فصل: فصل: في حُكمه صلى الله عليه وسلم في الغَيل، وهو وطءُ المرضِعَة

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: زاد المعاد في هدي خير العباد **


فصل‏:‏ في حكمه صلى الله عليه وسلم في الجزية ومقدارها وممن تقبل

قد تقدم أنَّ أول ما بعث الله عز وجل به نبيَّه صلى الله عليه وسلم الدعوة إليه بغير قتال ولا جزية، فأقام على ذلك بِضْعَ عشرة سنة بمكة‏.‏ ثم أذِنَ له في القتال لما هاجر من غير فرض له، ثم أمره بقتال من قاتله، والكفِّ عمن لم يقاتله، ثم لما نزلت ‏(‏براءة‏)‏ سنة ثمان أمره بقتال جميع من لم يُسلم من العرب‏:‏ مَن قالته، أو كفَّ عن قتاله إلا من عاهده، ولم يَنْقُصْهُ من عهده شيئاً، فأمره أن يفىَ له بعهده، ولم يأمره بأخذ الجزية من المشركين، وحارب اليهود مراراً، ولم يُؤمر بأخذ الجزية منهم‏.‏

ثمَّ أمره بقتال أهل الكتاب كلهم حتى يسلموا أو يعطوا الجزية، فامتثل أمر ربه، فقاتلهم، فأسلم بعضهم، وأعطى بعضُهم الجزية، واستمرَّ بعضُهم على محاربته، فأخذها صلى الله عليه وسلم مِن أهل نجران وأيلة، وهم من نصارى العرب، ومن أهل دُومَة الجندل وأكثرُهم عرب، وأخذها مِن المجوس ومن أهل الكتاب باليمن، وكانوا يهوداً‏.‏

ولم يأخذها من مشركى العرب، فقال أحمد، والشافعى‏:‏ لا تؤخذ إلا من الطوائف الثلاث التي أخذها رسول الله صلى الله عليه وسلم منهم، وهم‏:‏ اليهود، والنصارى، والمجوس‏.‏ ومن عداهم فلا يُقبل منهم إلا الإسلامُ أو القتل‏.‏ وقالت طائفة‏:‏ في الأمم كلها إذا بذلوا الجزية، قُبِلَتْ منهم‏:‏ أهل الكتابين بالقرآن، والمجوس بالسنة، ومن عداهم ملحَقٌ بهم لأن المجوس أهل شرك لا كتاب لهم، فأخذُها منهم دليل على أخذها من جميع المشركين، وإنما لم يأخذها صلى الله عليه وسلم من عبدة الأوثان من العرب لأنهم أسلموا كلهم قبل نزول آية الجزية، فإنها نزلت بعدَ تبوك، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد فرغ من قتال العرب، واستوثقت كُلُّها له بالإسلام، ولهذا يأخذها مِن اليهود الذين حاربوه، لأنها لم تكن نزلت بعد، فلما نزلت، أخذها من نصارى العرب، ومن المجوس، ولو بقى حينئذ أحدٌ من عبدة الأوثان بذلها لقبلها منه، كما قبلها من عبدة الصلبان والنيران، ولا فرق ولا تأثير لتغليظِ كفر بعض الطوائف على بعض، ثم إن كفر عبدةِ الأوثان ليس أغلظ مِن كفر المجوس، وأىُّ فرق بين عبدة الأوثان والنيران، بل كفرُ المجوس أغلظ، وعبادُ الأوثان كانوا يُقرون بتوحيد الربوبية، وأنه لا خالق إلا الله، وأنهم إنما يعبدون آلهتهم لِتقربهم إلى الله سبحانه وتعالى ، ولم يكونوا يُقِرُّون بصانعَيْنِ للعالم، أحدهما‏:‏ خالق للخير، والآخر للشر، كما تقوله المجوس، ولم يكونوا يستحلون نكاح الأمهات والبنات والأخوات، وكانوا على بقايا من دين إبراهيم صلوات الله وسلامه عليه‏.‏

وأما المجوس، فلم يكونوا على كتاب أصلاً، ولا دانوا بدين أحد من الأنبياء لا في عقائدهم ولا في شرائِعهم، والأثر الذي فيه أنه كان لهم كتاب فَرُفعَ، ورُفِعَت شريعتُهم لما وقع مَلِكُهم على ابنته لا يَصِحُّ البتة، ولو صحَّ لم يكونوا بذلك من أهل الكتاب، فإن كتابَهم رُفِعَ، وشريعتهم بطلت، فلم يبقوا على شىء منها‏.‏

ومعلوم أن العربَ كانوا على دين إبراهيم عليه السلام، وكان له صحف وشريعة، وليس تغييرُ عبدة الأوثان لدينِ إبراهيم عليه السلام وشريعته بأعظم من تغيير المجوس لدين نبيهم وكتابهم لو صحَّ، فإنه لا يُعرف عنهم التمسك بشىء من شرائع الأنبياء عليهم الصلوات والسلام، بخلاف العرب، فكيف يجعل المجوس الذين دينُهم أقبحُ الأديان أحسنَ حالاً من مشركى العرب، وهذا القول أصحُّ في الدليل كما ترى‏.‏

وفرقت طائفة ثالثة بين العرب وغيرهم، فقالوا‏:‏ تُؤخذ مِن كل كافر إلا مشركى العرب‏.‏ورابعة‏:‏ فرقت بين قريش وغيرهم، وهذا لا معنى له، فإن قريشاً لم يبق فيهم كافر يحتاج إلى قتاله وأخذ الجزية منه البتة، وقد كتب النبى صلى الله عليه وسلم إلى أهل هَجَر، إلى المنذر بن ساوى، وإلى ملوك الطوائف يدعوهم إلى الإسلام أو الجزية، ولم يفرق بين عربى وغيره‏.‏

أما حُكمُه في قدرها، فإنه بعث معاذاً إلى اليمن، وأمره أن يأخذ مِن كُلِّ حالم ديناراً أو قِيمته مَعَافِر، وهى ثياب معروفة باليمن‏.‏ ثم زاد فيها عمر رضى الله عنه، فجعلها أربعةً دنانير على أهل الذهب، وأربعينَ درهماً على أهل الوَرِقِ في كل سنة، فرسول الله صلى الله عليه وسلم علم ضعفَ أهل اليمن، وعمرُ رضى الله عنه علم غِنى أهل الشام وقوتهم‏.‏

فصل‏:‏ في حكمه صلى الله عليه وسلم في الهدنة وما ينقضها

ثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه صالح أهلَ مكة على وضع الحرب بينه وبينهم عشرَ سنين، ودخل حلفاؤهم من بنى بكر معهم، وحلفاؤه من خزاعة معه، فَعَدَتْ حلفاءُ قريش على حلفائه‏.‏ فغدروا بهم، فرضيت قريش ولم تُنكره، فجعلهم بذلك ناقضين للعهد، واستباح غزوهم مِن غير نبذ عهدهم إليهم، لأنهم صاروا محاربين له، ناقضين لعهده برضاهم وإقرارهم لحلفائهم على الغدر بحلفائه، وألحق رِدأهم في ذلك بمباشرهم‏.‏

وثبت عنه أنه صالح اليهود، وعاهدهم لما قَدِمَ المدينة، فغدروا به، ونقضوا عهده مراراً، وكل ذلك يُحاربهم ويظفر بهم، وآخرُ ما صالح يهود خيبر على أن الأرض له، ويُقرهم فيها عمالاً له ما شاء، وكان هذا الحكمُ منه فيهم حجةً على جواز صلح الإمام لعدوه ما شاء مِن المدة، فيكون العقدُ جائزاً، له فسخه متى شاب، وهذا هو الصواب، وهو موجب حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي لا ناسخَ له‏.‏

فصل

وكان في صلحه لأهل مكة أن من أحبَّ أن يدخل في عهد محمد وعقده دخل، ومن أحب أن يدخل في عهد قريش وعقدهم دخل، وأن من جاءهم من عنده لا يردُّونه إليه، ومن جاءه منهم رده إليهم، وأنه يدخل العام القابل إلى مكة، فيخلونها له ثلاثاً، ولا يدخلها إلا بِجُلُبَّانِ السلاح، وقد تقدم ذِكرُ هذه القصة وفقهها في موضعه‏.‏

ذكر أقضيته وأحكامه صلى الله عليه وسلم في النكاح وتوابِعه

فصل‏:‏ في حكمه صلى الله عليه وسلم في الثَّيِّبِ والبِكر يُزوِّجُهما أبوهما

ثبت عنه في ‏(‏الصحيحين‏)‏‏:‏ أن خنساء بنت خِدَام زوَّجَها أبوها وهى كارِهةٌ، وكانت ثيباً، فأَتَتْ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم، فردّ نِكاحَهَا‏.‏ وفى السنن‏:‏ من حديث ابن عباس‏:‏ أن جاريةً بكراً أتت النَّبىَّ صلى الله عليه وسلم، فذكرت لَهُ أنَّ أباها زوّجها وَهِىَ كَارِهَةٌ، فخيرها النبى صلى الله عليه وسلم‏.‏ وهذه غير خنساء، فهما قضيتان قضى في إحداهما بتخيير الثِّيب، وقضى في الأخرى بتخيير البكر‏.‏

وثبت عنه في ‏(‏الصحيح‏)‏ أنه قال‏:‏ ‏(‏لا تُنْكَحُ البِكْرُ حَتَّى تُسْتَأْذَنَ، قالوا‏:‏ يا رسولَ الله‏:‏ وكيف إذنُها‏؟‏ قال‏:‏ ‏(‏أَنْ تَسْكُتَ‏)‏‏.‏

وفى صحيح مسلم‏:‏ ‏(‏البِكْرُ تُستأذن في نَفْسِهَا، وإذْنُهَا صُمَاتُها‏)‏‏.‏

وموجب هذا الحكم أنه لا تُجبر البِكرُ البالغُ على النكاح، ولا تُزوج إلا برضاها، وهذا قولُ جمهور السلف، ومذهبُ أبى حينفة وأحمد في إحدى الروايات عنه، وهو القولُ الذي ندين الله به، ولا نعتقِدُ سواه، وهو الموافِقُ لحكم رسول الله صلى الله عليه وسلم وأمرِه ونهيه، وقواعد شريعته، ومصالح أمته‏.‏

أما موافقتُه لِحكمه، فإنه حَكَم بتخيير البِكرِ الكارِهة، وليس روايةُ هذا الحديث مرسلةً بعلة فيه، فإنه قد رُوى مسنداً ومرسلاً‏.‏ فإن قلنا بقول الفقهاء‏:‏ إن الاتصال زيادة، ومَنْ وصله مقدَّمٌ على من أرسله، فظاهر وهذا تصرفهم في غالب الأحاديث، فما بالُ هذا خرج عن حكم أمثاله، وإن حكمنا بالإرسال، كقول كثير من المحدثين، فهذا مرسل قوى قد عضدته الآثارُ الصحيحة الصريحة، والقياسُ وقواعِدُ الشرع كما سنذكره، فيتعين القولُ به‏.‏

وأما موافقة هذا القول لأمره، فإنه قال‏:‏ ‏(‏والبِكْرُ تُستأذن، وهذا أمر مؤكّد، لأنه ورد بصيغة الخبرِ الدال على تحقُّقِ المخبر به وثبوتِه ولزومِه، والأصل في أوامره صلى الله عليه وسلم أن تكون للوجوب ما لم يَقُمْ إجماع على خلافه‏.‏

وأما موافقته لنهيه، فلقوله‏:‏ ‏(‏لاَ تُنْكَحُ البِكْرُ حَتَّى تُسْتَأَذَنَ‏)‏، فأمر ونهى، وحكم بالتخيير، وهذا إثبات للحكم بأبلغ الطرق‏.‏

وأما موافقته لِقواعد شرعِه، فإنَّ البِكر البالغة العاقلة الرشيدة لا يتصرَّف أبوها في أقلِّ شىء من مالها إلا برضاها، ولا يُجبرها على إخراج اليسيرِ منه بدون رضاها، فكيف يجوز أن يُرِقَّها، ويُخرِجَ بُضعها منها بغير رضاها إلى من يُريد هو، وهى مِن أكره الناس فيه، وهو مِن أبغض شىء إليها‏؟‏ ومع هذا فيُنكِحها إياه قهراً بغير رضاها إلى من يُريده، ويجعلُها أسيرةً عنده، كما قال النبىُّ صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏اتَّقُوا اللَّهَ في النِّسَاءِ فَإنَّهُنَّ عَوَانٍ عِنْدَكُمْ‏)‏ أى‏:‏ أسرى، ومعلومٌ أن إخراجَ مالها كُلِّه بغير رضاها أسهلُ عليها من تزويجها بمن لا تختارُه بغير رضاها، ولقد أبطلَ مَنْ قال‏:‏ إنها عينت كُفْئاً تُحبه، وعيَّن أبوها كُفْئاً، فالعبرةُ بتعيينه، ولو كان بغيضاً إليها، قبيحَ الخِلقة‏.‏

وأما موافقتُه لمصالح الأمة، فلا يخفى مصلحة البنت في تزويجها بمن تختاره وترضاه، وحصولُ مقاصد النكاح لها به، وحصولُ ضد ذلك بمن تُبغِضُه وتنفِرُ عنه، فلو لم تأت السنة الصريحة بهذا القول، لكان القياسُ الصحيح، وقواعدُ الشريعة لا تقتضى غيره، وبالله التوفيق‏.‏

فإن قيل‏:‏ قد حكم رسولُ الله صلى الله عليه وسلم بالفرق بين البكر والثيب، وقال‏:‏ ‏(‏ولا تُنكَحُ الأِّيم حتى تُستأمر، ولا تُنكح البِكُر حتى تُستأذن‏)‏ وقال‏:‏ ‏(‏الأَيِّمُ أَحَقُّ بِنَفْسِها مِنْ وَلِيِّها، والبِكْرُ يَسْتَأْذَنُها أَبُوها‏)‏ فجعل الأَيَّمَ أحقَّ بنفسها من وليِّها، فعلم أن ولىَّ البكرِ أحقُّ بها مِن نفسها، وإلا لم يكن لتخصيصِ الأَيِّم بذلك معنى‏.‏

وأيضاً فإنه فرَّق بينهما في صفة الإذن، فجعل إذنَ الثَّيِّبِ النطقَ، وإذن البِكرِ الصَّمتَ، وهذا كُلُّه يدل على عدم اعتبار رضاها، وأنها لا حقَّ لها مع أبيها‏.‏

فالجواب‏:‏ أنه ليس في ذلك ما يَدُلُّ على جواز تزويجها بغير رضاها مع بلوغها وعقلها ورُشدها، وأن يزوجها بأبغضِ الخلق إليها إذا كان كُفْئاً، والأحاديث التي احتججتُم بها صريحةٌ في إبطال هذا القول، وليس معكم أقوى مِن قوله‏:‏ ‏(‏الأِّيم أحق بنفسها من وليِّها‏)‏، هذا إنما يدلُ بطريق المفهوم، ومُنازِعوكم يُنازعونكم في كونه حجة، ولو سلم أنه حجة، فلا يجوز تقديمُه على المنطوق الصريح، وهذا أيضاً إنما يدل إذا قلت‏:‏ إن للمفهوم عموماً، والصواب أنه لا عموم له، إذ دلالتُه ترجعُ إلى أن التخصيصَ بالمذكور لا بُدَّ له من فائدة، وهى نفىُ الحكم عما عداه، ومعلوم أن انقسام ما عداه إلى ثابت الحكم ومنتفيه فائدة، وأن إثبات حكم آخرَ للمسكوت عنه فائدة وإن لم يكن ضدَّ حكم المنطوق، وأن تفصيله فائدة، كيف وهذا مفهومٌ مخالفٌ للقياس الصريح، بل قياس الأولى كما تقدم، ويُخالف النصوصَ المذكورة‏.‏

وتأمل قوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏والبكر يستأذنها أبوها‏)‏ عقيبَ قوله‏:‏ ‏(‏الأِّيم أحق بنفسها من وليها‏)‏، قطعاً لتوهم هذا القول، وأن البكر تُزوج بغير رضاها ولا إذنها، فلا حق لها في نفسها البتة، فوصل إحدى الجملتين بالأخرى دفعاً لهذا التوهم‏.‏ ومن المعلوم أنه لا يلزمُ مِن كون الثيِّب أحق بنفسها من وليها أن لا يكون للِبكر في نفسها حق البتة‏.‏

وقد اختلف الفقهاء في مناط الإجبار على ستة أقوال‏.‏

أحدُها‏:‏ أنه يُجبر بالبكارة، وهو قولُ الشَافعى ومالك وأحمد في رواية‏.‏

الثانى‏:‏ أنه يُجبر بالصغر، وهو قولُ أبى حنيفة، وأحمد في الرواية الثانية‏.‏

الثالث‏:‏ أنه يجبر بهما معاً، وهو الروايةُ الثالثة عن أحمد‏.‏

الرابع‏:‏ أنه يُجبر بأيِّهما وجد وهو الرواية الرابعة عنه‏.‏

الخامس‏:‏ أنه يُجبر بالإيلاد، فُتجبَرُ الثيب البالغ، حكاه القاضى إسماعيل عن الحسن البصرى قال‏:‏ وهو خلاف الإجماع‏.‏ قال‏:‏ وله وجه حسن من الفقه، فيا ليتَ شعرى ما هذا الوجه الأسودُ المظلمُ‏؟‏،

السادس‏:‏ أنه يُجبر من يكون في عياله، ولا يَخفى عليك الراجحُ مِن هذه المذاهب‏.‏

فصل

وقضى صلى الله عليه وسلم بأن إذن البكر الصُّمات، وإذن الثيب الكلام، فإن نطقت البكر بالإذن بالكلام فهو آكد، وقال ابنُ حزم‏:‏ لا يَصِحُّ أن تزوج إلا بالصمات، وهذا هو اللائق بظاهريته‏.‏

فصل

وقضى رسولُ الله صلى الله عليه وسلم أن اليتيمةَ تُستأمر في نفسها، ولا يُتمَ بَعْدَ احْتِلامٍ، فدلَّ ذلك على جواز نكاح اليتيمة قبل البلوغ، وهذا مذهبُ عائشة رضى الله عنها، وعليه يَدُلُّ القرآن والسنة، وبه قال أحمد وأبو حنيفة وغيرُهما‏.‏

قال تعالى‏:‏‏{‏ويَسْتَفتُونَكَ في النِّسَاءِ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُم فيهنَّ وَمَا يُتْلى عَلَيْكُمْ في الكِتَابِ في يَتَامَى النِّسَاءِ اللاَّتى لا تُؤْتُونَهُنَّ مَا كُتِبَ لَهُنَّ وتَرْغَبُونَ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 127‏]‏‏.‏

قالت عائشةُ رضى الله عنها‏:‏ هي اليتيمةُ تكون في حجر وليها، فيرغبُ في نكاحها، ولا يُقْسِطُ لها سُنَّةَ صَدَاقِها، فَنُهوا عن نكاحهن إلا أن يُقْسِطُوا لهن سُنَّةَ صداقِهن‏.‏

وفى السنن الأربعة‏:‏ عنه صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏اليَتِيمَةُ تُسْتَأْمَرُ في نَفْسِهَا فَإنْ صَمَتَتْ فَهُوَ إذْنُها وإنْ أَبتْ، فَلاَ جَوَازَ عَلَيْهَا‏)‏‏.‏

فصل‏:‏ في حكمه صلى الله عليه وسلم في النكاح بلا ولى

في ‏(‏السنن‏)‏ عنه من حديث عائشة رضى الله عنها‏:‏ ‏(‏أَيُّمَا امْرَأَةٍ نَكَحَتْ نَفْسَها بِغَيْر إذْن وَلِّيها فَنِكَاحُها بَاطِلٌ، فَنِكَاحُها باطِلٌ، فَنِكَاحُها بَاطِلُ، فَإن أَصَابَها فَلَها مَهْرُهَا بمَا أَصَابَ مِنْها، فَإنْ اشْتَجَرُوا فَالسُّلْطَانُ وَلى مَنْ لاَ وَلِىَّ لَهُ‏)‏ قال الترمذى حديث حسن‏.‏

وفى السنن الأربعة‏:‏ عنه‏:‏ ‏(‏لاَ نِكَاحَ إِلاَّبِوَلى‏)‏‏.‏ وفيها عنه‏:‏ ‏(‏لاَ تُزوِّجُ المَرْأَةُ المرأةَ، ولا تُزَوِّجُ المَرْأَةُ نَفْسَها، فَإن الزَّانِيَةَ هي التي تَزُوِّجُ نَفْسَهَا‏)‏‏.‏

فصل

وحكم أن المرأة إذا زوجها الوليان، فهى للأول منهما، وأن الرجل إذا باع للرجلين، فالبيعُ للأول منهما‏.‏

فصل‏:‏ في قضائه في نكاح التفويض

ثبت عنه أنه قضى في رجل تزوَّج امرأة، ولم يَفْرِضْ لها صداقاً، ولم يدخل بها حتَّى ماتَ أن لها مَهْرَ مِثْلِهَا، لا وَكْسَ ولا شَطَطَ، ولها الميراثُ، وعليها العِدةُّ أربعة أشهر وعشراً‏.‏

وفى سنن أبى داود عنه‏:‏ أنه قال لرجل‏:‏ ‏(‏أَتَرْضى أَنْ أُزَوِّجَكَ فلانَة‏)‏‏؟‏ قال‏:‏ نعم، وقال للمرأة‏:‏ ‏(‏أَتَرْضَيْنَ أَنْ أَزَوَّجَكِ فُلاَناً‏)‏‏؟‏ قالت‏:‏ نعم، فزوَّج أحدهما صاحبه، فدخل بها الرجلُ، ولم يَفْرِضْ لها صَداقاً، ولم يُعطِها شيئاً، فلما كان عند موته عوَّضَها مِن صداقها سهماً له بخيبر‏.‏

وقد تضمَّنت هذه الأحكام جوازَ النكاح مِن غير تسمية صداق، وجوازَ الدخول قبل التسمية، واستقرارَ مهر المثل بالموت، وإن لم يدخُلْ بها، ووجوبَ عِدة الوفاةِ بالموت، وإن لم يدخُلْ بها الزوج، وبهذا أخذ ابنُ مسعود وفقهاءُ العِراق‏.‏ وعلماءُ الحديث، منهم‏:‏ أحمد، والشافعى في أحد قوليه‏.‏ وقال على بن أبى طالب، وزيد بن ثابت رضى الله عنهما‏:‏ لا صداقَ لها، وبه أخذَ أهلُ المدينة، ومالك، والشافعى في قوله الآخر‏.‏

وتضمَّنت جواز تولِّى الرجل طَرَفى العقد، كوكيل مِن الطرفين، أو ولى فيهما، أول ولى وكَّلَه الزوجُ، أو زوجٍ وكَّلَه الولى، ويكفى أن يقول‏:‏ زوجتُ فلاناً فلانة مقتصراً على ذلك، أو تزوجت فلانة إذا كان هو الزوج، وهذا ظاهر مذهب أحمد، وعنه رواية ثانية‏:‏ لا يجوز ذلك إلا للولى المجبر، كمن زوَّج أمته أو ابنته المجبرة بعبده المجبر، ووجه هذه الرواية أنه لا يُعتبر رضى واحد من الطرفين‏.‏

وفى مذهبه قول ثالث‏:‏ أنه يجوز ذلك إلا للزوج خاصة، فإنه لا يصِحُّ منه تولى الطرفين لتضاد أحكامِ الطرفين فيه‏.‏

فصل‏:‏ في حكمه صلى الله عليه وسلم فيمن تزوج امرأةً فوجدها في الحَبَلِ

في ‏(‏السنن‏)‏ ‏(‏والمصنَّف‏)‏‏:‏ عن سعيد بن المسيب، عن بصرة بن أكثم، قال‏:‏ تزوجت امرأة بكراً في سترها، فدخلتُ عليها، فإذا هي حُبلى، فقال النبىُّ صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏لَهَا الصَّدَاقُ بِمَا اسْتحْلَلْتَ مِنْ فَرْجِهَا وَالوَلَدُ عَبْدُ لَكَ، وإذا وَلَدَتْ فَاجْلِدوُهَا‏)‏، وفرَّق بينَهما‏.‏

وقد تضمَّن هذا الحكم بطلانَ نِكاح الحامل مِن زنى، وهو قولُ أهل المدينة، والامام أحمد، وجمهور الفقهاء، ووجوبُ المهر المسمى في النكاح الفاسد، وهذا هو الصحيح من الأقوال الثلاثة‏.‏ والثانى‏:‏ يجب مهر المثل، وهو قول الشافعى رحمه الله‏.‏ والثالث‏:‏ يجبُ أقلُّ الأمرين‏.‏

وتضمنت وجوبَ الحد بالحَبَل وإن لم تقُمْ بينة ولا اعتراف، والحبل من أقوى البينات، وهذا مذهبُ عمر بن الخطاب رضى الله عنه، وأهل المدينة، وأحمد في إحدى الروايتين عنه‏.‏

وأما حكمه بكون الولد عبداً للزوج، فقد قيل‏:‏ إنه لما كان ولد زنى لا أب له، وقد غرَّته من نفسها، وغَرِمَ صداقها أخدمه ولدها، وجعله له بمنزلة العبد لا أنه أرقَّه، فإنه انعقد حراً تبعاً لحرية أمه، وهذا محتمل، ويحتمِلُ أن يكون أرقَّه عقوبة لأمه على زناها وتغريرها للزوج، ويكون هذا خاصاً بالنبىِّ صلى الله عليه وسلم، وبذلك الولد لا يتعدَّى الحكم إلى غيره، ويحتمِلُ أن يكون هذا منسوخاً‏.‏ وقد قيل‏:‏ إنه كان في أول الإسلام يُسترق الحر في الدَّين، وعليه حمل بيعُه صلى الله عليه وسلم لسُرَّقٍ في دَينه‏.‏ والله أعلم‏.‏

فصل‏:‏ في حُكمه صلى الله عليه وسلم في الشُّروط في النِّكاح

في ‏(‏الصحيحين‏)‏‏:‏ عنه‏:‏ ‏(‏إنَّ أحَقَّ الشُّرُوطِ أَنْ تُوَفُّوا ما اسْتَحْلَلْتُم بِهِ الفُرُوجَ‏)‏‏.‏

وفيهما عنه‏:‏ ‏(‏لا تَسْأَلِ المَرْأَةُ طَلاَقَ أُخْتها لِتَسْتَفْرغَ صَحْفَتَها ولِتَنْكِحَ، فإنَّما لَهَا ما قُدِّرَ لها‏)‏‏.‏وفيهما‏:‏ أنه نهى أن تَشْترِطَ المرأةُ طلاقَ أختها‏.‏

وفى مسند أحمد‏:‏ عنه‏:‏ ‏(‏لا يَحِلُّ أَنْ تُنْكَحَ امْرَأَةُ بِطَلاقِ أُخْرى‏)‏‏.‏

فتضمن هذا الحكمُ وجوبَ الوفاء بالشروط التي شُرِطَتْ في العقد إذا لم تتضمَّن تَغييراً لحكم الله ورسوله‏.‏ وقد اتُّفق على وجوب الوفاء بتعجيل المهر أو تأجيله والضمين والرهن به، ونحو ذلك، وعلى عدم الوفاء باشتراط ترك الوطء، والإنفاق، الخلو عن المهر، ونحو ذلك‏.‏

واختُلِفَ في شرط الإقامة في بلد الزوجة، وشرط دار الزوجة، وأن لا يتسَّرى عليها، ولا يتزوجَ عليها، فأوجب أحمدُ وغيرُه الوفاء به، ومتى لم يَفِ به فلها الفسخ عند أحمد‏.‏

واختُلِف في اشتراط البكارة والنسب، والجمال والسَّلامة من العيوب التي لا يُفسخ بها النكاحُ، وهل يؤثِّرُ عدمها في فسخه‏؟‏ على ثلاثة أقوال‏.‏

ثالثها‏:‏ الفسخ عند عدم النسب خاصة‏.‏

وتضمن حكمُه صلى الله عليه وسلم بطلانَ اشتراط المرأة طلاقَ أختها، وأنه لا يجب الوفاءُ به‏.‏ فإن قيل‏:‏ فما الفرق بين هذا وبين اشتراطها أن لا يتزوج عليها حتى صححتم هذا وأبطلتم شرط الضرة‏؟‏ قيل‏:‏ الفرقُ بينهما أن في اشتراط طلاقِ الزوجة من الإضرار بِها، وكسرِ قلبها، وخرابِ بيتها، وشماتةِ أعدائها ما ليس في اشتراط عدمِ نكاحها، ونكاحِ غيرها، وقد فرق النصُّ بينهما، فقياس أحدهما على الآخر فاسد‏.‏

فصل‏:‏ في حكمه صلى الله عليه وسلم في نِكاح الشّغارِ والمُحلِّل، والمُتعَةِ ونِكاحِ المُحرِم، ونِكاح الزانيةِ

أما الشِّغار‏:‏ فصحَّ النهى عنه مِن حديث ابن عمر، وأبى هُريرة، ومعاوية‏.‏

وفى صحيح مسلم‏:‏ عن ابن عمر مرفوعاً ‏(‏لا شِغَارَ في الإسْلاَمِ‏)‏‏.‏

وفى حديث ابن عمر‏:‏ والشِّغار‏:‏ أن يُزوِّجَ الرجلُ ابنتَه على أنَ يُزوِّجَه الآخرُ ابنتَه وليس بينهما صداق‏.‏

وفى حديث أبى هُريرة‏:‏ والشِّغارُ‏:‏ أن يقولَ الرجُلُ للِرجل‏:‏ زوجنى ابنتَك وأُزوِّجك ابنتى، أو زوَّجنى أختك وأزوجُك أختى‏.‏

وفى حديث معاوية‏:‏ أنَّ العباسَ بنَ عبد الله بن عباس أنكحَ عبدَ الرحمن ابنَ الحكم ابنَته، وأنكحه عبدُ الرحمن ابنتَه، وكانا جعلا صَدَاقاً، فكتب معاويةُ رضى الله عنه إلى مروان يأمُره بالتفريقِ بينهما، وقال‏:‏ هذا الشِّغَارُ الذي نهى عنه رسولُ الله صلى الله عليه وسلم‏.‏

فاختلف الفقهاء في ذلك، فقال الإمام أحمد‏:‏ الشِّغار الباطل أن يزوِّجه وليته على أن يزوِّجه الآخر وليته، ولا مهر بينهما على حديثِ ابن عمر، فَإن سمَّوا مع ذلك مهراً، صحَّ العقدُ بالمسمَّى عنده، وقَال الخرقى‏:‏ لا يَصِحُّ ولو سمَّوا مهراً على حديث معاوية‏.‏ وقال أبو البركات ابن تيمية وغيرُه مِن أصحاب أحمد‏:‏ إن سمَّوْا مهراً وقالوا‏:‏ مع ذلك‏:‏ بُضع كل واحدة مهر الأخرة لم يَصِحَّ، وإن لم يقولوا ذلك، صح‏.‏

واختُلِفَ في علة النهى، فقيل‏:‏ هي جعلُ كل واحدٍ من العقدين شرطاً في الآخر وقيل‏:‏ العلة التشريكُ في البُضع، وجعلُ بُضع كلِّ واحدة مهراً للأخرى، وهى لا تنتفِعُ به، فلم يرجع إليها المهر، بل عاد المهرُ إلى الولى، وهو مُلكه لبُضع زوجته بتمليكه لبُضع مُولِّيته، وهذا ظلم لكل واحدة مِنَ المرأتين، وإخلاءٌ لنكاحهما عن مهر تنتفع به، وهذا هو الموافق للغة العرب، فإنهم يقوْلون‏:‏ بلد شاغر مِن أمير، ودار شاغرة مِن أهلها‏:‏ إذا خلت، وشغر الكلبُ‏:‏ إذا رفع رجله، وأخلى مكانَها‏.‏ فإذا سمَّوا مهراً مع ذلك زال المحذور، ولم يبق إلا اشتراطُ كلِّ واحد على الآخر شرطاً لا يُؤثر في فساد العقد، فهذا منصوص أحمد‏.‏

وأما من فرق، فقال‏:‏ إن قالوا مع التسمية‏:‏ إن بُضع كُل واحدة مهرٌ للأخرى، فسد، لأنها لم يرجعْ إليها مهرُها، وصار بُضعها لغير المستحق، وإن لم يقولوا ذلك، صحَّ، والذي يجىء على أصله أنهم متى عقدُوا على ذلك وإن لم يقولوه بألسنتهم أنه لا يصح، لأن القصود في العقود معتبرة، والمشروط عرفاً كالمشروط لفظاً، فيبطل العقدُ بشرط ذلك، والتواطؤ عليه ونيته، فإن سمَّى لِكل واحدة مهرَ مثلها، صح، وبهذا تظهر حكمةُ النهى واتفاقُ الأحاديث في هذا الباب‏.‏

فصل

وأما نكاح المُحَلِّل، ففى ‏(‏المسند‏)‏ والترمذى من حديث ابن مسعود رضىَ الله عنه قال‏:‏ ‏(‏لَعَنَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم المُحَلِّلَ وَالمُحَلَّلَ له‏)‏‏.‏ قال الترمذى‏:‏ هذا حديث حسن صحيح‏.‏

وفى ‏(‏المسند‏)‏‏:‏ من حديث أبى هريرة رضى الله عنه مرفوعاً ‏(‏لَعَنَ الله المُحَلَّلَ لَهُ‏)‏‏.‏ وإسناده حسن‏.‏

وفيه‏:‏ عن على رضى الله عنه، عن النبى صلى الله عليه وسلم مثله‏.‏

وفى سنن ابن ماجه‏:‏ مِن حديث عُقبة بن عامر رضى الله عنه قال‏:‏ قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏أَلاَ أُخْبِرُكُم بالتَّيْسِ المُسْتَعَارِ‏)‏‏؟‏ قالُوا‏:‏ بلى يا رَسُولَ اللَّهِ‏.‏ قال‏:‏ ‏(‏هُوَ المتُحَللُ لَعَنَ اللَّهُ المُحَلِّلَ والمَحَلَّلَ لَهُ‏)‏‏.‏

فهؤلاء الأربعةُ مِن سادات الصحابة رضى الله عنهم، وقد شهِدُوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم بلعنه أصحابَ التحليل، وهم‏:‏ المُحَلِّلُ والمُحَلَّلُ لَه وهذا خبرٌ عن الله فهو خبرُ صِدق، وإما دُعاء فهو دُعاء مستجاب قطعاً، وهذا يُفيد أنه مِن الكبائر الملعون فاعِلُها، ولا فرقَ عند أهل المدينة وأهلِ الحديث وفُقهائهم بين اشتراط ذلك بالقول أو بالتواطؤ، والقصدِ، فإن القُصود في العُقود عندهم معتبرة، والأعمالُ بالنيَّات، والشرطُ المتواطَأُ عليه دخل عليه المتعاقدان كالملفوظِ عندهم، والألفاظُ لا تُراد لعينها، بل لِلدلالَة على المعانى، فإذا ظهرت المعانى والمقاصدُ، فلا عِبْرَة بالألفاظ، لأنها وسائل، وقد تحقَّقت غاياتُها، فترتَّبَتْ عليها أحكامُها‏.‏

فصل

وأما نِكاحُ المُتعة، فثبت عنه أنه أحلَّها عامَ الفتح، وثبت عنه أنَّه نهى عنها عَامَ الفتح واختُلِفَ هل نهى عنها يومَ خيبر‏؟‏ على قولين، والصحيح‏:‏ أن النهى إنما كان عامَ الفتح، وأن النهى يومَ خيبر إنما كان عن الحُمُرِ الأهلية، وإنما قال على لابن عباس‏:‏ إنَّ رسولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم نهى يومَ خيبرَ عن مُتعة النساء، ونهى عن الحمر الأهلية محتجاً عليه في المسألتين، فظنَّ بعضُ الرواة أن التقييدَ بيوم خيبر راجع إلى الفَصْلَين، فرواه بالمعنى، ثم أفرد بعضُهم أحدَ الفصلين وقيَّده بيومِ خيبر، وقد تقدَّم بيانُ المسألة في غزاة الفتح‏.‏

وظاهِرُ كلامِ ابن مسعود إباحتُها، فإن في ‏(‏الصحيحين‏)‏‏:‏ عنه‏:‏ كنا نغزو مع رسولِ الله صلى الله عليه وسلم وليس معنا نِساء، فقلنا‏:‏ يا رسول الله، ألا نَسْتَخْصِى‏؟‏ فنهانا عن ذلك، ثم رخَّصَ لنا بعدُ أن نَنْكِحَ المرأة بالثَّوْب إلى أجَل، ثم قرأ عبدُ الله‏:‏ ‏{‏يَا أَيُّها الَّذينَ آمَنُوا لا تُحَرِّمُوا طَيِّباتِ مَا أحَلَّ اللَّهُ لَكُم وَلاَ تَعْتَدُوا إنَّ الله لاَ يُحبُّ المُعْتَدِينَ‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 87‏]‏ ولكن في ‏(‏الصحيحين‏)‏‏:‏ عن على رضى الله عنه، أن رسولَ الله صلى الله عليه وسلم حرَّم مُتْعَةَ النِّسَاءِ‏.‏

وهذا التحريمُ‏:‏ إنما كان بعد الإباحة، وإلا لزم منه النسخُ مرتين ولم يحتج به على علي بن عباس رضى الله عنهم، ولكن النظر‏:‏ هل هو تحريمُ بَتَاتٍ، أو تحريمُ مِثْلُ تحريمِ الميتة والدم وتحريم نكاح الأمة فيُباح عند الضرورة وخوفِ العنت‏؟‏ هذا هو الذي لحظه بنُ عباس، وأفتى بِحِلِّها للضرورة، فلما توسَّع الناسُ فيها، ولم يقتصِرُوا على موضع الضرورة، أمسك عن فُتياه، ورجع عنها‏.‏

فصل

وأما نكاحُ المُحْرِمِ، فثبت عنه في ‏(‏صحيح مسلم‏)‏ من رواية عثمان بن عفان رضى الله عنه قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏لا يَنْكِحُ المُحْرِمُ وَلاَ يُنْكَحُ‏)‏‏.‏

واختُلِفَ عنه صلى الله عليه وسلم، هل تزوَّج ميمونةَ حلالاً أو حراماً‏؟‏ فقال ابنُ عباس‏:‏ تزوَّجها مُحْرِمَاً، وقال أبو رافع‏:‏ تزوَّجها حلالاً، وكنتُ الرسولَ بينهما‏.‏ وقولُ أبى رافع أرجح لعدة أوجه‏.‏

أحدها‏:‏ أنه إذ ذاك كان رجلاً بالغاً، وابنُ عباس لم يكن حينئذ ممن بلغ الحُلم، بل كان له نحو العشر سنين، فأبو رافع إذ ذاك كان أحفظَ منه‏.‏

الثانى‏:‏ أنه كان الرسولَ بين رسولِ الله صلى الله عليه وسلم وبينها، وعلى يده دارَ الحديثُ، فهو أعلم به مِنه بلا شك، وقد أشار بنفسه إلى هذا إشارةَ متحقِّق له، ومتيقِّن، لم ينقله عن غيره، بل باشره بنفسه‏.‏

الثالث‏:‏ أن ابن عباس لم يكن معه في تلك العُمرة، فإنها كانت عُمرةَ القضية، وكان ابنُ عباس إذ ذاك من المستضعفين الذين عَذَرَهُمُ اللَّهُ مِن الوِلدان، وإنما سمع القِصَّة مِن غير حضور منه لها‏.‏

الرابع‏:‏ أنه صلى الله عليه وسلم حين دخل مكة، بدأ بالطواف بالبيت، ثم سعى بينَ الصفا والمروة، وحلق، ثم حَلَّ‏.‏

ومن المعلوم‏:‏ أنه لم يتزوج بها في طريقه، ولا بدأ بالتزويج بها قبلَ الطواف بالبيت، ولا تزوَّج في حال طوافه، هذا من المعلوم أنه لم يقع، فصحَّ قولُ أبى رافع يقيناً‏.‏

الخامس‏:‏ أن الصحابة رضى عنهم غَلَّطُوا ابنَ عباس، ولم يُغلِّطُوا أبا رافع‏.‏

السادس‏:‏ أن قولَ أبى رافع موافِقٌ لنهى النبىِّ صلى الله عليه وسلم عن نِكاح المُحْرِمِ، وقول ابن عباس يُخالفه، وهو مستلزِم لأحد أمرين، إما لنسخه، وإما لتخصيص النبىِّ صلى الله عليه وسلم بجواز النِّكاحِ محرماً، وكلا الأمرين مخالِف للأصل ليس عليه دليل، فلا يُقبل‏.‏

السابع‏:‏ أن ابنَ أختها يزيد بن الأصم شهد أن رسولَ الله صلى الله عليه وسلم تزوَّجها حلالاً قال وكانت خالتى وخالة ابنِ عباس‏.‏ ذكره مسلم‏.‏

فصل

وأما نكاحُ الزانية، فقد صرَّح الله سبحانه وتعالى بتحريمه في سُورة النور، وأخبر أن مَنْ نكحها، فهو إما زانٍ أو مشرك، فإنه إما أن يلتزِمَ حُكمَه سبحانه ويعتقد وجوبه عليه، أولا، فإن لم يلتزِمْه ولم يعتقده، فهو مشرك‏.‏ وإن التزمه واعتقد وجوبه وخالفه، فهو زانٍ، ثم صرَّح بتحريمه فقال‏:‏ ‏{‏وحُرِّمَ ذَلِكَ عَلىَ المؤْمِنينَ‏}‏ ‏[‏النور‏:‏ 3‏]‏‏.‏

ولا يخفى أن دعوى نسخ الآية بقوله‏:‏‏{‏وَأَنْكِحُوا الأَيَامى مِنْكُم‏}‏ ‏[‏النور‏:‏32‏]‏، مِن أضعفِ ما يُقال، وأضعف منه حملُ النكاح على الزنى إذ يصير معنى الآية‏:‏ الزانى لا يزنى إلا بزانية أو مشركة، والزانية لا يزنى بها إلا زانٍ أو مشرك، وكلام الله ينبغى أن يُصان عن مثل هذا‏.‏

وكذلك حملُ الآية على امرأة بغى مشركة في غاية البعد عن لفظها وسياقها، كيف وهو سبحانه إنما أباح نكاحَ الحرائر والإماءِ بشرط الإحصان، وهو العِفَّة، فقال‏:‏ ‏{‏فانْكِحُوهُنَّ بإِذْنِ أَهْلِهِنَّ وآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ بِالمَعْرُوفِ مُحْصَنَاتٍ غَيْرَ مُسَافِحَاتٍ وَلاَ مُتَّخِذَاتِ أَخْدانٍ‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 25‏]‏، فإنما أبح نكاحَها في هذه الحالة دُون غيرها، وليس هذا من باب دلالة المفهوم، فإن الأبضاع في الأصل على التحريم، فيُقتصرُ في إباحتها على ما ورد به الشرعُ، وما عداه، فعلى أصل التحريم‏.‏

وأيضاً، فإنه سبحانه قال‏:‏ ‏{‏الخَبِيثَاتُ لِلْخَبِيثينَ والخَبِيثُونَ للْخَبِيثَاتِ‏}‏ ‏[‏النور‏:‏ 26‏]‏ والخَبِيثَاتُ‏:‏ الزوانى‏.‏ وهذا يقتضى أن من تزوَّج بهن، فهو خبيثٌ مثلهن‏.‏

وأيضاً‏.‏ فمن أقبح القبائح أن يكون الرجلُ زوجَ بغى، وقُبْحُ هذا مستقر في فطر الخلق، وهو عندهم غاية المسبَّة‏.‏

وأيضاً‏:‏ فإن البَغِىَّ لا يُؤمَن أن تُفْسِدَ على الرجل فِرَاشه، وتعلِّق عليه أولاداً مِن غيره، والتحريم يثبت بدونْ هذا‏.‏

وأيضاً‏:‏ فإن النبى صلى الله عليه وسلم فرق بين الرجل وبين المرأة التي وجدها حُبلى من الزنى‏.‏

وأيضاً فإن مرثد بن أبى مرثد الغنوى استأذن النبى صلى الله عليه وسلم أن يتزوج عَنَاق وكانت بغيَّاً، فقرأ عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم آية النور وقال‏:‏ ‏(‏لا تَنْكِحْهَا‏)‏‏.‏

فصل‏:‏ في حكمه صلى الله عليه وسلم فيمن أسلم على أكثر مِن أربع نِسوة أو على أختين

في الترمذى عن ابن عمر رضى الله عنهما‏:‏ أن غَيلان أسلم وتحتَه عَشْرُ نِسوةٍ، فقال له النبى صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏اختر مِنْهُنَّ أَرْبَعاً‏)‏‏.‏ وفى طريق أخرى‏:‏ ‏(‏وفَارِقْ سَائِرهُنَّ‏)‏

وأسلم فيروز الدَّيلمى وتحته أختان، فقال له النبىُّ صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏اخْتَرْ أَيَّتَهُما شِئتَ‏)‏‏.‏فتضمن هذا الحكم صِحةَ نكاح الكفار، وأنه له أن يختار مَنْ شاء مِن السوابق واللواحق لأنه جعل الخِيرة إليه، وهذا قول الجمهور‏.‏ وقال أبو حنيفة‏:‏ إن تزوجهن في عقد واحد، فسد نكاحُ الجميع، وإن تزوجهن مترتباتٍ، ثبت نكاح الأربع، وفسد نكاح من بعدهن ولا تخيير‏.‏

فصل

وحكم صلى الله عليه وسلم‏:‏ أن العبد ‏(‏إذا تزوَّج بِغَيْرِ إِذْنِ مَوَالِيه، فهو عَاهِرٌ‏)‏‏.‏ قال الترمذى‏:‏ حديث حسن‏.‏

فصل

واستأذنه بنو هشام بن المُغيرة أن يُزوِّجوا علىَ بنَ أبى طالب رضى الله عنه ابنةَ أبى جهل، فلم يأذن في ذلك، وقال‏:‏ ‏(‏إلاَّ أَنْ يُرِيدَ ابْنُ أبى طَالِبٍ أَنْ يُطَلِّقَ ابْنَتى ويَنْكِحَ ابْنَتَهُم، فإنَّمَا فَاطِمَة بَضْعَةٌ مِنِّى يَرِيبُنى ما رَابَها، ويُؤْذِينى ما آذاهَا، إنِّى أَخَافُ أَنْ تُفْتَنَ فَاطِمَةُ في دِينِها، وإنى لَسْتُ أُحَرِّمُ حَلاَلاً، ولاَ أُحِلُّ حَراماً، ولكِنْ واللَّهِ لا تَجْتَمِع بِنْتُ رَسُولِ الله وبِنْتُ عدوِّ الله في مَكانٍ وَاحِدٍ أَبداً‏)‏

وفى لفظ فذكر صِهراً له فأثنى عليه، وقال‏:‏ حَدَّثَنى فَصَدَقَنى، وَوَعَدَنى فوفى لى‏.‏

فتضمَّن هذا الحكمُ أموراً‏.‏

أحدُها‏:‏ أن الرجل إذا شرط لزوجته أن لا يتزوج عليها، لزمه الوفاءُ بالشرط، ومتى تزوَّج عليها، فلها الفسخ، ووجه تضمن الحديث لذلك أنه صلى الله عليه وسلم أخبر أن ذلك يُؤذى فاطمة ويَريبها، وأنه يؤذيه صلى الله عليه وسلم ويريبه، ومعلوم قطعاً أنه صلى الله عليه وسلم إنما زوجه فاطمة رضى الله عنها على أن لا يُؤذيها ولا يَريبها، ولا يؤذى أباها صلى الله عليه وسلم ولا يَريبه، وإن لم يكن هذا مشترطاً في صُلب العقد، فإنه مِن المعلوم بالضرورة أنه إنما دخل عليه، وفى ذكره صلى الله عليه وسلم صِهره الآخر، وثناءَه عليه بأنه حدَّثه فصدقه، ووعده فوفى له تعريضٌ بعلى رضى الله عنه، وتهييجٌ له على الاقتداء به، وهذا يُشعر بأنه جرى منه وعد له بأنه يَريبها ولا يُؤذيها، فهيَّجه على الوفاء له، كما وفى له صهرُه الآخر‏.‏

فيُؤخذ مِن هذا أن المشروطَ عُرفاً كالمشروطِ لفظاً، وأن عدمَه يُملِّك الفسخ لمشترطه، فلو فُرِضَ من عادة قوم أنهم لا يُخرجون نساءهم من ديارهم ولا يُمكنو أزواجَهم من ذلك البتة، واستمرت عادتُهم بذلك كان كالمشروط لفظاً، وهو مطَّرد على قواعد أهل المدينة، وقواعِد أحمد رحمه الله‏:‏ أن الشرط العرفى كاللفظى سواء، ولهذا أوجبوا الأجرةَ على من دفع ثوبه إلى غسَّال أو قصار، أو عجينَه إلى خباز، أو طعامَه إلى طباخ يعملُون بالأجرة، أو دخل الحمامَ، أو استخدم من يغسله ممن عادته يغسِل بالأجرة ونحو ذلك، ولم يشرط لهم أجرة أنه يلزمه أجرة المثل‏.‏ وعلى هذا، فلو فُرِضَ أن المرأة من بيت لا يتزوجُ الرجلُ على نسائهم ضرةً، ولا يُمكنونه مِن ذلك، وعادتهم مستمرة بذلك، كان كالمشروط لفظاً‏.‏

وكذلك لو كانت ممن يعلم أنها لا تُمكِّن إدخالَ الضرةِ عليها عادةً لشرفها وحسبها وجَلالتها كان تركُ التزوُّج عليها كالمشروط لفظاً سواء‏.‏

وعلى هذا فسيِّدةُ نساء العالمين، وابنةُ سيد ولد آدمَ أجمعين أحقُّ النساء بهذا، فلو شرطه على في صُلب العقد كان تأكيدا لا تأسيساً‏.‏

في منع على من الجمع بين فاطمة رضى الله عنها، وبين بنتِ أبى جهل حِكمةٌ بديعة، وهى أن المرأةَ مع زوجها في درجته تبعٌ له، فإن كانت في نفسها ذاتَ درجة عالية، وزوجُها كذلك، كانت في درجة عالية بنفسها وبزوجها، وهذا شأنُ فاطمة وعلى رضى الله عنهما، ولم يكن اللَّهُ عز وجل لِيجعل ابنةَ أبى جهل مع فاطمة رضى الله عنها في درجة واحدة لا بنفسها ولا تبعاً وبينَهما من الفرق ما بينهما، فلم يكن نكاحُها على سيدة نساء العالمين مستحسناً لا شرعاً ولا قدراً، وقد أشار صلى الله عليه وسلم إلى هذا بقوله‏:‏ ‏(‏والله لا تَجْتَمِعُ بِنتُ رَسُولِ اللَّهِ وبنت عَدُوِّ اللَّه في مَكَانٍ وَاحِدٍ أَبداً‏)‏، فهذا إما أن يتناولَ درجة الآخر بلفظه أو إشارته‏.‏

فصل‏:‏ فيما حَكَم اللَّهُ سبحانه بتحريمه مِن النساء على لسان نبيه صلى الله عليه وسلم

حرَّم الأمهاتِ، وهن كل من بينك وبينه إيلاد مِن جهة الأمومة أو الأبوة، كأُمهاته، وأمهاتِ آبائه وأجدادِه من جهة الرجال والنساء وإن علون‏.‏

وحرَّم البناتِ وهُنَّ كُلُّ من انتسب إليه بإيلاد، كبناتِ صُلبه وبناتِ بناته، وأبنائِهن وإن سَفُلْنَ‏.‏

وحرَّم الأخواتِ مِن كل جهة، وحرَّم العَّماتِ وهُنَّ أخواتُ آبائه وإن عَلَوْنَ مِن كل جهة‏.‏

وأما عمةُ العمِّ فإن كان العمُّ لأبٍ، فهى عمة أبيه، وإن كان لأم، فعمتُه أجنبية منه، فلا تدخُل في العمات، وأما الأم، فهى داخلة في عماته، كما دخلت عمةُ أبيه في عماته‏.‏

وحرَّم الخالاتِ وهُنَّ أخواتُ أمهاتِه وأمهات آبائه وإن عَلَوْنَ‏.‏

وأما خالةُ العمة، فإن كانت العمةُ لأب فخالتُها أجنبية، وإن كانت لأم فخالتها حرامٌ، لأنها خالة، وأما عمةُ الخالة، فإن كانت الخالةُ لأم، فعمتُها أجنبية، وإن كانت لأبٍ، فعمتها حرام، لأنها عمة الأم‏.‏

وحرَّم بناتِ الأخ، وبناتِ الأخت، فيعُمُّ الأخَ والأخت مِن كل جهة وبناتهما وإن نزلت درجتُهن‏.‏

وحرَّم الأمَّ مِن الرضاعة، فيدخُل فيه أمهاتُها مِن قبل الآباء والأمهاتِ وإن علون وإذا صارت المرضعةُ أمَّه، صار صاحب اللبن وهو الزوجُ أو السيد إن كانت جارية أباه، وآباؤه أجداده، فنبَّه بالمرضعة صاحبة اللبن التي هي مُودع فيها للأب، على كونه أبَاً بطريق الأولى، لأن اللبن له، وبوطئه ثابَ، ولهذا حكم رسولُ الله صلى الله عليه وسلم بتحريم لبن الفحل، فثبت بالنص وإيمائه انتشارُ حرمة الرضاع إلى أم المرتضع وأبيه مِن الرضاعة، وأنه قد صار ابناً لهما، وصارا أبوينِ له، فلزم من ذلك أن يكون إخوتهما وأخواتُهما خالات له وعماتٍ، وأبناؤهما وبناتُهما إخوة له وأخوات، فنبه بقوله‏:‏‏{‏وأَخَوَاتُكُم مِنَ الرَّضَاعَةِ‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 23‏]‏ على انتشار حرمة الرضاع إلى إخوتهما وأخواتهما، كما انتشرت منهما إلى أولادهما فكما صاروا إخوةً وأخوت للمرتضع، فأخوالهُما وخالاتُهما أخوالٌ وخالاتٌ له، وأعمامٌ وعمات له‏:‏ الأول بطريق النص، والآخر بتنبيهه، كما أن الانتشار إلى الأم بطريق النص، وإلى الأب بطريق تنبيهه‏.‏

وهذه طريقة عجيبة مطَّردة في القرآن لا يقعُ عليها إلا كُلُّ غائص على معانيه، ووجوهِ دلالاته، ومن هنا قضى رسولُ الله صلى الله عليه وسلم أنه ‏(‏يَحْرُمُ مِنَ الرَّضَاعِ مَا يَحْرُمُ مِنَ النَّسَبِ‏)‏ ولكن الدلالة دلالتان‏:‏ خفيَّةٌ وجليَّةٌ، فجمعهما للأمة، ليتم البيانُ ويزول الالتباسُ، ويقع على الدلالة الجلية الظاهرة مَنْ قَصُرَ فهمُه عن الخفية‏.‏

وحَرَّم أمهاتِ النساء، فدخل في ذلك أمُّ المرأة وإن علت مِن نسب أو رضاع، دخل بالمرأة أو لم يدخل بها، لصدق الاسم على هؤلاء كلِّهن‏.‏

وحرَّم الربائِبَ اللاتى في حُجور الأزواج وهُنَّ بناتُ نسائهم المدخول بهن، فتناول بذلك بناتِهن، وبناتِ بناتهن، وبنات أبنائهن، فإنهنّ داخلاتٌ في اسم الربائب، وقيد التحريم بقيدين، أحدُهما‏:‏ كونُهن في حجور الأزواج والثانى‏:‏ الدخولُ بأمهاتهن‏.‏ فإذا لم يُوجد الدخول لم يثبت التحريم، وسواء حصلت الفرقةُ بموت أو طلاق، هذا مقتضى النص‏.‏

وذهب زيد بن ثابت، ومَن وافقه، وأحمد في رواية عنه‏:‏ إلى أن موتَ الأم في تحريم الربيبة كالدخول بها، لأنه يُكمل الصداق، ويُوجب العدة والتوارث، فصار كالدخول، والجمهور أبَوْا ذلك، وقالوا‏:‏ الميتة غير مدخول بها، فلا تحرم ابنتها، والله تعالى قيَّد التحريم بالدخول، وصرح بنفيه عند عدم الدخول‏.‏

وأما كونها في حَجره، فلما كان الغالبُ ذلك ذكره لا تقييداً للتحريم به، بل هو بمنزلة قوله‏:‏ ‏{‏وَلاَ تَقْتُلُوا أَوْلادَكُم خَشْيَةَ إمْلاَق‏}‏ ‏[‏الإسراء‏:‏ 31‏]‏ ولما كان مِن شأن بنت المرأة أن تكون عند أمِّها، فهى في حجر الزوج وقوعاً وجوازاً، فكأنه قال‏:‏ اللاتى من شأنهن أن يكُنَّ في حُجوركم، ففى ذكر هذا فائدة شريفة، وهى جوازُ جعلها في حَجره، وأنه لا يجب عليه إبعادُها عنه، وتجنب مؤاكلتها، والسفر، والخلوة بها، فأفاد هذا الوصفُ عدمَ الامتناع مِن ذلك‏.‏

ولما خفى هذا على بعض أهلِ الظاهر، شرط في تحريم الربيبة أن تكون في حَجر الزوج، وقيَّد تحريمها بالدخول بأمها، وأطلق تحريمَ أمِّ المرأة ولم يُقيده بالدخول، فقال جمهورُ العلماء من الصحابة ومن بعدهم‏:‏ إن الأم تحرم بمجرد العقد على البنت دخل بها أو لم يدخل، ولا تحرم البنتُ إلا بالدخول بالأم، وقالوا‏:‏ أبهِمُوا ما أبهمَ الله‏.‏ وذهبت طائفة إلى أن قوله‏:‏ ‏{‏اللاَّتى دَخَلْتُمْ بِهِنَّ‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 23‏]‏ وصف لنسائكم الأولى والثانية، وأنه لا تحرم الأم إلا بالدخول بالبنت، وهذا يردُّه نظمُ الكلام، وحيلولة المعطوف بين الصفة والموصوف، وامتناعُ جعل الصفة للمضاف إليه دون المضاف إلا عند البيان، فإذا قلت‏:‏ مررت بغلام زيد العاقلِ، فهو صفة للغلام لا لزيد إلا عند زوال اللبس، كقولك‏:‏ مررت بغلام هند الكاتِبة، ويردُّه أيضاً جعله صفة واحدة لموصوفين مختلفى الحكم والتعلُّق والعامل، وهذا لا يُعرف في اللغة التي نزل بها القرآنُ‏.‏

وأيضاً فإن الموصوف الذي يلى الصفَة أولى بها لجواره، والجارُ أحق بصَقَبه ما لم تدعُ ضرورةٌ إلى نقلها عنه، أو تخطِّيها إياه إلى الأبعد‏.‏

فإن قيل‏:‏ فمن أين أدخلتم ربيبَته التي هي بنتُ جاريته التي دخل بها، وليست مِن نسائه‏؟‏‏.‏

قلنا‏:‏ السرية قد تدخل في جملة نسائه، كما دخلت في قوله‏:‏‏{‏نِسَاؤُكُم حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُم أَنَّى شِئْتُم‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 223‏]‏، ودخلت في قوله‏:‏ ‏{‏أُحِلَّ لَكُم لَيْلَةَ الصِّيامِ الرَّفَثُ إلى نِسَائِكُم‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 187‏]‏ ،ودخلت في قوله‏:‏ ‏{‏وَلاَ تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُم مِنَ النِّسَاءِ‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 22‏]‏‏.‏

فإن قيل‏:‏ فليزمُكم على هذا إدخالها في قوله‏:‏ ‏{‏وأُمَّهَاتُ نِسَائِكُمْ‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 23‏]‏ فتحرم عليه أمُّ جاريته‏؟‏

قلنا‏:‏ نعم وكذلك نقول‏:‏ إذا وطىء أمته، حَرُمَتْ عليه أمُّها وابنتها‏.‏

فإن قيل‏:‏ فأنتم قد قررتم أنه لا يُشترط الدخولُ بالبنت في تحريم أمِّها فكيف تشترطونه هاهنا‏؟‏

قلنا‏:‏ لتصير من نسائه، فإن الزوجة صارت من نسائه بمجرد العقد، وأما المملوكة، فلا تصيرُ مِن نسائه حتى يطأها، فإذا وطئها، صارت من نسائه، فحرمت عليه أمُّها وابنتُها‏.‏

فإن قيل‏:‏ فكيف أدخلتم السُّرِّيَّةَ في نسائه في آية التحريم، ولم تُدخلوها في نسائه في آية الظهار والإيلاء‏؟‏

قيل‏:‏ السياقُ والواقع يأبى ذلك، فإن الظهار كان عندهم طلاقاً، وإنما محلُّه الأزواج لا الإماء، فنقله الله سبحانه من الطلاق إلى التحريم الذي تُزيله الكفَّارة، ونقل حُكمَه وأبقى محله، وأما الإيلاء، فصريح في أن محله الزوجات، لقوله تعالى‏:‏ ‏{‏لِلَّذين يُؤْلُون مِنْ نِسَائِهمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ فَإِنْ فَاءُو فَإِنَّ الله غَفُورُ رَحِيمُ وإِنْ عَزَمُوا الطَّلاَقَ فَإِنَّ الله سَمِيعٌ عَلِيمٌ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 226-227‏]‏‏.‏

وحرَّم سبحانه حلائل الأبناء، وهن موطوآتُ الأبناء بنكاح أو ملك يمين، فإنها حليلة بمعنى محلَّلة، ويدخل في ذلك ابنُ صلبه، وابن ابنه، وابن ابنته، ويخرج بذلك ابن التَّبَنِّى، وهذا التقييدُ قُصِدَ به إخراجُه‏.‏

وأما حليلةُ ابنه من الرضاع، فإن الأئمة الأربعة ومَنْ قال بقولهم يدخلونها في قوله‏:‏‏{‏وحَلاَئِلُ أَبْنائِكُم‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 23‏]‏ ولا يخرجونها بقوله‏:‏ ‏{‏الَّذِينَ مِنْ أَصْلاَبِكُمْ‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 23‏]‏ ويحتجون بقول النبى صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏حَرِّمُوا مِنَ الرَّضَاع مَا تُحَرِّمُونَ مِنَ النَّسَبِ‏)‏، قالوا‏:‏ وهذه الحليلة تحرم إذا كانت لابن النسب، فتحرم إذا كانت لابن الرضاع‏.‏ قالوا‏:‏ والتقييد لإخراج ابن التبنِّى لا غير، وحرموا من الرضاع بالصهر نظيرَ ما يَحْرُمُ بالنسب‏.‏ ونازعهم في ذلك آخرون، وقالوا‏:‏ لا تحرُم حليلةُ ابنه مِن الرضاعة، لأنه ليس مِن صُلبه، والتقييد كما يُخرج حليلة ابن التبنِّى يُخرج حليلةَ ابن الرضاع سواء، ولا فرق بينهما‏.‏ قالوا‏:‏ وأما قولُه صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏يَحْرُمُ مِنَ الرَّضَاعِ مَا يَحْرُمُ مِنَ النَّسَبِ‏)‏ فهو من أكبر أدلتنا وعمدتنا في المسألة، فإن تحريمَ حلائلِ الآباء والأبناء إنما هو بالصِّهر لا بالنَسب، والنبىُّ صلى الله عليه وسلم قد قصر تحريمَ الرضاع على نظيره مِن النسب لا على شقيقه من الصهر، فيجبُ الاقتصارُ بالتحريم على مورد النص‏.‏

قالوا‏:‏ والتحريمُ بالرضاع فرع على تحريم النسب، لا على تحريم المصاهرة، فتحريمُ المصاهرة أصلٌ قائم بذاته، والله سبحانه لم ينُصَّ في كتابه على تحريم الرضاع إلا من جهة النسب، ولم ينبه على التحريم به مِن جهة الصهر ألبتة، لا بنص ولا إيماءٍ ولا إشارة، والنبىُّ صلى الله عليه وسلم أمر أن يُحرم به ما يحرُم من النسب، وفى ذلك إرشاد وإشارة إلى أنه لا يحرم به ما يحرم بالصهرِ، ولولا أنه أراد الاقتصار على ذلك لقال‏:‏ ‏(‏حَرِّمُوا مِنَ الرَّضَاعِ ما يحرم من النَّسَبِ والصِّهر‏)‏‏.‏

قالوا‏:‏ وأيضاً فالرَّضاع مشبَّه بالنسب، ولهذا أخذ منه بعض أحكامه وهو الحرمةُ والمحرمية فقط دون التوارث، والإنفاق وسائر أحكام النسب، فهو نسبٌ ضعيف، فأخذ بحسب ضعفه بعضَ أحكام النسب، ولم يقوى على سائر أحكام النسب، وهو ألصق به من المصاهرة، فكيف يقوى على أخذ أحكام المصاهرة مع قصوره عن أحكام مشبهه وشقيقه‏؟‏‏.‏

وأما المصاهرة والرضاع، فإنه لا نسبَ بينهما ولا شبهة نسب، ولا بعضية، ولا اتصال‏.‏ قالوا‏:‏ ولو كان تحريمُ الصهرية ثابتاً لبينه الله ورسوله بياناً شافياً يُقيم الحجة ويقطع العذر، فَمِنَ الله البيانُ، وعلى رسولِه البلاغُ، وعلينا التسليمُ والانقياد، فهذا منتهى النظر في هذه المسألة، فمن ظفِر فيها بحجة، فليرشد إليها وليدل عليها، فإنا لها منقادون، وبها معتصِمون، والله الموفق للصواب‏.‏

فصل

وحرَّم سبحانه وتعالى نكاح من نكحهُنَّ الآباء، وهذا يتناولُ منكوحاتِهم بملك اليمين أو عقد نكاح، ويتناول آباء الآباء، وآباء الأمهات وإن عَلَوْن، والاستثناء بقوله‏:‏ ‏{‏إِلاَّ مَا قَدْ سَلَفَ‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 23‏]‏، من مضمون جملة النهى وهو التحريم المستلزم للتأثيم والعقوبة، فاستثنى منه ما سلف قبل إقامة الحجة بالرسول والكتاب‏.‏

فصل

وحرَّم سبحانه الجمعَ بين الأختينِ، وهذا يتناولُ الجمعَ بينهما في عقدِ النكاح، وملكِ اليمين، كسائر محرَّمات الآية، وهذا قولُ جمهور الصحابة ومَن بعدهم، وهو الصوابُ، وتوقفت طائفةٌ في تحريمه بملك اليمين لمعارضة هذا العموم بعموم قوله سبحانه‏:‏‏{‏والَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ إِلاَّ على أَزْواجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ‏}‏ ‏[‏المؤمنون‏:‏ 5-6‏]‏ ولهذا قال أميرُ المؤمنين عثمان بن عفانَ رضى الله عنه‏:‏ أحلَّتهما آية، وحرَّمتهما آية‏.‏

وقال الإمام أحمد في رواية عنه‏:‏ لا أقول‏:‏ هو حرام، ولكن ننهى عنه، فمن أصحابه من جعل القولَ بإباحته رواية عنه‏.‏ والصحيح‏:‏ أنه لم يبُحه، ولكن تأدَّب مع الصحابة أن يُطلِق لفظ الحرامِ على أمرٍ توقَّفَ فيه عثمانُ، بل قال‏:‏ ننهى عنه‏.‏

والذين جزموا بتحريمه، رجَّحوا آيةَ التحريم من وجوه‏.‏

أحدها‏:‏ أن سائرَ ما ذُكِرَ فيها من المحرَّمات عام في النكاح وملك اليمين، فما بالُ هذا وحدَه حتى يخرُجَ منها، فإن كانت آيةُ الإباحة مقتضية لِحلِّ الجمع بالملك، فلتكن مقتضية لِحل أمِّ موطوءته بالملك، ولموطوءة أبيه وابنه بالملك، إذ لا فرق بينهما ألبتة، ولا يُعلم بهذا قائل‏.‏

الثانى‏:‏ أن آيةَ الإباحة بملك اليمين مخصوصةٌ قطعاً بصورٍ عديدة لا يختلِفُ فيها اثنان، كأمه وابنته، وأختِه وعمتِه وخالتِه من الرضاعة، بل كأخِته وخالته مِن النسب عند من لا يرى عتقهن بالملك، كمالك والشافعى، ولم يكن عموم قوله‏:‏ ‏{‏أوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُم‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 3‏]‏ ومعارضاً لعموم تحريمهن بالعقد والملك، فهذا حُكْمُ الأختين سواء‏.‏

الثالث‏:‏ أن حِلَّ الملك ليس فيه أكثرُ من بيان جهة الحل وسببه، ولا تعُّرض فيه لشروط الحِلِّ، ولا لموانعه، وآيةُ التحريم فيها بيانُ موانعِ الحِلِّ من النسب والرضاع والصهر وغيره، فلا تعارض بينهما البتة، وإلا كان كُلُّ موضع ذكر فيه شرطُ الحل وموانعه معارضاً لمقتضى الحل، وهذا باطل قطعاً، بل هو بيان لما سكت عنه دليلُ الحِل من الشروط والموانع‏.‏

الرابع‏:‏ أنه لو جاز الجمعُ بين الأختين المملوكتين في الوطء، جاز الجمعُ بين الأم وابنتها المملوكتين، فإن نص التحريم شامِلٌ للصورتين شمولاً واحداً، وأن إباحة المملوكات إن عمت الأختين، عمَّت الأم وابنتها‏.‏

الخامس‏:‏ أن النبىَّ صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ واليَوْمِ الآخِرِ، فَلاَ يجْمعْ مَاءَهُ في رَحِمِ أُخْتَيْنِ‏)‏ ولا ريب أن جمع الماء كما يكون بعقد النكاح يكون بملك اليمين، والإيمان يمنَع منه‏.‏

فصل

‏(‏وقضى رسولُ الله صلى الله عليه وسلم بتحريم الجمعِ بينَ المرأة وعمتها، والمرأةِ وخالتها‏)‏ وهذا التحريمُ مأخوذ من تحريم الجمع بينَ الأختين، لكن بطريق خفىِّ، وما حرَّمه رسولُ الله صلى الله عليه وسلم مثلُ ما حرَّمه الله، ولكن هو مستنبط مِن دلالة الكتاب‏.‏

وكان الصحابةُ رضى الله عنهم أحرصَ شىء على استنباط أحاديثِ رسول الله صلى الله عليه وسلم من القُرآن، ومَن ألزم نفسَه ذلك، وقرعَ بابه، ووجَّه قلبه إليه، واعتنى به بفطرةٍ سليمة، وقلب ذكى، رأى السنة كُلَّها تفصيلاً للقرآن، وتبييناً لدلالته، وبياناً لمراد اللَّهِ منه، وهذا أعلى مراتب العلم، فمن ظفر به، فليحمد الله، ومن فاته، فلا يلومَنَّ إلا نفسه وهِمتَّه وعَجْزَه‏.‏واستُفِيدَ من تحريم الجمع بين الأختين وبينَ المرأة وعمتها، وبينها وبين خالتها، أن كل امرأتين بينهما قرابة لو كان أحدُهما ذَكَراً، حَرُمَ على الآخر، فإنه يحرُم الجمعُ بينهما، ولا يُستثنى من هذا صورةُ واحدة، فإن لم يكن بينهما قرابةُ، لم يحرم الجمع بينهما‏.‏ وهل يكره‏؟‏ على قولين، وهذا كالجمع بين امرأةِ رجل وابنتِه من غيرها‏.‏

واستُفِيدَ مِن عموم تحريمه سبحانه المحرَّماتِ المذكورة‏:‏ أنَّ كل امرأة حَرُمَ نكاحُها حَرُمَ وطؤها بملك اليمين إلا إماءَ أهلِ الكتاب، فإن نكاحَهُنَّ حرام عند الأكثرين، ووطؤهن بملك اليمين جائز، وسوَّى أبو حنيفة بينهما، فأباح نكاحهن كما يُباح وطؤهن بالملك‏.‏

والجمهور‏:‏ احتجوا عليه بأن الله سُبْحَانه وتعالى إنما أباح نِكاح الإماء بوصف الإيمان‏.‏ فقال تعالى‏:‏ ‏{‏وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُم طَوْلاً أَنْ يَنْكِحَ المُحْصَنَاتِ المُؤْمِنَاتِ فَمِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمُ مِنْ فَتَيَاتِكُمُ المُؤْمِنَاتِ واللَّهُ أَعْلَمُ بِإيمَانِكُم‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 25‏]‏ وقالَ تعالى‏:‏ ‏{‏ولا تَنْكِحُوا المُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 221‏]‏ خصَّ ذلك بحرائرِ أهل الكتاب، بقى الإماءُ على قضية التحريم، وقد فهم عمر رضى الله عنه وغيرُه من الصحابة إدخال الكتابيات في هذه الآية، فقال‏:‏ لا أعلم شِركاً أعظَم من أن نقول‏:‏ إن المسيح إلهها‏.‏

وأيضاً فالأصلُ في الإبضاعِ الحرمة، وإنما أبيح نِكاحُ الإماءِ المؤمناتِ، فَمَن عداهُنَّ على أصل التحريم، وليس تحريمُهنَّ مستفاداً مِن المفهوم‏.‏

واستُفِيدَ مِن سياق الآية ومدلولِها أن كُلَّ امرأةٍ حرمت، حرمت ابنتها إلا العمة والخالة، وحليلةَ الابن، وحليلَةَ الأب، وأمَّ الزوجة، وأن كُلَّ الأقارب حرام إلا الأربعة المذكوراتِ في سورة الأحزاب، وهن بناتُ الأعمام والعمات، وبناتُ الأخوال والخالات‏.‏

فصل

ومما حرَّمه النص، نِكاحُ المزوَّجاتِ، وهُنَّ المحصَناتُ، واستثنى من ذلك ملكَ اليمين، فأشكل هذا الاستثناء على كثير من الناس، فإن الأمَةَ المزوَّجَةَ يحرُم وطؤُها على مالكها، فأين محلُّ الاستثناء ‏؟‏‏.‏

فقالت طائفة‏:‏ هو منقطع، أى لكن ما ملكت أيمانُكم، ورُدَّ هذا لفظاً، ومعنى أما اللفظُ فإن الانقطاعَ إنما يقعُ حيث يقعُ التفريغ، وبابهُ غير الإيجاب مِن النفى والنهى والاستفهام، فليس الموضعُ موضع انقطاع، وأما المعنى‏:‏ فإن المنقطع لابد فيه من رابط بينه وبين المستثنى منه بحيث يخرج ما تُوهِّمَ دخولُه فيه بوجهٍ ما، فإنك إذا قلت‏:‏ ما بالدار مِن أحد، دل على انتفاء من بها بدوابّهم وأمتعتهم، فإذا قلت‏:‏ إلا حماراً، أو إلا الأثافىَّ ونحو ذلك، أزلت توهَّمَ دخولِ المستثنى في حكم المستثنى منه‏.‏ وأبْيَنُ من هذا قولُه تعالى‏:‏‏{‏لا يَسْمَعُونَ فِيَها لَغْواً إلا سلاماً‏}‏ ‏[‏مريم‏:‏ 62‏]‏ فاستثناءُ السلام أزال توهُّمَ نفى السماعِ العام، فإن عدم سماع اللغو يجوزُ أن يكونَ لعدم سماع كلام ما، وأن يكونَ مع سماع غيره، وليس في تحريم نكاحِ المزوَّجة ما يُوهم تحريم وطء الإماء بملك اليمين حتى يُخرجه

وقالت طائفة‏:‏ بل الاستثناء على بابه، ومتى ملك الرجلُ الأمة المزوَّجة كان ملكه طلاقاً لها، وحلَّ له وطؤها، وهى مسألةُ بيع الأمة‏:‏ هل يكون طلاقاً لها، أم لا‏؟‏ فيه مذهبان للصحابة، فابنُ عباس رضي الله عنه يراه طلاقاً، ويحتج له بالآية، وغيرُه يأبى ذلك، ويقول‏:‏ كما يُجامع الملك السابق للنكاح اللاحق اتفاقاً ولا يتنافيان، كذلك الملكُ اللاحق لا يُنافى النكاحَ السابقَ، قالوا‏:‏ وقد خيَّرَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم بَرِيرَةَ لما بِيعت ولو انفسخ نِكاحُها لم يُخيِّرها‏.‏ قالوا‏:‏ وهذا حجة على ابن عباس رضى الله عنه، فإنه هو راوى الحديث، والأخذُ برواية الصحابى لا برأيه‏.‏

وقالت طائفة ثالثة‏:‏ إن كان المشترى امرأة، لم ينفسخ النكاح، لأنها لم تمِلكِ الاستمتاع ببُضع الزوجة، وإن كان رجلاً انفسخ، لأنه يملك الاستمتاع َ به، وملكُ اليمين أقوى مِن مُلك النكاح، وهذا الملك يُبطل النكاح دون العكس، قالوا‏:‏ وعلى هذا فلا إشكال في حديث بريرة‏.‏

وأجاب الأولون عن هذا بأن المرأةَ وإن لم تملك الاستمتاع ببُضع أمتها، فهى تمِلكُ المعاوضة عليه، وتزويجَها، وأخذَ مهرها، وذلك كملك الرجل، وإن لم تستمتع بالبُضع‏.‏

وقالت فرقة أخرى‏:‏ الآية خاصة بالمسبيَّاتِ، فإن المسبية إذا سُبِيَتْ، حَلَّ وطؤها لِسابيها بعد الاستبراء، وإن كانت مزوجة، وهذا قولُ الشافعى وأحدُ الوجهين لأصحاب أحمد، وهو الصحيح، كما روى مسلم في ‏(‏صحيحه‏)‏ عن أبى سعيد الخُدرى رضى الله عنه، أن رسولَ الله صلى الله عليه وسلم بعث جيشاً إلى أوطاس، فلقى عدواً، فقاتلوهم، فظهرُوا عليهم، وأصابُوا سبايا، وكأنَّ ناساً مِن أصحابِ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم تحرَّجُوا مِن غِشيَانِهِنَّ مِنْ أَجْلِ أزواجِهِنَّ مِن المشركين، فأنزل الله عز وجل في ذلك ‏{‏وَالمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاءِ إلاَّ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُم‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 24‏]‏ أى فهن لكم حلال إذا انقضت عدتهنَّ‏.‏

فتضمَّن هذا الحكمُ إباحة وطء المسبيَّةِ وإن كان لها زوجٌ من الكفار، وهذا يدل على انفساخِ نكاحه، وزوالِ عصمة بُضع امرأته، وهذا هو الصوابُ، لأنه قد استولى على محلِّ حقه، وعلى رقبة زوجته، وصار سابيها أحقَّ بها منه، فكيف يَحْرُمُ بُضعها عليه، فهذا القولُ لا يُعارِضُه نصٌّ ولا قياس‏.‏

والذين قالوا من أصحاب أحمد وغيرهم‏:‏ إن وطأها إنما يُباح إذا سُبِيَتْ وحدَها‏.‏ قالوا‏:‏ لأن الزوجَ يكون بقاؤه مجهولاً، والمجهول كالمعدوم، فيجوز وطؤها بعد الاستبراء، فإذا كان الزوجُ معها، لم يجز وطؤُها مع بقائه، فأُوردَ عليهم ما لو سُبِيَتْ وحدَها وتيقنَّا بقاءَ زوجها في دار الحرب، فإنهم يُجوِّزُون وطأها فأجابُوا بما لا يُجدى شيئاً، وقالوا‏:‏ الأصل إلحاقُ الفرد بالأعم الأغلب، فيُقال لهم‏:‏ الأعمُّ الأغلبُ بقاءُ أزواج المسبيات إذا سُبين منفرداتٍ، وموتُهم كلُّهم نادر جداً، ثم يُقال‏:‏ إذا صارت رقبةُ زوجها وأملاكُه مِلكاً للسابى، وزالَت العصمةُ عن سائر أملاكه وعن رقبته، فما الموجبُ لِثبوت العصمة في فرج امرأته خاصة وقد صارت هي وهو وأملاكُهما للسابى‏؟‏

ودلَّ هذا القضاءُ النبوىُّ على جواز وطء الإماء الوثنيات بملك اليمين، فإن سبايا أوطاس لم يكنَّ كتابيات، ولم يشترِطْ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم في وطئهن إسلامَهن، ولم يجعل المانع منه إلا الاستبراء فقط، وتأخيرُ البيان عن وقت الحاجة ممتنع مع أنهم حديثو عهدٍ بالإسلام حتَّى خفىَ عليهم حُكمُ هذه المسألة، وحصولُ الإسلام من جميع السبايا وكانوا عدةَ آلافٍ بحيثُ لم يتخلَّفْ منهم عن الإسلام جاريةٌ واحدة مِما يُعلم أنه في غاية البُعد، فإنهن لم يُكْرَهْنَ على الإسلام، ولم يكن لهن مِن البصيرة والرغبة والمحبة في الإسلام ما يقتضى مبادرتُهن إليه جميعاً، فمقتضى السنةِ، وعمل الصحابة في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وبعده جوازُ وطء المملوكات على أىِّ دين كُنَّ، وهذا مذهبُ طاووس وغيره، وقواه صاحبُ ‏(‏المغنى‏)‏ فيه، ورجح أدلته وبالله التوفيق‏.‏

ومما يدلُّ على عدم اشتراط إسلامهن، ما روى الترمذى في ‏(‏جامعه‏)‏ عن عِرباض بن سَارية، أن النبى صلى الله عليه وسلم حَرَّمَ وَطْء السَّبايا حَتَّى يَضَعْنَ ما في بُطُونِهِنَّ‏.‏ فجعل للتحريم غاية واحدة وهى وضعُ الحمل، ولو كان متوقفاً على الإسلام، لكان بيانُه أهمَّ من بيان الاستبراء‏.‏

وفى ‏(‏السنن‏)‏ و‏(‏المسند‏)‏ عنه‏:‏ ‏(‏لاَ يَحِلُّ لامْرئ يُؤْمِنُ بِالله واليَوْمِ الآخر أَنْ يَقَعَ عَلى امْرَأةِ مِنَ السَّبْى حَتَّى يَسْتَبْرِئها‏)‏‏.‏ولم يقل‏:‏ حتى تُسلِمَ، وَلأحمد‏:‏ ‏(‏مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَاليَوْمِ الآخِر فَلاَ يَنْكِحَنَّ شَيئاً مِنَ السَّبَايَا حَتَّى تَحِيضَ‏)‏ ولم يقل‏:‏ وتسلم‏.‏

وفى ‏(‏السنن‏)‏ عنه‏:‏ أنه قال في سبايا أوطاس‏:‏ ‏(‏لا تُوطأُ حَامِلٌ حَتَّى تَضَعَ وَلا غَيْرُ حَامِلٍ حَتَّى تَحِيضَ حَيْضَة وَاحِدَةً‏)‏‏.‏ ولم يقل‏:‏ وتسلم، فلم يجئ عنه اشتراطُ إسلام المسبية في موضع واحد البتة‏.‏

فصل‏:‏ في حُكمِه صلى الله عليه وسلم في الزوجين يُسِلمُ أحدُهما قبل الآخر

قال ابنُ عباس رضى الله عنهما‏:‏ ردَّ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم زينَب ابنَته على أبى العاص بْنِ الرَّبيعِ بالنِّكاحِ الأوَّلِ، ولم يُحْدِثْ شيئاً‏.‏ رواه أحمد، وأبو داود، والترمذى‏.‏ وفى لفظ‏:‏ بعد ست سنين ولم يُحدِثْ نِكاحاً قال الترمذى‏:‏ ليس بإسناده بأس، وفى لفظ‏:‏ كان إسلامُها قبل إسلامه بستِّ سنين، ولم يُحِدثْ شهادةً ولا صَداقاً‏.‏

وقال ابنُ عباس رضى الله عنهما‏:‏ ‏(‏أسلمت امرأةٌ على عهدِ رسول الله صلى الله عليه وسلم، فتزوَّجت، فجاء زوجُها إلى النبىِّ صلى الله عليه وسلم، فقال‏:‏ يا رسول الله، إنى كنتُ أسلمتُ، وعلمتْ بإسلامى، فانتزعها رسولُ الله صلى الله عليه وسلم مِن زوجها الآخر، وردَّها على زوجها الأول‏)‏ رواه أبو داود‏.‏

وقال أيضا‏:‏ ‏(‏إن رجلاً جاء مسلماً على عهد رسولِ الله صلى الله عليه وسلم، ثم جاءت امرأتُه مسلمة بعدَه، فقال‏:‏ يا رسولَ الله‏:‏ إنها أسلمت معى، فردَّها عليه‏)‏‏.‏ قال الترمذى‏:‏ حديث صحيح‏.‏ وقال مالك إن أم حكيم بنت الحارث بن هشام أسلمت يومَ الفتح بمكة، وهرب زوجها عكرمةُ بن أبى جهل من الإسلام حتى قدمَ اليمن فارتحلت أمُّ حكيم حتى قَدِمَتْ عليه باليمن، فدعته إلى الإسلام، فأسلم فَقَدِمَ على رسول الله صلى الله عليه وسلم عامَ الفتح، فلما قَدِمَ على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وثب إليه فرحاً وما عليه رِداء حتى بايعه، فثبتا على نكاحهما ذلك، قال‏:‏ ولم يبلغنا أن امرأة هاجرت إلى الله ورسوله صلى الله عليه وسلم وزوجُها كافر مقيم بدار الكفر إلا فرَّقت هجرتُها بينها وبينه إلا أن يَقْدمَ زوجُها مهاجراً قبل أن تنقضىَ عِدَّتُها، ذكره مالك رحمه الله في ‏(‏الموطأ‏)‏ فتضمَّن هذا الحكمُ أن الزوجين إذا أسلما معاً فهما على نكاحهما، ولا يُسأل عن كيفية وقوعه قبل الإسلام، هل وقع صحيحاً أم لا‏؟‏ ما لم يكن المبطلُ قائماً، كما إذا أسلما وقد نكحها وهى في عِدة مِن غيره، أو تحريماً مجمعاً عليه، أو مؤبَّداً كما إذا كانت محرماً له بنسب أو رضاع، أو كانت مما لا يجوزُ له الجمعُ بينها وبينَ من معه كالأختين والخمس وما فوقَهن، فهذه ثلاثُ صور أحكامُها مختلفة‏.‏

فإذا أسلما وبينها وبينَه محرميةٌ مِن نَسَبٍ أو رضاع، أو صِهر، أو كانت أختَ الزوجة أو عمَّتها أو خالَتها، أو من يَحرُمُ الجمعُ بينها وبينها، فُرِّقَ بينهما بإجماع الأمة، لكن إن كان التحريمُ لأجل الجمع، خُيِّرَ بينَ إمساك أيَّتهِما شاء، وإن كانت بنته من الزنى، فرِّق بينهما أيضاً عند الجمهور، وإن كان يعتقد ثبوتَ النسب بالزنى فرق بينهما اتفاقاً، وإن أسلم أحدهما وهى في عدة مِن مسلم متقدِّمة على عقده، فُرِّق بينهما اتفاقاً، وإن كانت العدةُ مِن كافر، فإن اعتبرنا دوامَ المفسد أو الإجماع عليه، لم يُفرَّق بينهما لأن عدة الكافر لا تدومُ، ولا تمنعُ النكاح عند من يُبطِلُ أنكحةَ الكفار، ويجعل حكمها حكم الزنى‏.‏

وإن أسلم أحدُهما وهى حُبلى من زنى قبلَ العقد، فقولان مبنيان على اعتبار قيامِ المفسد أو كونه مجمعاً عليه‏.‏

وإن أسلما وقد عقداه بلا ولى، أو بلا شهود، أو في عِدة وقد انقضت، أو على أخت وقد ماتت، أو على خامسة كذلك، أُقِرَّا عليه، وكذلك إن قهر حربىٌ حربيةً، واعتقداه نكاحاً ثم أسلما، أُقِرَّا عليه‏.‏

وتضمن أن أحدَ الزوجين إذا أسلَم قبل الآخر، لم ينفسِخِ النكاحُ بإسلامه، فَرَّقت الهجرة بينهما، أو لم تُفرِّق، فإنه لا يُعرف أن رسول الله صلى الله عليه وسلم جدَّدَ نكاح زوجين سبق أحدهما الآخر بإسلامه قطُّ، ولم يزل الصحابةُ يُسْلِمُ الرجلُ قبل امرأته، وامرأتُه قبله، ولم يُعرف عن أحد منهم البتة أنه تلفَّظ بإسلامه هو وامرأتُه، وتساويا فيه حرفاً بحرف، هذا مما يُعلم أنه لم يقع البتة، وقد ردَّ النبىُّ صلى الله عليه وسلم ابنَته زينَب على أبى العاص بن الربيع، وهو إنما أسلم زمنَ الحُديبية، وهى أسلمت من أول البعثة، فبين إسلامهما أكثرُ مِن ثمانى عشرة سنة‏.‏

وأما قوله في الحديث‏:‏ كان بين إسلامها وإسلامِهِ ستُّ سنين، فوهم إنما أراد‏:‏ بينَ هجرتها وإسلامه‏.‏

فإن قيل‏:‏ وعلى ذلك فالعِدةُ تنقضى في هذه المدة، فكيف لم يُجدِّد نكاحها‏؟‏ قيل‏:‏ تحريمُ المسلمات على المشركين إنما نزل بعد صُلْحِ الحُديبية لا قبلَ ذلك، فلم ينفسِخِ النكاح في تلك المدة لعدم شرعية هذا الحكم فيها، ولما نزل تحريمهُن على المشركين، أسلم أبو العاص، فَرُدَّت عليه‏.‏

وأما مراعاة زمن العِدة، فلا دليلَ عليه مِن نص ولا إجماع‏.‏ وقد ذكر حمادُ بن سلمة، عن قتادة، عن سعيدِ بن المسيِّب، أن على بن أبى طالب رضى الله عنه قال في الزوجين الكافرين يسلِمُ أحدُهما‏:‏ هو أملكُ ببُضعها ما دامت في دار هجرتها‏.‏

وذكر سفيانُ بن عيينة، عن مُطرِّف بن طريف، عن الشعبى، عن على‏:‏ هو أحقُّ بها ما لم يخرج مِن مِصرها‏.‏

وذكر ابنُ أبى شيبة، عن معتمِر بن سليمان، عن معمر، عن الزُّهرى، إن أسلمت ولم يُسلم زوجُها، فهُمَا على نكاحهما إلا أن يُفرِّقَ بينهما سلطان‏.‏

ولا يُعرف اعتبارُ العِدة في شىء من الأحاديث، ولا كان النبىُّ صلى الله عليه وسلم يسأل المرأة هل انقضت عدتُها أم لا، ولا ريبَ أن الإسلام لو كان بمجردهِ فرقة، لم تكن فرقةً رجعية بل بائنة، فلا أثر لِلعدة في بقاء النكاح، وإنما أثرُها في منع نكاحها للغير فلو كان الإسلامُ قد نجز الفُرقة بينهما، لم يكن أحقَّ بها في العِدة، ولكن الذي دلَّ عليه حُكمُه صلى الله عليه وسلم، أن النكاح موقوف، فإن أسلم قبلَ انقضاء عِدتها، فهى زوجتُه وإن انقضت عدتها، فلها أن تنكِحَ من شاءت، وإن أحبَّت، انتظرته، فإن أسلم، كانَتْ زوجته مِن غير حاجة إلى تجديد نكاح‏.‏

ولا نعلم أحداً جدَّد للإسلام نكاحَه ألبتة، بل كان الواقعُ أحد أمرين‏:‏ إما افتراقُهما ونكاحها غيره، وإما بقاؤُها عليه وإن تأخر إسلامُها أو إسلامُه، وإما تنجيزُ الفُرقة أو مراعاة العِدة، فلا نعلم أن رسولَ الله صلى الله عليه وسلم قضى بواحدة منهما مع كثرة من أسلم في عهده من الرجال وأزواجهن، وقرب إسلام أحد الزوجين من الآخر وبعده منه، ولولا إقرارُه صلى الله عليه وسلم الزوجين على نكاحهما وإن تأخر إسلامُ أحدهما عن الآخر بعدَ صلح الحديبية وزمن الفتح، لقلنا بتعجيل الفُرقة بالإسلام مِن غير اعتبار عدة، لقوله تعالى‏:‏‏{‏لاَ هُنَّ حِلُّ لَهُمْ وَلاَ هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ‏}‏ ‏[‏الممتحنة‏:‏ 10‏]‏ وقوله‏:‏ ‏{‏ولاَ تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الكَوَافِرِ‏}‏ ‏[‏الممتحنة‏:‏ 10‏]‏ وأن الإسلام سَبَبُ الفُرقة، وكل ما كان سبباً للفرقة تعقبه الفرقة، كالرضاع والخلع والطلاق، وهذا اختيار الخلال، وأبى بكر صاحِبه، وابنِ المنذر، وابنِ حزم، وهو مذهب الحسن، وطاووس، وعكرمة، وقتادة، والحكم‏.‏ قال ابن حزم‏:‏ وهو قولُ عمرَ بن الخطاب رضى الله عنه، وجابِر ابن عبد الله، وابنِ عباس، وبه قال حمادُ بن زيد، والحكمُ بن عُتيبة، وسعيد بن جبير، وعمر بن عبد العزيز، وعدى بن عدى الكندى، والشعبى، وغيرهم‏.‏ قلت‏:‏ وهو أحدُ الروايتين عن أحمد، ولكن الذي أُنزِلَ عليه قولُه تعالى‏:‏ ‏{‏وَلاَ تُمْسِكُوا بِعصَمِ الكَوَافِرِ‏}‏ ‏[‏الممتحنة‏:‏ 10‏]‏ وقوله‏:‏ ‏{‏لاَ هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلاَ هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ‏}‏ ‏[‏الممتحنة‏:‏ 10‏]‏ لم يحكم بتعجيل الفرقة، فروى مالك في ‏(‏موطئه‏)‏ عن ابن شهاب، قال‏:‏ كان بين إسلام صفوان بن أمية، وبين إسلام امرأته بنت الوليد بن المغيرة نحوٌ من شهر، أسلمت يومَ الفتح، وبقى صفوانُ حتى شهد حُنيناً والطائف وهو كافر، ثم أسلم، ولم يفرِّق النبى صلى الله عليه وسلم بينهما، واستقرَّت عنده امرأته بذلك النكاح‏.‏ وقال ابنُ عبد البر‏:‏ وشهرة هذا الحديث أقوى من إسناده‏.‏

وقال ابنُ شهاب‏:‏ أسلمت أُمُّ حكيم يومَ الفتح، وهرب زوجُها عكرمة حتى أتى اليمن، فدعته إلى الإسلام، فأسلم وقدم، فبايعَ النبىَّ صلى الله عليه وسلم، فبقيا على نكاحهما‏.‏

ومن المعلوم يقيناً، أن أبا سفيان بن حرب خرج، فأسلم عام الفتح قبل دخولِ النبى صلى الله عليه وسلم مكة، ولم تُسلم هند امرأته حتى فتح رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة، فبقيا على نكاحهما، وأسلم حكيمُ بنُ حِزام قبل امرأته، وخرج أبو سفيان بن الحارث، وعبد الله بن أبى أمية عامَ الفتح، فلقيا النبىَّ صلى الله عليه وسلم بالأبواء، فأسلما قبل منكوحتيهما، فبقيا على نكاحهما، ولم يعلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم فرَّق بين أحد ممن أسلم وبين امرأته‏.‏

وجواب من أجاب بتجديد نكاح من أسلم في غاية البطلان، ومن القول على رسول الله صلى الله عليه وسلم بلا علم، واتفاقُ الزوجين في التلفظ بكلمة الإسلام معاً في لحظة واحدة معلومُ الانتفاء‏.‏

ويلى هذا القول مذهبُ من يقف الفُرقة على انقضاء العدة مع ما فيه، إذ فيه آثار وإن كانت منقطعة، ولو صحت لم يجزِ القول بغيرها‏.‏ قال ابن شُبْرُمَةَ‏:‏ كان الناسُ على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم يُسلم الرجلُ قبل المرأة، والمرأة قبل الرجل، فأيُّهما أسلم قبل انقضاء عِدة المرأة، فهى امرأتُه وإن أسلم بعد العدة، فلا نِكاح بينهما، وقد تقدَّم قولُ الترمذى في أول الفصل، وما حكاه ابنُ حزم عن عمر رضى الله عنه فما أدرى مِن أين حكاه‏؟‏ والمعروف عنه خلافُه، فإنه ثبت عنه من طريق حماد بن سلمة، عن أيوب وقتادة كلاهما عن ابن سيرين، عن عبد الله بن يزيد الخطمى، أن نصرانياً أسلمت امرأته، فَخيَّرها عمرُ بن الخطاب رضى الله عنه إن شاءت فارقته، وإن شاءت أقامت عليه‏.‏ ومعلوم بالضرورة، أنه إنما خيرها بين انتظاره إلى أن يسلم، فتكون زوجته كما هي أو تُفارقه، وكذلك صحَّ عنه‏:‏ أن نصرانياً أسلمت امرأته، فقال عمرُ رضي الله عنه‏:‏ إن أسلم فهىَ امرأتُه، وإن لم يُسلم، فرقَ بينهما، فلم يُسلم، ففرق بينهما‏.‏ وكذلك قال لعُبادة بن النعمان التغلبى وقد أسلمت امرأتُه‏:‏ إما أن تسلم، وإلا نزعتها منكَ، فأبى، فنزعها منه‏.‏

فهذه الآثار صريحة في خلاف ما حكاه أبو محمد ابن حزم عنه، وهو حكاها، وجعلها روايات أخر، وإنما تمسَّك أبو محمد بآثار فيها، أن عمر، وابن عباس، وجابراً، فرَّقوا بين الرجلِ وبينَ امرأته بالإسلام، وهى آثار مجملة ليست بصريحة في تعجيل التفرقة، ولو صحت، فقد صحَّ عن عمر ما حكيناه، وعن على ما تقدم وبالله التوفيق‏.‏

فصل‏:‏ في حكمه صلى الله عليه وسلم في العَزْلِ

ثبت في ‏(‏الصحيحين‏)‏‏:‏ عن أبى سعيد قال‏:‏ أصبنا سبياً، فكُنَّا نَعْزِلُ، فسألنا رسولَ الله صلى الله عليه وسلم فقال‏:‏ ‏(‏وإنَّكُمْ لَتَفْعَلُون‏؟‏‏)‏ قالها ثلاثاً‏.‏ ‏(‏مَا مِنْ نَسَمة كَائِنَةٍ إلى يَوْمِ القِيَامَةِ إلا وَهِى كَاَئِنَةٌ‏)‏‏.‏

وفى السنن‏:‏ عنه، أن رجلاً قال‏:‏ يا رسولَ الله إن لى جاريةً وأنا أَعْزِلُ عنها، وأنا أكره أن تحمِلَ، وأنا أريدُ ما يُريدُ الرجال، وإنَّ اليهودَ تُحدِّثُ أن العزلَ الموؤدةُ الصُّغرى، قال‏:‏ ‏(‏كَذَبَتْ يهودُ لَوْ أَرادَ اللَّهُ أَنْ يَخْلُقَهُ مَا اسْتَطَعْتَ أَنْ تَصْرفَهُ‏)‏‏.‏

وفى ‏(‏الصحيحين‏)‏‏:‏ عن جابر قال‏:‏ كنا نَعزِلُ على عهدِ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم والقُرآنُ يَنْزِلُ‏.‏

وفى ‏(‏صحيح مسلم‏)‏ عنه‏:‏ كناَ نَعزِلُ على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فبلغ ذلك رسولَ الله صلى الله عليه وسلم فَلَمْ يَنْهَنَا‏.‏

وفى ‏(‏صحيح مسلم‏)‏ أيضاً‏:‏ عنه قال‏:‏ سألَ رجلٌ النبى صلى الله عليه وسلم فقال‏:‏ إنَّ عِندى جاريةً، وأنا أعزِلُ عنها، فقال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏إنَّ ذلِكَ لاَ يَمْنَعُ شَيْئاً أرَادَهُ اللَّهُ‏)‏، قال‏:‏ فجاء الرجلُ فقال‏:‏ يا رسولَ الله إن الجاريَة التي كُنْتُ ذكرتُها لك حَمَلَتْ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏أَنَا عَبْدُ اللَّهِ وَرَسُولُه‏)‏‏.‏

وفى ‏(‏صحيح مسلم‏)‏ أيضاً‏:‏ عن أسامة بن زيد، أن رجلاً جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال‏:‏ يا رسولَ الله، إنى أعزِلُ عَنِ امرأتى، فقال له رسولُ الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏لِمَ تَفْعَلُ ذلِكَ‏؟‏ فقال الرجُلُ‏:‏ أُشْفِقُ عَلَى ولدها، أو قال‏:‏ على أولادِها، فقال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏لَوْ كَانَ ضَارّاً ضَرَّ فَارِسَ وَالرُّومَ‏)‏‏.‏

وفى مسند أحمد، وسنن ابن ماجه، من حديث عُمَرَ بنِ الخطاب رضى الله عنه قال‏:‏ نهى رسولُ الله صلى الله عليه وسلم أن يُعزَلَ عَنِ الحُرَّةِ إلا بإذْنِهَا‏.‏

وقال أبو داود‏:‏ سمعتُ أبا عبد الله ذكر حديث ابن لَهِيعة، عن جعفر ابن ربيعة عن الزهرى، عن المُحَرَّر بن أبى هريرة، عن أبى هريرة رضى الله عنه قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏لا يُعْزَلُ عَنِ الحُرَّةِ إلاَّ بإذْنها‏)‏، فقال‏:‏ ما أنكَرَهُ‏.‏

فهذه الأحاديثُ صريحةٌ في جواز العزلِ، وقد رُوِيتِ الرخصةٌ فيه عن عشرة من الصحابة‏:‏ على، وسعدِ بن أبى وقاص، وأبى أيوب، وزيدِ بن ثابت، وجابرٍ، وابنِ عباس، والحسنِ بن على، وخبَّابِ بن الأرتِّ، وأبى سعيد الخدرى، وابنِ مسعود، رضى الله عنهم‏.‏

قال ابن حزم‏:‏ وجاءت الإباحة للعزل صحيحة عن جابر، وابن عباس، وسعدِ بن أبى وقاص، وزيدِ بن ثابت، وابنِ مسعود، رضى الله عنهم، وهذا هو الصحيحُ‏.‏

وحرَّمه جماعة، منهم أبو محمد ابن حزم وغيرُه‏.‏

وفرَّقت طائفة بين أن تأذن له الحرَّةُ، فيبُاح، أولا تأذن فيحرُم، وإن كانت زوجته أمةً، أبيحَ بإذن سيدها، ولم يبح بدون إذنه، وهذا منصوصُ أحمد، ومن أصحابه من قال‏:‏ لايُباح بحال، ومنهم من قال‏:‏ يُباح بكُلِّ حال‏.‏ ومنهم من قال‏:‏ يباح بإذن الزوجة حرةً كانت أو أمة، ولا يُباح بدون إذنها حرة كانت أو أمة‏.‏

فمن أباحه مطلقاً، احتج بما ذكرنا من الأحاديث، وبأن حقَّ المرأة في ذوق العسيلة لا في الإنزال، ومن حرَّمه مطلقاً احتج بما رواه مسلم في ‏(‏صحيحه‏)‏ من حديث عائشة رضى الله عنها، عن جُدَامة بنتِ وهبٍ أختِ عُكَّاشة، قالت‏:‏ حضرتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم في أناسٍ، فسألُوه عن العَزْلِ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏ذلِكَ الوَأدُ الخَفِىُّ‏)‏، وهى‏:‏‏{‏وإِذَا المَوْءُدَةُ سُئِلَتْ‏}‏ ‏[‏التكوير‏:‏ 8‏]‏‏.‏

قالوا‏:‏ وهذا ناسخٌ لأخبار الإباحة، فإنه ناقل عن الأصل، وأحاديثُ الإباحة على وفق البراءة الأصلية، وأحكامُ الشرع ناقلة عن البراءة الأصلية‏.‏ قالوا‏:‏ وقولٌ جابر رضي الله عنه‏:‏ كنا نعِزلُ والقرآنُ ينزِلُ، فلو كان شيئاً ينهى عنه، لنهى عنه القرآن‏.‏

فيقال‏:‏ قد نهى عنه مَنْ أُنْزِلَ عليه القرآنُ بقوله‏:‏ ‏(‏إنَّه المَوءُدةُ الصُّغرى‏)‏ والوأد كله حرام‏.‏ قالوا‏:‏ وقد فهِم الحسنُ البصرى، النهىَ مِن حديث أبى سعيد الخدرى رضي الله عنه لما ذُكِرَ العزلُ عند رسول الله صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏لا عَلَيْكُم ألاَّ تَفْعَلُوا ذَاكُمْ، فإما هُوَ القَدَرُ‏)‏ قال ابنُ عون‏:‏ فحدَّثتُ به الحسنَ، فقال‏:‏ والله لكأنَّ هذا زجرٌ‏.‏ قالوا‏:‏ ولأن فيه قطعَ النسلِ المطلوبِ مِن النكاح، وسوء العشرة، وقطعَ اللذة عندَ استدعاء الطبيعة لها‏.‏

قالوا‏:‏ ولهذا كان ابنُ عمر رضي الله عنه لا يعزِلُ، وقال‏:‏ لو علمتُ أن أحداً من ولدى يَعْزِلُ، لنكَّلْتُه، وكان علىُّ يكره العزل، ذكره شعبة عن عاصم عن زرٍّ عنه وصح عن ابن مسعود رضى الله عنه أنه قال في العزل‏:‏ هو الموؤودةُ الصغرى‏.‏ وصح عن أبى أُمامة أنه سئل عنه فقال‏:‏ ما كُنْتُ أرى مسلماً يفعلُه‏.‏ وقال نافع عن ابن عمر‏:‏ ضرب عمر على العزل بَعْضَ بنيه‏.‏ وقال يحيى بن سعيد الأنصارى، عن سعيد بن المسيِّب، قال‏:‏ كان عمرُ وعثمانُ ينهيان عن العزل‏.‏

وليس في هذا ما يُعارضُ أحاديث الإباحة مع صراحتها وصحتها أما حديثَ جُدَامة بنت وهب، فإنه وإن كان رواه مسلم، فإن الأحاديث الكثيرةَ على خلافه، وقد قال أبو داود‏:‏ حدثنا موسى بن إسماعيل، حدثنا أبان، حدثنا يحيى، أن محمد بن عبد الرحمن بن ثوبان حدثه، أنَّ رِفاعة حدثه عن أبى سعيد الخدرى رضى الله عنه، أن رجلاً قال‏:‏ يا رسولَ الله، إن لى جاريةً، وأنا أعزِلُ عنها، وأنا أكره أن تحمِلَ، وأنا أُريدَ ما يُريد الرجال، وإن اليهودَ تُحدِّث أن العزل الموؤودة الصغرى، قال‏:‏ ‏(‏كَذَبَتْ يهودُ، لَوْ أَرَادَ اللَّهُ أنْ يَخْلُقَه مَا اسْتَطَعْتَ أَنْ تَصْرِفَه‏)‏ وحسبك بهذا الإسناد صحة، فكُلُّهم ثقات حفاظ، وقد أعلَّه بعضُهم بأنه مضطرب فإنه اختلف فيه على يحيى بن أبى كثير، فقيل‏:‏ عنه، عن محمد ابن عبد الرحمن ابن ثوبان، عن جابر بن عبد الله، ومن هذه الطريق‏:‏ أخرجه الترمذى والنسائى‏.‏ وقيل‏:‏ فيه عن أبى مُطيع بن رِفاعة، وقيل‏:‏ عن أبى رفاعة، وقيل‏:‏ عن أبى سلمة عن أبى هُريرة، وهذا لا يقدحُ في الحديث، فإنه قد يكونُ عند يحيى، عن محمد بن عبد الرحمن، عن جابر، وعنده عن ابن ثوبان عن أبى سلمة عن أبى هريرة، وعنده عن ابن ثوبان عن رفاعة عن أبى سعيد‏.‏ ويبقى الاختلافُ في اسم أبى رفاعة، هل أبو رافع، أو ابنُ رِفاعة، أو أبُو مطيع‏؟‏ وهذا لا يَضُرُّ مع العلم بحال رفاعة‏.‏

ولا ريبَ أن أحاديثَ جابر صريحةٌ صحيحة في جواز العزل، وقد قال الشافعىُّ رحمه الله‏:‏ ونحن نروى عن عدد من أصحابِ النبى صلى الله عليه وسلم أنهم رخَّصوا في ذلك، ولم يَرَوْا به بأساً‏.‏ قال البيهقى‏:‏ وقد روينا الرخصةَ فيه، عن سعد بن أبى قاص، وأبى أيوب الأنصارى، وزيد ابن ثابت، وابن عباس وغيرهم، وهو مذهب مالك، والشافعى، وأهلِ الكوفة، وجمهورِ أهلِ العلم‏.‏

وقد أُجيب عن حديث جُدَامة، بأنه على طريق التنزيه، وضعفته طائفةٌ، وقالوا‏:‏ كيفَ يَصِحُّ أن يكونَ النبىُّ صلى الله عليه وسلم كذَّبَ اليهودَ في ذلك، ثم يُخبر به كخبرهم‏؟‏، هذا من المحال البيِّن، وردَّت عليه طائفةٌ أخرى، وقالوا‏:‏ حديثُ تكذيبهم فيه اضطراب وحديثُ جُدَامة في ‏(‏الصحيح‏)‏‏.‏

وجمعت طائفةٌ أخرى بين الحديثين، وقالت‏:‏ إن اليهودَ كانت تقولُ‏:‏ إن العزلَ لا يكون معه حمل أصلاً، فكذَّبهم رسولُ الله صلى الله عليه وسلم في ذلك، ويَدُلُّ عليه قوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏لَوْ أَرَادَ اللَّهُ أَنْ يَخْلُقَه لَمَا اسْتَطَعْتَ أَنْ تَصْرِفَه‏)‏، وقوله‏:‏ ‏(‏إنَّهُ الوَأْدُ الخَفِىُّ‏)‏، فإنه وإن لم يمنع الحملَ بالكلية، كتركِ الوطء، فهو مؤثر في تقليله‏.‏

وقالت طائفة أخرى‏:‏ الحديثان صحيحان، ولكن حديث التحريم ناسخ، وهذه طريقة أبى محمد ابن حزم وغيره‏.‏ قالوا‏:‏ لأنه ناقل عن الأصل والأحكام كانت قبل التحريم على الإباحة، ودعوى هؤلاء تحتاج إلى تاريخ محقَّق يبيِّن تأخُّر أحدِ الحديثين عن الآخر وأنَّى لهم به، وقد اتفق عُمَرُ وَعلى رضي الله عنهما على أنها لا تكونُ موؤودةً حتى تَمُرَّ عليها التاراتُ السبع، فروى القاضى أبو يعلى وغيرهُ بإسناده، عن عُبيد بن رفاعة، عن أبيه، قال جلس إلى عمر علىٌّ والزبيرُ وسعدٌ رضى الله عنهم في نفر من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتذاكروا العزلَ، فقالوا‏:‏ لا بأس به، فقال رجل‏:‏ إنهم يزعمون أنها الموؤدةُ الصغرى، فقال على رضى الله عنه‏:‏ لا تكون موؤدةً حتى تمرَّ عليها التاراتُ السبع‏:‏ حتى تكون مِنْ سُلالة من طين، ثم تكونَ نُطفةً، ثم تكون عَلقةً، ثم تكونَ مضغةً، ثم تكون عظاماً، ثم تكون لحماً، ثم تكون خلقاً آخر، فقال عمر رضى الله عنه‏:‏ صدقتَ أطال الله بقاءك‏.‏ وبهذا احتجَّ من احتج على جواز الدعاء للرجل بطول البقاء‏.‏

وأما من جوَّزه بإذن الحُرَّةِ، فقال‏:‏ للمرأة حقٌّ في الولد، كما للرجل حقٌّ فيه، ولهذا كانت أحقَّ بحضانته، قالُوا‏:‏ ولو يُعتَبَرْ إذنُ السُّرِّيَّةِ فيه لأنها لا حقَّ لها في القسم، ولهذا لا تُطالبه بالفيئة، ولو كان لها حقٌّ في الوطء لطُولِب المؤلى منها بالفيئة‏.‏

قالوا‏:‏ وأما زوجتُه الرقيقة، فله أن يَعْزِلَ عنها بغير إذنها صيانةً لولده عن الرِّقِّ ولكن يُعتبر إذنُ سيدها، لأن له حقاً في الولد، فاعتُبِرَ إذنُه في العزل كالحرة، ولأن بدلَ البُضع يحصل للسيدِ كما يحصل للحرة، فكان إذنه في العزل كإذن الحرة‏.‏

قال أحمد رحمه الله في رواية أبى طالب في الأمة إذا نكحها‏:‏ يستأذِنُ أهَلها، يعنى في العزل، لأنهم يُريدون الولد، والمرأةُ لها حق، تُريد الولد، وملكُ يمينه لا يستأذنها‏.‏

وقال في رواية صالح، وابن منصور، وحنبل، وأبى الحارث، والفضل ابن زياد والمروذى‏:‏ يَعزِلُ عن الحرة بإذنها، والأمةِ بغير إذنها، يعنى أمَته، وقال في رواية ابن هانىء‏:‏ إذا عزل عنها، لزمه الولد، قد يكُونُ الولدُ مع العزل‏.‏ وقد قال بعضُ من قال‏:‏ ما لى ولد إلا من العزل‏.‏ وقال في رواية المروذى‏:‏ في العزل عن أم الولد‏:‏ إن شاء، فإن قالت‏:‏ لا يَحِلُّ لك‏؟‏ ليس لها ذلك‏.‏

فصل‏:‏ في حُكمه صلى الله عليه وسلم في الغَيل، وهو وطءُ المرضِعَة

ثبت عنه في ‏(‏صحيح مسلم‏)‏‏:‏ أنه قال‏:‏ ‏(‏لَقَدْ هَمَمْتُ أَنْ أَنْهى عَنِ الغِيْلَةِ حَتَّى ذَكَرْتُ أَنَّ الرُّومَ وفَارِسَ يَصْنَعُونَ ذلكَ فَلاَ يَضُرُّ أَوْلاَدَهُم‏)‏ وفى سنن أبى داود عنه، من حديث أسماء بنت يزيد‏:‏ ‏(‏لا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُم سِرّاً فَوَالَّذِى نَفْسِى بِيَدِهِ إنَّه لَيُدْرِك الفَارِسَ فَيُدَعْثِرُهُ‏)‏‏.‏

قال‏:‏ قلت‏:‏ ما يعنى‏؟‏ قلت‏:‏ الغيلة‏:‏ يأتى الرجلُ امرأتَه وهى ترضع‏.‏

قلت‏:‏ أما الحديثُ الأول، فهو حديثُ جُدَامة بنت وهب، وقد تضمَّن أمرين لِكلٍّ منهما معارض‏:‏ فصدرُه هو الذي تقدَّم‏:‏ ‏(‏لقد هممتُ أن أنهى عن الغِيلة‏)‏، وقد عارضه حديث أسماء، وعجزه‏:‏ ثم سألوه عن العزل، فقال‏:‏ ‏(‏ذلك الوأد الخفى‏)‏ وقد عارضه حديث أبى سعيد‏:‏ ‏(‏كذبت يهود‏)‏، وقد يُقال‏:‏ إن قوله‏:‏ ‏(‏لا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ سِرّاً‏)‏ نهى أن يتسبب إلى ذلك، فإنه شبَّه الغَيل بقتل الولد، وليس بقتلٍ حقيقة، وإلا كان من الكبائر، وكان قرينَ الإشراك بالله، ولا ريبَ أن وطء المراضع مما تَعُمُّ به البلوى، ويتعذَّر على الرجل الصبر عن امرأته مدة الرضاع ولو كان وطؤُهن حراماً لكان معلوماً من الدين، وكان بيانُه مِن أهمِّ الأمور، ولم تُهمِلْه الأُمَّةُ، وخيرُ القرون، ولا يُصرِّحُ أحدٌ منهم بتحريمه، فَعُلِمَ أن حديث أسماء على وجه الإرشاد والاحتياط للولد، وأن لا يُعَرِّضَه لفساد اللبن بالحمل الطارىء عليه، ولهذا كان عادةُ العرب أن يسترضِعُوا لأولادهم غيرَ أمهاتهم، والمنع غايُته أن يكون من باب سد الذرائع التي قد تُفضى إلى الإضرار بالولد، وقاعدةُ باب سد الذرائع إذا عارضه مصلحة راجحة، قُدِّمَتْ عليه، كما تقدَّم بيانُه مراراً والله أعلم‏.‏

فصل‏:‏ في حُكمه صلى الله عليه وسلم في قسم الابتداء والدوام بين الزوجات

ثبت في ‏(‏الصحيحين‏)‏‏:‏ عن أنس رضى الله عنه أنه قال‏:‏ مِنَ السُّنةِ إذا تزوَّج الرَّجُلُ البِكْرَ على الثَّيِّبِ، أَقام عِنْدَهَا سَبْعاً وقَسَمَ، وإذا تَزَوَّجَ الثَّيِّبَ، أَقَامَ عِنْدَهَا ثلاثاً، ثم قَسَمَ‏.‏ قال أبو قلابة‏:‏ ولو شئتُ، لقُلْتُ‏:‏ إن أنساً رفعه إلى النبىِّ صلى الله عليه وسلم‏.‏

وهذا الذي قاله أبو قِلابة، قد جاء مصرَّحاً به عن أنس، كما رواه البزار في ‏(‏مسنده‏)‏، من طريق أيوب السَّختيانى، عن أبى قِلابة، عن أنس رضى الله عنه أن النبىَّ صلى الله عليه وسلم جَعَلَ لِلبِكرِ سبعاً، وللثَّيِّب ثلاثاً‏.‏

وروى الثورى، عن أيوب، وخالد الحذَّاء، كِلاهما عن أبى قِلابة، عن أنس، أن النبىَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ‏:‏ ‏(‏إِذَا تَزَوَّجَ البِكْرَ، أَقَامَ عِنْدَهَا سَبْعاً، وإِذا تَزَوَّجَ الثَّيِّيبَ، أقَامَ عِنْدَها ثلاثاً‏)‏‏.‏

وفى صحيح مسلم‏:‏ عن أمِّ سلمة رضى الله عنها، لما تزوَّجها رسولُ الله صلى الله عليه وسلم، فدخل عليها، أقامَ عندها ثلاثاً، ثم قال‏:‏ ‏(‏إنَّهُ لَيْسَ بِكِ عَلى أَهْلِكِ هَوانٌ، إنْ شِئْتِ سَبَّعْتُ لَكِ، وإنْ سَبَّعْتُ لَكِ، سَبَّعْتُ لِنِسَائى‏)‏‏.‏ وله في لفظ‏:‏ ‏(‏لما أراد أن يخرج، أخَذَتْ بثوبه فقال‏:‏ ‏(‏إنْ شِئْتِ زِدْتُكِ وَحَاسَبْتكِ بِهِ، لِلْبِكْرِ سَبْعٌ، وللثَّيُب ثَلاَثٌ‏)‏‏.‏

وفى السنن‏:‏ عن عائشة رضى الله عنها، كان رسولُ الله صلى الله عليه وسلم يَقْسِمُ فَيَعْدِلُ، ويقول‏:‏ ‏(‏اللَّهُمَّ إِنَّ هذا قَسْمى فِيما أَمِلكُ، فَلاَ تَلُمْنى فيمَا تَمْلِكُ وَلاَ أَمْلِكُ‏)‏، يعنى القلبَ‏.‏

وفى ‏(‏الصحيحين‏)‏‏:‏ أنه صلى الله عليه وسلم كان إذا أرادَ سفراً، أقرعَ بين نسائه، فأيَّتُهن خرج سهمُها، خَرَجَ بها معه‏.‏

وفى ‏(‏الصحيحين‏)‏‏:‏ أن سودةَ وهبت يومها لِعائشة رضى الله عنها، وكان النبىُّ صلى الله عليه وسلم يَقْسِمُ لعائشة يَوْمَها ويَوْمَ سودة‏.‏

وفى السنن‏:‏ عن عائشة رضى الله عنها، كان النبىُّ صلى الله عليه وسلم لا يُفَضِّلُ بَعْضَنَا على بَعْضٍ في القَسْمِ مِن مُكثِه عندنا، وكان قَلَّ يَوْمٌ إلا وهُوَ يَطُوفُ علينا جميعاً، فيدنو مِنْ كُلِّ امرأة مِنْ غير مسيس حتى يَبْلُغَ إلى التي هُوَ يَومُها، فَيبِيتُ عِنْدَهَا‏.‏

وفى ‏(‏صحيح مسلم‏)‏‏:‏ إنهنَّ كُنَّ يجتمِعْنَ كل ليلة في بيت التي يأتيها‏.‏

وفى ‏(‏الصحيحين‏)‏‏:‏ عن عائشة رضىَ الله عنها، في قوله‏:‏ ‏{‏وإنِ امْرَأةٌ خَافَتْ مِنْ بَعْلِهَا نُشُوزاً أو إعْراضاً‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏128‏]‏ أُنْزِلَت في المرأة تكونُ عند الرجل فتطولُ صحبتُها، فُيريد طلاقَها، فتقول‏:‏ لا تُطلِّقنى وأمسِكنى، وأَنت في حثلٍّ من النفقة علىَّ والقَسْمِ لى، فذلك قولُه‏:‏‏{‏فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا صُلْحاً والصُّلْحُ خَيْرٌ‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏128‏]‏‏.‏

وقضى خليفتُه الراشدُ، وابنُ عمه علىُّ بن أبى طالب رضى الله عنه، أنه إذا تزوَّج الحرَّة على الأمة قسمَ للأمة ليلة، وللحُرَّة ليلتين‏.‏ وقضاءُ خلفائه وإن لم يكن مساوياً لقضائه، فهو كقضائه في وجوبه على الأمة، وقد احتجَّ الإمام أحمدُ بهذا القضاءِ عن على رضي الله عنه، وقد ضعَّفه أبو محمد بن حزم بالمنهال بن عمرو، وبابنِ أبى ليلى، ولم يصنع شيئاً، فإنهما ثِقتان حافِظانِ جليلان، ولم يزلِ الناسُ يحتجُّونَ بابن أبى ليلى على شىء ما في حفظه يُتَّقى منه ما خالف فيه الأثبات، وما تفرَّد به عن الناس، وإلا فهو غيرُ مدفوع عن الأمانة والصدق‏.‏ فتضمَّن هذا القضاءُ أموراً‏.‏

منها وجوبُ قسم الابتداء، وهو أنه إذا تزوَّج بكراً على ثيب، أقام عندها سبعاً ثم سوَّى بينهما، وإن كانت ثيِّباً، خيَّرها بين أن يُقيم عندها سبعاً، ثم يقضِيها للبواقى، وبين أن يُقيم عندها ثلاثاً ولا يُحاسبها، هذا قول الجمهور، وخالف فيه إمامُ أهل الرأى، وإمامُ أهل الظاهر، وقالوا‏:‏ لا حقَّ للجديدة غيرَ ما تستحقه التي عنده، فيجب عليه التسوية بينهما‏.‏

ومنها‏.‏ أن الثيِّبَ إذا اختارت السبعَ، قضاهُن للبواقى، واحتسبَ عليها بالثلاث، ولو اختارتِ الثلاثَ، لم يحتسِبْ عليها بها، وعلى هذا من سُومح بثلاث دون ما فوقَها، ففعل أكثرَ منها، دخلت الثلاث في الذي لم يُسامح به بحيث لو ترتب عليه إثم، أثِمَ على الجميع، وهذا كما رخَّص النبىُّ صلى الله عليه وسلم للمُهاجِرِ أن يُقيم بعد قضاء نسكه ثلاثاً‏.‏ فلو أقام أبداً، ذُمَّ على الإقامة كُلِّها‏.‏

ومنها‏:‏ أنه لا تجب التسويةُ بينَ النساء في المحبة، فإنها لا تُمْلَكُ، وكانت عائشةُ رضى الله عنها أحبَّ نسائه إليه‏.‏ وأُخِذَ من هذا أنه لا تجبُ التسوية بينهن في الوطء، لأنه موقوف على المحبةِ والميل، وهى بيد مقلِّب القلوب‏.‏

وفى هذا تفصيل، وهو أنه إن تركه لعدم الداعى إليه، وعدم الانتشار، فهو معذور، وإن تركه مع الداعى إليه، ولكن داعيه إلى الضرة أقوى، فهذا مما يدخُلُ تحت قُدرته وملكه، فإن أدى الواجبَ عليه منه، لم يَبْقَ لها حق، ولم يلزمه التسويةُ، وإن ترك الواجبَ منه، فلها المطالبةُ به‏.‏

ومنها‏:‏ إذا أراد السفرَ، لم يجز له أن يُسافِر بإحداهن إلا بقُرعة‏.‏

ومنها‏:‏ أنه لا يقضى للبواقى إذا قَدِمَ، فإن رسولَ الله صلى الله عليه وسلم لم يكن يقضى للبواقى‏.‏

وفى هذا ثلاثة مذاهب‏.‏

أحدها‏:‏ أنه لا يقضى، سواء أقرَعَ أو لم يُقرع، وبه قال أبو حنيفة، ومالك‏.‏

والثانى‏:‏ أنه يقضى للبواقى أقرع أو لم يُقرع، وهذا مذهب أهل الظاهر‏.‏

والثالث‏:‏ أنه إن أقرع لم يقض، وإن لم يُقرع قضى، وهذا قولُ أحمد والشافعى‏.‏

ومنها‏:‏ أن للمرأةِ أن تَهَبَ ليلتها لِضرتها، فلا يجوزُ له جعلُها لغير الموهبة، وإن وهبتها للزوج، فله جعلُها لمن شاء منهن، والفرقُ بينهما أن الليلةَ حقٌّ للمرأة فإذا أسقطتها، وجعلتها لضرتها، تعينت لها، وإذا جعلتها للزوج، جعلها لمن شاء مِن نسائه، فإذا اتفق أن تكون ليلةُ الواهبة تلى ليلة الموهوبة، قسم لها ليلتين متواليتين، وإن كانت لا تليها فهل له نقلُها إلى مجاورتها، فيجعل الليلتين متجاورتين‏؟‏ على قولين للفقهاء، وهما في مذهب أحمد والشافعى‏.‏

ومنها‏:‏ أن الرجلَ له أن يَدْخُلَ على نسائه كُلَّهِنَّ في يوم إحداهن ولكن لا يطؤها في غير نوبتها‏.‏

ومنها‏:‏ أن لِنسائه كُلِّهِنَّ أن يجتمِعن في بيت صاحبة النوبة يتحدَّثن إلى أن يجىء وقتُ النوم، فتؤوب كُلُّ واحدة إلى منزلها‏.‏

ومنها‏:‏ أن الرجل إذا قضَى وطراً من امرأته، وكرهتْها نفسُه، أو عَجَزَ عن حقوقها، فله أن يُطلِّقها، وله أن يُخَيِّرها، إن شاءت أقامت عنده ولا حقَّ لها في القسم والوطء والنفقة، أو في بعضِ ذلك بحسب ما يصطلحان عليه، فإذا رضيت بذلك، لزم، وليس لها المطالبةُ به بعد الرضى‏.‏

هذا موجب السنة ومقتضاها، وهو الصوابُ الذي لا يسوغُ غيره، وقولُ من قال‏:‏ إن حقها يتجدد، فلها الرجوع في ذلك متى شاءت، فاسد، فإن هذا خرج مخرجَ المعاوضة، وقد سماه الله تعالى صالحاً، فيلزم كما يلزم ما صالح عليه من الحقوق والأموال، ولو مُكِّنَتْ مِن طلب حقِّها بعد ذلك، لكان فيه تأخيرُ الضرر إلى أكمل حالتيه، ولم يكن صلحاً، بل كان مِن أقرب أسباب المعاداة، والشريعةُ منزَّهة عن ذلك، ومن علامات المنافق أنه إذا وعد، أخلف، وإذا عاهد، غدر، القضاء النبوي يردُّ هذا‏.‏

ومنها‏:‏ أن الأمة المزوَّجة على النصف من الحرة، كما قضى به أمير المؤمنين على رضى الله عنه، ولا يُعرف له في الصحابة مخالف، وهو قولُ جمهور الفقهاء إلا رواية عن مالك‏:‏ أنهما سواء، وبها قال أهل الظاهر، وقولُ الجمهور هو الذي يقتضيه العدلُ، فإن الله سبحانه لم يسو بين الحرة والأمة، لا في الطلاق، ولا في العدة، ولا في الحدِّ، ولا في الملك، ولا في الميراث، ولا في مدة الكونِ عند الزوج ليلاً ونهاراً، ولا في أصلِ النكاح، بل جعل نكاحها بمنزلة الضرورة، ولا في عددِ المنكوحات، فإن العبد لا يتزوج أكثر من اثنتين، هذا قولُ الجمهور، وروى الإمام أحمد بإسناده‏:‏ عن عمر بن الخطاب رضى الله عنه قال‏:‏ يتزوَّجُ العبد ثنتين، ويطلق ثنتين، وتعتدُّ امرأتُه حيضتين، واحتج به أحمد‏.‏ ورواه أبو بكر عبد العزيز، عن على بن أبى طالب رضى الله عنه، قال‏:‏ لا يَحِلُّ للعبد من النساء إلا ثنتان‏.‏

وروى الإمام أحمد بإسناده، عن محمد بن سيرين قال‏:‏ سأل عمر رضى الله عنه الناس‏:‏ كم يتزوجُ العبد‏؟‏ فقال عبد الرحمن‏:‏ ثنتين وطلاقه ثنتين فهذا عمر، وعلى، وعبد الرحمن، رضى الله عنهم، ولا يعرف لهم مخالف في الصحابة مع انتشار هذا القول وظهوره، وموافقته للقياس‏.‏

فصل‏:‏ في قضائه صلى الله عليه وسلم في تحريم وطء المرأة الحبلى من غير الوَاطئ

ثبت في ‏(‏صحيح مسلم‏)‏‏:‏ من حديث أبى الدرداء رضىَ الله عنه، أن النبى صلى الله عليه وسلم أتى بامرأةٍ مُجِحِّ على بَابِ فُسْطَاطٍ، فقال‏:‏ ‏(‏لَعَلَّهُ يُريدُ أَنْ يُلِمَّ بها‏)‏‏.‏ فقالُوا‏:‏ نَعَمْ، فقالَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏لَقَدْ هَمَمْتُ أَنْ أَلْعَنَهُ لَعْنًا يَدْخُلُ مَعَهُ قَبْرَهُ، كَيْفَ يُوَرِّثُه وهُوَ لا يَحِلُّ لهُ، كَيْفَ يَسْتَخْدِمُه وهُوَ لاَ يَحِلُّ لهُ‏)‏‏.‏

قال أبو محمد ابن حزم‏:‏ لا يَصِحُّ في تحريم وطءِ الحامِلِ خبرٌ غيرُ هذا‏.‏ انتهى‏.‏ وقد روى أهل ‏(‏السنن‏)‏ من حديث أبى سعيد رضى الله عنه، أن النبى صلى الله عليه وسلم قال في سبايا أوطاس‏:‏ ‏(‏لا تُوَطأْ حَامِلُ حَتَّى تَضَعَ، ولا غَيْرُ حَامِلٍ حَتَّى تَحيضَ حَيْضَةً‏)‏‏.‏

وفى الترمذى وغيره‏:‏ من حديث رُويفع بن ثابت رضى الله عنه، عن النبى صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:‏ ‏(‏مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ واليَوْمِ الآخِرِ فَلا يَسْقِ مَاءَه وَلَدَ غَيْرِهِ‏)‏ قال الترمذى حديث حسن‏.‏

وفيه عن العِرباضِ بن سَارِيَةَ رضى الله عنه، أن النبىَّ صلى الله عليه وسلم حرَّم وطءَ السبايا حتى يَضَعْنَ ما في بُطونهن‏.‏

وقوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏كيف يُورِّثه وهو لا يَحلُّ له، كيف يستخدِمُه وهو لا يَحِلُّ له‏)‏، كان شيخُنا يقولُ في معناه‏:‏ كيف يجعلُه عبداً مَوروثاً عنه، ويستخدِمُه استخدامَ العبيدِ وهو ولدُه، لأن وطأه زاد في خَلْقِه‏؟‏ قال الإمام أحمد‏:‏ الوطء يزيد في سمعه وبصره‏.‏ قال فيمن اشترى جاريةً حاملاً من غيره، فوطئها قبل وضعها، فإن الولد لا يلحَقُ بالمشترى، ولا يتبعُه، لكن يعتِقُه لأنه قد شرك فيه، لأن الماءَ يزيدُ في الولد، وقد روى عن أبى الدرداء رضى الله عنه، عن النبىِّ صلى الله عليه وسلم، مرَّ بامرأة مُجِحٍّ على باب فسطاط، فقال‏:‏ ‏(‏لعله يُريد أن يُلِمَّ بها‏)‏ وذكر الحديثَ‏.‏ يعنى‏:‏ أنه إن استلحقه وشرِكه في ميراثه، لم يحل له، لأنه ليس بولده، وإن أخذه مملوكاً يستخدِمُه لم يَحلَّ له لأنه قد شرك فيه لكون الماء يزيدُ في الولد‏.‏

وفى هذا دلالة ظاهرةٌ على تحريم نكاح الحامِل، سواء كان حملُها مِن زوج أو سيِّدٍ أو شُبهة أو زنى، وهذا لا خلاف فيه إلا فيما إذا كان الحملُ مِن زنى، ففى صحة العقد قولان، أحدهما‏:‏ بطلانُه وهو مذهبُ أحمد ومالك، والثانى‏:‏ صحتُه وهو مذهب أبى حنيفة والشافعى ثم اختلفا، فمنع أبو حنيفة مِن الوطء حتى تنقضىَ العِدَّةُ، وكرهه الشافعى، وقال أصحابُه‏:‏ لا يحرم‏.‏

فصل‏:‏ في حكمه صلى الله عليه وسلم في الرجل يعتِقُ أمتَه ويجعل عِتقها صداقَها

ثبت عنه في ‏(‏الصحيح‏)‏‏:‏ ‏(‏أنه أعتق صفيَّةَ وجعل عِتْقَها صَدَاقَها‏)‏‏.‏ قيل لأنس‏:‏ ما أَصْدَقَها‏؟‏ قال‏:‏ أَصْدَقَها نَفْسَها وذهبَ إلى جواز ذلك علىُّ ابن أبى طالب، وفعله أنس بن مالك، وهو مذهبُ أعلم التابعين، وسيِّدهم سعيدِ بن المسيِّب، وأبى سلمة بن عبد الرحمن، والحسنِ البَصرى، والزهري، وأحمد، وإسحاق‏.‏

وعن أحمد رواية أخرى، أنه لا يَصِحُّ حتى يستأنِفَ نكاحها بإذنها، فإن أبت ذلك، فعليها قيمتُها‏.‏

وعنه رواية ثالثة‏:‏ أنه يُوَكِّلُ رجلاً يزوِّجه إياها‏.‏

والصحيح‏:‏ هو القول الأول الموافق للسنة، وأقوالِ الصحابة والقياس، فإنه كان يمِلك رقبتها، فأزال ملكه عن رقبتها، وأبقى ملكَ المنفعة بعقد النكاح، فهو أولى بالجواز مما لو أعتقها، واستثنى خِدمتها، وقدم تقدَّم تقريرُ ذلك في غزاة خيبر‏.‏

فصل‏:‏ في قضائه صلى الله عليه وسلم في صحة النكاح الموقوفِ على الإجازة

في ‏(‏السنن‏)‏‏:‏ عن ابن عباس رضى الله عنهما، ‏(‏أن جاريةً بكراً أتت النبىَّ صلى الله عليه وسلم فذكرت أنَّ أباها زوَّجَها وهى كَارِهَة، فخيَّرها النبىُّ صلى الله عليه وسلم‏)‏‏.‏

وقد نصَّ الإمامُ أحمد على القول بمقتضى هذا، فقال في رواية صالح في صغير زوَّجه عمه، قال‏:‏ إن رضى به في وقت من الأوقات، جاز، وإن لم يرض فسخ‏.‏

ونقل عنه ابنه عبد الله، إذا زوجت اليتيمةُ، فإذا بلغت فلها الخيارُ، وكذلك نقل ابنُ منصور عنه حُكى له قولُ سفيانَ في يتيمة زُوِّجَت ودَخَلَ بها الزوجُ، ثم حاضت عند الزوج بعدُ، قال‏:‏ تُخيَّرُ، فإن اختارت نفسَها لم يقع التزويجُ، وهى أحقُّ بنفسها، وإن قالت‏:‏ اخترتُ زوجى‏؟‏ فليشهدوا على نكاحهما‏.‏ قال أحمد‏:‏ جيد‏.‏

وقال في رواية حنبل في العبد إذا تزوَّج بغير إذن سيده، ثم علم السيدُ بذلك‏:‏ فإن شاء يُطلِّق عليه، فالطلاقُ بيد السيد، وإذا أذن له في التزويج، فالطلاقُ بيد العبد، ومعنى قوله‏:‏ يطلق، أى‏:‏ يُبْطِلُ العقد، ويمنع تنفيذَه وإجازته، هكذا أوَّله القاضى، وهو خلاف ظاهر النص، وهذا مذهبُ أبى حنيفة ومالك على تفصيل في مذهبه، والقياسُ يقتضى صحةَ هذا القول، فإن الإذن إذا جاز أن يتقدَّم القبولَ والإيجابَ جاز أن يتراخى عنه‏.‏

وأيضاً فإنه كما يجوز وقفُه على الفسخ يجوزُ وقفُه على الإجازة كالوصية، ولأن المعتبرَ هو التراضى، وحصولُه في ثانى الحال كحصولِه في الأول، ولأن إثباتَ الخيار في عقد البيع هو وقفٌ للعقد في الحقيقة على إجازة من له الخيار وردّه، وبالله التوفيق‏.‏

فصل‏:‏ في حكمه صلى الله عليه وسلم في الكفاءة في النكاح

قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏يَأَيُّهَا النَّاسُ إنَّا خَلَقْنَاكُم مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وجَعَلْنَاكُم شُعُوباً وقَبَائِلَ لِتَعارَفُوا إنَّ أكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُم‏}‏ ‏[‏الحجرات‏:‏ 13‏]‏وقال تعالى‏:‏ ‏{‏إِنَّما المُؤْمِنُونَ إخْوَةٌ‏}‏ ‏[‏الحجرات‏:‏ 10‏]‏ وقال‏:‏ ‏{‏والمُؤْمِنُونَ والمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُم أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 71‏]‏ وقال تعالى‏:‏ ‏{‏فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّى لا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَو أُنْثَى بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 195‏]‏‏.‏

وقال صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏لا فَضْلَ لِعَرَبىٍّ عَلى عَجَمِى، وَلاَ لِعَجَمِىٍّ عَلى عَرَبى، ولا لأَبْيَضَ عَلى أَسْوَدَ ولا لأسود عَلى أبْيَضَ، إِلاَّ بِالتَّقْوَى، النّاسُ مِنْ آدَمَ، وآدَمُ منْ تُرابٍ‏)‏‏.‏

وقال صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏إِنَّ آلَ بنِى فُلاَنٍ لَيْسُوا لى بِأَوْليَاءَ، إِنَّ أَوْلِيائى المتَّقُونَ حَيْثُ كَانُوا وأَيْنَ كَانُوا‏)‏‏.‏

وفى الترمذى‏:‏ عنه صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏إذَا جَاءَكُمْ مَنْ تَرْضُوْنَ دِينَهُ وخُلُقَهُ فَأَنْكِحُوهُ، إلاَّ تَفْعَلوه، تَكُنْ فِتْنَةٌ في الأَرْضِ وفَسَادٌ كَبِيرٌ‏)‏‏.‏ قالوا‏:‏ يارسولَ الله، وإن كان فيه‏؟‏ فقال‏:‏ ‏(‏إذَا جَاءَكُم مَنْ تَرْضَوْنَ دِينَهُ وخُلُقَهُ فَأَنْكِحُوه‏)‏، ثلاث مرات‏.‏

وقال النبىُّ صلى الله عليه وسلم لبنى بَيَاضَة‏:‏ ‏(‏أَنْكِحُوا أَبا هِنْدٍ، وأَنْكِحُوا إلَيْهِ‏)‏‏.‏ وكان حجَّاماً‏.‏

وزوَّج النبىُّ صلى الله عليه وسلم زينبَ بنتَ جَحْشٍ القُرشية مِن زيد بن حارثة مولاه، وزوَّج فاطمة بنت قيس الفِهرية القرشية‏.‏ من أسامة ابنه، وتزوَّج بلالُ ابن رباح بأخت عبد الرحمن بن عوف، وقد قال الله تعالى‏:‏‏{‏والطَّيِّباتُ لِلطَّيِّبِين والطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّبَاتِ‏}‏ ‏[‏النور‏:‏26‏]‏ وقد قال تعالى‏:‏‏{‏فانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏3‏]‏‏.‏

فالذى يقتضيه حُكمُه صلى الله عليه وسلم اعتبارُ الدِّين في الكفاءة أصلاً‏.‏ وكمالاً، فلا تُزوَّجُ مسلمةٌ بكافر، ولا عفيفةٌ بفاجر، ولم يعتبرِ القرآنُ والسنةُ في الكفاءة أمراً وراءَ ذلك، فإنه حرَّم على المسلمة نكاحَ الزانى الخبيثِ، ولم يعتبر نسباً ولا صِناعة، ولا غِنىً ولا حريَّةً، فجوَّز للعبد القِنَّ نكاحَ الحرَّةِ النسيبة الغنيةِ إذا كان عفيفاً مسلماً، وجوز لغير القرشيين نكاحَ القرشيات، ولغير الهاشميين نكاحَ الهاشميات وللفقراءِ نكاحَ الموسرات‏.‏

وقد تنازع الفقهاءُ في أوصاف الكفاءة‏:‏

فقال مالك في ظاهر مذهبه‏:‏ إنها الدِّينُ، وفى رواية عنه‏:‏ إنها ثلاثة‏:‏ الدِّين، والحريَّة، والسلامةُ من العيوب‏.‏

وقال أبو حنيفة‏:‏ هي النسبُ والدين‏.‏

وقال أحمد في رواية عنه‏:‏ هي الدِّين والنسب خاصة‏.‏ وفى رواية أخرى‏:‏ هي خمسة‏:‏ الدِّين، والنسب، والحرية، والصناعة، والمال‏.‏ وإذا اعتبر فيها النسب، فعنه فيه روايتان‏.‏ إحداهما‏:‏ أن العرب بعضُهم لبعض أكفاء‏.‏ الثانية‏:‏ أن قريشاً لا يكافئهم إلا قرشى، وبنو هاشم لا يُكافئهم إلا هاشمى‏.‏

وقال أصحابُ الشافعى‏:‏ يُعتبر فيها الدِّينُ، والنسبُ، والحُرية، والصِّناعة، والسلامةُ من العيوب المُنَفِّرَةِ‏.‏

ولهم في اليسار ثلاثة أوجه‏:‏ اعتبارُه فيها، وإلغاؤُه، واعتبارُه في أهل المدن دون أهلِ البوادى، فالعجمىُّ ليس عندهم كُفْئَاً للعربى، ولا غيرُ القرشى للقرشية، ولا غيرُ الهاشمى للهاشمية، ولا غيرُ المنتسبة إلى العلماء والصلحاء المشهورين كفئاً لمن ليس منتسباً إليهما، ولا العبدُ كُفْئَاً للحرة، ولا العتيق كفئاً لحرة الأصل، ولا من مَسَّ الرِّقُّ أحدَ آبائه كفئاً لمن لم يمسَّها رِق، ولا أحداً من آبائها، وفى تأثير رِق الأمهات وجهان، ولا مَن به عيب مثبت للفسخ كُفْئَاً للسليمة منه، فإن لم يثبت الفسخ وكان منفِّراً كالعمى والقطع، وتشويهِ الخِلقة، فوجهان‏.‏ واختار الرُّويانى أن صاحبه ليس بكفءٍ، ولا الحجام والحائك والحارس كُفْئَاً لبنت التاجر والخياط ونحوهما، ولا المحترف لبنت العالم، ولا الفاسق كفئاً للعفيفة، ولا المبتدعُ للسنية ولكن الكفاءة عند الجمهور هي حق المرأة والأولياء‏.‏

ثم اختلفوا، فقال أصحاب الشافعى‏:‏ هي لمن له ولاية في الحال‏.‏ وقال أحمد في رواية‏:‏ حق لجميع الأولياء، قريبهم وبعيدِهم، فمن لم يرض منهم، فله الفسخ وقال أحمد في رواية ثالثة‏:‏ إنها حقُّ اللَّهِ، فلا يَصِحُّ رضاهم بإسقاطه، ولكن على هذه الرواية لا تُعتبر الحريةُ ولا اليسار، ولا الصناعة ولا النسبُ، إنما يُعتبر الدِّينُ فقط، فإنه لم يقل أحمد، ولا أحدٌ من العلماء‏:‏ إن نكاح الفقير للموسرة باطل وإن رضيت، ولا يقولُ هو ولا أحدٌ‏:‏ إن نكاح الهاشمية لغير الهاشمى، والقرشية لغير القرشى باطل، وإنما نبهنا على هذا لأن كثيراً من أصحابنا يحكُون الخلاف في الكفاءة، هل هي حق لله أو للآدمى‏؟‏ ويطلقون مع قولهم‏:‏ إن الكفاءة هي الخصالُ المذكورة، وفى هذا من التساهلِ وعدمِ التحقيق ما فيه‏.‏