فصل: فصل: في حكمه صلى الله عليه وسلم في قسمة الغنائم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: زاد المعاد في هدي خير العباد **


فصل‏:‏ في هديه صلى الله عليه وسلم في الأقضِيَة والأنكِحَة والبُيُوع

وليس الغرضُ من ذلك ذكر التشريع العام وإن كانت أقضيتهُ الخاصةُ تشريعاً عاماً، وإنما الغرضُ ذكرُ هديه في الحكومات الجزئية التي فصل بها بينَ الخصوم، وكيف كان هديهُ في الحكم بين الناس، ونذكرُ مع ذلك قضايا مِن أحكامه الكلية‏.‏

فصل

ثبت عنه صلى الله عليه وسلم من حديث بهزِ بن حكيم، عن أبيه، عن جده، ‏(‏أن النبى صلى الله عليه وسلم حَبَسَ رجلاً في تُهْمةٍ‏)‏‏.‏ قال أحمد وعلى بن المدينى‏:‏ هذا إسناد صحيح‏.‏

وذكر ابنُ زياد عنه صلى الله عليه وسلم في ‏(‏أحكامه‏)‏‏:‏ أنه صلى الله عليه وسلم سجن رجلاً أعتق شِرْكاً له في عبد، فوجب عليه استتمام عتقه حتى باع غُنَيْمَةً له‏.‏

فصل‏:‏ في حكمه فيمن قَتَلَ عبده

روى الأوزاعى، عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جدَّه، أن رجلاً قتل عبدَه متعِّمداً، فجلده النبىُّ صلى الله عليه وسلم مائة جلدةً، ونفاه سنةً، وأمره أن يعتِقَ رقبةً ولم يُقِدْهُ به‏.‏

وروى الإمام أحمد‏:‏ من حديث الحسن، عن سَمُرَةَ رضىَ اللَّهُ عنه، عنه صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏مَنْ قَتَلَ عَبْدَهُ قَتَلْنَاه‏)‏ فإن كان هذا محفوظاً، وقد سمعه منه الحسن، كان قتلُه تعزيزاً إلى الإمام بحسب ما يراه من المصلحة‏.‏

وأمرَ رجلاً بملازمة غريمه، كما ذكر أبو داود، عن النَّضر بن شُميل، عن الهِرماس بن حبيب، عن أبيه، عن جدِّه رضى اللَّهُ عنه قال‏:‏ أتيتُ النبىَّ صلى الله عليه وسلم بغريم لى، فقال لى‏:‏ ‏(‏الْزَمْهُ‏)‏ ثم قال لى‏:‏ ‏(‏يا أخا بنى سَهْم ما تُريدُ أنْ تَفْعَلَ بِأسِيرك‏)‏‏؟‏ وروى أبو عبيدٍ، أنه صلى الله عليه وسلم أمر بقتل القاتل، وصبْرِ الصابر‏.‏ قال أبو عبيد‏:‏ أى‏:‏ بحبسه للموتِ حتى يموت‏.‏

وذكر عبدُ الرزاق في ‏(‏مصنفه‏)‏ عن على‏:‏ يُحبس المُمْسِكُ في السِّجْنِ حتى يَموتَ‏.‏

فصل‏:‏ في حكمه في المحاربين

حَكم بقطع أيدِيهم، وأرجُلهِم، وسَمْلِ أعينهم، كما سملُوا عينَ الرِّعاء، وتركهم حتى ماتُوا جوعاً وعطشاً كما فعلوا بالرِّعاء‏.‏

فصل‏:‏ في حكمه بين القاتل وولى المقتول

ثبت في ‏(‏صحيح مسلم‏)‏‏:‏ عنه صلى الله عليه وسلم أن رجلاً ادَّعى على آخر أنه قتلَ أخاهُ، فاعترف، فقالَ‏:‏ ‏(‏دُونَكَ صَاحِبَكَ‏)‏، فلما ولَّى، قال‏:‏ ‏(‏إنْ قَتَلَهُ، فهو مِثْلُه‏)‏، فرجعَ فقال‏:‏ إنما أخذتُه بأمرك، فقال صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏أمَا تُريدُ أَن يَبوءَ بإثْمِكَ وإِثْم صَاحِبَكَ‏)‏‏؟‏ فقال‏:‏ بلى فخلّى سبيلَه‏.‏

وفى قوله‏:‏ ‏(‏فهو مثلُه‏)‏، قولان، أحدهما‏:‏ أن القاتل إذا قِيد منه، سقط ما عليه، فصار هو والمستفيدُ بمنزلةٍ واحدة، وهو لم يقل‏:‏ إنه بمنزلته قبل القتل، وإنما قال‏:‏ ‏(‏إن قتله فهو مثلُه‏)‏، وهذا يقتضى المماثلةَ بعد قتله، فلا إشكالَ في الحديث، وإنما فيه التعريضُ لصاحب الحقّ بترك القود والعفو‏.‏

والثانى‏:‏ أنه إن كان لم يُرد قتلَ أخيه قتلَه به، فهو متعدٍّ مثله إذ كان القاتل متعدياً بالجناية، والمقتصُّ متعدٍ بقتل من لم يتعمدِ القتلَ، ويدلُّ على التأويل ما روى الإمام أحمد في ‏(‏مسنده‏)‏‏:‏ من حديث أبى هُريرة رضى الله عنه قال‏:‏ قُتِلَ رجل على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فَرُفِعَ إلى رسولِ الله صلى الله عليه وسلم، فدفَعه إلى ولىَّ المقتول، فقال القاتِلُ‏:‏ يا رسولَ الله، ما أردتُ قتلَه، فقال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم للولى‏:‏ ‏(‏أمَا إنَّهُ إذَا كَانَ صَادِقاً، ثم قَتَلْتَه دَخَلْتَ النَّار‏)‏، فخلَّى سبيله‏.‏ وفى كتاب ابن حبيب في هذا الحديث زيادةُ، وهى‏:‏ قال النبىُّ صلى الله عليه وسلم‏:‏

‏(‏عَمْدُ يَدٍ، وخَطَأُ قَلْبٍ‏)‏‏.‏

فصل‏:‏ في حكمه بالقَوَدِ على من قتل جاريةً، وأنه يُفعَلُ به كما فَعَلَ

ثبت في ‏(‏الصحيحين‏)‏‏:‏ ‏(‏أن يهودياً رضَّ رأسَ جاريةٍ بينَ حجريْنِ على أوضاحٍ لها، أى‏:‏ حُلِىٍّ، فأُخِذَ، فاعْتَرَفَ، فأمر رسولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أن يُرَضَّ رأسُه بين حَجَرَيْنِ‏)‏‏.‏

وفى هذا الحديثِ دليلٌ على قتلِ الرجل بالمرأة، وعلى أن الجانىَ يُفعل به كمَا فَعَلَ، وأن القتل غيلة لا يُشترط فيه إذنُ الولى، فإنَّ رسولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لم يدفعه إلى أوليائها، ولم يقل‏:‏ إن شِئتُم فاقتلُوه، وإن شئتم فاعفوا عنه، بل قتله حتماً، وهذا مذهبُ مالك، واختيارُ شيخِ الإسلام ابن تيمية، ومن قال‏:‏ إنه فعل ذلك لِنقض العهد، لم يَصِحَّ، فإن ناقض العهد لا تُرضخُ رأسهُ بالحجارة، بل يُقتل بالسيف‏.‏

فصل‏:‏ في حكمه صلى الله عليه وسلم فيمن ضرب امرأةً حامِلاً فَطرحهَا

في ‏(‏الصحيحين‏)‏‏:‏ ‏(‏أن امرأتينِ من هُذيل رمت إحداهُما الأُخرى بحجَرٍ فقتلتها وما في بطنها، فقضى فيها رسولُ الله صلى الله عليه وسلم بغُرَّةً‏:‏ عَبْدٍ أَو ولِيدَةٍ في الجنين، وجعل دِيةَ المقتولةِ على عَصَبة القاتِلةِ‏)‏، هكذا في ‏(‏الصحيحين‏)‏‏.‏ وفى النسائى‏:‏ ‏(‏فقضى في حملها بغُرَّة، وأن تُقتل بها‏)‏، وكذلك قال غيرُه أيضاً‏:‏ إنه قتلها مكانها، والصحيح‏:‏ أنه لم يقتلها لما تقدم‏.‏ وقد روى البخارىُّ في ‏(‏صحيحه‏)‏ عن أبى هريرة رضى الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ‏(‏قضى في جنينِ امرأةٍ من بنى لَحيان بغُرَّةٍ‏:‏ عبدٍ أو وليدةٍ، ثم إن المرأة التي قضى عليها بالغُرة تُوفيت، فقضى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن ميراثها لبنيها وزوجها، وأن العقلَ على عصبتها‏)‏‏.‏

وفى هذا الحكم أن شِبهَ العمدِ لا يُوجب القود، وأن العاقِلَة تحمل الغُرَّةَ تبعاً للدية، وأن العاقلة هم العصبةُ، وأن زوجَ القاتلة لا يدخُلُ معهم، وأن أولادهَا أيضاً ليسوا مِن العاقِلة‏.‏

فصل‏:‏ في حكمه صلى الله عليه وسلم بالقَسامة فيمن لم يُعرف قاتِلُه

ثبت في ‏(‏الصحيحين‏)‏‏:‏ أنه صلى الله عليه وسلم حكم بها بين الأنصار واليهود، وقال لِحُوَيِّصَةَ ومُحَيِّصَةَ وعَبْدِ الرحمن‏:‏ ‏(‏أتَحْلِفُونَ وتَسْتَحِقُّونَ دَمَ صَاحِبكُم‏)‏‏؟‏ وقال البخارى‏:‏ ‏(‏وتستحقون قَاتِلَكُم أو صاحِبَكُم‏)‏، فقالوا‏:‏ أمرُ لم نشهده ولم نره، فقال‏:‏ ‏(‏فَتُبْرئكُم يَهُودُ بأَيْمَانِ خَمْسِينَ‏)‏، فَقَالُوا‏:‏ كيف نقبلُ أيمان قَوْمٍ كفار‏؟‏ فوداه رسولُ الله صلى الله عليه وسلم من عنده‏.‏

وفى لفظ‏:‏ ويُقْسِمُ خمسون منكم على رجل منهم، فيُدْفَعُ بِرُمَّتِهِ إليه‏)‏‏.‏

واختلف لفظُ الأحاديث الصحيحة في محل الدِّية، ففى بعضها أنه صلى الله عليه وسلم وداه مِن عنده، وفى بعضها وداه من إبل الصدقة‏.‏

وفى ‏(‏سنن أبى داود‏)‏‏:‏ أنه صلى الله عليه وسلم ‏(‏ألقى ديتَه على اليهود، لأنه وُجِدَ بينهم‏)‏‏.‏

وفى ‏(‏مصنف عبد الرزاق‏)‏‏:‏ أنه صلى الله عليه وسلم ‏(‏بدأ بيهود، فأبَوْا أن يحلِفُوا، فردَّ القسامةَ على الأنصار، فأبوا أن يحلِفُوا فجعل عَقلَه على يهود‏)‏‏.‏

وفى ‏(‏سنن النسائى‏)‏‏:‏ ‏(‏فجعل عقله على اليهود، وأعانهم ببعضِها‏)‏‏.‏

وقد تضمنت هذه الحكومة أموراً‏:‏

منها‏:‏ الحكمُ بالقَسامة، وأنها مِن دين الله وشرعه‏.‏

ومنها‏:‏ القتلُ بها لِقوله‏:‏ ‏(‏فيدفع بُرمَّتِهِ إليه‏)‏، وقوله في لفظ آخر‏:‏ ‏(‏وتستحِقُّونَ دمَ صاحبكم‏)‏، فظاهرُ القرآن والسنة القتلُ بأيمان الزوج الملاعن وأيمانِ الأولياء في القسامة، وهو مذهبُ أهل المدنية، وأما أهلُ العراق، فلا يقتلُونَ في واحد منهما، وأحمدُ يقتل في القسامةِ دون اللعان، والشافعى عكسه‏.‏

ومنها‏:‏ أنه يبدأ بأيمان المُدَّعِينَ في القَسامة بخلاف غيرِها من الدَّعاوى‏.‏

ومنها‏:‏ أن أهلَ الذِّمة إذا منعوا حقاً عليهم، انتقضَ عهدُهم لِقوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏إما أن تدوه، وإما أن تأذنُوا بحرب‏)‏‏.‏

ومنها‏:‏ أن المدَّعىَ عليه إذا بَعُدَ عن مجلس الحكم، كَتَبَ إليه، ولم يُشْخِصْهُ‏.‏

ومنها‏:‏ جوازُ العملِ والحُكم بِكتابِ القاضى وإن لم يُشهد عليه‏.‏

ومنها‏:‏ القضاء على الغائب‏.‏

ومنها‏:‏ أنه لا يُكتفى في القَسامة بأقلَّ من خمسين إذا وُجدوا‏.‏

ومنها‏:‏ الحكمُ على أهل الذمة بحكم الإسلام، وإن لم يتحاكموا إلينا إذا كان الحكمُ بينهم وبينَ المسلمين‏.‏

ومنها‏:‏ وهو الذي أشكل على كثيرٍ من الناس إعطاؤه الدية مِن إبل الصدقةِ، وقد ظنَّ بعضُ الناس أن ذلك مِن سهم الغارمين، وهذا لا يصِح، فإن غارِمَ أهلِ الذمة لا يُعطى من الزكاة، وظن بعضُهم أن ذلك مما فَضَل مِن الصدقة عن أهلها، فللإمام أن يصرِفه في المصالح، وهذا أقربُ مِن الأول، وأقربُ منه‏:‏ أنه صلى الله عليه وسلم وداه مِن عنده، واقترضَ الدية من إبل الصدقة، ويدل عليه‏:‏

‏(‏فواده من عنده‏)‏ وأقربُ من هذا كُلِّه أن يُقال‏:‏ لما تحمَّلَها النبىُّ صلى الله عليه وسلم لإصلاح ذات البين بين الطائفتين، كان حكمُها حكمَ القضاء على الغرم لما غرمه لإصلاح ذاتِ البين، ولعل هذا مرادُ من قَال‏:‏ إن قضاها مِن سهم الغارمين، وهو صلى الله عليه وسلم لم يأخذ منها لنفسه شيئاً، فإن الصدقةَ لا تحِلُّ له، ولكن جرى إعطاءُ الدية منها مجرى إعطاء الغارم منها لإصلاح ذات البين‏.‏ والله أعلم‏.‏

فإن قيل‏:‏ فكيف تصنعون بقوله ‏(‏فجعل عقلَه على اليهود‏)‏‏؟‏ فيقال‏:‏ هذا مجمل لم يحفظ راويه كيفيةَ جعله عليهم، فإنه صلى الله عليه وسلم لما كتب إليهم أن يدوا القتيلَ، أو يأذنوا بحربٍ، كان هذا كالإلزام لهم بالدِّية، ولكن الذي حفظوا أنهم أنكروا أن يكونوا قتلوا، وحلفوا على ذلك، وأن رسولَ الله صلى الله عليه وسلم وداه من عنده، حفِظُوا زيادة على ذلك، فهم أولى بالتقديم‏.‏

فإن قيل‏:‏ فكيف تصنعون برواية النسائى‏:‏ ‏(‏أنه قسمها على اليهود، وأعانهم ببعضها‏)‏‏؟‏ قيل‏:‏ هذا ليس بمحفوظ قطعاً، فإن الدية لا تلزم المدّى عليهم بمجرد دعوى أولياءِ القتيل، بل لا بُد من إقرار أو بينة، أو أيمان المدعين، ولم يُوجد هنا شىء من ذلك، وقد عرضَ النبىُّ صلى الله عليه وسلم أيمانَ القسامة على المدعين، فأَبَوْا أن يحلِفُوا، فكيف يلزم اليهود بالدية بمجرد الدعوى‏.‏

فصل‏:‏ في حُكمه صلى الله عليه وسلم في أربعةً سقطُوا في بئر، فتعلَّق بعضُهم ببعض، فهلكُوا

ذكر الإمام أحمد، والبزار، وغيرُهما، أن قوماً احتفروا بئراً باليمن، فسقط فيها رجلٌ، فتعلَّق بآخر، الثانى بالثالث، والثالث بالرابع، فسقطُوا جميعاً، فماتُوا، فارتفع أولياؤُهم إلى على بن أبى طالب رضى الله عنه، فقال‏:‏ اجمعُوا مَنْ حفر البئرَ مِن النَّاسِ، وقضى للأول بُربع الدية، لأنه هلك فوقَه ثلاثة، وللثانى بُثلثها لأنه هلك فوقه اثنان، وللثالث بنصفهما لأنه هلك فوقَه واحد، وللرابع بالدية تامة، فأَتوا رسولَ الله صلى الله عليه وسلم العامَ المقبلَ، فقصُّوا عليه القِصَّة، فقال‏:‏ ‏(‏هُوَ مَا قضَى بَيْنكُمْ‏)‏، هكذا سياقُ البزار‏.‏

وسياق أحمد نحوه، وقال‏:‏ ‏(‏إنهم أَبَوْا أَن يرضوا بقضاء على، فَأَتْوا رسولَ الله صلى الله عليه وسلم وهو عند مقام إبراهيم عليه السلام، فقصُّوا عليه القِصة، فأجازه رسولُ الله صلى الله عليه وسلم، وجعل الدية على قبائل الذين ازدحموا‏)‏‏.‏

فصل‏:‏ فيمن تزوج إمرأة أبيه

روى الإمام أحمد، والنسائى وغيرُهما‏:‏ عن البراء رضى الله عنه، قال‏:‏ لقيتُ خالى أبا بُردة ومعه الراية، فقال‏:‏ ‏(‏أرسلنى رسولُ الله صلى الله عليه وسلم إلى رجلٍ تزوَّج امرأة أبيه أن أقتُله وآخذ ماله‏)‏‏.‏

وذكر ابن أبى خيثمة في ‏(‏تاريخه‏)‏، من حديث معاوية بن قُرة، عن أبيه، عن جده، رضى الله عنه، أن رسولَ الله صلى الله عليه وسلم بعثه إلى رجل أعْرسَ بامرأةِ أبيه، فضرب عنقَه، وخمَّسَ ماله‏.‏ قال يحيى بن معين‏:‏ هذا حديث صحيح‏.‏

وفى ‏(‏سنن ابن ماجه‏)‏ من حديث ابن عباس قال‏:‏ قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏مَنْ وَقَعَ عَلى ذَاتِ مَحْرمٍ فَاقْتُلُوهُ‏)‏‏.‏

وذكر الجوزجانى، أنه رُفِعَ إلى الحجاجِ رجلٌ اغتصبَ أختَه على نفسها، فقال‏:‏ احبِسُوهُ، وسلوا مَنْ هاهنا من أصحابِ رسول الله صلى الله عليه وسلم، فسألوا عبد الله بن أبى مطرِّف رضى الله عنه، فقال‏:‏ سمعتُ رسول الله يقول‏:‏ ‏(‏مَنْ تَخَطَّى حُرَمَ المُؤْمِنِينَ، فَخُطُّوا وَسَطَه بالسَّيفِ‏)‏‏.‏

وقد نص أحمد في رواية إسماعيل بن سعيد، في رجل تزوَّج امرأة أبيه أو بذاتِ محرم، فقال‏:‏ يُقتل، ويُدخل مالُه في بيت المال‏.‏

وهذا القولُ هو الصحيح، وهو مقتضى حكمِ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم‏.‏

وقال الشافعى ومالك وأبو حنيفة‏:‏ حدُّه حدُّ الزانى، ثم قال أبو حنيفة‏:‏ إن وطئها بعد، عُزِّرَ، ولا حد عليه، وحكمُ رسول الله صلى الله عليه وسلم وقضاؤه أحق وأولى‏.‏

فصل‏:‏ في حُكمه صلى الله عليه وسلم بقتل من اتُّهِمَ بأم ولده فلما ظهرت براءتُه، أمسك عنه

روى ابن أبى خيثمة وابن السكن وغيرُهما من حديث ثابت، عن أنس رضى الله عنه، أن ابنَ عمِّ ماريةَ كان يُتَّهم بها، فقال النبىُّ صلى الله عليه وسلم لعلى بن أبى طالب رضى الله عنه‏:‏ ‏(‏اذْهَبْ فَإنْ وَجَدْتَهُ عِنْدَ مَارِيَةَ، فاضْرِبْ عُنُقَهُ‏)‏، فأتاهُ علىٌّ فإذا هو في رَكِىٍّ يتبَرَّدُ فيها، فقال له على‏:‏ اخرج، فناوله يده، فأخرجه، فإذا هو مجبوبٌ ليس له ذكر، فكفَّ عنه على، ثم أتى النبىَّ صلى الله عليه وسلم، فقال‏:‏ يا رسول الله‏:‏ إنه مجبوب، ماله ذكر‏.‏ وفى لفظ آخر‏:‏ أنه وجده في نخلة يجمع تمراً، وهو ملفوفٌ بخرقة، فلما رأى السيفَ، ارتعد وسقطت الخِرقة، فإذا هو مجبوبٌ لا ذكر له‏.‏

وقد أشكلَ هذا القضاءُ على كثيرٍ من الناس، فطعن بعضُهم في الحديث، ولكن ليس في إسناده من يتعلَّق عليه، وتأوَّله بعضُهم على أنه صلى الله عليه وسلم لم يُردْ حقيقةَ القتل، إنما أرادَ تخويفَه ليزدجِرَ عن مجيئه إليها‏.‏ قال‏:‏ وهذا كما قال سليمان للمرأتين اللتين اختصمتا إليه في الولد‏:‏ ‏(‏على بالسِّكين حتى أشُقَّ الولد بينهما‏)‏، ولم يرد أن يفعل ذلك، بل قصد استعلامَ الأمر من هذا القول، ولذلك كان مِن تراجم الأئمة على هذا الحديث‏:‏ باب الحاكم يُوهم خلاف الحق لِيتوصل به إلى معرفة الحق، فأحبَّ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم أن يَعرِفَ الصحابة براءته، وبراءة مارية، وعلم أنه إذا عاين السيفَ، كشف عن حقيقة حاله، فجاء الأمرُ كما قدَّره رسولُ الله صلى الله عليه وسلم‏.‏

وأحسنُ من هذا أن يقال‏:‏ إن النبى صلى الله عليه وسلم أمر علياً رضى الله عنه بقتله تعزيراً لإقدامه وجرأته على خلوته بأم ولده، فلما تبيَّن لعلى حقيقة الحال، وأنه برىء من الريبة، كفَّ عن قتله، واستغنى عن القتل بتبيين الحال، والتعزيرُ بالقتل ليس بلازم كالحدِّ، بل هو تابعٌ للمصلحة دائرٌ معها وجوداً وعدماً‏.‏

فصل‏:‏ في قضائه صلى الله عليه وسلم في القتيل يُوجد بينَ قريتين

روى الإمام أحمد، وابن أبى شيبة، من حديث أبى سعيد الخدرى رضىَ الله عنه قال‏:‏ ‏(‏وُجدَ قتيلٌ بَينَ قريتينِ، فأمر النبىُّ صلى الله عليه وسلم فَذَرَعَ ما بينهما، فوُجِدَ إلى أحدهما أقرب، فكأنى أنظر إلى شِبر رسول الله صلى الله عليه وسلم، فألقاهُ عَلَى أقربِهِمَا‏)‏‏.‏وفى ‏(‏مصنف عبد الرزاق‏)‏ قال عمرُ بن عبد العزيز‏:‏ ‏(‏قضى رسولُ الله صلى الله عليه وسلم فيما بلغنا في القتيل يُوجد بين ظهرانى دِيارِ قومٍ‏:‏ أنَّ الأيمانَ على المدَّعى عليهم، فإن نَكَلُوا، حُلِّفَ المدعون، واستحقُّوا، فإن نكل الفريقانِ، كانت الديةُ نِصفُها على المدَّعى عليهم، وبطل النصفُ إذا لم يحلِفُوا‏)‏‏.‏

وقد نص الإمام أحمد في رواية المروَزى على القول بمثل رواية أبى سعيد، فقال‏:‏ قلت لأبى عبد الله‏:‏ القومُ إذا أعطوا الشىء، فتبينوا أنه ظُلِمَ فيه قوم‏؟‏ فقال‏:‏ يُرد عليهم إن عُرِفَ القوم‏.‏ قلت‏:‏ فإن لم يُعرفوا‏؟‏ قال‏:‏ يُفرَّق على مساكين ذلك الموضع، فقلت‏:‏ فما الحُجة في أن يُفرَّق على مساكين ذلك الموضع‏؟‏ فقال‏:‏ عمر بنُ الخطاب رضى الله عنه جعل الديةَ على أهل المكانِ يعنى القرية التي وُجِدَ فيها القتيل، فأراه قال‏:‏ كما أن عليهم الدية هكذا يُفرَّقُ فيهم، يعنى‏:‏ إذا ظُلِمَ قوم منهم ولم يُعرفوا، فهذا عمر بن الخطاب رضى الله عنه قد قضى بموجب هذا الحديث، وجعل الديةَ على أهل المكان الذي وُجِدَ فيه القتيلِ، واحتج به أحمد، وجعل هذا أصلاً في تفريق المال الذي ظُلم فيه أهلُ ذلك المكان عليهم إذا لم يُعرفوا بأعيانهم‏.‏

وأما الأثر الآخر، فمرسل لا تقومُ بمثله حجة، ولو صحَّ تعيَّن القولُ بمثله، ولم تَجُز مخالفته، ولا يُخالف باب الدعاوى، ولا باب القسامة، فإنه ليس فيهم لَوْثٌ ظاهر يُوجب تقديم المدعين، فيقدم المدَّعى عليهم في اليمين، فإذا نَكَلُوا، قوىَ جانبُ المدَّعين من وجهين‏:‏ أحدهما‏:‏ وجودُ القتيل بين ظهرانيهم‏.‏ والثانى‏:‏ نكولُهم عن براءة ساحتهم باليمن، وهذا يقومُ مقامَ اللوثِ الظاهر، فَيَحْلِفُ المدَّعون، ويستحقون، فإذا نكل الفريقانِ كلاهما، أورث ذلك شبهةً مركبة من نكول كُلِّ واحد منهما، فلم ينهض ذلك سبباً لإيجاب كمال الدية عليهم إذا لم يحلِف غرماؤهم، ولا إسقاطُها عنهم بالكلية حيث لم يحلِفُوا، فجعلت الدية نصفين، ووجب نصفُها على المدَّعى عليهم لثبوت الشبهة في حقهم بترك اليمين، ولم تَجِب عليهم بكمالها، لأن خُصومَهم لم يحلِفُوا، فلما كان اللوثُ متركباً من يمين المدعين، ونكول المدَّعى عليهم، ولم يتمَّ، سقط ما يقابل أيمان المدعين وهو النصفُ، ووجب ما يُقابل نكول المدَّعى عليهم وهو النصف، وهذا مِن أحسن الأحكام وأعدِلها، وبالله التوفيق‏.‏

فصل‏:‏ في قضائه صلى الله عليه وسلم بتأخير القِصاصِ من الجُرح حتى يَنْدَمِلَ

ذكر عبد الرزاق في ‏(‏مصنفه‏)‏ وغيرُه‏:‏ من حديث ابن جريج، عن عمرو بن شعيب قال‏:‏ ‏(‏قضى رسولُ الله صلى الله عليه وسلم في رجل طعن آخر بقرن في رجله، فقال‏:‏ يا رسول الله‏:‏ أقِدْنى، فقال‏:‏ ‏(‏حَتَّى تَبْرَأَ جِرَاحُكَ‏)‏، فأبى الرجل إلاَّ أن يستقيده، فأقاده النبىُّ صلى الله عليه وسلم، فصحَّ المستقادُ منه، وعرج المستقيد، فقال‏:‏ عرجتُ وبرأ صاحبى، فقال النبىُّ صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏أَلَمْ آمُرْكَ أَن لا تَستَقيدَ حَتَّى تَبْرأَ جِراحُكَ فَعَصَيْتَنى، فَأَبعدَكَ اللَّهُ وبطل عَرجك‏)‏، ثم أمر رسولُ الله صلى الله عليه وسلم من كان به جُرح بعد الرجل الذي عَرَجَ أن لا يُستقاد منه حتى يبرأ جرح صاحبه‏.‏ فالجراح على ما بلغ حتى يبرأ، فما كان مِن عَرَج أو شللَ، فلا قود فيه، وهو عقل، ومن استقاد جرحاً، فأصيب المستقادُ منه، فعقل ما فضل من دِيته على جُرح صاحبه له‏.‏

قلت‏:‏ الحديثُ في ‏(‏مسند الإمام أحمد‏)‏‏.‏ من حديث عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جدِّه متصل،‏(‏ أن رجلاً طعن بِقَرْن في رُكْبَتِهِ فجاء إلى النبىِّ صلى الله عليه وسلم فقال‏:‏ أقدنى‏.‏ فقال‏:‏ حَتَّى تَبْرَأَ‏)‏، جاء إليه فقال‏:‏ أَقِدْنى‏.‏ فأقاده، ثم جاء إليه، فقال‏:‏ يا رسولَ الله، عرجتُ، فقال‏:‏ ‏(‏قَدْ نَهَيْتُكَ فَعَصَيْتَنى، فَأَبْعَدَكَ الله وبَطَّلَ عَرْجَتَكَ‏)‏، ثم نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يُقتصَّ مِن جُرح حتى يبَرأ صاحبه‏)‏‏.‏

وفى سنن الدارقطنى‏:‏ عن جابر رضى الله عنه، ‏(‏أن رجلاً جُرِحَ، فأرادَ أَن يستقيدَ، فنهى رسولُ الله صلى الله عليه وسلم أن يُستقاد مِن الجارح حتى يبرَأ المجروحُ‏)‏‏.‏وقد تضمنتَ هذه الحكومةُ، أنه لا يجوز الاقتصاصُ مِن الجُرح حتى يسِتقرَّ أمرُه، إما باندمالٍ، أو بسِراية مستقرة، وأنَّ سراية الجناية مضمونة بالقود، وجوازِ القِصاص في الضربة بالعصا والقَرن ونحوهما، ولا ناسخ لهذه الحكومة، ولا مُعارِضَ لها، والذي نسخ بها تعجيلُ القصاص قبل الاندمال لا نفسُ القصاص فتأمله، وأن المجنى عليه إذا بادر واقتصَّ من الجانى، ثم سرتِ الجناية إلى عُضو من أعضائه، أو إلى نفسه بعد القصاص، فالسرايةُ هدر‏.‏وأنه يُكتفى بالقصاص وحدَه دون تعزير الجانى وحبسِه، قال عطاء‏:‏ الجروحُ قِصاص، وليس للإمام أن يضرِبَه ولا يسجِنه، إنما هو القصاص، وما كان ربك نسياً، ولو شاء، لأمر بالضرب والسجن‏.‏ وقال مالك‏:‏ يُقتص منه بحقِّ الآدمى، ويُعاقب لجرأته‏.‏

والجمهور يقولون‏:‏ القصاصُ يُغنى عن العقوبة الزائدة، فهو كالحدِّ إذا أُقيم على المحدود، لم يحتج معه إلى عقوبة أخرى‏.‏

والمعاصى ثلاثة أنواع‏:‏ نوعٌ عليه حدٌّ مقدَّر، فلا يُجمع بينه وبين التعزير‏.‏ ونوعٌ لا حدَّ فيه، ولا كفارة، فهذا يُردع فيه بالتعزير، ونوع فيه كفارة، ولا حد فيه، كالوطء في الإحرام والصيام، فهل يُجمع فيه بين الكفارة والتعزير‏؟‏ على قولين للعلماء، وهما وجهان لأصحاب أحمد، والقِصاص يجرى مجرى الحدِّ، فلا يُجمع بينه وبين التعزير‏.‏

فصل‏:‏ في قضائِهِ صلى الله عليه وسلم بالقِصاصِ في كسرِ السن

في ‏(‏الصحيحين‏)‏‏:‏ من حديث أنس، أن ابنة النضر أختَ الرُّبَيِّعِ لطمَتْ جَارِية، فكسرت سِنَّها، فاختصمُوا إلى النبىِّ صلى الله عليه وسلم، فأمر بالقِصاصِ، فقالت أُمُّ الرُّبَيِّعِ‏:‏ يا رسول الله، أَيقتص مِن فُلانة، لا والله لا يُقْتَصُّ منها، فقال النبى صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏إنَّ مِنْ عِبَادِ اللَّهِ مَنْ لَوْ أَقْسَمَ عَلَى اللَّهِ لأَبَرَّهُ‏)‏‏.‏

فصل‏:‏ في قضائه صلى الله عليه وسلم فيمن عضَّ يدَ رَجُلٍ، فانتزع يده من فيه، فسقطت ثنية العاض بإهدارها

ثبت في ‏(‏الصحيحين‏)‏‏:‏ أن رجلاً عضَّ يدَ رجل، فنزع يدَه من فيه، فوقعت ثناياه، فاختصمُوا إلى النبىَّ صلى الله عليه وسلم، فقال‏:‏ ‏(‏يَعَضُّ أحَدُكُم أَخَاهُ كما يَعَضُّ الفَحْلُ، لا دِيةَ لَكَ‏)‏‏.‏

وقد تضمَّنتْ هذه الحكومةُ أن مَنْ خلَّص نَفَسَه مِن يدِ ظالمٍ له، فَتَلِفَتْ نَفْسُ الظالم، أو شىءٌ مِنْ أطرافه أو مَالِهِ بذلك، فهو هَدْرٌ غَيْرُ مضمون‏.‏

فصل‏:‏ في قضائه صلى الله عليه وسلم فيمن أطلع في بيت رجُلٍ بغير إذنه، فَحذَفَهُ بحَصَاةٍ أَو عُود، ففقأ عينه، فلا شىء عليه

ثبت في ‏(‏الصحيحين‏)‏ من حديث أبى هريرة رضى الله عنه، عن النبى صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏لَوْ أَنَّ امرءاً اطَّلعَ عَلَيْكَ بِغَيْرِ إِذْن، فَحذَفْتَهُ، بِحَصَاةٍ، فَفَقَأَتْ عَيْنَهُ، لَمْ يَكُنْ عَلَيْكَ جُنَاحٌ‏)‏‏.‏

وفى لفظ فيهما‏:‏ ‏(‏مَنِ اطَّلعَ في بَيْتِ قَوْمٍ بِغَيْرِ إذْنِهِمْ، فَفَقَؤُوا عَيْنَهُ، فَلاَ دِيةَ لَهُ ولا قِصَاصِ‏)‏‏.‏

وفيهما‏:‏ ‏(‏أن رجلاً اطلعَ من جُحْرٍ في بعضِ حُجَرِ النبىِّ صلى الله عليه وسلم، فقام إليهِ بمِشْقَصٍ، وجعلَ يختِلهُ لِيطعَنه‏)‏، فذهب إلى القول بهذه الحكومة، إلى التي قبلها فقهاءُ الحديث، منهم‏:‏ الإمامُ أحمد، والشافعى ولم يقل بها أبو حنيفة ومالك‏.‏

فصل‏:‏ قضاء متنوع في القتل والدية

وقضَى رسولُ الله صلى الله عليه وسلم ‏(‏أن الحامِلَ إذا قَتَلَت عمداً لا تُقتل حتى تضَعَ ما في بطنها وحتَّى تُكَفِّلَ وَلَدَهَا‏)‏‏.‏ ذكره ابن ماجه في ‏(‏سننه‏)‏‏.‏

وقضى ‏(‏أن لا يُقتل الوالدُ بالولَدِ‏)‏‏.‏ ذكره النسائى وأحمد‏.‏

وقضى ‏(‏أن المؤمنين تتكافأ دماؤهم، ولا يُقْتَل مؤمِنٌ بكافر‏)‏‏.‏

وقضى أن من قُتِلَ له قتيل، فأهله بَيْنَ خِيرَتَيْنِ، إما أن يقتلُوا أو يأخذوا العقل‏.‏ وقضى أن في دية الأصابع من اليدين والرِّجلين في كل واحدة عشراً مِن الإبل‏.‏ وقضى في الأسنان في كل سِن بخمسٍ من الإبل، وأنها كلها سواء، وقضى في المواضح بخمسٍ خمسٍ‏.‏وقضى في العين السَّادة لمكانها إذا طُمِسَتْ بثلث ديتها، وفى اليد الشلاء إذا قُطِعَتْ بثلث ديتها، وفى السِّنِّ السوداء إذا نُزعَتْ بثلث ديتها‏.‏

وقضى في الأنف إذا جُدِعَ كُلُّه بالدية كاملة، وإذا جُدِعَتْ أرنبتُه بنصف الدية‏.‏

وقضى في المأمومة بثُلُث الدية، وفى الجائفة بثلثها، وفى المُنَقِّلَةِ بخمسةَ عشرَ من الإبل‏.‏ وقضى في اللسان بالدية، وفى الشفتين بالدية، وفى البَيْضَتَيْنِ بالدية، وفى الذَّكَرِ بالدية، وفى الصُّلْب بالدية، وفى العينين بالدية، وفى إحداهما بنصفها، وفى الرجل الواحدة بنصف الدية، وفى اليد بنصف الدية، وقضى أن الرجل يُقتل بالمرأة‏.‏

وقضى أن دية الخطأ على العاقلة مائة من الإبل، واختلفت الرواية عنه في أسنانها، ففى السنن الأربعة عنه من حديث عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده‏:‏ ‏(‏ثَلاَثُونَ بِنْتَ مَخَاضٍ، وثَلاَثُونَ بِنْتَ لَبُون، وثَلاَثُونَ حِقَّةً، وعَشَرةُ بنى لَبُونٍ ذَكَرٍ‏)‏‏.‏

قال الخطابى‏:‏ ولا أعلم أحداً مِن الفقهاء قال بهذا‏.‏

وفيها أيضا من حديث ابن مسعود‏:‏ أنها أخماسٌ‏:‏‏(‏عِشرون بنتَ مَخَاضٍ، وعشرون بنت لَبون، وعشرون ابن مخاض، وعشرون حِقَّة، وعِشرونَ جَذَعَة‏)‏‏.‏

وقضى في العمد إذا رضُوا بالدَّية ثلاثين حِقَّة، وثلاثين جَذَعة، وأربعين خَلِفَة، وما صُولحوا عليه، فهو لهم‏.‏

فذهب أحمد وأبو حنيفة إلى القول بحديث ابن مسعودٍ رضى الله عنهما، وجعل الشافعى ومالك بدل ابن مخاض ابن لبون، وليس في واحد من الحديثين‏.‏

وفرضها النبىُّ صلى الله عليه وسلم على أهل الإبل مائة من الإبل، وعلى أهل البقر مائتى بقرة، وعلى أهلِ الشاءِ ألفى شاة، وعلى أهل الحُلَلِ مائتى حُلة‏.‏

وقال عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده رضى الله عنه أنه صلى الله عليه وسلم ‏(‏جعلها ثمانمائة دينار، أو ثمانمائة آلاف درهم‏)‏‏.‏

وذكر أهل السنن الأربعة من حديث عكرمة، عن ابن عباس رضى الله عنهما،‏(‏أن رجلاً قُتِلَ، فجعلَ النبى صلى الله عليه وسلم ديتَه اثنى عشَرَ أَلفاً‏)‏‏.‏

وثبت عن عمر أنه خطب فقال‏:‏ إن الإبلَ قد غلت، ففرضها على أهلِ الذهب ألفَ دينار، وعلى أهل الوَرِقِ عشر ألفاً، وعلى أهلِ البقر مائتى بقرة، وعلى أهل الشاءِ ألفى شاة، وعلى أهل الحُلل مائتى حلة، وترك دِية أهل الذمة، فلم يرفعها فيما رَفَعَ مِن الدية‏.‏

وقد روى أهلُ السنن الأربعة عنه صلى الله عليه وسلم‏:‏

‏(‏دِيَةُ المعَاهَدِ نِصْفُ دِيَةِ الحُرِّ‏.‏ ولفظ ابن ماجه‏:‏ قضى أن عقلَ أَهْلِ الكِتَابينِ نِصْفُ عَقْلِ المسلمين، وهم اليهود والنصارى‏)‏‏.‏

واختلف الفقهاء في ذلك، فقال مالك‏:‏ ديتهم نصفُ دية المسلمين في الخطأ والعمد، وقال الشافعى‏:‏ ثلثُها في الخطأ والعمد‏.‏ وقال أبو حنيفة‏:‏ بل كِدَية المسلم في الخطأ والعمد‏.‏ وقال الإمام أحمد‏:‏ مثلُ دية المسلم في العمد‏.‏ وعنه في الخطأ روايتان، إحداهما‏:‏ نصفُ الدية، وهى ظاهر مذهبه‏.‏ والثانية‏:‏ ثلثها، فأخذ مالك بظاهر حديث عمرو بن شعيب، وأخذ الشافعىُّ بأن عُمَرَ جعل ديته أربعة آلاف، وهى ثلثُ دية المسلم، وأخذ أحمدُ بحديث عمرو إلا أنه في العمدِ ضَعَّفَ الدية عقوبة لأجل سقوط القصاص، وهكذا عنده مَنْ سقط عنه القصاص، ضُعِّفت عليه الدية عقوبة، نص عليه توفيقاً، وأخذ أبو حنيفة بما هو أصلُه من جريان القصاص بينهما، فتتساوى ديتُهما‏.‏

وقضى صلى الله عليه وسلم ‏(‏أن عقلَ المرأة مِثْلُ عقل الرجل إلى الثلث من ديتها‏)‏ ذكره النسائى‏.‏ فتصير على النصف من ديته، وقَضى بالدية على العاقلة، وبرأ منها الزوج، وولد المرأة القاتلة‏.‏

وقضى في المكاتب أنه إذا قُتِلَ يُودى بقدر ما أَدَّى من كتابته دية الحر، وما بقى فدية المملوك، قلت‏:‏ يعنى قيمته، وقضى بهذا القضاء علىُّ بن أبى طالب، وإبراهيم النَّخعى، ويُذكر رواية عن أحمد، وقال عمر‏:‏ إذا أَدَّى شطرَ كتابته كان غريماً، ولا يرجع رقيقاً، وبه قضى عبدُ الملك بن مروان‏.‏ وقال ابن مسعود‏:‏ إذا أدَّى الثلث، وقال عطاء‏:‏ إذا أدَّى ثلاثة أرباع الكتابة، فهو غريم، والمقصود‏:‏ أن هذا القضاء النبوىَّ لم تُجمع الأمةُ على تركه، ولم يُعلم نسخه‏.‏

وأما حديث ‏(‏المكَاتبُ عَبْدٌ مَا بَقِىَ عَلَيْهِ دِرْهَم‏)‏ فلا معارضة بينه وبين هذا القضاء، فإنه في الرق بعد، ولا تحصل حريته التامة إلا بالأداء‏.‏

فصل‏:‏ في قضائه صلى الله عليه وسلم على من أقر بالزنى

ثبت في صحيح البخارى ومسلم أن رجلاً من أسلم جاء إلى النبىِّ صلى الله عليه وسلم، فاعترف بالزنى، فأعرض عنه النبىُّ صلى الله عليه وسلم، حتى شَهِدَ على نفسه أربعَ مرَّاتٍ، فقال النبىُّ صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏أَبِكَ جُنونٌ‏)‏‏؟‏ قال‏:‏ لا‏.‏ قال‏:‏ ‏(‏أَحْصَنْتَ‏)‏‏؟‏ قَالَ‏:‏ نعم، فأمَرَ بهِ، فَرُجمَ في المصلَّى، فلمَّا أذلَقَتْهُ الحجارةُ، فرَّ فأَدْرِكَ، فُرجِم حتى مات، فقال النبى صلى الله عليه وسلم خيراً، وصلىَّ عليه‏.‏

وفى لفظ لهما‏:‏ أنه قال‏:‏ له ‏(‏أَحَقُّ مَاَ بَلَغَنى عَنْكَ‏)‏، قال‏:‏ وما بلغك عنى، قال‏:‏ بَلَغَنى أنَّكَ وَقَعْتَ بجَارِيَةِ بنى فُلاَنٍ‏)‏ فقال‏:‏ نعم، قال‏:‏ فَشَهِدَ على نفسه أربعَ شهاداتٍ، ثم دعاه النبىُّ صلى الله عليه وسلم فقال‏:‏ ‏(‏أبِكَ جُنُونٌ‏)‏، قال‏:‏ لا، قَالَ‏:‏ ‏(‏أحْصَنْتَ‏)‏ ؛ قال‏:‏ نعم، ثم أمَرَ بِهِ فَرُجِمَ‏.‏

وفى لفظ لهما‏:‏ فلما شهد على نفسه أربَعَ شهادات، دعاه النبىُّ صلى الله عليه وسلم فقال‏:‏ ‏(‏أبِكَ جنُونٌ‏)‏ ؛ قال‏:‏ لا‏.‏ قال‏:‏ ‏(‏أَحْصَنْتَ‏)‏‏؟‏ قال‏:‏ نعم‏.‏ قالَ‏:‏ اذْهَبُوا بهِ، فَارجُمُوه‏)‏‏.‏وفى لفظ للبخارى‏:‏ أن النبى صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏لَعَلَّكَ قَبَّلْتَ أو غَمَزْتَ، أو نَظَرْتَ‏)‏، قال‏:‏ لا يا رسول الله‏.‏ قال‏:‏ ‏(‏أَنِكْتَهَا‏)‏ لا يَكْنى، قال‏:‏ نعم، فَعِنْدَ ذلك أمر برجمه‏.‏

وفى لفظ لأبى داود‏:‏ أنه شَهد على نفسه أربعَ مرات، كُلُّ ذلك يُعْرِضُ عنه، فَأَقبِل في الخامسة، قال‏:‏ ‏(‏أَنِكْتَهَا‏)‏‏؟‏ قال‏:‏ نعم‏.‏ قال‏:‏ ‏(‏حَتَّى غَاب ذلِكَ مِنْكَ في ذلِكَ مِنْهَا‏)‏‏؟‏ قال‏:‏ نعم‏.‏ قال‏:‏ ‏(‏كَمَا يغِيبُ المِيلُ في المُكْحُلَةِ والرِّشاء في البئرِ‏)‏‏؟‏ قال‏:‏ نعم‏.‏ قال‏:‏ ‏(‏فَهَلْ تَدْرى مَا الزِّنَى‏)‏‏؟‏ قال‏:‏ نعم أتيتُ منها حراماً ما يأتى الرجلُ من امرأته حلالاً‏.‏ قال‏:‏ ‏(‏فَمَا تُريدُ بِهذا القَوْلِ‏)‏‏؟‏ قال‏:‏ أريدُ أن تطهِّرنى قال‏:‏ فأَمَرَ به فَرُجِمَ‏.‏

وفى ‏(‏السنن‏)‏‏:‏ أنه لما وجدَ مسَّ الحِجارة، قال‏:‏ يا قومُ رُدُّونى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإن قومى قتلونى، وغرُّونى من نفسى، وأخبرونى أن رسولَ الله صلى الله عليه وسلم غيرُ قاتلى‏.‏

وفى ‏(‏صحيح مسلم‏)‏‏:‏ ‏(‏فجاءت الغامدية فقالت‏:‏ يا رسولَ اللِّه إنى قد زنيتُ فطهِّرنى، وأنه ردَّها، فلما كان مِن الغد، قالت‏:‏ يا رسول اللِّهِ ثم تَرُدُّنى، لعلك أن تَرُدَّنى كما رددتَ ماعزاً‏؟‏ فوالله إنى لحبلى، قال‏:‏ إمَّا لاَ، فاذْهبى حَتَّى تَلِدى‏)‏، فلما ولدت، أتته بالصبىِّ في خِرقة، قالت‏:‏ هذا قد ولدتُه، قال‏:‏ ‏(‏اذْهبى فَأَرْضِعِيهِ حَتَّى تَفْطِمِيهِ‏)‏، فلما فطمته، أتته بالصبىِّ في يده كِسرة خبز، فقالت‏:‏ هذا يا نبىَّ الله قد فطمتُه، وقد أكل الطعامَ، فدفع الصبىَّ إلى رجل من المسلمين، ثم أَمَرَ بها، فَحُفِرَ لها إلى صدرها، وأمر الناسِ فرجموها، فأقبل خالدُ بن الوليدِ بحجرٍ، فرمى رأسها، فانتضحَ الدمُ على وجهِ، فسبَّها، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏مَهْلاً يا خَالِدُ فَوَالَّذى نَفْسى بيَده، لَقَدْ تَابَتْ تَوْبَةً لَوْ تَابَهَا، صَاحِبُ مَكْسٍ لَغُفِرَ لَهُ‏)‏ ثم أمر بها، فصلى عليها، ودُفنت‏.‏وفى ‏(‏صحيح البخارى‏)‏‏:‏ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قضى فيمن زنى، ولم يُحْصِنْ بنفى عامٍ، وإقامةِ الحدِّ عليه‏.‏وفى ‏(‏الصحيحين‏)‏‏:‏ أن رجلاً قال له‏:‏ أنشُدُكَ باللِّهِ إلا قضيتَ بيننا بكتابِ الله، فقام خصمه، وكان أفقَه مِنه، فقال‏:‏ صَدَقَ اقْضِ بيننا بكتابِ اللَّهِ، وائذن لى، فقال‏:‏‏(‏قل‏)‏ قال‏:‏ إن ابنى كانَ عسيفاً على هذا، فزنى بامرأته، فافتديتُ منه بمائة شاةٍ وخادِم، وإنى سألتُ أهلَ بالعلم، فأخبرونى أن على ابنى جَلْدَ مائةٍ وتغريبَ عام، وأن على امرأةِ هذا الرجم، فقال‏:‏ ‏(‏والذي نَفْسِى بَيَدِهِ لأَقْضِيْنَّ بَيْنَكُمَا بِكِتَابِ اللَّهِ، المائَةُ والخَادِمُ رَدُّ عَلَيْكَ، وعلى ابْنِكَ جَلْدُ مائَةٍ وتَغٌرِيبُ عَامٍ، واغْدُ يا أُنيسُ عَلَى امْرَأَةِ هذَا، فاسْأَلْهَا، فإن اعْتَرَفَتْ فَارْجُمْها‏)‏، فاعْتَرَفَتْ فَرَجَمَها‏.‏

وفى ‏(‏صحيح مسلم‏)‏ عنه صلىالله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏الثِّيبُ بالثَّيب جلدُ مائةٍ والرجْمُ، والبِكْرُ بالبِكْرِ جَلْدُ مائَةٍ وتغريب عام‏)‏‏.‏

فتضمنت هذه الأقضية رجمَ الثيب، وأنه لا يُرجم حتى يُقِرَّ أربع مراتٍ، وأنه إذا أقر دون الأربع، لم يلزم بتكميل نصاب الإقرار، بل للإمام أن يُعْرِضَ عنه، ويعرض له بعدم تكميل الإقرار‏.‏وأن إقرارَ زائل العقل بجنون، أو سكر ملغى لا عِبرة به، وكذلك طلاقهُ وعِتقُه، وأيمانُه ووصيتُه‏.‏

وأن الحر المحصَن إذا زنى بجارية، فحده الرجم، كما لو زنى بحرة‏.‏

وأن الإمام يُستحب له أن يُعرِّض للمقر بأن لا يُقِرّ، وأنه يجب استفسارُ المقرِّ في محل الإجمال، لأن اليدَ والفمَ والعين لما كان استمتاعُها زنى استفسر عنه دفعاً لاحتماله‏.‏

وأن الإمام له أن يصرح باسم الوطء الخاص به عند الحاجة إليه كالسؤال عن الفعل‏.‏

وأن الحد لا يجبَ على جاهل بالتحريم، لأنه صلى الله عليه وسلم سأله عن حكم الزنى، فقال‏:‏ أأتيتُ منها حراماً ما يأتى الرجل مِن أهله حلالاً‏.‏

وأن الحد لا يُقام على الحامل، وأنها إذا ولدت الصبىَّ، أمهلَتْ حتى تُرضِعَه وتَفطِمَه، وأن المرأةَ يُحفَر لها دون الرجل، وأن الإمام لا يجِبُ عليه أن يبدأ بالرجم‏.‏

وأنه لا يجوز سبُّ أهلِ المعاصى إذا تابوا، وأنه يُصلَّى على من قُتِلَ في حدِّ الزنى، وأن المُقِرَّ إذا استقال في أثناء الحد، وفَّر، ترك ولم يتمم عليه الحد، فقيل‏:‏ لأنه رجوع‏.‏ وقيل‏:‏ لأنه توبة قبل تكميل الحد، فلا يقام عليه كما لو تاب قبل الشروع فيه، وهذا اختيار شيخنا‏.‏

وأن الرجل إذا أقرَّ أنه زنى بفلانة، لم يُقم عليه حَدُّ مع حد الزنى‏.‏

وأن ما قُبِضَ من المال بالصلح الباطلِ باطل يجبُ ردُّه‏.‏

وأن الإمام له أن يُوكِّل في استيفاء الحد‏.‏

وأن الثيب لا يُجمع عليه بين الجلدِ والرجم، لأنه صلى الله عليه وسلم لم يجلد ماعزاً ولا الغامدية، ولم يأمر أنيسَاً أن يَجْلِدَ المرأة التي أرسله إليها، وهذا قول الجمهور، وحديث عبادة‏:‏

‏(‏خذُوا عنى قَدْ جَعَلَ اللُّهُ لَهُنَّ سَبِيلاً‏:‏ الثَّيِّبُ بالثَّيبِ جَلْدُ مِائَةٍ والرجم منسوخ‏)‏‏.‏ فإن هذا كان في أول الأمر عند نزول حد الزانى، ثم رجم ماعزاً والغامدية، ولم يجلدهما، وهذا كان بعد حديث عبادة بلا شك، وأما حديث جابر في ‏(‏السنن‏)‏‏:‏ أن رجلاً زنى، فأمرَ به النبىُّ صلى الله عليه وسلم فَجُلِدَ الحَدَّ، ثم أقرَّ أنه محصَن، فأمر به فرجم‏.‏ فقد قال جابر في الحديث نفسه‏:‏ إنه لم يعلم بإحصانه، فجلد، ثم علم بإحصانه فرجم‏.‏ رواه أبو داود‏.‏

وفيه‏:‏ أن الجهل بالعقوبة لا يسقط الحد إذا كان عالماً بالتحريم، فإن ماعزاً لم يعلم أن عقوبتَه بالقتل، ولم يُسقط هذا الجهلُ الحدَّ عنه‏.‏

وفيه‏:‏ أنه يجوز للحاكم أن يحكم بالإقرار في مجلسه، وإن لم يسمعه معه شاهدان، نص عليه أحمد، فإن النبىَّ صلى الله عليه وسلم لم يقل لأنيس‏:‏ فإن اعْتَرَفَتْ بحضرة شاهدين فارجمها‏.‏

وأن الحكم إذا كان حقاً محضاً لله لم يشترط الدعوى به عند الحاكم‏.‏

وأن الحدَّ إذا وجب على امرأة، جاز للإمام أن يبعث إليها من يُقيمه عليها، ولا يحضرها، وترجم النسائى على ذلك‏:‏ صوناً للنساء عن مجلس الحكم‏.‏

وأن الإمام والحاكم والمفتىَ يجوزُ الحَلِفُ على أن هذا حكمُ الله عز وجل إذا تحقق ذلك، وتيقنه بلا ريب، وأنه يجوز التوكيلُ في إقامة الحدود، وفيه نظر، فإن هذا استنابةُ من النبى صلى الله عليه وسلم، وتضمن تغريب المرأة كما يغرب الرجل، لكن يغرب معها محرمُها إن أمكن، وإلا فلا، وقال مالك‏:‏ ولا تغريب على النساء، لأنهن عورة‏.‏

فصل‏:‏ في حُكمه صلى الله عليه وسلم على أهلِ الكتاب في الحدود بحُكم الإسلام

ثبت في ‏(‏الصحيحين‏)‏ و ‏(‏المسانيد‏)‏‏:‏ ‏(‏أن اليهودَ جاؤوا إلى رسولِ الله صلى الله عليه وسلم، فذكروا له أن رجلاً مِنهم وامرأةً زنيا، فقال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏مَا تَجِدُونَ في التَّوْرَاةِ في شَأْن الرَّجْمِ‏)‏‏؟‏ ‏(‏قالوا‏:‏ نفضحُهم ويُجْلَدُون، فقال عبدُ الله بن سلام‏:‏ كذبتُم إن فيها الرَّجمَ، فَأَتَوْا بالتوارة، فنشرُوها، فوضَعَ أحدُهم يدَه على آيةِ الرجم، فقرأ ما قبلَها وما بعدَها، فقال له عبدُ الله بنُ سلام‏:‏ ارفَعْ يدَك، فرفع يدَه، فإذا فيها آيةُ الرجم، فقالوا‏:‏ صَدَقَ يا محمد، إن فيها الرجم، فأَمَرَ بهما رسولُ الله صلى الله عليه وسلم فَرُجِمَا‏)‏‏.‏

فتضمنت هذه الحكومةُ أن الإسلام ليس بشرط في الإحصان، وأن الذِّمى يُحصِّن الذميةَ، وإلى هذا ذهب أحمدُ والشافعىُّ، ومن لم يَقُلْ بذلك اختلفوا في وجه هذا الحديث، فقال مالك في غير ‏(‏الموطأ‏)‏‏:‏ لم يكن اليهودُ بأهل ذمة‏.‏ والذي في ‏(‏صحيح البخارى‏)‏‏:‏ أنهم أهلُ ذمة، ولا شكَّ أن هذا كان بعدَ العهد الذي وقع بين النبىِّ صلى الله عليه وسلم وبينهم، ولم يكونوا إذ ذاك حرباً، كيف وقد تحاكمُوا إليه، ورضُوا بحكمه‏؟‏ وفى بعضِ طُرق الحديث‏:‏ أنهم قالوا‏:‏ اذهبوا بنا إلى هذا النبىِّ، فإنه بعث بالتخفيف، وفى بعض طرقه‏:‏ أنهم دعوه إلى بيت مِدْرَاسِهِم، فأتاهم وحكم بينهم، فهم كانوا أهلَ عهد وصُلح بلا شك‏.‏

وقالت طائفة أخرى‏:‏ إنما رجمهم بحُكم التوراة‏.‏ قالوا‏:‏ وسياقُ القًصة صريحٌ في ذلك، وهذا مما لا يُجدى عليهم شيئاً ألبتة، فإنه حكم بينهم بالحقِّ المحضِ، فيجبُ اتباعُه بكلِّ حال، فماذا بعد الحقِّ إلا الضلال‏.‏

وقالت طائفة‏:‏ رجمهما سياسةً، وهذا مِن أقبح الأقوال، بل رجمهما بحُكم الله الذي لا حُكم سِواه‏.‏

وتضمنت هذه الحكومةُ أن أهل الذَّمة إذا تحاكَموا إلينا لا نحكُم بينهم إلا بحُكم الإسلام‏.‏

وتضمنت قبولَ شهادة أهلِ الذمة بعضهم على بعض لأن الزانيينِ لم يُقِرَّا، ولم يشهد عليهما المسلمون، فإنهم لم يحضُروا زِناهما، كيف وفى ‏(‏السنن‏)‏ في هذه القصة، فدعا رسولُ الله صلى الله عليه وسلم بالشُّهودِ، فجاؤوا أربعة، فشهدوا أنهم رأوا ذكره في فرجها مِثل المِيل في المُكحلة‏.‏

وفى بعض طرق هذا الحديث‏:‏ فجاء أربعةٌ منهم، وفى بعضها‏:‏ فقال لليهود‏:‏ ‏(‏ائْتُونى بِأَرْبَعَةٍ مِنْكُم‏)‏‏.‏

وتضمنت الاكتفاءَ بالرجم، وأن لا يجمع بينَه وبين الجلد، قال ابنُ عباس‏:‏ الرجمُ في كتاب الله لا يغوصُ عليه إلا غوَّاصٌ، وهو قوله تعالى‏:‏ ‏{‏يَأَهْلَ الكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيراً مِمَّا كُنْتُم تُخْفُونَ مِنَ الكِتَابِ‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 15‏]‏ واستنبطه غيرهُ مِن قوله‏:‏ ‏{‏إنَّا أَنْزَلْنا التَّوْراةَ فيها هُدىً وَنُورٌ يَحْكُم بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 44‏]‏ قال الزهرى في حديثه‏:‏ فبلغنا أن هذه الآية نزلت فيهم‏:‏ ‏{‏إنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدىً ونُورٌ يحْكُم بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 44‏]‏ كان النبىُّ صلى الله عليه وسلم منهم‏.‏

الحكم في الزنى واللواطة وشرب الخمر

فصل‏:‏ في قضائه صلى الله عليه وسلم في الرجل يزنى بجارية امرأته

في ‏(‏المسند‏)‏ و‏(‏السنن‏)‏ الأربعة‏:‏ من حديث قتادة، عن حبيب بن سالم، أن رجلاً يقال له‏:‏ عبد الرحمن بن جُنين، وقع على جارية امرأته، فَرُفِعَ إلى النعمان بن بشير، وهو أمير على الكوفة، فقال‏:‏ لأقضينَّ فيكَ بقضيةِ رسول الله صلى الله عليه وسلم، إن كانت أحلَّتها لك، جلدتُك مائة جلدة، وإن لم تكن أحلتها، رجمتُك بالحجارة، فوجدوه أحلتها له، فجلده مائة‏.‏

قال الترمذى‏:‏ في إسنادِ هذا الحديثِ اضطرابٌ، سمعتُ محمداً يعنى البخارىَّ يقول‏:‏ لم يسمع قتادةُ مِن حبيب بنِ سالم هذا الحديثَ، إنما رواه عن خالد بن عُرفُطة، وأبو بشر لم يسمعه أيضاً من حبيب بن سالم، إنما رواه عن خالد بن عرفطة، وسألت محمداً عنه‏؟‏ فقال‏:‏ أنا أنفى هذا الحديثَ‏.‏ وقال النسائى‏:‏ هو مضطرب، وقال أبو حاتم الرازى‏:‏ خالد ابن عرفطة مجهول‏.‏

وفى ‏(‏المسند‏)‏ و ‏(‏السنن‏)‏‏:‏ عن قَبِصَة بن حُريثٍ، عن سَلَمَةَ بن المُحَبِّقِ، أن رسولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قضى في رجل وقَع على جارية امرأته، إن كان استكرهها، فهى حرَّة، وعليه لسيدتها مثلُها، وإن كانت طاوعته، فهى له، وعليه لسيدتِها مثلُها‏.‏

فاختلف الناسُ في القول بهذا الحكم، فأخذ به أحمد في ظاهر مذهبه، فإن الحديثَ حسن، وخالد بن عُرفطة قد روى عنه ثقتان‏:‏ قتادة، وأبو بشر، ولم يُعرف فيه قدح، والجهالة ترتفِعُ عنه برواية ثقتين، القياسُ وقواعدُ الشريعة يقتضى القولَ بموجب هذه الحكومة، فإن إحلال الزوجة شبهةْ تُوجب سقوطَ الحد، ولا تُسقِط التعزيزَ، فكانت المائةُ تعزيزاً، فإذا لم تكن أحلتها، كان زنىً لا شبهة فيه، ففيه الرجمُ، فأى شىء في هذه الحكومة مما يُخالف القياس‏.‏

وأما حديث سَلَمة بن المحبِّق‏:‏ فإن صحَّ، تعيَّن القولُ به ولم يُعدَل عنه، ولكن قال النسائى‏:‏ لا يَصِحُّ هذا الحديثُ‏.‏قال أبو داود‏:‏ سمعتُ أحمد بن حنبل يقول‏:‏ الذي رواه عن سلمة بن المحبق شيخٌ لا يُعرف، ولا يُحدث عنه غيرُ الحسن يعنى قَبيصة بن حريث‏.‏ وقال البخارى في ‏(‏التاريخ‏)‏‏:‏ قَبيصة بن حُريث سمع سلمة بن المحبق، في حديثه نظر، وقال ابن المنذر‏:‏ لا يثُبتُ خبرُ سلمة بن المحبق، وقال البيهقى‏:‏ وقبيصة ابن حُريث غير معروف، وقال الخطابى‏:‏ هذا حديث منكر، وقبيصة غير معروف، والحجة لا تقوم بمثله، وكان الحسن لا يُبالى أن يروىَ الحديثَ ممن سمع‏.‏

وطائفة أخرى قبلت الحديثَ، ثم اختلفوا فيه، فقالت طائفة‏:‏ منسوخ، وكان هذا قبلَ نزول الحدود‏.‏

وقالت طائفة‏:‏ بل وجهه أنه إذا استكرهها، فقد أفسدها على سيدتها، ولم تبق ممن تصلُح لها، ولَحِقَ بها العارُ، وهذا مُثْلَةٌ معنوية، فهى كالمُثْلَةِ الحِسية، أو أبلغُ منها، وهو قد تضمن أمرين‏:‏ إتلافها على سيدتها، والمثلة المعنوية بها، فيلزمه غرامتُها لسيدتها، وتُعتق عليه، وأما إن طاوعته، فقد أفسدها على سيدتها، فتلزمه قيمتُها لها، ويملِكُها لأن القيمة قد استحقت عليه، وبمطاوعتِها وإرادتِها خرجت عن شُبهة المثلة‏.‏ قالوا‏:‏ ولا بُعْد في تنزيل الإتلاف المعنوى منزلة الإتلافِ الحِسى، إذ كلاهما يحولُ بينَ المالك وبين الانتفاع بمُلكه، ولا ريبَ أن جاريةَ الزوجة إذا صارت موطوءة لزوجها، فإنها لا تبقى لسيدتها كما كانت قبلَ الوطء، فهذا الحكمُ مِن أحسن الأحكام، وهو موافق للقياس الأصولى‏.‏

وبالجملة‏:‏ فالقول به مبنى على قبولِ الحديث، ولا تضُرُّ كثرةُ المخالفين له، ولو كانوا أضعافَ أضعافهم‏.‏

فصل

ولم يثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه قضى في اللواط بشىء، لأن هذا لم تكن تعرِفُه العربُ، ولم يُرفع إليه صلى الله عليه وسلم، ولكن ثبتَ عنه أنه قال‏:‏ ‏(‏اقْتُلُوا الفَاعِلَ والمَفْعُولَ بِهِ‏)‏‏.‏ رواه أهل السنن الأربعة، وإسناده صحيح، وقال الترمذى‏:‏ حديث حسن‏.‏

وحكم به أبو بكر الصِّديق، وكتب به إلى خالد بعد مشاورةِ الصحابة، وكان علىٌّ أشدَّهم في ذلك‏.‏

وقال ابنُ القصار‏:‏ وشيخنا‏:‏ أجمعتِ الصحابةُ على قتله، وإنما اختلفُوا في كيفية قتله، فقال أبو بكر الصديق‏:‏ يُرمى من شاهق، وقال علىٌّ رضى الله عنه‏:‏ يُهدم عليه حائط‏.‏ وقال ابنُ عباس‏:‏ يُقتلان بالحجارة‏.‏ فهذا اتفاقٌ منهم على قتله، وإن اختلفوا في كيفيته، وهذا وافق لحُكمه صلى الله عليه وسلم فيمن وطىء ذات محرم، لأن الوطء في الموضعين لا يُباح للواطىء بحال، ولهذا جمع بينهما في حديث ابن عباس رضى الله عنهما، فإنه روى عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:‏ ‏(‏مَنْ وَجَدْتُّموه يَعْمَلُ عَمَلَ قوم لُوطِ فَاقْتُلُوهُ‏)‏، وروى أيضاً عنه‏:‏ ‏(‏مَنْ وَقَعَ عَلى ذَاتِ مَحْرَمٍ، فاقْتُلُوه‏)‏، وفى حديثه أيضاً بالإسناد‏:‏ ‏(‏مَنْ أَتى بَهِيمَةً فَاقْتُلُوهُ واقْتُلُوها مَعَهُ‏)‏‏.‏

وهذا الحكم على وفق حكم الشارع، فإن المحرماتِ كلَّما تغلَّظت، تغلَّظت عقوباتُها، ووطءُ من لا يُباح بحال أعظمُ جرماً مِن وطء من يُباح في بعض الأحوال، فيكون حدُّه أغلظَ ، وقد نصَّ أحمدُ في إحدى الروايتين عنه، أن حُكم من أتى بهيمةً حكْمُ اللواط سواء، فيُقتل بكل حال، أو يكون حدُّه حدَّ الزانى‏.‏

واختلف السلفُ في ذلك، فقال الحسن‏:‏ حدُّه حدُّ الزانى‏.‏ وقال أبو سلمة عنه‏:‏ يقتل بكل حال، وقال الشعبى والنخعى‏:‏ يُعزَّر، وبه أخذ الشافعى ومالك وأبو حنيفة وأحمد في رواية، فإن ابن عباس رضى الله عنه أفتى بذلك، وهو راوى الحديث‏.‏

فصل

وحكم صلى الله عليه وسلم على من أقرَّ بالزِّنى بامرأة معينة بحدِّ الزنى دون القذف، ففى ‏(‏السنن‏)‏‏:‏ من حديث سهلِ بنِ سعد، أن رجلاً أتى النبىَّ صلى الله عليه وسلم، ‏(‏فأقرَّ عنده أنه زنى بامرأةٍ سمَّاها، فبعثَ رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المرأة فسألها عن ذلك، فأنكرَتْ أَنْ تكونَ زنت، فجلده الحدَّ وتركها‏)‏‏.‏

فتضمنت هذه الحكومةُ أمرين‏:‏

أحدهما‏:‏ وجوبُ الحدِّ على الرجل، وإن كذَّبته المرأة خلافاً لأبى حنيفة وأبى يوسف أنه لا يُحَّد‏.‏

الثانى‏:‏ أنه لا يجب عليه حدُّ القذف للمرأة‏.‏

وأما ما رواه أبو داود في ‏(‏سننه‏)‏‏:‏ من حديث ابن عباس رضى الله عنه، أن رجلاً أتى النبى صلى الله عليه وسلم،‏(‏فأقر أن زنى بامرأةٍ أربعَ مرات، فجلده مائةَ جلدة وكان بكرا، ثم سأله البينةَ على المرأة فقالت‏:‏ كذب والله يا رسول الله، فجلد حد الفرية ثمانين‏)‏ ؛ فقال النسائىُّ‏:‏ هذا حديث منكر‏.‏ انتهى‏.‏ وفى إسناده القاسم بن فياض الأنبارى الصنعانى، تكلم فيه غير واحد، وقال ابن حبان‏:‏ بطل الاحتجاجُ به‏.‏

فصل

وحَكَم في الأمة إذا زنت ولم تُحصنْ بالجلد‏.‏ وأما قوله تعالى في الإماء‏:‏‏{‏فَإذَا أُحْصِنَّ فَإنْ أتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ فَعَلْيهِنَّ نِصْفُ مَا عَلى المُحْصَنَاتِ مِنَ العَذَابِ‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 25‏]‏، فهو نص في أن حدَّها بعد التزويج نصفُ حدَّ الحرة من الجد، وأما قبل التزويج، فأمرَ بجلدها‏.‏

وفى هذا الحد قولان‏:‏

أحدهما‏:‏ أنه الحد، ولكن يختلِفُ الحال قبل التزويج وبعده، فإن للسيد إقامتَه قبله، وأما بعده، فلا يُقيمه إلا الإمام‏.‏

والقول الثانى‏:‏ أن جلدهما قبل الإحصان تعزير لا حد، ولا يُبطل هذا ما رواه مسلم في ‏(‏صحيحه‏)‏‏:‏ من حديث أبى هريرة رضى الله عنه يرفعُه‏:‏ ‏(‏إذَا زَنَتْ أَمَةُ أَحَدِكُمْ، فَلْيَجْلِدْهَا وَلاَ يُعَيِّرْها ثَلاَثَ مَرَّاتٍ، فإِنْ عَادَتْ في الرَّابِعَةِ فَلْيَجْلِدْهَا وَلْيَبِعْها وَلَوْ بِضَفِير‏)‏، وفى لفظ ‏(‏فَلْيَضْرِبْها كتاب الله‏)‏‏.‏

وفى ‏(‏صحيحه‏)‏ أيضاً‏:‏ من حديث على رضى الله عنه أنه قال‏:‏ أَيُّها الناسُ أقيمُوا على أرقائكم الحدَّ، مَنْ أحصنَ مِنهن، ومن لم يُحصنْ، فإن أمةً لِرَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم زَنَتْ، فأمرنى أن أجلِدَهَا، فإذا هي حديثةُ عهدٍ بِنِفاس، فخشيتُ إن أنا جلدتُها أن أقتُلَها، فذكرت ذلك للنبى صلى الله عليه وسلم، فقال‏:‏ ‏(‏أحسنتَ‏)‏‏.‏

فإن التعزير يدخلُ لفظُ الحد في لسان الشارع، كما في قوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏لا يُضرَبُ فوقَ عشرةِ أسواطٍ إلا في حدٍّ مِن حدُود الله تعالى‏)‏‏.‏

وقد ثبت التعزيرُ بالزيادة على العشرة جنساً وقدراً في مواضِع عديدة لم يَثْبُتْ نسخُها، ولم تُجْمِع الأمةُ على خِلافها‏.‏

وعلى كل حال، فلا بد أن يُخالِفَ حالُها بعد الإحصان حالها قبله، وإلا لم يكن للتقييد فائدة، فإما أن يُقال قبل الإحصان‏:‏ لا حدَّ عليها، والسنة الصحيحةُ تبطِلُ ذلك، وإما أن يقال‏:‏ حدُّها قبل الإحصان حدُّ الحرة، وبعده نصفه، وهذا باطل قطعاً مخالف لقواعد الشرع وأصوله، وإما أن يُقال‏:‏ جلدُها قبل الإحصان تعزير، وبعده حد، وهذا أقوى، وإما أن يُقال‏:‏ الافتراقُ بين الحالتين في إقامة الحدِّ لا في قدرِه، وأنه في إحدى الحالتين للسيد، وفى الأخرى للإمام، وهذا أقربُ ما يُقال‏.‏

وقد يقال‏:‏ إن تنصيصه على التنصيفِ بعد الإحصان لئلا يتوهَّم متوهم أن بالإحصان يزولُ التنصيفٌ، ويصيرُ حدها حدَّ الحرة، كما أن الحدَ زال عن البِكر بالإحصان، وانتقل إلى الرجم، فبقى على التنصيف في أكمل حالتيها، وهى الإحصان تنبيهاً على أنه إذا اكتُفِىَ به فيها، ففيما قبل الإحصان أولى وأحرى، والله أعلم‏.‏

وقضى رسولُ الله صلى الله عليه وسلم في ‏(‏مريض زنى ولم يَحتَمِلْ إقامةَ الحد، بأن يُؤخذ له ‏[‏عِثْكَالٌ‏]‏ فيه مائة شِمْرَاخٍ، فيُضربَ بها ضربةً واحدة‏)‏‏.‏

فصل

وحكم رسولُ الله صلى الله عليه وسلم بحدِّ القذفِ، لما أنزل اللَّهُ سبحانه براءةَ زوجتهِ مِن السماء، فجلد رجلين وامرأةً‏.‏ وهما‏:‏ حسانُ بن ثابت، ومِسطَحُ بنُ أُثَانَة‏.‏ قال أبو جعفر النُّفيلى‏:‏ ويقولون‏:‏ المرأة حَمنة بنتُ جحش‏.‏

وحكم فيمن بدل دينه بالقتل، ولم يخص رجلاً من امرأة، وقتل الصديقُ امرأةً ارتدت بعد إسلامها يقال لها‏:‏ أم قِرفة‏.‏

وحكم في شارب الخمر بضربه بالجريدِ والنِّعال، وضربه أربعينَ، وتبعه أبو بكر رضى الله عنه على الأربعين‏.‏

وفى ‏(‏مصنف عبد الرزاق‏)‏‏:‏ أنه صلى الله عليه وسلم ‏(‏جلد في الخمر ثمانين‏)‏‏.‏

وقال ابنُ عباس رضى الله عنه‏:‏ ‏(‏لم يُوقِّتْ فيها رسولُ الله صلى الله عليه وسلم شيئاً‏)‏‏.‏

وقال على رضى الله عنه‏:‏ ‏(‏جلد رسول الله صلى الله عليه وسلم في الخمر أربعين، وأبو بكر أربعينَ، وكمَّلها عمرُ ثمانيَ، وكُلٌّ سنة‏)‏‏.‏

وصح عنه صلى الله عليه وسلم أنه أمر بقتله في الرابعة أو الخامسة‏.‏ واختلف الناسُ في ذلك، فقيل‏:‏ هو منسوخ، وناسخه ‏(‏لا يَحِلُّ دمُ امرىء مسلمٍ إلا بإحدى ثلاث‏)‏‏.‏ وقل‏:‏ هو محكم، ولا تعارضَ بين الخاص والعام، ولا سيما إذا لم يُعلم تأخُّر العام‏.‏ وقيل‏:‏ ناسخُه حديث عبد الله حِمارٍ، فإنه أُتِىَ به مراراً إلى رسولِ الله صلى الله عليه وسلم فجلده ولم يقتُله‏.‏

وقيل‏:‏ قتله تعزيزٌ بحسب المصلحة، فإذا كثر منه ولم ينهه الحدُّ، واستهان به، فللإمام قتلُه تعزيزاً لا حداً، وقد صحَّ عن عبد الله بن عمر رضى الله‏.‏ عنهما أنه قال‏:‏ أئتونى به في الرابعة فعلىَّ أن أقتُلَه لكم، وهو أحدُ رواة الأمر بالقتل عن النبى صلى الله عليه وسلم، وهم‏:‏ معاويةُ، وأبو هريرة، وعبدُ الله ابن عمر، وعبدُ الله بن عمرو، وقَبيصة بن ذؤيب رضى الله عنهم‏.‏

وحديث قبيصة‏:‏ فيه دلالة على أن القتلَ ليس بحد، أو أنه منسوخ، فإنه قال فيه‏:‏ فأُتيِ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم برجل قد شرب، فجلده، ثم أتى به، فجلده، ثم أتى به فجلده، ورفع القتل، وكانت رخصة‏.‏ رواه أبو داود‏.‏

فإن قيل‏:‏ فما تصنعون بالحديث المتفق عليه، عن على رضى الله أنه قال‏:‏ ما كنت لأدرى من أقمتُ عليه الحدَّ إلا شاربَ الخمر، فإنَّ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم لم يَسُنَّ فيه شيئاً، إنما هو شىءُ قلناه نحن‏.‏ لفظ أبى داود‏.‏ ولفظهما‏:‏ فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم مات ولم يَسُنَّه‏.‏

قيل‏:‏ المرادُ بذلك أن رسولَ الله صلى الله عليه وسلم لم يُقَدِّرْ فيه بقوله تقديراً لا يُزاد عليه ولا يُنقص كسائر الحدود، وإلا فعلى رضى الله عنه قد شَهِدَ أن رسولَ الله صلى الله عليه وسلم قد ضرب فيها أربعين‏.‏

وقوله‏:‏ إنما هو شىء قلناه نحن، يعنى التقديرَ بثمانين، فإن عمرَ رضى الله عنه جمع الصحابة رضي الله عنهم واستشارهم، فأشاروا بثمانين، فأمضاها، ثم جلد على في خلافته أربعين، وقال‏:‏ هذا أحبُّ إلىَّ‏.‏

ومن تأمَّل الأحاديثَ، رآها تدل على أن الأربعينَ حد، والأربعون الزائدة عليها تعزيزٌ اتفق عليه الصحابةُ رضى الله عنهم، والقتلُ إما منسوخ، وإما أنه إلى رأى الإمام بحسب تهالكِ الناسِ فيها واستهانتهم بحدها، فإذا رأى قتلَ واحد لينزجر الباقون، فله ذلك، وقد حلق فيها عمرُ رضى الله عنه وغرَّب، وهذا من الأحكام المتعلقة بالأئمة، وبالله التوفيق‏.‏

فصل‏:‏ في حكمه صلى الله عليه وسلم في السارق

قطع سارقاً في مِجَنٍّ قيمته ثلاثةُ دراهم‏.‏

وقضى أنه لا تُقطع في أقلَّ من رُبُع دينار‏.‏

وصح عنه أنه قال‏:‏ ‏(‏اقْطَعُوا في رُبْعِ دينَارٍ، ولا تَقْطَعُوا فِيمَا هُوَ أَدْنَى مِنْ ذلِك‏)‏ ذكره الإمام أحمد رحمه الله‏.‏

وقالت عائشة رضىَ اللَّهُ عنها‏:‏ لم تكن تقطع يدُ السارق في عهد رسولِ الله صلى الله عليه وسلم في أدنى من ثمن المِجَنِّ، تُرْسٍ أو جَحَفَةٍ، وكان كلٌ منهما ذا ثمن‏.‏

وصح عنه أنه قال‏:‏ ‏(‏لَعَنَ اللَّهُ السَّارِقَ يَسْرِقَ الحَبْلَ فَتُقْطَعُ يَدُهُ ويَسْرِقُ البَيْضَةَ فَتُقْطَع يَدُهُ‏)‏‏.‏ فقيل‏:‏ هذا حبلُ السفينة، وبَيْضَة الحديد، وقيل‏:‏ بل كل حَبْل وبَيْضَةٍ، وقيل‏:‏ هو إخبار بالواقع، أى‏:‏ إنه يسرق هذا، فيكون سبباً لقطع يده بتدرُّجه منه إلى ما هو أكبرُ منه‏.‏ قال الأعمش‏:‏ كانوا يرونَ بأنه بَيْضُ الحديد، والحَبْلُ كانوا يرون أن منه ما يُساوى دراهم‏.‏

وحكم في امرأة كانت تستعيرُ المتاع وتَجْحَدُه بقطع يدها‏.‏

وقال أحمد رحمه الله‏:‏ بهذه الحكومة ولا معارض لها‏.‏

وحكم صلى الله عليه وسلم بإسقاط القطع عن المنْتَهب، والمُخْتَلِس، والخائن‏.‏ والمراد بالخائن‏:‏ خائن الوديعة‏.‏

وأما جاحدُ العارَّية، فيدخلُ في اسم السارق شرعاً، لأن النبىَّ صلى الله عليه وسلم لما كلَّموه في شأن المستعيرة الجاحدة، قطعها، وقال‏:‏ ‏(‏والذي نَفْسِى بيَدِهِ لَوْ أَنَّ فَاطِمَةَ بِنْتَ مُحَمَّدٍ سَرَقَتْ لَقَطَعْتُ يَدَهَا‏)‏‏.‏

فإدخاله صلى الله عليه وسلم جاحِد العارَّية في اسم السارق، كإدخاله سائر أنواع المسكر في اسم الخمر، فتأمله، وذلك تعريف للأمة بمراد الله من كلامه‏.‏

وأسقط صلى الله عليه وسلم القطعَ عن سارق الثَّمَرِ والكَثَرِ، وحكم أن من أصاب منه شيئاً بفمه وهو محتاج، فلا شىء عليه، ومن خرج منه بشىء، فعليه غرامة مثليه والعقوبَة، ومن سَرق منه شيئاً في جَرينه وهو بيدره، فعليه القطع إذا بلغ ثَمَنَ المجنِّ فهذا قضاؤه الفصلُ، وحُكمُه العدل‏.‏

وقضى في الشاة التي تُؤخذ مِن مراتِعها بثمنها مرتين، وضرب نكال، وما أُخِذَ من عَطَنه، ففيه القطعُ إذا بلغ ثمن المجن‏.‏

وقضى بقطع سارق رِداء صفوان بن أمية، وهو نائم عليه في المسجد، فأراد صفوانُ أن يَهبَه إياه، أو ربيعَه منه، فقال‏:‏ ‏(‏هَلاَّ كَانَ قَبْلَ أَنْ تَأْتِينى به‏)‏‏.‏

وقطع سارقاً سرق تُرساً من صُفة النساء في المسجد‏.‏

ودَرَأَ القطع عن عبد مِن رقيق الخُمُس سَرَقَ مِن الخمس‏.‏ وقَالَ‏:‏ ‏(‏مَالُ اللَّهِ سَرَقَ بَعْضُه بَعْضاً‏)‏ رواه ابن ماجه‏.‏

ورُفعَ إليه سارق، فاعترف، ولم يُوجد معه متاع، فقال له‏:‏ ‏(‏مَا إخَالُه سَرَقَ‏)‏‏؟‏ قال‏:‏ بلى فأعادَ عليه مرتين أو ثلاثاً، فأمر به فُقطِع‏.‏

ورفع إليه آخر فقال‏:‏ ‏(‏مَا إخَالُهُ سَرَقَ‏)‏‏؟‏ فقال‏:‏ بلى، فقال‏:‏ ‏(‏اذْهَبُوا بِهِ فَاقْطَعُوهُ، ثُمَّ احْسِمُوهُ، ثُمَّ أئتُونى بِهِ‏)‏، فقطع، ثم أتى به النبى صلى الله عليه وسلم، فقال له‏:‏ ‏(‏تُبْ إلى الله‏)‏، فقال‏:‏ تبتُ إلى الله، فقال‏:‏ ‏(‏تابَ اللَّهُ عَلَيْكَ‏)‏‏.‏

وفى الترمذى عنه أن قطع سارقاً وعلق يده في عُنُقه‏.‏ قال‏:‏ حديث حسن‏.‏

فصل‏:‏ في حكمه صلى الله عليه وسلم على من اتَّهم رجلاً بسرقة

روى أبو داود‏:‏ عن أزهر بن عبد الله ‏(‏أن قوماً سُرِقَ لهم متاع، فاتَّهموه ناساً مِن الحَاكَة، فأتوا النعمانَ بْن بشيرٍ صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فحبسهم أياماً ثم خلَّى سبيلهم، فأَتُوْه فقالُوا‏:‏ خلَّيْتَ سبيلَهم بغير ضرب ولا امتحان، فقال‏:‏ ما شئتُم، إن شئتُم أن أضربَهم، فإن خرجَ متاعُكم فذاكَ، وإلا أخذتُ مِن ظُهورِكُم مثلَ الذي أخذتُ مِن ظهورهم‏.‏ فقالوا‏:‏ هذا حُكْمُكَ‏؟‏ فقال‏:‏ حُكْمُ اللَّهِ وحُكْمُ رَسُولِه‏)‏‏.‏

فصل

وقد تضمنت هذه الأقضيةُ أموراً ‏:‏

أحدها‏:‏ أنه لا يقطع في أقل من ثلاثةِ دراهم، أو رُبع دينار‏.‏

الثانى‏:‏ جوازُ لعنِ أصحابِ الكَبائِر بأنواعهم دونَ أعيانهم، كما لَعَنَ السارِقَ، ولعن آكِل الرّبا وموكلَه، ولعن شاربَ الخمر وعاصِرها، ولعن من عمل عمل قومِ لوط، ونهى عن لعن عبد الله حِمار وقد شرب الخمر، ولا تعارضُ بين الأمرين، فإن الوصف الذي علق اللعن مقتض‏.‏ وأما المعين، فقد يقوم به ما يمنعُ لحوقَ اللعن به مِن حسنات ماحية، أو توبة، أو مصائب مكفرة، أو عفوٍ من الله عنه، فتُلعن الأنواعُ دون الأعيان‏.‏

الثالث‏:‏ الإشارة إلى سد الذرائع، فإنه أخبر أن سرقة الحبلِ والبيضة لا تدعُه حتى تقطعَ يده‏.‏

الرابع‏:‏ قطعُ جاحد العارية، وهو سارق شرعاً كما تقدم‏.‏

الخامس‏:‏ أن من سرق مالاً قطع فيه، ضُوعِفَ عليه الغرمُ، وقد نص عليه الإمام أحمد رحمه الله، فقال‏:‏ كل مَنْ سقط عنه القطعُ، ضُوعِفَ عليه الغرم، وقد تقدَّم الحكمُ النبوىُّ به في صورتين‏:‏ سرقةِ الثمار المعلقة، والشاةِ من المرتع‏.‏

السادس‏:‏ اجتماعُ التعزيز مع الغُرم، وفى ذلك الجمعُ بين العقوبتين‏:‏ مالية وبدنية‏.‏

السابع‏:‏ اعتبارُ الحِرز، فإنه صلى الله عليه وسلم أسقط القطعَ عن سارق الثمار من الشجرة، وأوجبه على سارقة من الجرين، وعند أبى حنيفة أن هذا لنقصان ماليته، لإسراع الفسادِ إليه، وجعل هذا أصلاً في كل ما نقصت ماليتُه بإسراع الفساد إليه، وقولُ الجمهور أصحُّ، فإنه صلى الله عليه وسلم جعل له ثلاثة أحوال‏:‏ حالةً لا شىء فيها، وهو ما إذا أكل منه بفيه، وحالةً يُعَزَّم مثليه، ويُضرب مِن غير قطع، وهو ما إذا أخذه من شجره وأخرجه، وحالةً يُقطع فيها، وهو ما إذا سرقه مِن بيدره سواء كان قد انتهى جفافُه أو لم ينته، فالعبرةُ للمكان والحرز لا لُيبسه ورطوبته، ويدل عليه أن صلى الله عليه وسلم أسقط القطعَ عن سارق الشاةِ من مرعاها، وأوجبه على سارقها مِن عطنها فإنه حرزُها‏.‏

الثامن‏:‏ إثبات العقوبات المالية، وفيه عدة سنن ثابتة لا مُعارِضَ لها، وقد عمل بها الخلفاءُ الراشدون وغيرُهم مِن الصحابة رضى الله عنهم، وأكثرُ من عمل بها عمر رضى الله عنه‏.‏

التاسع‏:‏ أن الإنسان حِرز لثيابه ولفراشه الذي هو نائم عليه أين كان، سواء كان في المسجد أو في غيره‏.‏

العاشر‏:‏ أن المسجد حِرز لما يعتاد وضعُه فيه، فإن النبى صلى الله عليه وسلم قطع مَن سرق منه ترساً، وعلى هذا فيُقطع من سرق مِن حصيره وقناديله وبسطه، وهو أحدُ القولين في مذهب أحمد وغيره‏.‏ ومن لم يقطعه، قال‏:‏ له فيها حق، فإن لم يكن فيها حق، قطع كالذمى‏.‏

الحادى عشر‏:‏ أن المطالبةُ في المسروقِ شرط في القطعِ، فلو وهبه إياه، أو باعه قبل رفعه إلى الإمام، سقط عنه القطع، كما صرح به النبى صلى الله عليه وسلم وقال‏:‏ ‏(‏هَلاَّ كَانَ قَبْلَ أَنْ تَأْتِينى بِهِ‏)‏‏.‏

الثانى عشر‏:‏ أن ذلك لا يُسقط القطعَ بعد رفعه إلى الإمام، وكذلك كُلُّ حد بلغ الإمام، وثبت عنده لا يجوز إسقاطُه، وفى ‏(‏السنن‏)‏‏:‏ عنه‏:‏ ‏(‏إذا بَلَغَتِ الحُدُودُ الإمَامَ، فَلَعَنَ اللَّهُ الشافِعَ والمُشَفِّعَ‏)‏‏.‏

الثالث عشر‏:‏ أن من سرق من شيء له فيه حقٌّ لم يُقطع‏.‏

الرابع عشر‏:‏ أنه لا يقطع إلا بالإقرار مرتين، أو بشهادةِ شاهدين، لأن السارق أقرَّ عنده مرة، فقال‏:‏ ‏(‏ما إخالك سرقت‏)‏‏؟‏ فقال‏:‏ بي، فقطعه حينئذ، ولم يقطعه حتى أعاد عليه مرتين‏.‏

الخامس عشر‏:‏ التعريضُ للسارق بعدم الإقرار، وبالرجوع عنه، وليس هذا حُكمَ كل سارق، بل من السُّراق من يُقرُّ بالعقوبة والتهديد، كما سيأتى إن شاء الله تعالى‏.‏

السادس عشر‏:‏ أنه يجب على الإمام حسمُه بعد القطع لئلا يتلَفَ‏.‏ وفى قوله‏:‏ ‏(‏احسموه‏)‏، دليل على أن مؤنة الحسم ليست على السارق‏.‏

السابعُ عشر‏:‏ تعليق يد السارق في عنقه تنكيلاً له وبه ليراه غيره‏.‏

الثامن عشر‏:‏ ضربُ المتهم إذا ظهر منه أمارات الرِّيبة، وقد عاقَبَ النبى صلى الله عليه وسلم في تُهمة، وحبس في تُهمة‏.‏

التاسع عشر‏:‏ وجوبُ تخلية المتَّهم إذا لم يظهر عنده شىء مما اتُّهم به، وأن المتَّهِمَ إذا رضي بضرب المتُهم، فإن خرج ماله عنده، وإلا ضُرِبَ هو مثل ضرب من اتهمه إن أجيب إلى ذلك، وهذا كُلُه مع أمارات الرِّيبة، كما قضى به النعمان بن بشير رضى اللَّه عنه، وأخبر أنه قضاء رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم‏.‏

العشرون‏:‏ ثبوت القصاص في الضربة بالسوط والعصا ونحوهما‏.‏

فصل

وقد روى عنه أبو داود‏:‏ أنه أمر بقتل سارقٍ فقالُوا‏:‏ إنما سرق، فقال‏:‏ ‏(‏اقْطَعُوهُ‏)‏، ثم جىء به ثانياً، فأمر بقتله، فقالوا‏:‏ إنما سرق، فقال ‏(‏اقْطَعُوهُ‏)‏، ثم جىء به في الثالثة، فأمر بقتله، فقالوا‏:‏ إنما سرق، فقال‏:‏ ‏(‏اقْطَعُوهُ‏)‏ ثم جىء به رابعة، فقال‏:‏ ‏(‏اقْتُلُوهُ‏)‏، فقالوا‏:‏ إنما سرق، فقال‏:‏ ‏(‏اقْطَعُوهُ‏)‏، فأتى به في الخامسة، فأمر بقتله، فقتلُوه‏.‏

فاختلف الناسُ في هذه الحكومة‏:‏ فالنسائىُّ وغيرُه لا يصححون هذا الحديث‏.‏ قال النسائى‏:‏ هذا حديثٌ منكَر، ومُصعب بنُ ثابت ليس بالقوى، وغيرُه يُحسنه ويقول‏:‏ هذا حكم خاص بذلك الرجل وحدَه، لما علم رسولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم مِن المصلحة في قتله، وطائفة ثالثة تقبلُهُ، وتقول به، وأن السارق إذا سرق خمسَ مرات قتل في الخامسة، وممن ذهب إلى هذا المذهب أبو مصعب من المالكية‏.‏

وفى هذه الحكومة الإتيانُ على أطراف السارق الأربعة‏.‏ وقد روى عبد الرزاق في ‏(‏مصنفه‏)‏‏:‏ أن النبى صلى الله عليه وسلم ‏(‏أتى بعبد سرق، فأُتِىَ به أربعَ مرات، فتركه، ثم أتَى به الخامسة، فقطع يده، ثم السادسة فقطع رجله، ثم السابعة فقطع يده، ثم الثامنة فقطع رجله‏)‏‏.‏

واختلف الصحابة ومَنْ بعدهم، هل يُوتى على أطرافِه كُلِّها، أم لا‏؟‏ على قولين‏.‏ فقال الشافعىُّ ومالكٌ وأحمدُ في إحدى روايتيه‏:‏ يُؤتى عليها كُلِّها، وقال أبو حنيفة وأحمد في رواية ثانية‏:‏ لا يُقطع منه أكثرُ من يد ورجل، وعلى هذا القول، فهل المحذورُ تعطيلُ منفعة الجنس، أو ذهابُ عضوين من شق‏؟‏ فيه وجهان ظهر أثرُهما فيما لو كان أقطعَ اليد اليُمني فقط، أو أقطعَ الرجل اليسرى فقط، فإن قلنا‏:‏ يُؤتى على أطرافه، لم يؤثر ذلك، وإن قلنا‏:‏ لا يُؤتى عليها، قُطِعَتْ رجلُه اليسرى في الصورة الأولى، ويدُه اليمنى في الثانية على العِلتين، وإن كان أقطعَ اليد اليُسرى مع الرجل اليُمنى لم يُقطع على العِلتين، وإن كان أقطعَ اليد اليُسرى فقط، لم تقطع يُمناه على العلتين، وفيه نظر، فتأمل‏.‏

وهل قطع رجله اليُسرى يبتنى على العلتين‏؟‏ فإن عللنا بذهاب منفعة الجنس، قُطِعَت رجلُه، وإن عللنا بذهاب عضوين مِن شق، لم تُقطع‏.‏

وإن كان أقطعَ اليدين فقط، وعللنا بذهاب منفعة الجنس قُطِعَت رجلُه اليسرى، وإن عللنا بذهاب عضوين مِن شق، لم تُقطع، هذا طردُ هذه القاعدة‏.‏ وقال صاحب ‏(‏المحرر‏)‏ فيه‏:‏ تقطع يُمنى يديه على الروايتين، وفرق بينها وبين مسألة مقطعوع اليدين، والذي يقال في الفرق‏:‏ إنه إذا كان أقطعَ الرجلين، فهو كالمُقعد، وإذا قُطِعَت إحدى يديه، انتفع بالأخرى في الأكل والشرب والوضوء والاستجمار وغيره، وإذا كان أقطعَ اليدين لم ينتفع إلا برجليه، فإذا ذهبت إحداهما، لم يمكنه الانتفاعُ بالرجل الواحدة بلا يد، ومن الفرق أن اليدَ الواحدة تنفع مع عدم منفعة المشىء، والرجل الواحدة لا تنفعُ مع عدم منفعة البطش‏.‏

فصل‏:‏ في قضائه صلى الله عليه وسلم فيمن سبَّه مِن مسلم أو ذِمِّى أو مُعَاهَدٍ

ثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه قضى بإهدار دم أمِّ ولد الأعمى لما قتلَها مولاها على السبِّ‏.‏

وقتل جماعة من اليهود على سبِّه وأذاه، وأمِّن الناسَ يوم الفتح إلا نفراً ممن كان يُوذيه ويهجوه، وهم أربعة رجال وامرأتان‏.‏ وقال‏:‏ ‏(‏مَنْ لِكَعْبِ بْنِ الأَشرَف، فَإِنَّهُ قَدْ آذى اللَّه ورَسُولهُ‏)‏ وأهدر دمه ودم أبى رافع‏.‏

وقال أبو بكر الصديق رضى اللَّه عنه لأبى برزة الأسلمى، وقد أراد قتل من سبَّه‏:‏ ليس هذا لأحد بعدَ رسولِ اللَّه صلى الله عليه وسلم‏.‏ فهذا قضاؤه صلى الله عليه وسلم وقضاءُ خلفائِه مِن بعده، ولا مخالف لهم من الصحابة، وقد أعاذهم اللَّه من مخالفة هذا الحكم‏.‏

وقد روى أبو داود في ‏(‏سننه‏)‏‏:‏ عن على رضى اللَّه عنه أن يهوديةً كانت تشتِمُ النبىَّ صلى الله عليه وسلم وتقع فيه، فخنقها رجل حتى ماتت، فأبطلَ رسولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم دمَها‏.‏

وذكر أصحابُ السير والمغازي عن ابن عباس رضى اللَّه عنهما قال‏:‏ هجتِ امرأةُ النبىَّ صلى الله عليه وسلم، فقال‏:‏ ‏(‏مَنْ لى بِهَا‏)‏‏؟‏ فقال رجل مِن قومها‏:‏ أنا، فنهضَ فقتلها، فأُخبِرَ النبى صلى الله عليه وسلم، فقال‏:‏ ‏(‏لا يَنْتَطِحُ فيها عَنزانِ‏)‏‏.‏ وفى ذلك بضعة عشر حديثاً ما بين صحاح وحِسان ومشاهير، وهو إجماع الصحابة‏.‏وقد ذكر حرب في ‏(‏مسائله‏)‏‏:‏ عن مجاهد قال‏:‏ أتَي عمرُ رضى اللَّه عنه برجُلِ سبَّ النبى صلى الله عليه وسلم فقتله، ثم قال عمر رضي اللَّه عنه‏:‏ من سبَّ اللَّه ورسوله، أو سبَّ أحداً من الأنبياء فاقتلُوه‏.‏ ثم قال مجاهد عن ابن عباس رضى اللَّه عنهما‏:‏ أيُّما مسلم سبَّ اللَّه ورسوله، أو سبَّ أحداً من الأنبياء، فقد كذَّبَ برسول اللَّه صلى الله عليه وسلم وهى رِدة، يُستتاب، فإن رجع، وإلا قُتِل، وأيُّما مُعَاهَدٍ عاند، فسبَّ اللَّهَ أو سبَّ أحداً من الأنبياء، أو جهر به، فقد نقضَ العهد فاقتلوه‏.‏

وذكر أحمد، عن ابن عمر رضى اللَّه عنهما أنه مرَّ به راهب، فقيل له‏:‏ هذا يسبُّ النبىَّ صلى الله عليه وسلم، فقال ابنُ عمر رضى اللَّه عنه‏:‏ لو سمعتُه، لقتلته إنا لم نُعطهم الذمة على أن يسبوا نبيَّنا‏.‏ والآثارُ عن الصحابة بذلك كثيرة، وحكى غيرُ واحد من الأئمة الإجماع على قتله‏.‏ قال شيخُنا‏:‏ وهو محمول على إجماع الصدر الأول من الصحابة والتابعين‏.‏ والمقصود‏:‏ إنما هو ذكر حكم النبى صلى الله عليه وسلم وقضائه فيمن سبه‏.‏

وأما تركه صلى الله عليه وسلم قتل مَن قدح في عدله بقوله‏:‏ ‏(‏اعْدِلْ فَإنَّكَ لَمْ تَعْدِلْ‏)‏، وفى حكمه بقوله‏:‏ ‏(‏أن كان ابن عمَّتِك‏)‏، وفى قصده بقوله‏:‏ ‏(‏إن هذهِ قِسْمَةٌ ما أُرِيدَ بِها وَجْهُ اللَّه أو في خلوته بقوله‏:‏ ‏(‏يَقُولُونَ إنَّكَ تنهى عن الغى وتستخلى به‏)‏ وغير ذلك، فذلك أن الحقَّ له، فله أن يستوفِيَه، وله أن يترُكه، وليس لأمته تركُ استيفاء حقِّه صلى الله عليه وسلم‏.‏

وأيضاً فإن هذا كان في أول الأمر حيث كان صلى الله عليه وسلم مأموراً بالعفوِ والصفح‏.‏

وأيضاً فإنه كان يعفو عن حقِّه لمصلحة التأليف وجمعِ الكلمة، ولئلا يُنَفِّرَ الناسَ عنه، ولئلا يتحدثوا أنه يقتلُ أصحابه، وكل هذا يختصُّ بحياته صلى الله عليه وسلم‏.‏

فصل‏:‏ في حكمه صلى الله عليه وسلم فيمن سمَّه

ثبت في ‏(‏الصحيحين‏)‏‏:‏ ‏(‏أن يهوديةً سمته في شاة، فأكل منها لُقمة، ثم لفظها، وأكل معه بِشر بنُ البراء، فعفا عنها النبىُّ صلى الله عليه وسلم ولم يُعاقبها‏)‏، هكذا في ‏(‏الصحيحين‏)‏‏.‏

وعند أبى داود‏:‏ أنه أمر بقتلها، فقيل‏:‏ إنه عفا عنها في حقِّه، فلما مات بشر بنُ البراء، قتلها به‏.‏

وفيه دليل على أن من قدَّم لغيره طعاماً مسموماً، يعلم به دون آكله، فماتَ به، أُقيدَ منه‏.‏

فصل‏:‏ في حكمه صلى الله عليه وسلم في الساحر

في الترمذى‏.‏ عنه صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏حَدُّ السَّاحِرِ ضَرْبَةٌ بِالسَّيْفِ‏)‏‏.‏ والصحيح أنه موقوف على جُنْدُبِ بن عبد اللَّه‏.‏

وصح عن عمر رضى اللَّه عنه أنه أمر بقتله، وصح عن حفصة رضى اللَّه عنها، أنها قتلت مدبَّرةً سَحَرَتْها، فأنكر عليها عثمانُ إذ فعلته دون أمره‏.‏ ورُوى عن عائشة رضى اللَّه عنها أيضاً أنها قتلت مدبَّرة سحرتها، وروى أنها باعتها، ذكره ابنُ المنذر وغيره‏.‏

وقد صح أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم لم يقتُل مَن سحره من اليهود، فأخذ بهذا الشافعى، وأبو حنيفة رحمهما اللَّه، وأما مالك، وأحمد رحمهما اللَّه، فإنهما يقتلانه، ولكن منصوصُ أحمد رحمه اللَّه، أن ساحر أهل الذمة لا يُقتل، واحتج بأن النبىَّ صلى الله عليه وسلم لم يقتل لبيد بن الأعصم اليهودى حين سحره، ومن قال بقتل ساحرهم يُجيب عن هذا بأنه لم يُقِرَّ، ولم يُقم عليه بينة، وبأنه خشى صلى الله عليه وسلم أن يثير على الناس شراً بترك إخراجِ السحر مِن البئر، فكيف لو قتله‏.‏

فصل‏:‏ في حكمه صلى الله عليه وسلم في أول غنيمة كانت في الإسلام وأوَّل قتيل

لما بعث رسولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم عبدَ اللَّه بن جَحْشٍ ومن معه سريةً إلى نخلةَ تَرْصُد عِيراً لقريش، وأعطاه كِتاباً مختوماً، وأمره أن لا يقرأه إلا بعدَ يومين، فقتلوا عمرو بن الحضرمى، وأسروا عثمان بنَ عبد اللَّه، والحكمَ بن كيسان، وكان ذلك في الشهر الحرام، فعنَّفهم المشركون، ووقف رسولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم الغنيمةَ والأسيرين حتى أنزل اللَّه سبحانه وتعالى‏:‏‏{‏يَسْأَلُونَكَ عَن الشَّهْرِ الحَرَامِ قِتَالٍ فيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَكُفْرٌ بِهِ والمَسْجِدِ الحَرَامِ وإخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِنْدَ اللَّهِ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 217‏]‏ فأخَذ رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم العِير والأسيرين، وبعثت إليه قريشٌ في فدائهما، فقال‏:‏ لا، حتى يَقْدَمَ صاحبانا - يعنى سعد بن أبى وقاص، وعُتبة بن غزوان -، فإنا نخشاكم عليهما، فإن تقتلوهما، نقتُلْ صاحِبيكم، فلما قَدِمَا، فأداهما رسولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم بعثمان والحكم، وقسم الغنيمة‏.‏

وذكر ابنُ وهب‏:‏ أن النبى صلى الله عليه وسلم ردَّ الغنمية، وودَى القتيل‏.‏

والمعروفُ في السير خلاف هذا‏.‏

وفى هذه القصة مِن الفقه إجازةُ الشهادة على الوصية المختومة، وهو قولُ مالك، وكثير من السلف، ويدل عليه حديث ابن عمر رضى اللَّه عنهما في ‏(‏الصحيحين‏)‏‏:‏ ‏(‏ما حقُّ امْرِىءً مُسْلِم لَهُ شَىء يُوصى به يبيتُ لَيْلَتَيْنِ إلا وَوَصِيَّتُه مكْتُوبَة عِنْدَهُ‏)‏‏.‏

وفيها‏:‏ أنه لا يُشترط في كتاب الإمام والحاكم البينة، ولا أن يقرأه الإمام والحاكم على الحامل له، وكُلُّ هذا لا أصل له في كتاب ولا سنة، وقد كان رسولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم يدفع كُتبه مع رُسله، ويُسيرها إلى من يكتب إليه، ولا يقرؤها على حاملها، ولا يُقيم عليها شاهدين، وهذا معلوم بالضرورة مِن هديه وسنته‏.‏

فصل‏:‏ في حكمه صلى الله عليه وسلم في الجاسوس

ثبت أن حاطب بن أبى بَلتعة لما جسَّ عليه، سأله عمرُ رضى اللَّه عنه ضربَ عنقه، فلم يُمكنه، وقال‏:‏ ‏(‏مَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ اللَّهَ اطَّلَعَ عَلى أَهْلِ بَدْرٍ فَقَالَ‏:‏ اعْمَلُوا مَا شِئْتُم، فَقَدْ غَفَرْتُ لَكُمْ‏)‏‏.‏ وقد تقدم حكم المسألة مستوفى‏.‏

واختلف الفقهاء في ذلك، فقالَ سحنون‏:‏ إذا كاتب المسلمُ أهلَ الحرب، قُتِلَ، ولم يُستتب، ومالُه لورثته، وقال غيرُه من أصحاب مالك رحمه اللَّه‏:‏ يُجلد جلداً وجيعاً، ويُطال حبسه، ويُنفى مِن موضع يقرب من الكفار‏.‏ وقال ابن القاسم‏:‏ يُقتل ولا يعرف لهذا توبة، وهو كالزنديق‏.‏

وقال الشافعى، وأبو حنيفة، وأحمد رحمهم اللَّه‏:‏ لا يُقتل، والفريقان احتجوا بقصة حاطب، وقد تقدم ذِكرُ وجه احتجاجهم، ووافق ابنُ عقيل من أصحاب أحمد مالكاً وأصحابه‏.‏

فصل‏:‏ في حكمه في الأسرى

ثبت عنه صلى الله عليه وسلم في الأسرى أنه قَتَل بَعْضَهم، ومَنَّ على بعضهم، وفادى بعضَهم بمال، وبعضَهم بأسرى مِن المسلمين، واسترقَّ بعضَهم، ولكن المعروف، أنه لم يَسْتَرِقَّ رجلاً بالغاً‏.‏

فقتل يومَ بدر من الأسرى عُقبةَ بن أبى معيط، والنضر بن الحارث‏.‏

وقتل مِن يهود جماعةً كثيرين من الأسرى، وفادى أسرى بدر بالمال بأربعةِ آلاف إلى أربعمائةٍ، وفادى بعضَهم على تعليم جماعة من المسلمين الكتابة، ومنَّ على أبى عَزَّةَ الشاعر يومَ بدر، وقال في أسارى بدر‏:‏ ‏(‏لَوْ كَانَ المُطْعِمُ بنُ عَدِىٍّ حَيَّاً، ثُمَّ كَلَّمَنِى في هُؤلاَء النَّتْنى لأَطْلَقْتُهُمْ لَهُ‏)‏‏.‏ وفدى رجلين من المسلمين برجل من المشركين‏.‏

وفدى رجالاً من المسلمين بامرأة من السبى، استوهبها مِن سلمة بن الأكوع‏.‏

ومنَّ على ثُمامة بن أُثال، وأطَلَق يوم فتح مكة جماعةً مِن قريش، فكان يقال لهم‏:‏ الطُّلقاء‏.‏

وهذه أول أحكام لم يُنسخ منها شىء، بل يُخير الإمامُ فيها بحسبِ المصلحة، واسترقَّ مِن أهل الكِتاب وغيرهم، فسبايا أوطاس، وبنى المصطَلِق لم يكونوا كتابين، وإنما كانوا عبدة أوثان مِن العرب، واسترق الصحابةُ مِنْ سبى بنى حنيفة، ولم يكونوا كتابيين‏.‏ قال ابن عباس رضى اللَّه عنهما‏:‏ خيَّرَ رسولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم في الأسرى بينَ الفداء والمنِّ والقتلِ والاستعباد، يفعلُ ما شاء، وهذا هو الحق الذي لا قول سواه‏.‏

فصل

وحكم في اليهود بعدة قضايا، فعاهدَهم أوَّل مقدمه المدينة، ثم حاربه بُنو قَيْنُقَاع، فظَفِرَ بهم، ومنَّ عليهم، ثم حاربه بنو النضير، فظفِرَ بهم، وأجلاهم، ثُمَّ حارَبه بنو قُريظة، فظفِرَ بهم وقتلهم، ثم حاربه أهلُ خيبر، فظَفِرَ بهم وأقرَّهم في أرض خيبرَ ما شاء سِوى مَنْ قتل مِنهم‏.‏

ولما حكم سعدُ بن معاذ في بنى قُريظة بأن تُقتَل مقاتلتُهم، وتُسبى ذراريهم وتُغنم أموالُهم، أخبره رسولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم‏:‏ أن هذا حُكْمُ اللَّهِ عزَّ وجلَّ مِن فوق سَبْعِ سَمَاوات‏.‏

وتضمَّن هذا الحكم‏:‏ أن ناقضى العهدِ يسرى نقضُهم إلى نسائهم وذُرِّيَّتِهم إذا كان نقضُهم بالحرب، ويعودون أهلَ حرب، وهذا عينُ حكمِ اللَّهِ عزَّ وجل‏.‏

فصل‏:‏ في حكمه صلى الله عليه وسلم في فتح خيبر

حكمَ يومئذ بإقرار يهودَ فيها على شطرِ ما يخرُج منها مِن ثمر أو زرع‏.‏

وحكم بقتل ابنى أبى الحُقَيْقِ لما نقضُوا الصّلح بينَهم وبينَه‏:‏ على أن لا يكتُموا ولا يُغيِّبوا شيئاً من أموالهم، فكتمُوا وغيَّبوا، وحكم بعقوبة المتَّهم بتغييبِ المال حتى أقرَّ به، وقد تقدَّم ذلك مستوفى في غزوة خيبر‏.‏

وكانت لأهل الحُديبية خاصة، ولم يَغِبْ عنها إلا جابرُ بن عبد اللَّه، فقسم له رسولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم سهمَه‏.‏

فصل‏:‏ في حكمه صلى الله عليه وسلم في فتح مكة

حكم بأنَّ من أغلقَ بابَه، أو دخلَ دارَ أبى سفيان، أو دخلَ المسجد، أو وضع السلاح، فهو آمن، وحكم بقتل نفر ستةٍ، منهم‏:‏ مِقْيس بن صبُابة، وابنُ خطل، ومغنيتان كانتا تغنيان بهجائه، وحكم بأنه لا يُجهز على جريح، ولا يُتبعُ مدبر، ولا يُقتل أسير، ذكره أبو عبيد في ‏(‏الأموال‏)‏‏.‏ وحكم لخُزاعة أن يبذلُوا سُيوفَهم في بنى بكر إلى صلاة العصر، ثم قال لهم‏:‏ ‏(‏يَا مَعْشَرَ خُزَاعَةَ، ارْفَعُوا أَيْدِيَكُمْ عَنِ القَتْل‏)‏‏.‏

فصل‏:‏ في حكمه صلى الله عليه وسلم في قسمة الغنائم

حكم صلى الله عليه وسلم أن للفارِس ثلاثَةَ أسهم، وللرَّاجِلِ سهم، هذا حكمُه الثابتُ عنه في مغازيه كُلِّها، وبه أخذ جمهورُ الفقهاء‏.‏ وحكم أن السَّلبَ للقاتل‏.‏

وأما حُكمه بإخراج الخمس، فقال ابن إسحاق‏:‏ كانت الخيلُ يومَ بنى قريظة ستةً وثلاثين فرساً، وكان أوَّلَ فىء وقعت فيه السهمان، وأخرج منه الخمس، ومضت به السنة، ووافقه على ذلك القضاء إسماعيل بن إسحاق، فقال إسماعيل‏:‏ وأحْسِبُ أن بعضَهم قال‏:‏ ترك أمرَ الخُمس بعد ذلك، ولم يأت في ذلك من الحديث ما فيه بيانٌ شاف، وإنما جاء ذكرُ الخمس يقيناً في غنائم حُنين‏.‏

وقال الواقدى‏:‏ أول خُمسٍ في غزوة بنى قَيْنُقاع بعدَ بدرٍ بشهر وثلاثة أيام، نزلُوا على حُكمه، فصالحهم على أن له أموالَهم، ولهم النساءُ والذرية، وخمَّس أموالهم‏.‏

وقال عُبادة بن الصامت‏:‏ خرجنا مع رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم إلى بدر، فلما هَزَمَ اللَّه العدُوَّ، تبعتهم طائفةٌ يقتلونهم، وأحدقَتْ طائفةٌ برسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، وطائفةٌ استولت على العسكر والغنيمة، فلما رجع الَّذِين طلبوهم، قالوا‏:‏ لنا النَّفَلُ نحن طلبنا العدُوَّ، وقال الذين أحدقوا برسول اللَّه صلى الله عليه وسلم‏:‏ نحن أحقُّ به، لأنا أحدقنا برسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم أن لا ينال العدُوُّ غِرَّتَه، وقال الذين استَولَوْا على العسكر‏:‏ هُوَ لنا، نحن حَوْيَنَاهُ‏.‏ فأنزل اللَّه عز وجل‏:‏ ‏{‏يَسْأَلُونَكَ عَن الأُنفالِ قُلِ الأَنْفَالُ للَّهِ وَالرَّسُولِ‏}‏ ‏[‏الانفال‏:‏ 1‏]‏، فقسمه رسولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم عن بَوَاءٍ قبل أن ينزل‏:‏ ‏{‏واعْلَمُوا أنَّما غَنِمْتُم مِنْ شَىْءٍ فَأَنَّ للَّهِ خُمُسَهُ‏}‏ ‏[‏الأنفال‏:‏ 41‏]‏‏.‏

وقال القاضى إسماعيل‏:‏ إنما قسم رسولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم أموالَ بنى النضير بينَ المهاجرين، وثلاثةً من الأنصار‏:‏ سهلِ بنِ حُنيف، وأبى دُجانة، والحارث بن الصِّمة لأن المهاجرين حين قدموا المدينة، شاطرهم الأنصارُ ثمارَهم، فقال لهم رسول اللَّه‏:‏ ‏(‏إنْ شِئْتُم قَسَمْتُ أَمْوَالَ بَنِى النَّضِيرِ بَيْنَكُمْ وبَيْنَهُمْ، وأَقَمْتُم عَلَى مُوَاسَاتِهم في ثِمَارِكُم، وإنْ شِئْتُمْ أَعْطَيْنَاها لِلْمُهَاجِرينَ دُونَكُمْ، وقَطَعْتُم عَنْهُمْ مَا كُنْتُم تُعْطُونَهُمْ مِنْ ثِمَارِكُمْ‏)‏، فقالوا‏:‏ بل تُعطيهم دوننا، ونُمْسِكُ ثمارنا، فأعطاها رسولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم المهاجرينَ، فاستغنوا بما أخذوا، واستغنى الأنصارُ بما رجع إليهم من ثمارهم، وهؤلاء الثلاثة من الأنصار شَكَوْا حَاجَةً‏.‏

فصل

وكان طلحةُ بنُ عبيد اللَّه، وسعيدُ بن زيد رضى اللَّه عنهما بالشام لم يشهد بدراً، فقسم لهما رسولَ اللَّه صلى الله عليه وسلم سهميهما، فقالا‏:‏ وأجورُنا يا رسولَ اللَّه‏؟‏ فقال‏:‏ ‏(‏وأُجُوركُمَا‏)‏‏.‏

وذكر ابن هشام، وابن حبيب أن أبا لبابة، والحارث بنَ حاطب، وعاصِمَ بنَ عدى خرجُوا مع رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، فردَّهم، وأمَّرَ أبا لبابة على المدينة، وابن أم مكتوم على الصلاة، وأسهم لهم‏.‏

والحارث بن الصِّمة كُسِرَ بالروحاء، فضرب له رسولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم بسهمه‏.‏

قال ابن هشام‏:‏ وخّواتُ بن جُبير ضرب له رسولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم بسهمه‏.‏

ولم يختِلف أحدٌ أن عثمان ابن عفان رضى اللَّه عنه تخلف على امرأته رقية بنت رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، فضرب له بسهمه، فقال‏:‏ وأجرى يا رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏وأَجْرُكَ‏)‏ ؛ قال ابن حبيب‏:‏ وهذا خاصٌ للنبىِّ صلى الله عليه وسلم، وأجمع المسلمون أن لا يُقسم لغائب‏.‏

قلتُ‏:‏ وقد قال أحمدُ ومالك، وجماعةٌ من السلف والخلف‏:‏ إن الإمامَ إذا بعث أحداً في مصالح الجيش، فله سهمُه‏.‏

قال ابن حبيب‏:‏ ولم يكن النبى صلى الله عليه وسلم يُسْهِمُ للنساء والصبيان والعبيد، ولكن كان يحذيهم مِن الغنيمة‏.‏

فصل

وعدل في قسمة الإبل والغنم كُلُّ عشرة منها ببعير، فهذا في التقويم، وقسمة المال المشترك‏.‏ وأما في الهدى، فقد قال جابر‏:‏ نحرنا مَع رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم عام الحُديبية‏.‏ وأما في حجة الوداع، فقال جابر أيضاً‏:‏ ‏(‏أمرنا رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم أن نشترك في الإبل والبقر كُلُّ سبعة منا في بدنة‏)‏ ؛ وكلاهما في الصحيح‏.‏

وفى ‏(‏السنن‏)‏ من حديث ابن عباس، أن رجلاً‏:‏ أتى النبىَّ صلى الله عليه وسلم فقال‏:‏ ‏(‏إن علىَّ بدنة وأنا موسِر بها ولا أجدها فأشتريها، فأمره أن يبتاعَ سبعَ شياه، فيذبحهن‏)‏‏.‏

فصل

حكم النبىُّ صلى الله عليه وسلم بالسَّلَبِ كله للقاتل، ولم يُخمِّسْه، ولم يجعله مِن الخُمس، بل مِن أصل الغنيمة، وهذا حكمه وقضاؤه‏.‏

قال البخارى في ‏(‏صحيحه‏)‏‏:‏ السلبُ للقاتل إنما هو مِن غير الخُمس، وحكم به بشهادة واحد، وحكم به بعد القتل، فهذه أربعة أحكام تضمَّنها حكمُه صلى الله عليه وسلم بالسَّلَبِ لمن قتل قتيلاً‏.‏

وقال مالك وأصحابهُ‏:‏ السلبُ لا يكون إلا من الخمس، وحكمه حُكمُ النفل، قال مالك‏:‏ ولم يبلُغْنَا أن النبىَّ صلى الله عليه وسلم قال ذلك، ولا فعلَه في غيرِ يوم حُنين، ولا فعلَه أَبُو بكر، ولا عُمر رضى الله عنهما‏.‏ قال ابن الموَّاز‏:‏ ولم يُعط غير البراء بن مالك سلبَ قتيله، وخمَّسه‏.‏

قال أصحابه‏:‏ قال اللَّه تعالى‏:‏ ‏{‏واعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُم مِنْ شَىءٍ فأنَّ للَّهِ خُمُسَهُ‏}‏، فجعل أربعة أخماس الغنيمة لمن غنمها، فلا يجوز أن يُؤخذ شىء مما جعله اللَّه لهم بالاحتمال‏.‏

وأيضاً فلو كانت هذه الآيةُ إنما هي في غير الأسلاب، لم يُؤخر النبى صلى الله عليه وسلم حكمها إلى حُنين، وقد نزلت في قصة بدر، وأيضاً إنما قال‏:‏ ‏(‏مَنْ قَتَلَ قَتِلاً فلَهُ سَلَبُه‏)‏، بعد أن برد القتالُ، ولو كان أمراً متقدماً، لعلمه أبو قتادة فارسُ رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، وأحدُ أكابر أصحابه، وهو لم يطلبه حتى سَمِعَ منادىَ رسولِ اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم يقولُ ذلك‏.‏

قالوا‏:‏ وأيضاً فالنبىُّ صلى الله عليه وسلم أعطاه إياه بشهادة واحد بلا يمين، فلو كان مِن رأس الغنيمة، لم يخرج حقُّ مغنم إلا بما تخرج به الأملاكُ من البيِّنات، أو شاهد ويمين‏.‏

قالوا‏:‏ وأيضاً فلو وجب للقاتل ولم يجد بيِّنة لكان يُوقف، كاللقطة ولا يُقسم، وهو إذا لم تكن بينة يُقسَم، فخرج من معنى الملك، ودل على أنه إلى اجتهاد الإمام يجعلُه من الخمس الذي يجعل في غيره، هذا مجموعُ ما احتُجَّ به لهذا القول‏.‏

قال الآخرون‏:‏ قد قال ذلك رسولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم، وفعله قبل حُنين بستة أعوام، فذكر البخارى في ‏(‏صحيحه‏)‏‏:‏ أن معاذَ بن عمرو بنِ الجموح، ومُعاذَ بن عفراء الأنصاريين، ضرباً أبا جهل بن هشام يوم بدر بسيفهما حتى قتلاه، فانصرفا إلى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، فأخبراه، فقال‏:‏ ‏(‏أَيُّكُمَا قَتَلَهُ‏)‏‏؟‏ فقال كُلُّ واحد منهما‏:‏ أنا قتلته، فقال‏:‏ ‏(‏هَلْ مَسَحْتُما سَيْفَيْكُمَا‏)‏‏؟‏ قالا‏:‏ لا، فنظر إلى السيفين، فقال‏:‏ ‏(‏كِلاَكُمَا قَتَلَهُ‏)‏، وسَلَبُه لمعاذ بْنِ عَمْرو بْنِ الجَمُوح، وهذا يدل على أن كونَ السلب للقاتل أمرٌ مقرر معلومٌ مِن أول الأمر، وإنما تجدَّد يومَ حنين الإعلامُ العام، والمناداة به لا شرعيتُه‏.‏

وأما قول ابنِ الموَّاز‏:‏ إن أبا بكر وعمر لم يفعلاه، فجوابُه من وجهين ؛ أحدُهما‏:‏ أن هذا شهادةٌ على النفى، فلا تُسمع، الثانى‏:‏ أنه يجوز أن يكون تركُ المناداة بذلك على عهدهما اكتفاءً بما تقرر، وثبت مِن حكم رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم وقضائه، وحتى لو صحَّ عنهما تركُ ذلك تركاً صحيحاً لا احتمالَ فيه، لم يُقَدَّم على حكم رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم‏.‏

وأما قولُه‏:‏ ولم يُعط غيرَ البراء بن مالك سلبَ قتيله، فد أعطى السلبَ لسلمة ابنِ الأكوع، ولمعاذ بن عمرو، ولأبى طلحة الأنصارى، قَتَلَ عِشرين يَوْمَ حنين، فأخذ أسلاَبهم، وهذه كلها وقائع صحيحة معظمُها في الصحيح، فالشهادةُ على النفى لا تكاد تسلمُ من النقض‏.‏

وأما قولُه‏:‏ ‏(‏وخمَّسَه‏)‏، فهذا لم يُحفظ به أثر البتة، بل المحفوظُ خلافه، ففى ‏(‏سنن أبى داود‏)‏‏:‏ عن خالد، أن النبى صلى الله عليه وسلم، لم يُخَمِّس السَّلَب‏.‏

وأما قولُه تعالى‏:‏ ‏{‏واعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُم مِنْ شَىءٍ فأَنَّ للَّهِ خُمُسَهُ‏}‏ ‏[‏الأنفال‏:‏ 41‏]‏، فهذا عام، والحكم بالسلب للقاتل خاص، ويجوز تخصيصُ عمومِ الكتاب بالسنة، ونظائرُه معلومة، ولا يُمكن دفعُها‏.‏

وقوله‏:‏ ‏(‏لا يجعل شىء من الغنيمةِ لغير أهلها بالاحتمال‏)‏، جوابُه من وجهين، أحدهما‏:‏ أنا لم نجعل السلب لغير الغانمين‏.‏ الثانى‏:‏ إنما جعلنا للقاتل بقول رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم لا بالاحتمال، ولم يؤخِّر النبى صلى الله عليه وسلم حُكمَ الآية إلى يوم حُنين كما ذكرتم، بل قد حكم بذلك يومَ بدر، ولا يمنع كونه قاله بعد القتالِ مِن استحقاقه بالقتل‏.‏وأما كون أبى قتادة لم يطلبه حتى سَمِعَ منادى النبى صلى الله عليه وسلم يقوله، فلا يدُلُّ على أنه لم يكن متقرراً معلوماً، وإنما سكت عنه أبو قتادة لأنه لم يكن يأخُذه بمجرد دعواه، فلما شهد له به شاهد أعطاه‏.‏

والصحيح‏:‏ أن يُكتفى في هذا بالشاهد الواحد، ولا يحتاج إلى شاهد آخر، ولا يمين، كما جاءت به السنةُ الصحيحةُ الصريحة التي لا مُعارِضَ لها، وقد تقدم هذا في موضعه‏.‏ وأما قولُه‏:‏ ‏(‏إنه لو كان للقاتل، لوقف، ولم يُقسم كاللقطة‏)‏، فجوابُه أنه للغانمين، وإنما للقاتل حقُّ التقديم، فإذا لم تُعلم عين القاتل اشترك فيه الغانمين، فإنه حقهم، ولم يظهر مستحق التقديم منهم، فاشتركوا فيه‏.‏

فصل‏:‏ في حكمه صلى الله عليه وسلم فيما حازه المشركون من أموال المسلمين، ثم ظهر عليه المسلمون، أو أسلم عليه المشركون

في البخارى‏:‏ أن فرساً لابن عمر رضى اللَّه عنه ذهب، وأخذه العدو، فظهرَ عليه المسلمون، فَرُدَّ عليه في زمن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، وأَبَقَ له عبد، فلحق بالروم، فظهر عليه المسلمون، فردَّه عليه خالد في زمن أبى بكر رضى اللَّه عنه‏.‏

وفى ‏(‏سنن أبى داود‏)‏‏:‏ أن رسولَ اللَّه صلى الله عليه وسلم هو الذي رَدَّ عليه الغلام‏.‏ وفى ‏(‏المدونة‏)‏ و‏(‏الواضحة‏)‏ أن رجلاً من المسلمين وجد بعيراً له في المغانم، فقال له رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏إنْ وَجدْتَه لم يُقْسَمْ، فَخُذْهُ، وإنْ وجدْتَهُ قَدْ قُسِمَ فَأَنْتَ أَحَقُّ بِهِ بِالثَّمَنِ إن أرَدْتَهُ‏)‏‏.‏

وصح عنه‏:‏ أن المهاجرين طلبوا منه دُورَهم يوم الفتح بمكة، فلم يرد على أحد دارَه‏.‏ وقل له‏:‏ أين تَنْزِلُ غداً من دارك بمكة‏؟‏، فقال‏:‏ ‏(‏وهَلْ تَرَكَ لَنَا عَقِيلٌ مَنْزِلاً‏)‏، وذلك أن الرسولَ صلى الله عليه وسلم لما هاجر إلى المدينة، وثب عقل على رباع النبى صلى اللَّه عليه وسلم بمكة، فحازها كُلَّها، وحوى عليها، ثم أسلم وهى في يده، وقضى رسولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم أن من أسلم على شىء فهو له، وكان عقيل ورث أبا طالب، ولم يرثه على لتقدُّم إسلامه على موت أبيه، ولم يكنْ لرسولِ اللَّه صلى الله عليه وسلم ميراثٌ مِن عبد المطلب، فإن أباه عبدَ اللَّه مات، وأبوه عبدُ المطلب حىٌّ، ثمَّ مات عبدُ المطلب، فَورِثه أولاده، وهم أعمامُ النبى صلى الله عليه وسلم، ومات أكيرُ أولاده، ولم يعقبوا، فحاز أبو طالب رِباعه، ثم مات، فاستولى عليها عَقيلٌ دونَ على لاختلاف الدين، ثم هاجر النبىُّ صلى الله عليه وسلم، فاستولى عقيل على داره، فلذلك قال رسول اللَّه‏:‏ ‏(‏وهَلْ تَرَكَ لَنَا عَقِيلٌ مَنْزِلاً‏)‏‏.‏

وكان المشركون يَعْمِدُونَ إلى من هاجر من المسلمين ولحق بالمدينة، فيستولُون على داره وعقاره، فمضت السنةُ أن الكفارَ المحاربين إذا أسلموا، لم يضمنُوا ما أتلفُوه على المسلمين مِن نفس أو مال، ولم يَرُدُّوا عليهم أموَالهم التي غَصبُوهَا عليهم، بل من أسلم على شىء، فهو له ؛ هذا حكمه وقضاؤه صلى الله عليه وسلم‏.‏

فصل‏:‏ في حكمه صلى الله عليه وسلم فيما كان يُهدى إليه

كان أصحابُه رضى اللَّه عنهم يُهدون إليه الطعامَ وغيره، فيقبلُ منهم، ويُكافئهم أضعافَها‏.‏

وكانت الملوكُ تُهدى إليه، فيقبلُ هداياهم، ويَقْسِمُها بينَ أصحابه، ويأخُذُ منها لنفسه ما يختارُه، فيكون كالصفىِّ الذي له من المغنم‏.‏

وفى ‏(‏صحيح البخارى‏)‏‏:‏ أن النبى صلى الله عليه وسلم أُهدِيَتْ إليه أَقْبِية دِيباجٍ مزرَّرَة بالذهب، فقسمها في ناس مِن أصحابه، وعزل منها واحداً لِمخْرَمة بنِ نوفل، فجاء ومعه المِسور ابنُه، فقام على الباب، فقال‏:‏ ادْعُهُ لى، فسمِع النبىُّ صلى الله عليه وسلم صوتَه، فتلقاه به فاستقبلَه، وقال‏:‏ ‏(‏يا أَبا المِسْوَرِ خَبَأْتُ هذَا لَكَ‏)‏‏.‏

وأهدى له المُقَوْقِسُ ماريةً أمَّ ولده، وسِيرين التي وهبها لحسان، وبغلةً شهباء، وحماراً‏.‏

وأهدى له النجاشىُّ هديةً، فَقبِلَها منه، وبعث إليه هديةً عوضها، وأخبر أنَّه مات قبلَ أن تَصِلَ إليه، وأنها تَرْجعُ، فكان الأمر كما قال‏.‏

وأهدى له فَرْوَةُ بْنُ نُفَاثَةَ الجذَامِى بغلةً ببيضاء ركبها يوم حُنين، ذكره مسلم‏.‏

وذكر البخارى‏:‏ أن مَلِكَ أيلةَ أهدى له بغلةً بيضاء، فكساه رسولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم بُردة، وكتب له بِبَحْرِهِم‏.‏

وأهدى له أبو سفيان هدية فقبلها‏.‏

وذكر أبو عبيد‏:‏ أن عامرَ بن مالك مُلاعِبَ الأْسِنة، أهدى للنبى صلى الله عليه وسلم فرساً فرده، وقال‏:‏ ‏(‏إنَّا لا نَقْبَلُ هَدِيَّةَ مُشْرِكٍ‏)‏ وكذلك قال لعياض المجاشعى‏:‏ ‏(‏إنَّا لا نَقْبَلُ زَبَدَ المُشْرِكِين‏)‏ يعنى‏:‏ رِفدهم‏.‏

قال أبو عبيد‏:‏ وإنما قبل هدية أبى سفيان لأنها كانت في مدةِ الهُدنة بينه وبين أهل مكة، وكذلك المقوقِسُ صاحبُ الإسكندرية إنما قبل هديته لأنه أكرمَ حاطبَ بن أبى بلتعة رسوله إليه، وأقرَّ بنبوته، ولم يُؤيسه من إسلامه، ولم يقبل صلى الله عليه وسلم هديةَ مشركٍ محاربٍ له قطُّ‏.‏

فصل

وأما حكم هدايا الأئمة بعده، فقال سُحنون من أصحاب مالك‏:‏ إذا أهدى أميرُ الروم هديةً إلى الإمام، فلا بأس بقبولها، وتكون له خاصة، وقال الأوزاعى‏:‏ تكون للمسلمين، ويُكافئه عليها مِن بيت يالمال‏.‏ وقال الإمام أحمد رحمه اللَّه وأصحابه‏:‏ ما أهداه الكفار للإمام، أو لأمير الجيش، أو قواده، فهو غنيمة، حكمها حكمُ الغنائم‏.‏

فصل‏:‏ في حكمه صلى الله عليه وسلم في قسمة الأموال

الأموال التي كان النبىُّ صلى الله عليه وسلم يقسِمُها ثلاثة‏:‏ الزكاةُ، والغنائم، والفىء فأما الزكاة والغنائم، فقد تقدم حكمها، وبيَّنا أنه لم يكن يُستوعِبُ الأصنافَ الثمانية، وأنه كان رُبما وضعها في واحد‏.‏

وأما حُكمه في الفىء، فثبت في الصحيح، أنه صلى الله عليه وسلم قسم يومَ حُنين في المؤلفة قلوبُهم من الفىء، ولم يُعطِ الأنصارَ شيئاً، فَعَتِبُوا عليه، فقال لهم‏:‏ ‏(‏ألاَ تَرْضَونَ أَنْ يَذْهَبَ النَّاسُ بالشَّاءِ والبَعِيرِ، وتَنْطَلِقُونَ بِرَسُولِ اللَّه صلى الله عليه وسلم تَقُودُونَهُ إلى رِحَالِكُمْ، فَوَاللَّهِ لما تنقلبونَ بِهِ خَيْرٌ مِمَّا يَنْقَلِبُونَ بِهِ‏)‏ وقد تقدَّم ذكرُ القصة وفوائدها في موضعها‏.‏

والقصة هنا أن اللَّه سبحانه أباح لرسولهِ من الحكم في مال الفىء ما لم يُبحه لغيره، وفى ‏(‏الصحيح‏)‏ عنه صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏إنى لأَعْطِى أَقْوَاماً، وَأَدْعُ غَيْرَهُم، والذي أَدَعُ أَحَبُّ إلىَّ مِنَ الذي أُعْطى‏)‏ وفى ‏(‏الصحيح‏)‏ عنه‏:‏ ‏(‏إنِّى لأَعْطى أَقْوَاماً أَخَافُ ظَلَعَهُمْ وجَزَعَهُمْ، وأَكِلُ أَقْوَاماً إلى مَا جَعَلَ اللَّهُ في قُلُوبِهِمْ مِنَ الغِنى والخَيْرِ، مِنْهم عَمْرُو بْن تَغٌلِب‏)‏‏.‏ قال عمرو بن تغلب‏:‏ فما أُحِبُّ أن لى بكلمةِ رسول الله صلى الله عليه وسلم حُمرَ النَّعَمِ‏.‏وفى ‏(‏الصحيح‏)‏‏:‏ أن علياً بعث إليه بِذُهَيْبَةً من اليمن، فقَسمها أرباعاً، فأعطى الأقرعَ بنَ حابس، وأعطى زيدَ الخيل، وأعطى عَلْقَمَةَ بنَ عُلاثة وعُيَيْنَةَ بنَ حِصن، فقام إليه رجلٌ غائرُ العينين، ناتىءُ الجبهة، كثُّ اللِّحية، محلوقُ الرأس، فقال‏:‏ يا رسول الله اتق الله، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏ويلك أو لست أحقَّ أهلِ الأرض أن يتقىَ الله‏)‏‏؟‏، الحديث‏.‏

وفى ‏(‏السنن‏)‏‏:‏ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم وضع سهم ذى القُربى في بنى هاشم، وفى بنى المطلب، وتَرَكَ بنى نوفل، ونبى عبدِ شمس، فانطلق جُبير بن مُطعم، وعثمانُ ابن عفان إليه، فقالا‏:‏ يا رسولَ اللَّهِ، لا نُنْكِرُ فضلَ بنى هاشم لموضعهم منك، فما بالُ إخوانِنا بنى عبد المطلب، أعطيتَهم وتركتنا، وإنما نحنُ وهم بمنزلةً واحدة، فقال النبىُّ صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏إنَّا وبَنُوا المُطَّلِبِ لا نَفْتَرِقُ في جَاهِليَّةً وَلاَ إسْلامٍ، إنَّما نَحْنُ وَهُمْ شَىءٌ واحدٌِ‏)‏ وشَبَكَ بَيْنَ أَصَابِعِهِ‏.‏

وذكر بعضُ الناس بأن هذا الحكمَ خاص بالنبىِّ صلى الله عليه وسلم، وأن سهمَ ذوى القُربى يُصرف بعدَه في بنى عبد شمس، ونبى نوفل، كما يُصرف في بنى هاشم، وبنى المطلب، قال‏:‏ لأن عبد شمس، وهاشما، والمطلب، ونوفلاً إخوة، وهُم أولادُ عبد مناف‏.‏ ويقال‏:‏ إن عبدَ شمس، وهاشما توأمان‏.‏

والصواب‏:‏ استمرارُ هذا الحكم النبوى، وأنَّ سهمَ ذوى القربى لبنى هاشم ونبى المطلب حيث خصَّه رسولُ الله صلى الله عليه وسلم بهم، وقولُ هذا القائل‏:‏ إن هذا خاصُ بالنبىِّ صلى الله عليه وسلم باطل، فإنه بيَّن مواضِعَ الخُمس الذي جعله الله لذوى القُربى، فلا يُتعدَّى به تلك المواضع، ولا يُقصر عنها، ولكن لم يكن يقسِمُه بينهم على السواء بين أغنيائهم وفقرائهم، ولا كان يقسِمُه قِسمَة الميراث للذكر مثلُ حظِّ الأنثيين، بل كان يَصرفُه فيهم بحسب المصلحة والحاجة، فيزوِّجُ منه عزبَهم، ويقضِى منه عن غارِمهم، ويُعطى منه فقيرَهم كفايته‏.‏

وفى ‏(‏سنن أبى داود‏)‏‏:‏ عن على بن أبى طالب رضى الله عنه، قال‏:‏ ‏(‏ولاَّنى رسول الله خُمْسَ الخمس، فوضعتُه مواضِعَه حياةَ رسول الله صلى الله عليه وسلم، وحياةَ أبى بكر رضى الله عنه، وحياةَ عمر رضى الله عنه‏)‏‏.‏

وقد استدِلَّ به على أنه كان يُصْرَفُ في مصارفه الخمسةِ، ولا يقوى هذا الاستدلال، إذ غايةُ ما فيه أنه صرفه في مصارفه التي كان رسولُ الله صلى الله عليه وسلم يصرِفُه فيها، ولم يَعُدها إلي سواها، فأين تعميمُ الأصناف الخمسة به‏؟‏، والذي يدل عليه هدىُ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم وأحكامُه أنه كان يجعل مصارِفَ الخمس كمصارِفِ الزكاة، ولا يخرجُ بها عن الأصناف المذكورة لا أنه يقسِمُه بينهم كقِسمة الميراث، ومن تأمل سيرته وهديَه حقَّ التأمل لم يشك في ذلك‏.‏

وفى ‏(‏الصحيحين‏)‏‏:‏ عن عمر بن الخطاب رضى الله عنه، قال‏:‏ كانَتْ أموالُ بنى النضير مما أفاء اللَّهُ على رسوله مما لم يُوجِفِ المسلمون عليه بخيل ولا رِكاب، فكانت لِرسول الله صلى الله عليه وسلم خاصة يُنفِقُ منها على أهله نفقةَ سنة، وفى لفظ‏:‏ ‏(‏يحبِسُ لأهله قوت سنتهم، ويجعلُ ما بقى في الكراع والسلاح عُدة في سبيل الله‏)‏‏.‏

وفى ‏(‏السنن‏)‏‏:‏ عن عوف بن مالك رضى الله عنه، قال‏:‏ كان رسولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم إذا أتاه الفىء، قسمه مِن يومه، فأعطى الآهِل حَظَّيْنِ، وأعطى العَزَب حظاً‏.‏فهذا تفصيل منه للآهِلِ بحسب المصلحة والحاجة، وإن لم تكن زوجُه من ذوى القربى‏.‏

وقد اختلف الفقهاءُ في الفىء، هل كان مِلكاً لرسول الله صلى الله عليه وسلم يتصرف فيه كيف يشاء، أو لم يكن ملكاً له‏؟‏ على قولين في مذهب أحمد وغيره‏.‏

والذي تدل عليه سنتُه وهديه، أنه كان يتصرَّف فيه بالأمر، فيضعه حيثُ أمره الله، ويقسِمُه على من أُمِرَ بقسمته عليهم، فلم يكن يتصرَّف فيه تصرُّفَ المالك بشهوته وإرادته، يُعطى من أحبَّ، ويمنعُ من أحبَّ، وإنما كان يتصرَّف فيه تصرُّفَ العبدِ المأمور يُنفِّذُ ما أمره به سيده ومولاه، فيعطى من أمر بإعطائه، ويمنع من أُمِرَ بمنعه، وقد صرح رسول الله صلى الله عليه وسلم بهذا فقال‏:‏ ‏(‏واللَّهِ إنِّى لا أُعطِى أحداً ولا أمنعهُ، إما أنا قاسِمٌ أَضَعُ حِيْثُ أُمِرْتُ‏)‏، فكان عطاؤه ومنعُه وقسمُه بمجرد الأمر، فإن الله سبحانه خيَّره بين أن يكونَ عبداً رسولاً، وبين أن يكون ملكاً رسولاً، فاختار أن يكون عبداً رسولاً‏.‏

والفرقُ بينهما أن العبدَ الرسولَ لا يتصرَّفُ إلا بأمر سيِّده ومُرْسِله، والمَلِكُ الرسولُ له أن يُعطِىَ مَن يشاء، ويمنعُ من يشاء كما قال تعالى للملك الرسول سليمان‏:‏ ‏{‏هذا عَطَاؤُنَا فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسَابٍ‏}‏ ‏[‏ص‏:‏ 39‏]‏ أى‏:‏ أعطِ مَن شئتَ، وامنع من شئت، لا نحاسِبُك ؛ وهذه المرتبة هي التي عُرَضَتْ على نبينا صلى الله عليه وسلم، فَرغِبَ عنها إلى ما هو أعلى منها، وهى مرتبةُ العبودية المحضة التي تَصرُّفُ صاحبها فيها مقصورٌ على أمرِ السيد في كُلِّ دقيق وجليل‏.‏

والمقصود‏:‏ أن تصرفه في الفىء بهذه المثابة، فهو ملك يُخالف حكم غيره من المالكين، ولهذا كان ينفق مما أفاء الله عليه مما لم يُوجِفِ المسلمون عليه بخيل ولا ركاب على نفسه وأهله نفقةَ سنتهم، ويجعل الباقى في الكُراع والسِّلاح عدة في سبيل الله عز وجل، وهذا النوعُ مِن الأموال هو السهمُ الذي وقع بعده فيه مِن النزاع ما وقع إلى اليوم‏.‏

فأما الزكاوات والغنائم، وقسمة المواريث، فإنها معينة لأهلها لا يَشُركُهم غيرُهم فيها، فلم يُشكل على ولاة الأمر بعدَه مِن أمرها ما أشكل عليهم مِن الفىء، ولم يقع فيها مِن النزاع ما وقع فيه، ولولا إشكالُ أمره عليهم، لما طلبت فاطمةُ بنتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم ميراثها مِن تركته، وظنت أنه يُورث عنه ما كان ملكاً له كسائر المالكين، وخفى عليها رضى الله عنها حقيقةُ الملك الذي ليس مما يُورث عنه، بل هو صدقة بعده، ولما علِمَ ذلك خليفتهُ الراشدُ البار الصِّدِّيق، ومَن بعده من الخلفاء الراشدين لم يجعلوه ما خلفه من الفىء ميراثاً يُقسم بين ورثته، بل دفعوه إلى على والعباس يعملان فيه عملَ رسول الله صلى الله عليه وسلم، حتى تنازعا فيه، وترافعا إلى أبى بكر الصديق، وعمر، ولم يَقسم أحد منهما ذلك ميراثاً، ولا مكَّنا منه عباساً وعليَّا، وقد قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ القُرَى فَللّهِ ولِلرّسُولِ وَلذِى القُرْبى وَاليَتَامَى والمَسَاكِين وابْنِ السَّبِيلِ كَيْلاَ يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الأَغَنِيَاءِ مِنْكُمْ وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخَذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا واتَّقُوا اللَّهَ إنَّ اللَّهَ شَدِيدُ العِقَابِ لِلْفُقَرَاءِ المُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ اللَّهِ ورِضْوَاناً ويَنْصُرُونَ الله وَرَسُولَهُ أُولئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ والَّذِينَ تَبَوَّءو الدَّارَ والإيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إلَيْهِمْ‏}‏ ‏[‏الحشر‏:‏ 7-9‏]‏ إلى قوله‏:‏ ‏{‏والَّذِينَ جَاؤُوا مِنْ بَعْدِهِمْ‏}‏ ‏[‏الحشر‏:‏ 10‏]‏، إلى آخر الآية‏.‏ فأخبر سبحانه أن ما أفاء على رسوله بجملته لِمَن ذُكِرَ في هذِهِ الآيات، ولم يَخُصَّ منه خمسة بالمذكورين، بل عمَّمَ وأطلق واستوعب‏.‏

ويُصرف على المصارف الخاصة، وهم أهلُ الخمس، ثم على المصارف العامة، وهم المهاجرون والأنصار وأتباعهم إلى يوم الدين‏.‏ فالذى عمل به هو وخلفاؤه الراشدون، هو المرادُ من هذه الآيات، ولذلك قال عمر بن الخطاب رضى الله عنه فيما رواه أحمد رحمه الله وغيره عنه‏:‏ ما أحدٌ أحقَّ بهذا المالِ مِن أحد، وما أنا أحقَّ به من أحد، والله ما مِن المسلمين أحد إلا وله في هذا المال نصيب إلا عبد مملوك، ولكنا على منَازِلنا مِن كتاب الله، وقسمنا من رسول الله صلى الله عليه وسلم فالرجلُ وبلاؤُه في الإسلام، والرجل وقِدَمُه في الإسلام، والرجل وغَناؤه في الإسلام، والرجل وحاجتُه، والله لئن بقيت لهم ليأتين الراعى بجبل صنعاء حظُّه مِن هذا المال، وهو يَرعى مكانه‏.‏ فهؤلاء المسمَّوْن في آية الفىء هم المسمَّون في آية الخمس، ولم يدخُل المهاجرون والأنصارُ وأتباعُهم في آية الخمسِ، لأنهم المستحقون لجملة الفىء، وأهلُ الخمس لهم استحقاقان‏:‏ استحقاقٌ خاص مِن الخمس، واستحقاقٌ عام من جملة الفىء، فإنهم داخلون في النَّصِيبَيْنِ‏.‏

وكما أن قِسمته من جملة الفىء بين مَن جعل له ليس قسمة الأملاك التي يشترك فيها المالكون ؛ كقِسمةِ المواريث والوصايا والأملاك المطلقة، بل بحسب الحاجة والنفع والغَناء في الإسلام والبلاء فيه، فكذلك قِسمة الخمسِ في أهله، فإن مخرجَهما واحد في كتاب الله، والتنصيصُ على الأصناف الخمسة يُفيد تحقيق إدخالهم‏.‏ وأنهم لا يُخرجون من أهل الفىء بحال، وأن الخمس لا يعدوهم إلى غيرهم، كأصناف الزكاة لا تعدوهم إلى غيرهم، كما أن الفىء العام في آية الحشر للمذكورين فيها لا يتعداهم إلى غيرهم، ولهذا أفتى أئمة الإسلام، كمالك، والإمام أحمد وغيرهما، أن الرافضة لا حقَّ لهم في الفىء لأنهم ليسوا من المهاجرين، ولا من الأنصار، ولا من الذين جاؤوا من بعدهم يقولون‏:‏‏{‏رَبّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلإِخْوَانِنَا الّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ‏}‏ ‏[‏الحشر‏:‏10‏]‏، وهذا مذهبُ أهل المدينة، واختيارُ شيخ الإسلام ابن تيمية، وعليه يدل القرآن، وفعل رسول الله صلى الله عليه وسلم، وخلفائه الراشدين‏.‏

وقد اختلف الناسُ في آية الزكاةِ وآيةِ الخمس، فقال الشافعى‏:‏ تجب قسمةُ الزكاة والخمس على الأصناف كلِّها، ويُعطى مِن كل صنف مَن يطلق عليه اسم الجمع‏.‏

وقال مالك رحمه الله وأهلُ المدينة‏:‏ بل يُعطى في الأصناف المذكورة فيهما، ولا يعدوهم إلى غيرهم، ولا تجب قسمةُ الزكاة ولا الفىء في جميعهم‏.‏

وقال الإمام أحمد وأبو حنيفة‏:‏ بقول مالك رحمهم الله في آية الزكاة، وبقول الشافعى رحمه الله في آية الخمس‏.‏

ومن تأمل النصوصَ، وعَمَلَ رسول الله صلى الله عليه وسلم وخلفائه، وجده يدل على قول أهل المدينة، فإن الله سبحانه جعل أهل الخمس هم أهل الفىء، وعيَّنهم اهتماماً بشأنهم، وتقديماً لهم، ولما كانت الغنائمُ خاصة بأهلها لا يشركهم فيها سواهم، نصَّ على خمسها لأهل الخمس، ولما كان الفىء لا يختصُ بأحد دون أحد، جعل جملته لهم، وللمهاجرين والأنصار وتابعيهم، فسوَّى بينَ الخمسِ وبين الفىء في المصرِف، وكان رسولُ الله صلى الله عليه وسلم يصِرفُ سهم الله وسهمَه في مصالح الإسلام، وأربعةَ أخماس الخمس في أهلها مقدماً لِلأهم فالأهم، والأحوج فالأحوج، فيزوج منه عزابَهم، ويقضى منه ديونهم، ويُعين ذا الحاجة منهم، ويُعطى عزبهم حظاً، ومتزوجَهم حظَّين، ولم يكن هو ولا أحدٌ من خلفائه يجمعون اليتامى والمساكين وأبناء السبيل وذوى القربى، ويقسمون أربعة أخماس الفىء بينهم على السوية، ولا على التفضيل، كما لم يكونوا يفعلون ذلك في الزكاة، فهذا هديُه وسيرتُه، وهو فصلُ الخطاب، ومحضُ الصواب‏.‏

فصل‏:‏ في حكمه صلى الله عليه وسلم في الوفاء بالعهد لعدوِّه وفى رسلهم، أن لا يُقتلوا ولا يُحبسوا، وفى النبذ إلى من عاهده على سواء إذا خافَ منه نقضَ العهد

ثبت عنه أنه قال لرسولى مسلمَة الكذاب لما قالا‏:‏ نقول‏:‏ إنه رسولُ اللَّهِ‏:‏ ‏(‏لَوْلاَ أَنَّ الرُّسُلَ لاَ تُقْتَلُ لَقَتَلْتُكُمَا‏)‏‏.‏

وثبت عنه أنه قال لأبى رافع وقد أرسلته إليه قريش، فأراد المقامَ عنده، وأنه لا يرجع إليهم، فقال‏:‏ ‏(‏إنى لاَ أَخِيسُ بِالعَهْدِ، ولا أَحْبِسُ البُرُدَ، وَلكِنِ ارْجِعْ إلى قَوْمِكَ، فَإنْ كَانَ في نَفْسِكَ الذي فيها الآن فارْجِعْ‏)‏‏.‏

وثبت عنه أنه ردَّ إليهم أبا جندل للعهد الذي كان بينه وبينهم أن يَرُدَّ إليهم من جاءه منهم مسلماً، ولم يرد النساء، وجَادت سُبَيْعَةُ الأسلميةُ مسلمةً، فخرج زوجُها في طلبها، فأنزل الله عز وجل‏:‏ ‏{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إذَا جَاءَكُم المُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ اللَّهُ أَعْلَمُ بِإيمَانِهِنَّ فَإنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ فَلاَ تَرْجِعُوهُنَّ إلى الكُفَّارِ‏}‏ ‏[‏الممتحنة‏:‏ 10‏]‏ فاستحلفها رسولُ الله صلى الله عليه وسلم أنه لم يُخرجها إلا الرغبة في الإسلامِ، وأنها لم تخرج لحدث أحدثته في قومها، ولا بغضاً لزوجها، فحلفت، فأعطى رسول الله صلى الله عليه وسلم زوجَها مهرَها، ولم يردها عليه‏.‏ فهذا حكمه الموافق لحكم الله، ولم يجىء شىء ينسخه البتة، ومن زعم أنه منسوخ، فليس بيده إلا الدعوى المجردة، وقد تقدم بيان ذلك في قصة الحُديبية‏.‏

وقال تعالى‏:‏‏{‏وإمَّا تَخَافَنَّ مِنْ قَومٍ خِيَانةً فانْبِذْ إلَيْهِمْ عَلى سَوَاءٍ إنَّ اللَّهَ لا يُحبُّ الخَائِنِينَ‏}‏ ‏[‏الأنفال‏:‏ 58‏]‏

وقال صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏مَنْ كَانَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ قَوْمٍ عَهْدٌ فَلاَ يَحُلَّنَّ عَقْداً، ولاَ يُشُدَّنَّهُ حَتَّى يَمْضِىَ أَمَدُهُ، أَوْ يَنْبِذَ إلَيْهِمْ عَلى سَوَاء‏)‏‏.‏ قال الترمذى‏:‏ حديث حسن صحيح‏.‏

ولما أسرت قريشٌ حذيفة بن اليمان وأباه أطلقوهما، وعاهدوهما أن لا يقاتلاهم معَ رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكانوا خارجَيْن إلى بدر، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏انْصَرِفا، نَفَىِ لَهُمْ بِعَهْدِهِمْ، ونَستَعِينُ اللَّهَ عَلَيْهِمْ‏)‏‏.‏

فصل‏:‏ في حكمه صلى الله عليه وسلم في الأمان الصادر من الرجال والنساء

ثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:‏ ‏(‏الْمُسْلِمُونَ تَتَكَافَأُ دِمَاؤُهُم وَيسْعَى بِذِمَّتِهِمْ أَدْنَاهُمْ‏)‏‏.‏

وثبت عنه أن أجارَ رجلينَ أجارتْهُما أم هانىء ابنة عمه ؛ وثبت عنه أنه أجار أبا العاص بن الربيع لما أجارته ابنتُه زينب، ثم قال‏:‏ ‏(‏يُجيرُ عَلَى المُسْلِمِينَ أَدْنَاهُمْ‏)‏‏.‏ وفى حديث آخر‏:‏ ‏(‏يُجِيرُ على المُسْلِمِينَ أَدْنَاهُم وَيَرُدُّ عَلَيْهِمْ أَقصَاهُمْ‏)‏‏.‏

فهذه أربع قضايا كلية ؛ أحَدها‏:‏ تكافؤ دمائهم، وهو يمنع قتل مسلمهم بكافرهم‏.‏

والثانية‏:‏ أنه يَسعى بذمتهم أدناهم، وهو يُوجب قبول أمان المرأة والعبد‏.‏

وقال ابن الماجشون‏.‏ لا يجوز الأمان إلا لوالى الجيش، أو والى السرية‏.‏ قال ابنُ شعبان‏:‏ وهذا خلافُ النَّاس كُلِّهم‏.‏

والثالثة‏:‏ أن المسلمين يد على من سواهم، وهذا يمنعُ مثن تولية الكفار شيئاً من الولايات، فإن للوالى يداً على المولَّى عليه‏.‏

والرابعة‏:‏ أنه يرد عليهم أقصاهم، وهذا يُوجب أن السَّرِيَّة إذا غنمت غنيمة بقوة جيش الإسلام كانت لهم، وللقاصى من الجيش إذ بقوته غنموها، وأن ما صار في بيت المال من الفىء كان لقاصيهم ودانيهم، وإن كان سبب أخذه دانيهم، فهذه الأحكام وغيرها مستفادة من كلماته الأربعة صلوات الله وسلامه عليه‏.‏