا، فأوجِدُونا من ذكر فرضَ الدراهم‏.‏ واللّه سبحانه أوجب نفقة الأقارب والزوجات والرقيق بالمعروف، وليس مِن المعروف فرضُ الدراهم، بل المعروف الذي نص عليه صاحبُ الشرع أن يُطعمهم مما يأكل، ويكسوهم مما يَلْبَسُ، ليس المعروف سوى هذا، وفرضُ الدراهم على المنفق من المنكر، وليست الدراهمُ من الواجب ولا عوضه، ولا يَصِحُّ الاعتياضُ عما لم يستقر ولم يملك، فإن نفقة الأقارِب والزوجات إنما تجب يوماً فيوماً، ولو كانت مستقرة لم تصح المعاوضةُ عنها بغير رضى الزوج والقريب، فإن الدراهم تجعلُ عوضاً عن الواجب الأصلي، وهو إما البرُّ عند الشافعي، أو الطعامُ المعتاد عند الجمهور، فكيف يُجبر على المعاوضة على ذلك بدراهم مِن غير رِضاه، ولا إجبار صاحب الشرع له على ذلك، فهذا مخالف لقواعد الشرع، ونصوص الأئمة، ومصالح العباد، ولكن إن اتفق المنفِقُ والمنفق عليه على ذلك جاز باتفاقهما، هذا مع أنه في جواز اعتياضِ الزوجة عن النفقة الواجبة لها نزاع معروف في مذهب الشافعي وغيره، فقيل‏:‏ لا تعتاض، لأن نفقتها طعام ثبت في الذمة عوضاً، فلا تعتاضُ عنه قبل القبض، كالمسلم فيه، وعلى هذا فلا يجوزُ الاعتياضُ لا بدارهم ولا ثياب، ولا شيء البتة، وقيل‏:‏ تعتاضُ بغير الخبز والدقيق، فإن الاعتياضَ بهما رباً، هذا إذا كان الاعتياضُ عن الماضي، فإن كان عن المستقبل، لم يصح عندهم وجهاً واحداً، لأنها بصدد السقوط، فلا يُعلم استقرارها‏.‏

ذكر ما روي من حكم رسول اللّه صلى الله عليه وسلم في تمكين المرأة من فراق زوجها إذا أعسر بنفقتها‏.‏

روى البخاري في ‏(‏صحيحه‏)‏، من حديث أبي هريرة رضي اللّه عنه، قال‏:‏ قال رسول اللّهِ‏:‏ ‏(‏أَفْضَلُ الصَّدَقَةِ مَا تَرَكَ غِنىً‏)‏، وفي لفظ‏:‏ ‏(‏ما كان عَنْ ظَهْرِ غِنىً، واليَدُ العلْيَا خَيْرٌ مِنَ اليَدِ السُّفلَى، وابْدَأْ بِمن تَعُولُ‏)‏، تقول المرأةُ‏:‏ إما أن تُطعِمَنى،وإما أن تُطَلّقَني، ويقول العبدُ‏:‏ أطعمني واستَعمِلني، ويقول الولدُ‏:‏ أطعمني، إلى من تدعني‏؟‏ قالوا‏:‏ يا أبا هريرة سمعتَ هذا من رسول اللّه صلى الله عليه وسلم‏؟‏ قال‏:‏ لا‏.‏ هذا مِنْ كِيسِ أبي هريرة‏.‏ وذكر النسائي هذا الحديث في كتابه وقال فيه‏:‏ ‏(‏وابْدَأ بِمن تَعُولُ‏)‏، فقيل‏:‏ من أعولُ يا رسول اللّه‏؟‏ قال‏:‏ ‏(‏امْرَأتُكَ تَقُولُ‏:‏ أَطْعِمْني وإلاّ فَارِقني، خَادِمكَ يَقُولُ‏:‏ أَطْعِمْني واسْتَعْمِلْني، وَلَدُكَ يَقُولُ‏:‏ أَطْعِمْني إلى مَن تَترُكني‏؟‏‏)‏‏.‏ وهذا في جميع نسخ كتاب النسائي، هكذا، وهو عنده من حديث سعيد بن أيوب، عن محمد بن عجلان، عن زيد بن أسلم، عن أبي صالح، عن أبي هريرة رضي اللّه عنه، وسعيد ومحمد ثقتان‏.‏

وقال الدارقطني‏:‏ حدثنا أبو بكر الشافعي، حدثنا محمد بن بشر بن مطر، حدثنا شيبان بن فروخ، حدثنا حماد بن سلمة، عن عاصم، عن أبي صالح، عن أبي هريرة، أن النبيَّ صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏المَرْأَةُ تَقُولُ لِزَوْجِهَا‏:‏ أَطْعِمْني أَوْطَلِّقْني‏)‏الحديث‏.‏

وقال الدارقطني‏:‏ حدثنا عثمانُ بن أحمد بن السماك، وعبدُ الباقي ابن قانع، وإسماعيل بن علي، قالوا‏:‏ أخبرنا أحمد بن علي الخزاز، حدثنا إسحاق بن إبراهيم الباوردي،حدثنا إسحاق بن منصور، حدثنا حماد بن سلمة، عن يحيى بن سعيد، عن سعيد بن المسيب،في الرجل لا يجد ما ينفق على امرأته، قال‏:‏ يُفَرَّقُ بَيْنَهُمَا‏.‏ وبهذا الإِسناد إلى حماد بن سلمة، عن عاصم بن بهدلة، عن أبي صالح، عن أبي هريرة رضي اللّه عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم مثله‏.‏

وقال سعيد بن منصور في ‏(‏سننه‏)‏‏:‏ حدثنا سفيان، عن أبي الزناد، قال‏:‏ سألت سعيد بن المسيب عن الرجل لا يَجِدُ ما يُنْفِقُ على امرأته، أَيُفرَّقُ بينهما‏؟‏ قال‏:‏ نعم‏.‏ قلت سنة‏؟‏ قال‏:‏ سنة‏.‏ وهذا ينصرف إلى سنة رسول اللّه صلى الله عليه وسلم، فغايتُه أن يكون من مراسيل سعيد بن المسيب‏.‏

واختلف الفقهاء في حكم هذه المسألة على أقوال‏.‏

أحدها‏:‏ أنه يُجبر على أن يُنْفِقَ أو يُطلِّقَ، روى سفيان عن يحيى بن سعيد الأنصاري، عن ابن المسيب، قال‏:‏ إذا لم يجد الرجلُ ما يُنفق على امرأته، أُجْبِرَ على طلاقها‏.‏

الثاني‏:‏ إنما يُطلِّقها عليه الحاكمُ، وهذا قولُ مالك، لكنه قال‏:‏ يؤجل في عدم النفقة شهرا ونحوه، فإن انقضى الأجلُ وهي حائضٌ، أُخِّرَ حتى تطهر، وفي الصداقة عامين، ثم يُطلقها عليه الحاكمُ طلقة رجعية، فإن أيسر في العدة، فله ارتجاعُها، وللشافعي قولان‏.‏ أحدهما‏:‏ أن الزوجة تخير إن شاءت أقامت معه، وتبقى نفقة المُعْسِرِ ديناً لها في ذمته‏.‏ قال أصحابه‏:‏ هذا إذا أمكنته مِن نفسها، وإن لم تُمكنه، سقطت نفقتها، وإن شاءت، فسخت النكاح‏.‏

والقول الثاني‏:‏ ليس لها أن تفسخ، لكن يرفع الزوجُ يدَه عنها لتكتسِبَ، والمذهب أنها تملِكُ الفسخ‏.‏

قالوا‏:‏ وهل هو طلاقٌ أو فسخ‏؟‏ فيه وجهان‏.‏

أحدهما‏:‏ أنه طلاق، فلا بُدَّ من الرفع إلى القاضي حتى يُلزمه أن يطلِّقَها أو ينفق، فإن أبى طلق الحاكم عليه طلقةً رجعيةً، فإن راجعها، طلَّقَ عليه ثانية، فإن راجعها، طلق عليه ثالثة‏.‏

والثاني‏:‏ أنه فسخ، فلا بد من الرفع إلى الحاكم ليثبتَ الإِعسارُ، ثم تفسخ هي، وإن اختارت المقام، ثم أرادت الفسخَ، ملكته، لأن النفقة يتجدد وجوبُها كل يوم، وهل تملك الفسخَ في الحال أولا تملِكُه إلا بعد مضي ثلاثة أيام‏؟‏ وفيه قولان‏.‏ الصحيح عندهم‏:‏ الثاني‏.‏ قالوا‏:‏ فلو وجد في اليوم الثالث نفقتها وتعذَّر عليه نفقةُ اليوم الرابع، فهل يجب استئنافُ هذا الإِمهال‏؟‏ فيه وجهان‏.‏ وقال حماد بن أبي سليمان‏:‏ يؤجل سنة ثم يفسخ قياساً على العِنِّين‏.‏ وقال عمر بن عبد العزيز‏:‏ يُضرب له شهر أو شهران‏.‏ وقال مالك‏:‏ الشهرُ ونحوه‏.‏ وعن أحمد روايتان‏.‏ إحداهما، وهي ظاهر مذهبه‏:‏ أن المرأة تخيَّرُ بين المقام معه وبين الفسخ‏.‏ فإن اختارت الفسخ رفعته إلى الحاكم، فيُخيَّر الحاكم بين أن يفسخ عليه أو يجبره على الطلاق، أو يأذنَ لها في الفسخ، فإن فسخ أو أذن في الفسخ، فهو فسخ لا طلاق ولا رجعة له، وإن أيسر في العدة‏.‏ وإن أجبره على الطلاق، فطلق رجعياً، فله رجعتُها، فإن راجعها وهو مُعْسِرٌ، أو امتنع من الإِنفاق عليها، فطلبت الفسخ، فسخ عليه ثانياً وثالثاً، وإن رضيت المقام معه مع عُسرته، ثم بدا لها الفسخُ، أو تزوجته عالمة بعُسرته، ثم اختارت الفسخ، فلها ذلك‏.‏

قال القاضي‏:‏ وظاهرُ كلام أحمد‏:‏ أنه ليس لها الفسخُ في الموضعين، ويبطل خيارُها، وهو قول مالك لأنها رضيت بعيبه، ودخلت في العقد عالمةً به، فلم تملك الفسخَ، كما لو تزوَّجَت عِنِّينا عالمةً بعنَّته‏.‏ وقالت بعد العقد‏:‏ قد رضيت به عِنِّيناَ‏.‏ وهذا الذي قاله القاضي‏:‏ هو مقتضى المذهب والحجة‏.‏

والذين قالوا‏:‏ لها الفسخُ - وإن رضيت بالمقام - قالوا‏:‏ حقُّها متجدِّد كل يوم، فيتجدَّدُ لها الفسخُ بتجدُّدِ حقها، قالوا‏:‏ ولأن رضاها يتضمَّن إسقاطَ حقها فيما لم يجب فجهِ مِن الزمان، فلم يسقط كإسقاط الشفعة قبل البيع‏.‏ قالوا‏:‏ وكذلك لو أسقطت النفقة المستقبلة، لم تسقط، وكذلك لو أسقطتها قبل العقد جملة ورضيت بلا نفقة، وكذلك لو أسقطت المهر قبله، لم يسقط، وإذا لم يسقط وجوبُها لم يسقط الفسخ الثابت به‏.‏ والذين قالوا بالسقوط أجابُوا عن ذلك بأن حقها في الجماع يتجدَّد، ومع هذا إذا أسقطت حقها من الفسخ بالعُنَّة سقط، ولم تَمْلِكِ الرجوعَ فيه‏.‏

قالوا‏:‏ وقياسُكم ذلكَ على إسقاط نفقتها قياسٌ على أصلٍ غيرِ متفق عليه، ولا ثابت بالدليل، بل الدليلُ يدلُ على سقوطِ الشفعة بإسقاطها قبل البيع، كما صحَّ عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:‏ ‏(‏لا يَحِلُّ له أن يبيعَ حتى يُؤذِنَ شَرِيكَهُ، فإن باعه ولَمْ يُؤذِه، فَهوَ أَحَقُّ بِالبَيْعِ‏)‏، وهذا صريحٌ في أنه إذا أسقطها قبل البيع لم يملِكْ طلبَها بعده، وحينئذ فيجعل هذا أصلاً لسقوط حقها مِن النفقة بالإِسقاط، ونقول‏:‏ خيارٌ لدفع الضررِ، فسقط بإسقاطه قبل ثبوته، كالشفعة، ثم ينتقضُ هذا بالعيب في العين المؤجرة، فإن المستأجرَ إذا دخلَ عليه، أو علِمَ به، ثم اختار ترك الفسخ، لم يكن له الفسخُ بعد هذا، وتجدّد حقِّه بالانتفاع كُلَّ وقت، كتجدد حق المرأة من النفقة سواء ولا فرق، وأما قوله‏:‏ لو أسقطها قبل النكاح، أو أسقط المهرَ قبلُه، لم يسقط، فليس إسقاط الحقِّ قبل انعقاد سببه بالكليَة كإسقاطه بعد انعقاد سببه، هذا إن كان في المسألة إجماع، وإن كان فيها خلاف، فلا فرق بين الإِسقاطين، وسوينا بين الحُكمين، وإن كان بينهما فرق امتنع القياس‏.‏ وعنه رواية أخرى‏:‏ ليس لها الفسخ، وهذا قول أبي حنيفة وصاحبيه‏.‏ وعلى هذا لا يلزمُها تمكينُه مِن الاستمتاعِ، لأنه لم يُسلم إليها عوضه، فلم يلزمها تسليمُه، كما لو أعسر المشتري بثمن المبيع، لم يجب تسليمُه إليه، وعليه تخليةُ سبيلها لِتكتسِبَ لها، وتحصل ماتُنفقه على نفسها، لأن في حبسها بغير نفقة إضراراً بها‏.‏

فإن قيل‏:‏ فلو كانت موسِرةً، فهلاَّ يملك حبسها‏؟‏ قيل قد قالُوا أيضاً‏:‏ لا يملِكُ حبسها، لأنه إنما يملِكهُ إذا كفاها المؤنة، وأغناها عمَّا لا بُدَّ لها منه مِن النفقة والكسوة، ولحاجته إلى الاستمتاع الواجب له عليها، فإذا انتفى هذا وهذا لم يَمْلِكْ حبسَها، وهذا قولُ جماعة من السلف والخلف‏.‏

ذكر عبد الرزاق عن ابن جُريج قال‏:‏ سألتُ عطاء عمن لا يجد ما يصلحُ امرأته مِن النفقة‏؟‏ قال‏:‏ ليس لها إلا ما وجدت، ليس لها أن يُطلقها‏.‏ وروى حماد بن سلمة، عن جماعة، عن الحسن البصري أنه قال في الرجل يَعجِزُ عن نفقة امرأته‏:‏ قال‏:‏ تُواسيه وتتَّقي اللّه وتصبِرُ، ويُنفق عليها ما استطاع‏.‏ وذكر عبد الرزاق، عن معمر، قال‏:‏ سألتُ الزهري عن رجل لا يجد ما يُنفق على امرأته، أيفرَّقُ بينهما‏؟‏ قال‏:‏ تستأني به ولا يفرَّق بينهما، وتلا‏:‏ ‏{‏لاَ يُكَلِّفُ اللهُ نَفْسَاً إلاَّ مَا آتاهَا سَيَجْعَلُ اللهُ بعد عُسْر يُسْراً‏}‏ ‏[‏الطلاق‏:‏ 7‏]‏‏.‏ قال معمر‏:‏ وبلغني عن عمر بن عبد العزيز مثلُ قول الزهري سواء‏.‏ وذكر عبدُ الرزاق، عن سفيان الثوري، في المرأة يُعْسِرُ زوجُها بنفقتها‏:‏ قال‏:‏ هي امرأة ابتُليَت، فلتصبر ولا تأخذ بقول من فرَّق بينهما‏.‏

قلتُ‏:‏ عن عُمر بن عبد العزيز ثلاثُ روايات، هذه إحداها‏.‏

والثانية‏:‏ روى ابنُ وهب، عن عبد الرحمن بن أبي الزِّناد، عن أبيه، قال‏:‏ شهدتُ عمر بن عبد العزيز يقول لزوج امرأة شكت إليه أنه لا يُنفِقُ عليها‏:‏ أضربوا له أجلاً شهراً أو شهرين، فإن لم يُنفق عليها إلى ذلك الأجل، فرقوا بينه وبينها‏.‏

والثالثة‏:‏ ذكر ابن وهب، عن ابن لهيعة،عن محمد بن عبد الرحمن، أن رجلاً شكى إلى عمر بن عبد العزيز بأنه أنكح ابنته رجلاً لا يُنفق عليها، فأرسل إلى الزوج، فأتى، فقال‏:‏ أنكحني وهو يَعْلَمُ أنه ليس لي شيء، فقال عمر‏:‏ أنكحته وأنت تَعرِفُه‏؟‏ قال‏:‏ نعم‏.‏ قال‏:‏ فما الذي أصنع‏؟‏ اذهب بأهلك‏.‏

والقول بعدم التفريق مذهبُ أهل الظاهر كُلِّهم، وقد تناظر فيها مالك وغيرُهُ، فقال مالك‏:‏ أدركتُ الناسَ يقولون‏:‏ إذا لم يُنفق الرجل على امرأته فُرِّقَ بينهما‏.‏ فقيل له‏:‏ قد كانت الصحابة رضي اللّه عنهم يُعسِرُون ويحتاجون، فقال مالك‏:‏ ليس الناسُ اليوم كذلك، إنما تزوجته رجاءً‏.‏

ومعنى كلامه‏:‏ أن نساء الصحابة رضي اللّه عنهم كُنَّ يُرِدْنَ الدارَ الآَخرة، وما عند اللّه، ولم يكن مرادُهُنَّ الدنيا، فلم يكنَّ يُبالين بعُسر أزواجهن، لأن أزواجهن كانوا كذلك‏.‏ وأما النساء اليوم، فإنما يتزوجن رجاء دنيا الأزواج ونفقتهم وكسوتهم، فالمرأة إنما تدخل اليوم على رجاء الدنيا، فصار هذا المعروفُ كالمشروط في العقد، وكان عرفُ الصحابة ونسائهم كالمشروط في العقد، والشرط العرفيّ في أصل مذهبه، كاللفظي، وإنما أنكر على مالك كلامَه هذا من لم يفهمه ويفهم غورَه‏.‏

وفي المسألة مذهب آخر، وهو أن الزوج إذا أعسر بالنفقة، حُبِسَ حتى يجدَ ما يُنفقه، وهذا مذهب حكاه الناس عن ابن حزم،وصاحب‏(‏المغني‏)‏وغيرهما عن عُبيد اللّه بن الحسن العنبري قاضي البصرة‏.‏ وياللّه العجب‏!‏ لأي شيء يُسجن ويُجمع عليه بين عذاب السجن وعذاب الفقر، وعذاب البعد عن أهلِه‏؟‏ سبحانك هذا بهتان عظيم، وما أظن من شمَّ رائحة العلم يقول هذا‏.‏

وفي المسألة مذهب آخر، وهو أن المرأةَ تكَلَّفُ الإِنفاق عليه إذا كان عاجزاً عن نفقة نفسه، وهذا مذهبُ أبي محمد بن حزم، وهو خيرٌ بلا شك من مذهب العنبري‏.‏ قال في ‏(‏المحلى‏)‏‏:‏ فإن عجز الزوج عن نفقة نفسه، وامرأتُه غنيةٌ،كُلِّفت النفقة عليه، ولا ترجع بشيء من ذلك، إن أيسر، برهانُ ذلك قولُ اللّه عز وجل ‏{‏وَعَلَى الموْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وكِسْوَتُهُنَّ بِالمعْرُوف لا تكلَفُ نَفْسٌ إلاًّ وُسْعَها لاَ تُضَارَّ وَالِدَةٌ بولَدهَا ولاَ مَولُودٌ لَهُ بِوَلدِهِ وَعَلَى الوَارِثِ مِثْلُ ذلِكَ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 233‏]‏ فالزوجةُ وارثة، فعليها النفقةُ بنص القرآن‏.‏

ويا عجباً لأبي محمد‏!‏ لو تأمل سياقَ الآية، لتبين له منها خلافُ ما فهمه، فإن اللّه سبحانه قال‏:‏ ‏{‏وعَلَى المَولُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بالمَعْرُوفِ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 233‏]‏ وهذا ضميرُ الزوجات بلا شك، ثم قال‏:‏ ‏{‏وَعَلَى الوَارِثِ مِثْلُ ذلِكَ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 233‏]‏، فجعل سُبحانه على وارث المولود له، أو وارثِ الولد من رزق الوالدات وكسوتهن بالمعروف مثل ما على المَوروث، فأين في الآية نفقة على غير الزوجات‏؟‏ حتى يحمل عمومها على ما ذهب إليه‏.‏

واحتج من لَم ير الفسخ بالإِعسار بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتاهُ اللهُ لا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْساً إلا مَا أتاهَا‏}‏ ‏[‏الطلاق‏:‏ 7‏]‏ قالوا‏:‏ وإذا لم يُكلفه اللّه النفقة في هذه الحال، فقد ترك ما لا يجب عليه، ولم يأثم بتركه، فلا يكون سبباً للتفريق بينه وبين حبِّه وسكَنه وتعذيبه بذلك‏.‏ قالوا‏:‏ وقد روى مسلم في ‏(‏صحيحه‏)‏‏:‏ من حديث أبي الزبير، عن جابر، دخل أبو بكر وعمر رضي اللّه عنهما على رسول اللّه صلى الله عليه وسلم فوجداه جالساً حوله نساؤه واجماً ساكتاً، فقالَ أبو بكر‏:‏ يا رسول اللّه‏!‏ لو رأيتَ بنت خارجة سألتني النفقة فقمتُ إليها، فوجأتُ عنقها، فضَحِكَ رسولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم وقال‏:‏ هُنَّ حَوْلِي كما ترى يَسألنني النفقة، فقام أبو بكر إلى عائشة يجأُ عُنقها، وقام عمر إلى حفصة يجأ عنقها، كلاهما يقولُ‏:‏ تسألنَ رسولَ اللّه صلى الله عليه وسلم ما ليس عنده، فقلن‏:‏ والله لا نسأَلُ رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئاً أبداً ما ليس عنده، ثم اعتزلهُنّ رسولُ اللّه صلى الله عليه وسلم شهراً وذكر الحديث‏.‏

قالوا‏:‏ فهذا أبو بكر وعمر رضي اللّه عنهما يضربان ابنتيْهما بحضرة رسولِ اللّه صلى الله عليه وسلم إذ سألاه نفقةً لا يجِدُها‏.‏ ومن المحال أن يضرِبا طالبتين للحق، ويُقرَّهما رسولُ اللّه صلى الله عليه وسلم على ذلك، فدلَّ على أنه لا حقَّ لهما فيما طلبتاه من النفقة في حال الإِعسار، وإذا كان طلبُهما لها باطلاً، فكيف تمكن المرأةُ من فسخ النكاح بعدم ما ليس لها طلبُه، ولا يحلُّ لها، وقد أمر اللّه سبحانه صاحب الدَّين أن يُنْظِرَ المُعْسِرَ إلى الميسرة، وغايةُ النفقة أن تكون ديناً، والمرأةُ مأمورة بإنظار الزوج إلى الميْسَرَةِ بنص القرآن هذا إن قيل‏:‏ تثبت في ذمة الزوج، وإن قيل‏:‏ تسقط بمضي الزمان، فالفسخ أبعد وأبعد‏.‏

قالوا‏:‏ فاللّه تعالى أوجب على صاحب الحقِّ الصبرُ على المعسر، وندبه إلى الصَّدَقَةِ بترك حقه، وما عدا هذين الأمرين، فجورٌ لم يُبحه له، ونحن نقولُ لهذِهِ المرأة كما قال اللّه تعالى لها سواءً بسواءٍ‏؟‏ إما أن تُنظريه إلى الميسرة، وإما أن تَصَدَّقي، ولا حقَ لَكِ فيما عدا هذين الأمرين‏.‏

قالوا ولم يزل في الصحابة المُعْسِرُ والموسِرُ، وكان مُعسِرُوهم أضعافَ أضعافِ موسريهم، فما مكَّن النبيُّ صلى الله عليه وسلم قطُ امرأةً واحدة من الفسخ بإعسار زوجها، ولا أعلمها أن الفسخَ حق لها فإن شاءت، صبرت، وإن شاءت، فَسَخَتْ، وهو يشرعُ الأحكام عن اللّه تعالى بأمره، فهبْ أن الأزواج تركن حقهن، أفما كان فيهن امرأةٌ واحدةٌ تُطالِبُ بحقها، وهؤلاء نساؤه صلى الله عليه وسلم خيرُ نساء العالمين يُطالبنه بالنفقة حتى أغضبنه، وحلفَ ألا يدخُلَ عليهن شهراً مِن شدة مَوْجِدَتِهِ عليهن، فلو كان مِن المستقر في شرْعِهِ أن المرأة تملِكُ الفسخَ بإعسار زوجها لرفع إليه ذلك، ولو مِن امرأة واحدة، وقد رُفع إليه ما ضرورتُه دون ضرورة فقد النفقة من فقد النكاح، وقالت له امرأة رِفاعة‏:‏ إني نكحتُ بعد رِفاعة عبد الرحمن بن الزبير، وإن ما معه مِثْلُ هُدْبَةِ الثوب‏.‏ تُريد أن يُفَرّقَ بينه وبينها‏.‏ ومن المعلوم أن هذا كان فيهم في

غاية النُّدرة بالنسبة إلى الإِعسار، فما طلبت منه امرأة واحدة أن يفرِّقَ بينه وبينها بالإِعسار‏.‏

قالوا‏:‏ وقد جعل اللّه الفقر والغنى مطيَّتينِ للعباد، فيفتقِرُ الرجل الوقت ويستغني الوقتَ، فلو كان كُلُّ من افتقر، فسخت عليه امرأته، لعم البلاءُ، وتفاقم الشرُّ، وفسخت أنكحة أكثرِ العالم، وكان الفراق بيدِ أكثر النِساء، فمن الذي لم تُصِبْهُ عُسْرةٌ، ويعوز النفقة أحياناً‏.‏

قالوا‏:‏ ولو تعذَّر من المرأةِ الاستمتاع بمرض متطاول، وأعسرت بالجماع، لم يمكن الزوجُ مِن فسخ النكاح، بل يُوجبون عليه النفقة كاملة مع إعسار زوجته بالوطء، فكيف يُمكنونها مِن الفسح بإعساره عن النفقة التي غايتُها أن تكون عوضاً عن الاستمتاع‏؟‏

قالوا‏:‏ وأما حديثُ أبي هريرة، فقد صرَّحَ فيه بأن قوله‏:‏ امرأتك تقول‏:‏ أنفق عليَّ وإلا طلقني، من كِيسه، لا مِن كلام النبي صلى الله عليه وسلم وهذا في ‏(‏الصحيح‏)‏ عنه‏.‏ ورواه عنه سعيد بن أبي سعيد، وقال‏:‏ ثم يقول أبو هريرة‏.‏ إذا حدث بهذا الحديث‏:‏ امرأتُك تقول، فذكر الزيادة‏.‏

وأما حديثُ حماد بن سلمة، عن عاصم بن بهدلة، عن أبي صالح، عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم بمثله، فأشار إلى حديث يحيى بن سعيد عن سعيد بن المسيب في الرجل لا يجد ما ينفق على امرأته‏.‏ قال‏:‏ يُفرق بينهما، فحديثٌ منكر لا يحتمِلُ أن يكونَ عن النبي صلى الله عليه وسلم أصلاً، وأحسنُ أحواله أن يكون عن أبي هريرة رضي الله عنه موقوفاً، والظاهر‏:‏ أنه رُوي بالمعنى، وأراد قوله أبي هريرة رضي اللّه عنه‏:‏ امرأتك تقول‏:‏ أطعمني أو طلقني، وأما أن يكونَ عند أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم، أنه سئل عن الرجل لا يجد ما يُنفِقُ على امرأتِه، فقال‏:‏ يُفرق بينهما، فواللّهِ ما قال هذا رسولُ اللّه صلى الله عليه وسلم ولا سمعه أبو هريرة، ولا حدَّث به، كيف وأبو هريرة لا يستجيزُ أن يَرويَ عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم ‏(‏امرأتُك تقول‏:‏ أطعمني وإلا طلقني‏)‏،

ويقول‏:‏ هذا من كيس أبي هريرة لئلا يتوهم نسبته إلى النبيِّ صلى الله عليه وسلم‏.‏والذي تقتضيه أصولُ الشريعة وقواعدها في هذه المسألة أن الرجل إذا غرَّ المرأة بأنه ذو مال، فتزوجته على ذلك، فظهر مُعْدماً لا شيء له، أو كان ذا مالٍ، وترك الإِنفاق على امرأته، ولم تَقدرْ على أخذ كفايتها من ماله بنفسها، ولا بالحاكم أن لها الفَسخ، وإن تزوجته عالمةً بعُسرته، أو كان موسِراً، ثم أصابته جائحةٌ اجتاحت مالَه، فلا فسخَ لها في ذلك، ولم تزل الناس تصيبهم الفاقة بعد اليسار، ولم ترفعهم أزواجُهم إلى الحكام ليفرقوا بينهم وبينهن، وباللّه التوفيق‏.‏

وقد قال جمهورُ الفقهاء‏:‏ لا يثبت لها الفسخُ بالإِعسار بالصداق، وهذا قولُ أبي حنيفة وأصحابه، وهو الصحيحُ من مذهب أحمد رحمه اللّه، اختاره عامة أصحابه، وهو قولُ كثير من أصحاب الشافعي‏.‏ وفصل الشيخ أبو إسحاق وأبو علي بن أبي هريرة، فقالا‏:‏ إن كان قبلَ الدخول، ثبت به الفسخُ، وبعده لا يثبت، وهو أحدُ الوجوه من مذهب أحمد هذا مع أنه عِوض محضٌ، وهو أحق أن يوفى من ثمن المبيع، كما دل عليه النص، كلُّ ما تقرر في عدم الفسخ به، فمثله في النفقة وأولى‏.‏

فإن قيل‏:‏ في الإِعسار بالنفقةِ مِن الضرر اللاحق بالزوجة ما ليس في الإِعسار بالصَّداق، فإن البِنية تقوم بدونه بخلاف النفقة‏.‏ قيل‏:‏ والبِنية قد تقوم بدون نفقته بأن تُنفِقَ من مالها، أو يُنفِق عليها ذو قرابتها، أو تأكل من غزلها، وبالجملة، فتعيشُ بما تعيشُ به زمن العدة، وتُقدر زمن عُسرة الزوج كله عدَّة‏.‏

ثم الذين يُجوزون لها الفسخ يقولُون‏:‏ لها أن تفسخ ولو كان معها القناطيرُ المقنطرة مِن الذهب والفضة إذا عجز الزوجُ عن نفقتها، وبإزاء هذا القول قولُ مِنجنيق الغرب أبي محمد بن حزم‏:‏ إنه يجب عليها أن تُنفِقَ عليه في هذه الحال، فتُعطيه مالها، وتُمكِّنُه من نفسها، ومن العجب قولُ العنبري بأنه يُحبس‏.‏

وإذا تأملت أصولَ الشريعة وقواعدَها، وما اشتملت عليه من المصالح ودرء المفاسد، ودفعِ أعلى المفسدتين باحتمالِ أدناهما، وتفويتِ أدنى المصلحتين لتحصل أعلاهما، تبَين لكَ القولُ الراجحُ مِن هذه الأقوال، وباللّه التوفيق‏.‏