فصل: فصل: في كتبه ورسله صلى الله عليه وسلم إلى الملوك

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: زاد المعاد في هدي خير العباد **


فصل‏:‏ في أسمائه صلى الله عليه وسلم

وكلها نعوت ليست أعلاماً محضة لمجرد التعريف، بل أسماء مشتقة من صفات قائمة به تُوجِبُ له المدحَ والكمال‏.‏

فمنها محمد، وهو أشهرها، وبه سمي في التوراة صريحاً كما بيناه بالبرهان الواضح في كتاب ‏(‏جلاء الأفهام في فضل الصلاة والسلام على خير الأنام‏)‏ وهو كتاب فرد في معناه لم يُسبق إلى مثله في كثرة فوائده وغزارتها، بينَّا فيه الأحاديث الواردة في الصلاة والسلام عليه، وصحيحها من حسنها، ومعلولها وبينا ما في معلولها من العلل بياناً شافياً، ثم أسرار هذا الدعاء وشرفه وما اشتمل عليه من الحكم والفوائد، ثم مواطن الصلاة عليها ومحالها، ثم الكلام في مقدار الواجب منها، واختلاف أهل العلم فيه، وترجيح الراجح، وتزييف المزيَّف، وَمَخبَرُ الكِتابِ فَوْقَ وصفه‏.‏

والمقصود أن اسمه محمد في التوراة صريحاً بما يوافق عليه كلُّ عالم من مؤمني أهل الكتاب‏.‏

ومنها أحمد، وهو الاسم الذي سماه به المسيح، لسرٍّ ذكرناه في ذلك ا لكِتابِ‏.‏

ومنها المتوكِّل، ومنها الماحي، والحاشر، والعاقب، والمُقَفِّى، ونبي التوبة، ونبيُّ الرحمة، ونبيُّ الملحمة، والفاتحُ، والأمينُ‏.‏

ويلحق بهذه الأسماء‏:‏ الشاهد، والمبشِّر، والبشير، والنذير، والقاسِم، والضَّحوك، والقتَّال، وعبد اللّه، والسراج المنير، وسيد ولد آدم، وصاحبُ لواء الحمد، وصاحب المقام المحمود، وغير ذلك من الأسماء، لأن أسماءه إذا كانت أوصاف مدح، فله من كل وصف اسم، لكن ينبغي أن يفرق بين الوصف المختص به، أو الغالب عليه، ويشتق له منه اسم، وبين الوصف المشترَك، فلا يكون له منه اسم يخصه‏.‏

وقال جبير بن مُطْعِم‏:‏ سمَّى لنا رسول اللّه صلى الله عليه وسلم نفسه أسماء، فقال‏:‏ ‏(‏أنا مُحَمَّدٌ، وأنا أحْمَدُ، وأنا المَاحِي الَّذِي يَمْحُو اللَّهُ بِي الكُفرَ، وأنا الحَاشِرُ الَّذِي يُحْشرُ النَّاسُ عَلَى قَدَمَيَّ، والعَاقِب الَّذِي لَيسَ بَعْدَهُ نَبيٌّ ‏)‏‏.‏

وأسماؤه صلى الله عليه وسلم نوعان‏:‏

أحدهما‏:‏ خاص لا يُشارِكُه فيه غيره من الرسل كمحمد، و أحمد، والعاقب، والحاشر، والمقفي، ونبي الملحمة‏.‏

والثاني‏:‏ ما يشاركه في معناه غيره من الرسل، ولكن له منه كماله، فهو مختص بكماله دون أصله، كرسول اللّه، ونبيه، وعبده، والشَّاهدِ، والمبشِّرِ، والنذيرِ، ونبيِّ الرحمة، ونبيّ التوبة‏.‏

وأما إن جعل له مِن كل وصف من أوصافه اسم، تجاوزت أسماؤه المائتين، كالصادق، والمصدوق، والرؤوف الرَّحيم، إلى أمثال ذلك‏.‏ وفي هذا قال من قال من الناس‏:‏ إن لله ألفَ اسمٍ، وللنبي صلى الله عليه وسلم ألفَ اسم، قاله أبو الخطاب بنُ دِحيةَ ومقصوده الأوصاف‏.‏

فصل‏:‏ في شرح معاني أسمائه صلى الله عليه وسلم

أمّا مُحَمَّد، فهو اسم مفعول، من حَمِدَ، فهو محمد، إذا كان كثيرَ الخصال التي يُحمد عليها، لذلك كان أبلغَ من محمود، فإن ‏(‏محموداً‏)‏ من الثلاثي المجرد، ومحمد من المضاعف للمبالغة، فهو الذي يحمد أكثر ممّا يحمد غيره من البشر، ولهذا - واللّه أعلم - سمِي به في التوراة، لكثرة الخصال المحمودة التي وُصِفَ بها هو ودينه وأمته في التوراة، حتى تَمَنَى موسى عليه الصلاة والسلام أن يكون منهم، وقد أتينا على هذا المعنى بشواهده هناك، وبينا غلط أبي القاسم السهيلي حيث جعل الأمر بالعكس، وأن اسمه في التوراة أحمد‏.‏

وأما أحمد، فهو اسم على زِنة أفعل التفضيل، مشتق أيضاً من الحمد‏.‏ وقد اختلف الناس فيه‏:‏ هل هو بمعنى فاعل أو مفعول‏؟‏ فقالت طائفة‏:‏ هو بمعنى الفاعل، أي‏:‏ حَمْدُه للّه أكثرُ من حمد غيره له، فمعناه‏:‏ أحمد الحامدين لربه، ورجحوا هذا القول بأن قياس أفعل التفضيل، أن يُصاغ من فعل الفاعل، لا من الفعل الواقع على المفعول، قالوا‏:‏ ولهذا لا يقال‏:‏ ما أضربَ زيداً، ولا زيد أضرب من عمرو باعتبار الضرب الواقع عليه، ولا‏:‏ ما أشرَبَه للماء، وآكله للخبز، ونحوه، قالوا‏:‏ لأن أفعل التفضيل، وفعل التعجب، إنما يُصاغان من الفعل اللازم، ولهذا يقدر نقله من ‏(‏فَعَلَ‏)‏ و ‏(‏فَعِلَ‏)‏ المفتوح العين ومكسورها، إلى ‏(‏فَعُلَ‏)‏ المضموم العين، قالُوا‏:‏ ولهذا يعدَّى بالهمزة إلى المفعول، فهمزته للتعدية، كقولك‏:‏ ما أظرفَ زيداً، وأكرمَ عمراً، وأصلهما‏:‏ من ظَرُف، وَكَرُمَ‏.‏ قالوا‏:‏ لأن المتعجَّب منه فاعل في الأصل، فوجب أن يكون فعله غيرَ متعد، قالوا‏:‏ وأما نحو‏:‏ ما أضرب زيداً لعمرو، فهو منقول من ‏(‏فَعَلَ‏)‏ المفتوح العين إلى ‏(‏فَعُلَ‏)‏ المضموم العين، ثم عُدي والحالة هذه بالهمزة قالوا‏:‏ والدليل على ذلك مجيئهم باللام، فيقولون‏:‏ ما أضرب زيداً لعمرو، ولو كان باقياً على تعديه، لقيل‏:‏ مَا أضربَ زيداً عمراً، لأنه متعد إلى واحد بنفسه، وإلى الآخر بهمزة التعدية، فلما أن عدَّوه إلى المفعول بهمزة التعدية، عدَّوه إلى الآخر باللام، فهذا هو الذي أوجب لهم أن قالوا‏:‏ إنهما لا يُصاغان إلا من فعل الفاعل، لا من الفعل الواقع على المفعول‏.‏

ونازعهم في ذلك آخرون، وقالوا‏:‏ يجوز صوغُهما من فعل الفاعل، ومن الواقع على المفعول، وكثرة السماع به من أبين الأدلة على جوازه، تقول العرب‏:‏ ما أشغَلَه بالشيء، وهو من شُغِلَ، فهو مشغول وكذلك يقولون‏:‏ ما أولَعه بكذا، وهو من أُولعَ بالشيء، فهو مُولَع به، مجني للمفعول ليس إلا، وكذلك قولهم‏:‏ ما أعجبه بكذا، فهو من أُعجِبَ به، ويقولون‏:‏ ما أحبه إلي، فهو تعجب من فعل المفعول، وكونه محبوباً لك، وكذا‏:‏ ما أبغضه إليَّ، وأمقته إليَّ‏.‏

وهاهنا مسألة مشهورة ذكرها سيبويه، وهي أنك تقول‏:‏ ما أبغضني له، وما أحبني له، وما أمقتني له‏:‏ إذا كنتَ أنتَ المبغِضَ الكارِه، والمحِب الماقِت، فتكون متعجباً من فعل الفاعل، وتقول‏:‏ ما أبغضني إليه، وما أمقتني إليه، وما أحبني إليه‏:‏ إذا كنت أنت البغيض الممقوت، أو المحبوب، فتكون متعجباً من الفعل الواقع على المفعول، فما كان باللام فهو للفاعل، وما كان بـ ‏(‏إلى‏)‏ فهو للمفعول‏.‏ وأكثر النحاة لا يعللون بهذا‏.‏ والذي يقال في علته واللّه أعلم‏:‏ إن اللام تكون للفاعل في المعنى، نحو قولك‏:‏ لمن هذا‏؟‏ فيقال‏:‏ لزيد، فيؤتى باللام‏.‏ وأما ‏(‏إلى‏)‏ فتكون للمفعول في، المعنى، فتقول‏:‏ إلى من يصل هذا الكتاب‏؟‏ فتقول‏:‏ إلى عبد اللّه، وسر ذلك أن اللام في الأصل للملك والاختصاص، والاستحقاق إنما يكون للفاعل الذي يملك ويستحق، و ‏(‏إلى‏)‏ لانتهاء الغاية، والغاية منتهى ما يقتضيه الفعلُ، فهي بالمفعول أليق، لأنها تمام مقتضى الفعل، ومِن التعجب من فعل المفعول قولُ كعب بن زهير في النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏

فَلَهْوَ أَخــْوَفُ عِنْدِي إِذ أُكَلِّمُهُ ** وَقِيلَ إنَّكَ مَحْبُوسّ وَمَقْتُولُ

مِنْ خَادِرٍ مِنْ لُيُوثِ الأُسْدِ مَسْكَنُهُ ** بِبَطْنِ عَثّـَرَ غِيْلٌ دُونَهُ غِيْلُ

فأخوف هاهنا، من خيف، فهو مَخُوفُ، لا من خاف، وكذلك قولهم‏:‏ ما أجَنَّ زيداً، من جُنَّ فهو مجنون، هذا مذهب الكوفيين ومن وافقهم‏.‏

قال البصريون‏:‏ كل هذا شاذ لا يُعوَّل عليه، فلا نُشوش به القواعد، ويجب الاقتصارُ منه على المسموع، قال الكوفيون‏:‏ كثرة هذا في كلامهم نثراً ونظماً يمنع حمله على الشذوذ، لأن الشاذ ما خالف استعمالهم ومطَّرِدَ كلامهم، وهذا غير مخالف لذلك، قالوا‏:‏ وأما تقديركم لزوم الفعل ونقله إلى فَعُلَ، فتحكم لا دليل عليه، وما تمسكتم به من التعدية بالهمزة إلى آخره، فليس الأمر فيها كما ذهبتم إليه، والهمزة في هذا البناء ليست للتعدية، وإنما هي للدلالة على معنى التعجب والتفضيل فقط، كألف ‏(‏فاعل‏)‏، وميم ‏(‏مفعول‏)‏ وواوه، وتاء الافتعال، والمطاوعة، ونحوها من الزوائد التي تلحق الفعل الثلاثي لبيان ما لحقه من الزيادة على مجرده، فهذا هو السبب الجالب لهذه الهمزة، لا تعدية الفعل‏.‏

قالوا‏:‏ والذي يدل على هذا أن الفعل الذي يُعدَّى بالهمزة يجوز أن يُعدَّى بحرف الجرّ وبالتضعيف، نحو‏:‏ جلست به، وأجلسته، وقمت به، وأقمته، ونظائره، وهنا لا يقوم مقامَ الهمزة غيرها، فعلم أنها ليست للتعدية المجردة أيضاً، فإنها تجامع باء التعدية، نحو‏:‏ أكْرِمْ بِهِ، وأَحسِنْ بِهِ، ولا يجمع على الفعل بين تعديتين‏.‏

وأيضاً فإنهم يقولون‏:‏ ما أعطاه للدراهم، وأكساه للثياب، وهذا مِن أعطى وكسا المتعدي، ولا يصح تقديرُ نقله إلى ‏(‏عطو‏)‏‏:‏ إذا تناول، ثم أدخلت عليه همزة التعدية، لفساد المعنى، فإن التعجب إنما وقع من إعطائه، لا من عطوه، وهو تناوله، والهمزة التي فيه همزة التعجب والتفضيل، وحذفت همزته التي في فعله، فلا يصح أن يقال‏:‏ هي للتعدية‏.‏

قالوا‏:‏ وأما قولكم‏:‏ إنه عُدِّي باللام في نحو‏:‏ ما أضربه لزيد‏.‏‏.‏‏.‏ إلى آخره، فالإِتيان باللام هاهنا ليس لما ذكرتم من لزوم الفعل، وإنما أتي بها تقوية له لما ضعف بمنعه من التصرُّفِ، وأُلزِمَ طريقة واحدة خرج بها عن سَنن الأفعال، فضعف عن اقتضائه وعمله، فقوي باللام كما يقوى بها عند تقدم معموله عليه، وعند فرعيته، وهذا المذهب هو الراجح كما تراه‏.‏

فلنرجع إلى المقصود فنقول‏:‏ تقديرُ أحمد على قول الأولين‏:‏ أحمد الناس لربه، وعلى قول هؤلاء‏:‏ أحق الناس وأولاهم بأن يُحمد، فيكون كمحمد في المعنى، إلا أن الفرق بينهما أن ‏(‏محمداً‏)‏ هو كثير الخصال التي يحمد عليها، وأحمد هو الذي يُحمد أفضل ممّا يُحْمَدُ غيره، فمحمد في الكثرة والكمية، وأحمد في الصفة والكيفية، فيستحق من الحمد أكثر ممّا يستحق غيره، وأفضلُ ممّا يستحِق غيره، فيُحمَدُ أكثرَ حمد، وأفضلَ حمد حَمِدَه البشر‏.‏ فالاسمان واقعان على المفعول، وهذا أبلغ في مدحه، وأكمل معنى‏.‏ ولو أريد معنى الفاعل لسمي الحماد، أي‏:‏ كثير الحمد، فإنه بها،كان أكثر الخلق حمداً لربه، فلو كان اسمه أحمد باعتبار حمده لربه، لكان الأولى به الحمَّاد، كما سميت بذلك أمَتُه‏.‏

وأيضاً‏:‏ فإن هذين الاسمين، إنما اشتقا من أخلاقه، وخصائصه المحمودة التي لأجلها استحق أن يسمى محمداً‏؟‏ صلى الله عليه وسلم، وأحمد وهو الذي يحمدُه أهل السماء وأهلُ الأرض وأهلُ الدنيا وأهلُ الآخرة، لكثرة خصائصه المحمودة التي تفوق عَدَّ العادِّين وإحصاء المحصين، وقد أشبعنا هذا المعنى في كتاب ‏(‏الصلاة والسلام‏)‏ عليه صلى الله عليه وسلم، وإنما ذكرنا هاهنا كلمات يسيرة اقتضتها حالُ المسافر، وتشتتُ قلبه وتفرق همته، وباللّه المستعان وعليه التكلان‏.‏

وأما اسمه المتوكل، ففي ‏(‏صحيح البخاري‏)‏ عن عبد اللّه بن عمرو قال‏:‏ ‏(‏قرأت في التوراة صفة النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ مُحَمَّد رسولُ اللّه، عبدي وَرَسُولي، سمَّيتُه المُتَوَكِّل، ليس بِفَظٍّ، ولا غَليظٍ، ولا سَخَّابٍ في الأسواق، ولا يجزي بالسَّيئةِ السَّيئة، بل يعفو ويصفح، ولن أَقْبِضَهُ حَتَّى أُقيمَ بِهِ المِلَّة الْعَوْجَاءَ، بأن يقولوا‏:‏ لا إله إلا اللّه‏)‏ وهو صلى الله عليه وسلم أحقّ الناس بهذا الاسم، لأنه توكَّل على الله في إقامة الدين توكلاً لم يَشْركْه فيه غيره‏.‏

وأما الماحي، والحاشر، والمقفِّي، والعاقب، فقد فسرت في حديث جبير بن مطعم، فالماحي‏:‏ هو الذي محا اللّه به الكفر، ولم يُمحَ الكفر بأحد من الخلق ما مُحي بالنبي صلى الله عليه وسلم، فإنه بُعِثَ وأهل الأرض كلهم كفار، إلا بقايا من أهل الكتاب، وهم ما بين عُبَّاد أوثان، ويهود مغضوب عليهم، ونصارى ضالين، وصابئة دَهرية، لا يعرفون رباً ولا معاداً، وبين عُبَّاد الكواكب، وعُبّاد النار، وفلاسفة لا يعرفون شرائع الأنبياء، ولا يُقرون بها، فمحا اللّه سبحانه برسوله ذلك حتى ظهر دينُ اللّه على كل دين، وبلغ دينُه ما بلغ الليل والنهار، وسارت دعوته مسيرَ الشمس في الأقطار‏.‏

وأما الحاشر، فالحشر هو الضم والجمع، فهو الذي يُحشر الناسُ على قدمه، فكأنه بعث لحشر الناس‏.‏

والعاقب‏:‏ الذي جاء عَقِبَ الأنبياء، فليس بعده نبي، فإن العاقب هو الآخر، فهو بمنزلة الخاتم، ولهذا سمي العاقب على الإِطلاق، أي‏:‏ عقب الأنبياء جاء بعقبهم‏.‏

وأما المقفِّي، فكذلك، وهو الذي قفَّى على آثار من تقدمه، فقفى اللَّهُ به على آثار من سبقه من الرسل، وهذه اللفظة مشتقة من القفو، يقال‏:‏ قفاه يقفوه‏:‏ إذا تأخر عنه، ومنه قافية الرأس، وقافية البيت، فالمقفِّي‏:‏ الذي قفى من قبله من الرسل، فكان خاتمهم وآخرهم‏.‏

وأما نبي التوبة، فهو الذي فتح اللّه به بابَ التوبة على أهل الأرض، فتاب اللّه عليهم توبة لم يحصل مثلها لأهل الأرض قبله‏.‏ وكان صلى الله عليه وسلم أكثر الناس استغفاراً وتوبة، حتى كانوا يَعُدُّون لَهُ في المَجْلِس الوَاحِدِ مِائَةَ مَرَّةٍ‏:‏ ‏(‏رَبِّ اغْفِرْ لِي وَتُبْ عَلَيَّ إنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الغَفُور‏)‏‏.‏

وكان يقول‏:‏ ‏(‏يَا أَيُّهَا النَّاسُ تُوبُوا إِلَى اللَّهِ رَبَكُم، فَإِني أَتُوبُ إِلى اللَّهِ في الْيَوْمِ مِائَةَ مَرَّةٍ‏)‏ وكذلك توبةُ أمته أكملُ مِن توبة سائر الأمم، وأسرع قبولاً، وأسهل تناولاً، وكانت توبة من قبلهم مِن أصعب الأشياء، حتى كان من توبة بني إسرائيلَ مِن عبادة العجل قتلُ أنفسهم، وأمّا هذه الأمّة، فلكرامتها على اللّه تعالى جعل توبتها الندمَ والإِقلاع‏.‏

وأمّا نبي الملحمة، فهو الذي بعث بجهاد أعداء اللّه، فلم يجاهد نبي وأمته قطُّ ما جاهد رسول اللّه صلى الله عليه وسلم وأمّته، والملاحم الكبار التي وقعت وتقع بين أمته وبين الكفار لم يُعهد مثلُها قبله، فإن أمته يقتلون الكفار في أقطار الأرض على تعاقب الأعصار،وقد أوقعوا بهم من الملاحم ما لم تفعله أمّة سواهم‏.‏

وأما نبيُّ الرحمة، فهو الذي أرسله اللّه رحمة للعالمين، فرحم به أهلَ الأرض كلَّهم مؤمنَهم وكافرَهم،أمّا المؤمنون، فنالوا النصيبَ الأوفر مِن الرحمة، وأمّا الكفار، فأهل الكتاب منهم عاشوا في ظله، وتحت حبله وعهده، وأما من قتله منهم هو وأمتُه، فإنهم عجلوا به إلى النَّار، وأراحوه من الحياة الطويلة التي لا يزداد بها إلا شدَّةَ العذاب في الآخرة‏.‏

وأما الفاتح، فهو الذي فتح اللّه به باب الهدى بعد أن كان مُرْتَجاً، وفتح به الأعين العمي، والآذان الصُّم، والقلوب الغُلف،وفتح اللّه به أمصار الكفار، وفتح به أبوابَ الجنَّة، وفتح به طرق العلم النافع والعمل الصالح، ففتح به الدنيا والآخرة، والقلوب والأسماع والأبصار والأمصار‏.‏

وأمّا الأمين، فهو أحق العالمين بهذا الاسم، فهو أمين اللّه على وحيه ودينه، وهو أمينُ مَنْ في السماء، وأمينُ مَنْ في الأرض، ولهذا كانوا يُسمونه قبل النبوة‏:‏ الأمين‏.‏

وأمّا الضحوك القتَّال، فاسمان مزدوجان، لا يُفرد أحدهما عن الآخر، فإنه ضحوك في وجوه المؤمنين، غيرُ عابس، ولا مقطِّب، ولا غضوب، ولا فظّ، قتَال لأعداء اللّه، لا تأخذه فيهم لومة لائم‏.‏

وأمّا البشير، فهو المبشَر لمن أطاعه بالثواب، والنذير المنذر لمن عصاه بالعقاب، وقد سماه اللّه عبدَه في مواضع من كتابه، منها قوله‏:‏ ‏{‏وَأَنّهُ لّمَا قَامَ عَبْدُ اللّهِ يَدْعُوهُ‏}‏ ‏[‏الجن‏:‏19‏]‏ وقوله‏:‏ ‏{‏تَبَارَكَ الّذِي نَزّلَ الْفُرْقَانَ عَلَىَ عَبْدِهِ‏}‏ ‏[‏الفرقان‏:‏ 1‏]‏ وقوله‏:‏ ‏{‏فَأَوْحَىَ إِلَىَ عَبْدِهِ مَا أَوْحَىَ‏}‏ ‏[‏النجم‏:‏ 10‏]‏ وقوله‏:‏ ‏{‏وَإِن كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مّمّا نَزّلْنَا عَلَىَ عَبْدِنَا‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 23‏]‏ وثبت عنه في ‏(‏الصحيح‏)‏ أنه قال‏:‏ ‏(‏أنا سيد ولد آدم يوم القيامة ولا فخر‏)‏ وسمّاه اللّه سِراجاً منيراً، وسمى الشمس سراجاً وهاجاً‏.‏

والمنير هو الذي ينير من غير إحراق بخلاف الوهاج، فإن فيه نوعَ إحراق وَتَوَهُج‏.‏

فصل‏:‏ في ذكرى الهجرتين الأولى والثانية

لما كثر المسلمون، وخاف منهم الكفارُ، اشتد أذاهم له صلى الله عليه وسلم، وفتنتهم إياهم، فأَذِن لهم رسولُ اللّه صلى الله عليه وسلم في الهجرة إلى الحبشة وقال‏:‏ ‏(‏إن بها مَلكاً لا يُظلَمُ النَّاسُ عنده‏)‏، فهاجر من المسلمين اثنا عشر رجلاً وأربع نسوة، منهم عثمان بن عفان، وهو أول من خرج، ومعه زوجته رُقَيَّةُ بنتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأقاموا في الحبشة في أحسن جوار، فبلغهم أنَّ قريشاً أسلمتْ، وكان هذا الخبرُ كذباً، فرجعوا إلى مكة، فلما بلغهم أن الأمر أشدُّ ممّا كان، رجع منهم مَنْ رجع، ودخل جماعة، فَلَقُوا مِنْ قُريش أذى شديداً، وكان ممن دخل عبدُ اللّه بنُ مسعود‏.‏ ثم أذن لهم في الهجرة ثانياً إلى الحبشة، فهاجر مِن الرجال ثلاثةٌ وثمانون رجلاً، إن كان فيهم عمار، فإنه يُشك فيه، ومن النساء ثمان عشرة امرأة، فأقاموا عند النجاشي على أحسن حال، فبلغ ذلك قريشاً، فأرسلوا عمرو بن العاص، وعبد اللّه بن أبي ربيعة في جماعة، ليكيدوهم عند النجاشي، فرد اللّه كيدهم في نحورهم‏.‏

فاشتد أذاهم لرسول اللّه صلى الله عليه وسلم، فحصروه وأهل بيته في الشِّعب شِعَبِ أبي طالب ثلاث سنين، وقيل‏:‏ سنتين، وخرج من الحصر وله تسع وأربعون سنة، وقيل‏:‏ ثمان وأربعون سنة، وبعد ذلك بأَشهر مات عمُّه أبو طالب وله سبع وثمانون سنة، وفي الشِّعب وُلد عبدُ اللّه بن عباس، فنال الكفارُ منه أذى شديداً، ثم ماتت خديجةُ بعد ذلك بيسير، فاشتدَّ أذى الكفار له، فخرج إلى الطائف هو وزيد بن حارثة يدعو إلى اللّه تعالى، وأقام به أياماً فلم يجيبوه، وآذَوه، وأخرجوه، وقاموا له سِماطين، فرجموه بالحجارة حتى أدموا كعبيه، فانصرف عنهم رسول اللّه صلى الله عليه وسلم راجعاً إلى مكّة، وفي طريقه لقي عَدَّاساً النصرانيَّ، فآمن به وصدَّقه‏.‏

وفي طريقه أيضاً بنخلة صُرف إليه نفر من الجن سبعةٌ مِنْ أهل نَصِيبين، فاستمعوا القرآن وأسلموا، وفي طريقه تلك أرسل اللَّه إليه مَلَكَ الجبال يأمره بِطاعته، وأن يُطبق على قومه أخشبي مكّة، وهما جبلاها إن أراد، فقال‏:‏ ‏(‏لاَ بَلْ أَسْتأنِي بِهِم، لَعَلَّ اللَّهَ يُخرِجُ مِنْ أَصْلاَبِهِم مَنْ يَعْبُدُه لاَ يُشْرِكُ بِهِ شَيْئاً‏)‏‏.‏ وفي طريقه دعا بذلك الدعاء المشهور‏:‏ ‏(‏اللهم إليك أشكو ضعف قُوَّتي، وقلة حيلتي‏.‏‏.‏‏.‏ ‏)‏ الحديث، ثم دخل مكّة في جوار المطعم بن عدي‏.‏

ثم أسري بروحه وجسده إلى المسجد الأقصى، ثم عُرِجَ به إلى فوق السماوات بجسده وروحه إلى اللّه عزَّ وجل، فخاطبه، وفرض عليه الصلوات، وكان ذلك مرة واحدة، هذا أصح الأقوال‏.‏ وقيل‏:‏ كان ذلك مناماً، وقيل‏:‏ بل يقال‏:‏ أسري به، ولا يقال‏:‏ يقظة ولا مناماً‏.‏ وقيل‏:‏ كان الإِسراء إلى بيت المقدس يقظة، وإلى السماء مناماً‏.‏ وقيل‏:‏ كان الإِسراء مرتين‏:‏ مرة يقظة، ومرة مناماً‏.‏ وقيل‏:‏ بل أسري به ثلاثَ مرات، وكان ذلك بعد المبعث بالاتفاق‏.‏

وأمّا ما وقع في حديث شريك أن ذلك كان قبل أن يُوحى إليه، فهذا ممّا عُدَّ من أغلاط شريك الثمانية، وسوء حفظه، لحديث الإِسراء وقيل‏:‏ إن هذا كان إسراء المنام قبل الوحي‏.‏ وأمّا إسراء اليقظة، فبعد النبوة، وقيل‏:‏ بل الوحي هاهنا مقيد، وليس بالوحي المطلق الذي هو مبدأ النبوة، والمراد‏:‏ قبل أن يوحى إليه في شأن الإِسرار، فأسري به فجأة من غير تقدم إعلام، واللّه أعلم‏.‏

فأقام صلى الله عليه وسلم بمكّة ما أقام، يدعو القبائل إلى اللّه تعالى، وَيَعْرِضُ نفسه عليهم في كل موسم أن يؤووه، حتى يبلِّغَ رسالة ربه ولهم الجنَّة، فلم تَسْتَجِيبْ له قبيلة، وادَّخر الله ذلك كرامة للأنصار، فلما أراد اللّه تعالى إظهار دينه، وإنجاز وعده، ونصر نبيه، وإعلاء كلمته، والانتقام من أعدائه، ساقه إلى الأنصار، لما أراد بهم من الكرامة، فانتهى إلى نفر منهم ستة، وقيل‏:‏ ثمانية، وهم يحلِقُون رؤوسهم عند عقبةِ مِنى في الموسم، فجلس إليهم، ودعاهم إلى اللّه، وقرأ عليهم القرآن، فاستجابوا للّه ورسوله، ورجعوا إلى المدينة، فَدَعَوْا قومهم إلى الإِسلام، حتى فشا فيهم، ولم يبق دار من دور الأنصار إلا وفيها ذكرٌ مِنْ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم‏.‏ فأولُ مسجد قُرئ فيه القرآنُ بالمدينة مسجد بني زُريق،ثم قدِم مكة في العام القابل اثنا عشر رجلاً من الأنصار، منهم خمسة من الستة الأولين، فبايعوا رسول اللّه صلى الله عليه وسلم على بيعة النساء عند العقبة، ثم انصرفوا إلى المدينة، فقَدِم عليه في العام القابل منهم ثلاثة وسبعون رجلاً وامرأتان، وهم أهلُ العقبة الأخيرة، فبايعوا رسول اللّه صلى الله عليه وسلم على أن يمنعوه ممّا يمنعون منه نساءهم وأبناءهم وأنفسهم، فترحل هو وأصحابُه إليهم، واختار رسولُ اللّه صلى الله عليه وسلم منهم اثني عشر نقيباً، وأذن رسول اللّه صلى الله عليه وسلم لأصحابه في الهجرة إلى المدينة، فخرجوا أرْسالاً متسللين، أولهم فيما قيل‏:‏ أبو سلمة بن عبد الأسد المخزومي، وقيل‏:‏ مصعب بن عمير فقدموا على الأنصار في دورهم، فآوَوهم، ونصروهم، وفشا الإِسلامُ بالمدينة، ثم أَذِنَ اللّه لرسول اللّه صلى الله عليه وسلم في الهجرة، فخرج من مكة يوم الاثنين في شهر ربيع الأوّل وقيل‏:‏ في صفر، وله إذ ذاك ثلاث وخمسون سنة، ومعه أبو بكر الصديق، وعَامرُ بن فُهَيْرَةَ مولى أبي بكر، ودليلهم عبد اللّه بن الأُرَيْقِط الليثي، فدخل غَار ثَور هو وأبو بكر، فأقاما فيه ثلاثاً، ثم أخذا على طريق الساحل، فلما انتهَوْا إلى المدينة، وذلك يوم الاثنين لاثنتي عشرة ليلة خَلَتْ مِن شهر ربيع الأوّل، وقيل غير ذلك، نزل بقُبَاء في أعلى المدينة على بني عمرو بن عوف‏.‏ وقيل‏:‏ نزل على كلثوم بن الهِدْم‏.‏ وقيل‏:‏ على سعدِ بن خيثمة، والأول أشهر، فأقام عندهم أربعة عشر يوماً، وأسس مسجد قُباء، ثم خرج يوم الجمعة، فأدركته الجمعة في بني سالم، فجمع بهم بمن كان معه من المسلمين، وهم مائة، ثم ركب ناقته وسار، وجعل الناس يكلمونه في النزول عليهم، ويأخذون بخطام الناقة، فيقول‏:‏ ‏(‏خَلُّوا سَبِيلَهَا فَإنّهَا مَأْمُورَةٌ‏)‏ فبركت عند مسجده اليوم، وكان مِربدا لسهل وسهيل غلامين من بني النجار، فنزل عنها على أبي أيوب الأنصاري، ثم بنى مسجده موضع المربد بيده هو وأصحابه بالجريد واللَّبِنِ، ثم بنى مسكنه ومساكن أزواجه إلى جنبه، وأقربُها إليه مسكن عائشة، ثم تحول بعد سبعة أشهر من دار أبي أيوب إليها، وبلغ أصحابَه بالحبشة هجرَتُه إلى المدينة، فرجع منهم ثلاثة وثلاثون رجلاً، فَحُبِسَ منهم بمكة سبْعَةٌ، وانتهى بقيتهم إلى رسول اللّه صلى الله عليه وسلم بالمدينة، ثم هاجر بقيتهم في السفينة عام خيبر سنة سبع‏.‏

فصل‏:‏ في أولاده صلى الله عليه وسلم

أولهم القاسم، وبه كان يُكنى، مات طفلاً، وقيل‏:‏ عاش إلى أن ركب الدابة، وسار على النجيبة‏.‏

ثم زينب، وقيل‏:‏ هي أسن من القاسم، ثم رُقَيَّة، وأم كلثوم، وفاطمة، وقد قيل في كل واحدة منهن‏:‏ إنها أسنُّ من أختها، وقد ذُكِرَ عن ابن عباس أن رقيّة أسن الثلاث، وأم كلثوم أصغرُهن‏.‏

ثم ولد له عبد اللّه، وهل ولد بعد النبوة، أو قبلها‏؟‏ فيه اختلاف، وصحح بعضهم أنه ولد بعد النبوة، وهل هو الطيب والطاهر، أو هما غيرُه‏؟‏ على قولين‏.‏ والصحيح‏:‏ أنهما لقبان له، واللّه أعلم‏.‏ وهؤلاء كلهم من خديجة، ولم يُولد له من زوجة غيرها‏.‏

ثم ولد له إبراهيم بالمدينة من سُرِّيَّتِهِ ‏(‏مارية القبطية‏)‏ سنة ثمان من الهجرة، وبشَّره به أبو رافع مولاه، فوهب له عبداً، ومات طفلاً قبل الفطام، واختلف هل صلى عليه، أم لا‏؟‏ على قولين‏.‏ وكل أولاده توفي قبلَه إلا فاطمة، فإنها تأخرت بعده بستة أشهر فرفع اللّه لها بصبرها واحتسابها من الدرجات ما فُضِّلَتْ به على نساء العالمين‏.‏ وفاطمة أفضلُ بناته على الإِطلاق، وقيل‏:‏ إنها أفضل نساء العالمين، وقيل‏:‏ بل أمها خديجة، وقيل‏:‏ بل عائشة، وقيل‏:‏ بل بالوقف في ذلك‏.‏

فصل‏:‏ في أعمامه وعمّاته صلى الله عليه وسلم

فمنهم أسدُ اللَّهِ وأسدُ رسوله سيدُ الشهداء حمزةُ بن عبد المطلب، والعبّاسُ، وأبو طالب واسمه عبدُ مناف، وأبو لهب واسمه عبد العزى، والزبير، وعبد الكعبة، والمقوِّم، وضرار، وَقُثَم، والمغيرة ولقبه حَجل، والغيداق واسمه مصعب، وقيل‏:‏ نوفل، وزاد بعضهم‏:‏ العوام، ولم يُسلم منهم إلا حمزة والعبّاس‏.‏ وأمّا عمّاته، فصفية أم الزبير بن العوام، وعاتكة، وبَرَّة، وأروى، وأميمة، وأم حكيم البيضاء‏.‏ أسلم منهن صفية، واختلف في إسلام عاتكة وأروى، وصحح بعضهم إسلام أروى‏.‏ وأسن أعمامه‏:‏ الحارث، وأصغرهم سناً‏:‏ العباس، وعَقَب منه حتى ملأ أولادُه الأرض‏.‏ وقيل‏:‏ أحصوا في زمن المأمون، فبلغوا ستمائة ألف، وفي ذلك بُعْدٌ لا يخفى، وكذلك أعقب أبو طالب وأكثر، والحارث، وأبو لهب، وجعل بعضهم الحارث والمقوّم واحدا، وبعضهم الغيداق ‏[‏رجلاً‏]‏ واحداً‏.‏

فصل‏:‏ في أزواجه صلى الله عليه وسلم

أولاهن خديجة بنت خُويلد القرشية الأسدية، تزوجها قبل النبوة، ولها أربعون سنة، ولم يتزوجْ عليها حتى ماتت، وأولاده كلُّهم منها إلاَّ إبراهيمَ، وهي التي آزرته على النبوة، وجاهدت معه، وواسته بنفسها ومالها، وأرسل اللّه إليها السلامَ مع جبريل، وهذه خاصة لا تُعرف لامرأة سواها، وماتت قبل الهجرة بثلاث سنين‏.‏

ثم تزوج بعد موتها بأيام سَوْدة بنت زَمْعَة القُرشية، وهي التي وهبت يومها لعائشة‏.‏

ثم تزوج بعدها أمَّ عبد اللّه عائشة الصِّدِّيقة بنت الصِّدِّيق، المبرَّأة من فوق سبع سماوات، حبيبة رسول اللّه صلى الله عليه وسلم عائشة بنت أبي بكر الصِّدِّيق، وعرضها عليه المَلَكُ قبل نكاحها في سَرَقَةٍ من حرير وقال‏:‏ ‏(‏هذه زوجتك‏)‏ تزوج بها في شوال وعمرها ست سنين، وبنى بها في شوال في السنة الأولى من الهِجرة وعمرها تسع سنين، ولم يتزوج بكراً غيرها، وما نزل عليه الوحي في لِحاف امرأة غيرها، وكانت أحبَّ الخلق إليه، ونزل عذرُهَا مِن السماء، واتفقت الأمة على كفر قَاذِفها، وهي أفقه نسائه وأعلمُهن، بل أفقهُ نساءِ الأمّة وأعلمهُنَّ على الإِطلاق، وكان الأكابرُ مِنْ أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم يرجعون إلى قولها ويستفتونها‏.‏ وقيل‏:‏ إنها أسقطت من النبي صلى الله عليه وسلم سِقْطاً، ولم يثبت‏.‏

ثم تزوج حفصة بنت عمر بن الخطاب رضي اللّه عنه، وذكر أبو داود أنه طلقها، ثم راجعها‏.‏

ثم تزوج زينب بنت خزيمة بن الحارث القيسية، من بني هلال بن عامر، وتوفيت عنده بعد ضمه لها بشهرين‏.‏

ثم تزوج أمَّ سلمة هند بنت أبي أمية القرشية المخزومية، واسم أبي أمية حذيفة بن المغيرة، وهي آخر نسائه موتاً‏.‏ وقيل‏:‏ آخرهن موتاً صفية‏.‏

واختلف فيمن ولي تزويجها منه‏؟‏ فقال ابن سعد في ‏(‏الطبقات‏)‏‏:‏ ولي تزويجها منه سلمة بن أبي سلمة دون غيره من أهل بيتها، ولما زوج النبي صلى الله عليه وسلم سلمة بن أبي سلمة أمامة بنت حمزة التي اختصم فيها علي وجعفر وزيد قال‏:‏ ‏(‏هل جزيتُ سلمة‏)‏ يقول ذلك، لأن سلمة هو الذي تولى تزويجه دون غيره من أهلها، ذكر هذا في ترجمة سلمة، ثم ذكر في ترجمة أم سلمة عن الواقدي‏:‏ حدثني مجمع بن يعقوب، عن أبي بكر بن محمد بن عمر بن أبي سلمة، عن أبيه، أن رسول اللّه صلى الله عليه وسلم خطب أم سلمة إلى ابنها عمر بن أبي سلمة، فزوَّجهَا رسولَ اللّه صلى الله عليه وسلم وهو يومئذٍ غلام صغير‏.‏

وقال الإِمام أحمد في ‏(‏المسند‏)‏‏:‏ حدثنا عفان، حدثنا حمّاد بن أبي سلمة، حدثنا ثابت قال‏:‏ حدثني ابن عمر بن أبي سلمة، عن أبيه، عن أم سلمة أنها لما انقضت عِدَّتُهَا مِنْ أبي سلمة، بعث إليها رسولُ اللّه صلى الله عليه وسلم، فقالت‏:‏ مَرْحَبَاً برسول صلى الله عليه وسلم إني امرأة غَيرى، وإني مُصْبِيَةٌ، وَلَيْسَ أحدٌ من أوليائي حاضراً‏.‏‏.‏‏.‏ الحديث، وفيه فقالت لابنها عمر‏:‏ قم فزوج رسول اللّه صلى الله عليه وسلم، فزوجه، وفي هذا نظر، فإن عمر هذا كان سنُّه لما توفي رسول اللّه صلى الله عليه وسلم تسع سنين، ذكره ابن سعد، وتزوجها رسول اللّه صلى الله عليه وسلم في شوال سنة أربع، فيكون له من العمر حينئذٍ ثلاث سنين، ومثل هذا لا يزوِّج قال ذلك ابن سعد وغيره، ولما قيل ذلك للإِمام أحمد، قال‏:‏ من يقول‏:‏ إن عمر كان صغيراً‏؟‏‏!‏ قال أبو الفرج بن الجوزي‏:‏ ولعل أحمد قال هذا قبل أن يقف على مقدار سِنِّه، وقد ذكر مقدار سِنِّه جماعةٌ من المؤرّخين، ابن سعد وغيره‏.‏ وقد قيل‏:‏ إن الذي زوجها من رسول اللّه صلى الله عليه وسلم ابن عمّها عمر بن الخطاب، والحديث ‏(‏قم يا عمر فزوج رسول اللّه صلى الله عليه وسلم‏)‏ ونسب عمر، ونسب أم سلمة يلتقيان في كعب، فإنه عمر بن الخطاب بن نفيل، بن عبد العزى، بن رياح، بن عبد اللّه بن قُرط، بن رزاح بن عدي بن كعب، وأم سلمة بنت أبي أمية بن المغيرة بن عبد الله بن عمر بن مخزوم بن يقظة بن مرة بن كعب، فوافق اسمُ ابنها عمر اسمَه، فقالت‏:‏ قم يا عمر، فزوج رسول اللّه صلى الله عليه وسلم، فظن بعض الرواة أنه ابنها، فرواه بالمعنى وقال‏:‏ فقالت لابنها، وذهل عن تعذر ذلك عليه لصغر سنه، ونظير هذا وَهْم بعض الفقهاء في هذا الحديث، وروايتهم له، فقال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم ‏(‏قم يا غلام فزوج أمك‏)‏ قال أبو الفرج بن الجوزي‏:‏ وما عرفنا هذا في هذا الحديث، قال‏:‏ وإن ثبت، فيحتَمِلُ أن يكون قاله على وجه المداعبة للصغير، إذ كان له من العمر يومئذٍ ثلاث سنين، لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم تزوجها في سنة أربع، ومات ولعمر تسعُ سنين، ورسول اللّه صلى الله عليه وسلم لا يفتَقِرُ نِكاحُه إلى ولي‏.‏ وقال ابن عقيل‏:‏ ظاهر كلام أحمد أن النبي صلى الله عليه وسلم لا يُشترط في نكاحه الوليُّ، وأن ذلك من خصائصه‏.‏

ثم تزوج زينب بنت جحش من بني أسد بن خزيمة وهي ابنة عمته أميمة، وفيها نزل قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فَلَمّا قَضَىَ زَيْدٌ مّنْهَا وَطَراً زَوّجْنَاكَهَا‏}‏ ‏[‏الأحزاب‏:‏ 37‏]‏ وبذلك كانت تفتخِر على نساء النبي صلى الله عليه وسلم، وتقول زوجكُنَّ أهاليكُن، وزوجني الله مِن فوق سبع سماوات‏.‏

ومن خواصها أن اللّه سبحانه وتعالى كان هو وليَّها الذي زوجها لرسوله مِن فوق سماواته، وتوفيت في أول خلافة عمر بن الخطاب، وكانت أولاً عند زيد بن حارثة، وكان رسولُ اللّه صلى الله عليه وسلم تبنَّاه، فلما طلقها زيد، زوَّجه اللّه تعالى إيَاها لتتأسَّى به أُمَّته في نكاح أزواج من تبنَّوْه‏.‏

وتزوج في صلى الله عليه وسلم جُويْريَة بنت الحارث بن أبي ضرار المُصْطَلِقِيَّةَ، وكانت من سبايا بني المُصْطَلِقِ، فجاءته تستعينُ به على كِتابتها، فأدى عنها كتابتَها وتزوجها‏.‏

ثم تزوج أمَّ حبيبة، واسمها رملة بنت أبي سفيان صخرِ بن حرب القرشية الأموية‏.‏ وقيل‏:‏ اسمها هند، تزوجها وهي ببلاد الحبشة مهاجرة، وأصدقها عنه النجاشي أربعمائة دينار، وسيقت إليه من هناك، وماتت في أيام أخيها معاوية‏.‏ هذا هو المعروف المتواتر عند أهل السِّير والتواريخ، وهو عندهم بمنزلة نكاحه لخديجة بمكّة، ولحفصة بالمدينة، ولصفية بعد خيبر‏.‏

وأمّا حديث عكرمة بن عمّار، عن أبي زُميل، عن ابن عباس أن أبا سفيان قال للنبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏أَسْأَلُكَ ثَلاَثَاً، فَأعْطَاهُ إيَّاهُنْ، مِنْهَا‏:‏ وَعِنْدِي أَجْمَلُ العَرَبِ أُمُّ حَبِيبَةَ أُزَوِّجكَ إِيَّاهَا‏)‏‏.‏

فهذا الحديث غلط لا خفاء به، قال أبو محمد بن حزم‏:‏ وهو موضوع بلا شك، كَذَبَهُ عكرمة بن عمار، وقال ابن الجوزي في هذا الحديث‏:‏ هو وهم من بعض الرواة، لا شك فيه ولا تردد، وقد اتهموا به عكرمة بن عمار، لأن أهل التاريخ أجمعوا على أن أم حبيبة كانت تحت عبد اللّه بن جحش، وولدت له، وهاجر بها وهما مسلمان إلى أرض الحبشة، ثم تنصَّر، وثبتت أم حبيبة على إسلامها، فبعث رسول اللّه صلى الله عليه وسلم إلى النجاشي يخطبها عليه، فزوجه إيَاها، وأصدقها عنه صداقاً، وذلك في سنة سبع من الهجرة، وجاء أبو سفيان في زمن الهُدنة فدخل عليها، فثنت فِراش رسولى اللّه صلى الله عليه وسلم حتى لا يجلسَ عليه، ولا خلاف أن أبا سفيان ومعاوية أسلما في فتح مكة سنة ثمان‏.‏

وأيضاً ففي هذا الحديث أنه قال له‏:‏ وتؤمِّرني حتى أقاتل الكفار كما كنت أقاتل المسلمين، قال‏:‏ نعم‏.‏ ولا يعرف أن النبي صلى الله عليه وسلم أَمَّرَ أبا سفيان البتة‏.‏

وقد أكثر النَّاسُ الكلام في هذا الحديث، وتعددت طرقهم في وجهه، فمنهم من قال‏:‏ الصحيح أنه تزوجها بعد الفتح لهذا الحديث، قال‏:‏ ولا يُرد هذا بنقل المؤرِّخين، وهذه الطريقة باطلة عند من له أدنى علم بالسّيرة وتواريخ ما قد كان‏.‏

وقالت طائفة‏:‏ بل سأله أن يجدد له العقد تطييباً لقلبه، فإنه كان قد تزوجها بغير اختياره، وهذا باطل، لا يُظن بالنبي صلى الله عليه وسلم، ولا يليق بعقل أبي سفيان، ولم يكن من ذلك شيء‏.‏

وقالت طائفة منهم البيهقي والمنذري‏:‏ يحتمِل أن تكون هذه المسألة من أبي سفيان وقعت في بعض خرجاته إلى المدينة، وهو كافر حين سمع نعي زوج أم حبيبة بالحبشة، فلما ورد على هؤلاء ما لا حِيلة لهم في دفعه مِن سؤاله أن يؤمره حتى يقاتل الكفار، وأن يتخذ ابنه كاتباً، قالوا‏:‏ لعلّ هاتين المسألتين وقعتا منه بعد الفتح، فجمع الراوي ذلك كله في حديث واحد، والتعسُّفُ والتكلف الشديد الذي في هذا الكلام يُغني عن رده‏.‏

وقالت طائفة‏:‏ للحديث محمل آخر صحيح، وهو أن يكون المعنى‏:‏ أرضى أن تكون زوجتَك الآن، فإني قبل لم أكن راضياً، والآن فإني قد رضيت، فأسألك أن تكون زوجتَك، وهذا وأمثاله لو لم يكن قد سُوِّدَتْ به الأوراق، وصنفت فيه الكُتب، وحمله الناس، لكان الأولى بنا الرغبةَ عنه، لضيق الزمان عن كتابته وسماعه والاشتغال به، فإنه من رُبْدِ الصدور لا من زُبْدها‏.‏

وقالت طائفة‏:‏ لما سمع أبو سفيان أن رسول اللّه صلى الله عليه وسلم طلق نساءه لما آلى منهن، أقبل إلى المدينة، وقال للنبي صلى الله عليه وسلم ما قال، ظناً منه أنه قد طلقها فيمن طلق، وهذا من جنس ما قبله‏.‏

وقالت طائفة‏:‏ بل الحديث صحيح، ولكن وقع الغلط والوهم من أحد الرواة في تسمية أم حبيبة، وإنما سأل أن يزوجه أختها رملة، ولا يبعد خفاء التحريم للجمع عليه، فقد خفي ذلك على ابنته، وهي أفقه منه وأعلم حين قالت لرسول اللّه صلى الله عليه وسلم‏:‏ هل لك في أختي بنت أبي سفيان‏؟‏ فقال‏:‏ ‏(‏أفعل ماذا‏؟‏‏)‏ قالت‏:‏ تَنكِحُها‏.‏ قال‏:‏ ‏(‏أو تحبين ذلك‏؟‏‏)‏ قالت‏:‏ لست لك بمُخْلِيةٍ، وأَحَبُ مَنْ شَرِكَني في الخير أُختي، قال‏:‏ ‏(‏فإنَّها لاَ تَحِلُّ لي‏)‏‏.‏ فهذه هي التي عرضها أبو سفيان على النبي صلى الله عليه وسلم، فسماها الراوي من عنده أم حبيبة‏.‏ وقيل‏:‏ بل كانت كنيتها أيضاً أم حبيبة، وهذا الجواب حسن لولا قوله في الحديث‏:‏ فأعطاه رسول الله صلى الله عليه وسلم ما سأل، فيقال حينئذٍ‏:‏ هذه اللفظة وهم من الراوي، فإنه أعطاه بعض ما سأل، فقال الراوي‏:‏ أعطاه ما سأل، أو أطلقها اتكالاً على فهم المخاطب أنه أعطاه ما يجوز إعطاؤه ممّا سأل، واللّه أعلم‏.‏

وتزوج صلى الله عليه وسلم صفيَّة بنتَ حُيي بن أَخْطَبَ سيد بني النضير من ولد هارون بن عمران أخي موسى، فهي ابنة نبي، وزوجة نبي، وكانت مِنْ أَجمل نساءِ العالمين‏.‏

وكانت قد صارت له من الصَّفيِّ أمة فأعتقها، وجعل عِتقها صداقَها، فصار ذلك سُنَّةً للأمّة إلى يوم القيامة، أن يَعْتِقَ الرجل أمَته، ويجعل عتقها صداقها، فتصير زوجته بذلك، فإذا قال‏:‏ أعتقت أمتي، وجعلت عِتقها صَدَاقها، أو قال‏:‏ جعلت عِتق أمتي صداقها، صح العتق والنكاح، وصارت زوجتَه من غير احتياج إلى تجديد عقد ولا ولي، وهو ظاهر مذهب أحمد وكثيرٍ من أهل الحديث‏.‏

وقالت طائفة‏:‏ هذا خاص بالنبي صلى الله عليه وسلم وهو مما خصه اللّه به في النكاح دون الأمة، وهذا قول الأئمة الثلاثة ومن وافقهم، والصحيح القول الأول، لأن الأصل عدم الاختصاص حتى يقوم عليه دليل، واللّه سبحانه لما خصه بنكاح الموهوبة له، قال فيها‏:‏ ‏{‏خَالِصَةً لّكَ مِن دُونِ‏}‏ ‏[‏الأحزاب‏:‏ 50‏]‏ ولم يقل هذا في المعتقة، ولا قاله رسول اللّه صلى الله عليه وسلم ليقطع تأسي الأمة به في ذلك، فاللّه سبحانه أباح له نكاح امرأة مَن تبنّاه، لئلا يكون على الأمة حرجٌ في نكاح أزواج من تبنَّوه، فدلَ على أنه إذا نكح نِكاحاً، فلأمَّتِه التأسي به فيه، ما لم يأتِ عن اللّه ورسوله نصٌ بالاختصاص وقطع التأسي، وهذا ظاهر‏.‏

ولتقرير هذه المسألة وبسط الحجاج فيها - وتقرير أن جواز مثل هذا هو مقتضى الأصولِ والقياس - موضعٌ آخر، وإنما نبهنا عليه تنبيهاً‏.‏

ثم تزوج ميمونةَ بنت الحارث الهِلالية، وهي آخر من تزوج بها، تزوجها بمكة في عمرة القضاء بعد أن حل منها على الصحيح‏.‏ وقيل‏:‏ قبل إحلاله، هذا قول ابن عباس، ووهم رضي اللّه عنه، فإن السفير بينهما بالنكاح أعلم الخلق بالقِصة، وهو أبو رافع، وقد أخبر أنه تزوجها حلالاً، وقال‏:‏ كنت أنا السفير بينهما، وابن عباس إذ ذاك له نحو العشر سنين أو فوقها، وكان غائباً عن القصة لم يحضرها، وأبو رافع رجل بالغ، وعلى يده دارت القصة، وهو أعلم بها، ولا يخفى أن مثل هذا الترجيح موجب للتقديم وماتت في أيام معاوية، وقبرها بـ‏(‏سَرِفَ‏)‏‏.‏

قيل‏:‏ ومن أزواجه ريحانة بنت زيد النضرية‏.‏ وقيل‏:‏ القرظية، سبيت يوم بني قريظة، فكانت صفيَّ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم، فأعتقها وتزوجها، ثم طلقها تطليقة، ثم راجعها‏.‏

وقالت طائفة‏:‏ بل كانت أمتَه، وكان يطؤها بملك اليمين حتى توفي عنها، فهي معدودة في السراري، لا في الزوجات، والقول الأول اختيارُ الواقدي، ووافقه عليه شرف الدين الدمياطي‏.‏ وقال‏:‏ هو الأثبت عند أهل العلم‏.‏ وفيما قاله نظر، فإن المعروف أنها من سراريه، وإمائه، واللّه أعلم‏.‏

فهؤلاء نساؤه المعروفات اللاتي دخل بهن، وأما من خطبها ولم يتزوجها، ومن وهبت نفسَها له، ولم يتزوجها، فنحو أربع أو خمس، وقال بعضهم‏:‏ هن ثلاثون امرأة، وأهل العلم بسيرته وأحواله صلى الله عليه وسلم لا يعرفون هذا، بل ينكرونه، والمعروف عندهم أنه بعث إلى الجونية ليتزوجها، فدخل عليها ليخطبها، فاستعاذت منه، فأعاذها ولم يتزوجها، وكذلك الكلبية، وكذلك التي رأى بكشحها بياضاً، فلم يدخل بها، والتي وهبت نفسها له فزوجها غيره على سور من القرآن، هذا هو المحفوظ، واللّه اعلم‏.‏

ولا خلاف أنه صلى الله عليه وسلم توفي عن تسع، وكان يقسم منهن لثمان‏:‏ عائشة، وحفصة، وزينب بنت جحش، وأم سلمة، وصفية، وأم حبيبة، وميمونة، وسودة، وجويرية‏.‏

وأول نسائه لحوقاً به بعد وفاته صلى الله عليه وسلم زينبُ بنت جحش سنة عشرين، وآخِرهن موتاً أم سلمة، سنة اثنتين وستين في خلافة يزيد، واللّه أعلم‏.‏

فصل‏:‏ في سراريه صلى الله عليه وسلم

قال أبو عبيدة‏:‏ كان له أربع‏:‏ مارية وهي أم ولده إبراهيم، وريحانة وجارية أخرى جميلة أصابها في بعض السبي، وجارية وهبتها له زينب بنت جحش‏.‏

فصل‏:‏ في مواليه صلى الله عليه وسلم

فمنهم زيد بن حارثة بن شراحِيل، مولاته أمَّ أيمن، فولدت له أسامة‏.‏

ومنهم أسلم، وأبو رافع، وثوبان، وأبو كَبشَة سُلَيْم، وشُقران واسمه صابح، ورباح نُوبي، ويسار نوبي أيضاً، وهو قتيل العُرَنيين، وَمدْعَم، وَكرْكرَةَ، نوبي أيضاً، وكان على ثَقَله صلى الله عليه وسلم، وكان يُمسك راحَلته عند القَتالَ يوم خيبر‏.‏ وفي ‏(‏صحيح البخاري‏)‏ أنَه الذي غلَّ الشملة ذلك اليوم فَقُتل، فقال النبي صلى الله عليه وسلم ‏(‏إنَّهَا لَتَلْتَهِبُ عَلَيْهِ نَاراً‏)‏ وفي ‏(‏الموطأ‏)‏ أن الذي غلًّها مِدْعَم، وكلاهما قتل بخيبر، واللّه أعلم‏.‏

ومنهم أنْجَشَةُ الحادي، وسَفينة بن فروخ، واسمه مهران، وسماه رسول اللّه صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏سفينة‏)‏ لأنهم كانوا يُحَمِّلُونه في السفر متاعَهم، فقال‏:‏ ‏(‏أنْتَ سَفِينَةٌ‏)‏‏.‏ قال أبو حاتم‏:‏ أعتقه رسول اللّه صلى الله عليه وسلم، وقال غيره‏:‏ أعتقته أمُّ سلمة‏.‏ ومنهم أَنَسة، ويكنى أبا مِشرح، وأفلح، وعُبيد، وطهمان، وهو كيسان، وذكوان، ومهران، ومروان، وقيل‏:‏ هذا خلاف في اسم طهمان، واللّه أعلم‏.‏

ومنهم حُنين، وسندر، وفضالة يماني، ومابور خصي، وواقد، وأبو واقد، وقسام، وأبو عسيب، وأبو مُويهبة‏.‏

ومن النساء سلمى أم رافع، وميمونة بنت سعد، وخضرة، ورضوى، ورزينة، وأم ضُميرة، وميمونة بنت أبي عسيب، ومارية، وريحانة‏.‏

فصل‏:‏ في خُدَّامه صلى الله عليه وسلم

فمنهم أنسُ بن مالك، وكان على حوائجه، وعبدُ اللّه بن مسعود صاحبُ نعله، وسواكه، وعُقبة بن عامر الجهني صاحب بغلته، يقود به في الأسفار، وأسلع بن شريك، وكان صاحب راحلته، وبلال بن رباح المؤذن، وسعد، موليا أبي بكر الصديق، وأبو ذر الغفاري، وأيمن بن عبيد، وأمه أم أيمن موليا النبي صلى الله عليه وسلم، وكان أيمن على مطهرته وحاجته‏.‏

فصل‏:‏ في كتَّابه صلى الله عليه وسلم

أبو بكر، وعمر، وعثمان، وعلي، والزبير، وعامر بن فُهيرة، وعمرو بن العاص، وأُبَيّ بن كعب، وعبدُ اللّه بن الأرقم، وثابتُ بنُ قيس بن شماس، وحنظلةُ بن الربيع الأُسَيْدِيُّ، والمغيرةُ بن شعبة، وعبد اللّه بن رواحة، وخالد بن الوليد، وخالد بن سعيد بن العاص‏.‏ وقيل‏:‏ إنه أول من كتب له ومعاوية بن أبي سفيان، وزيد بن ثابت وكان ألزَمهم لهذا الشأن وأخصّهم به‏.‏

فصل‏:‏ في كتبه صلى الله عليه وسلم التي كتبها إلى أهل الإِسلام في الشرائع

فمنها كتابُه في الصدقات الذي كان عند أبي بكر، وكتبه أبو بكر لأنس بن مالك لما وجهه إلى البحرين وعليه عمل الجمهور‏.‏

ومنها كتابُه إلى أهل اليمن وهو الكتاب الذي رواه أبو بكر بن عمرو بن حزم عن أبيه عن جده، وكذلك رواه الحاكم في ‏(‏مستدركه‏)‏، والنسائي، و غيرهما مسنداً متصلاً، ورواه أبو داود وغيره مرسلاً، وهو كتاب عظيم، فيه أنواعٌ كثيرة من الفقه، في الزكاة، والديات، والأحكام، وذكر الكبائر، والطلاق، والعتاق، وأحكام الصلاة في الثوب الواحد، والاحتباء فيه، ومس المصحف، وغير ذلك‏.‏

قال الإِمام أحمد‏:‏ لا شك أن رسولَ اللّه صلى الله عليه وسلم كَتَبَه، واحتج الفقهاءُ كلُهم بما فيه من مقادير الديات‏.‏

ومنها كتابه إلى بني زهير‏.‏

ومنها كتابُه الذي كان عند عمر بن الخطاب في نصب الزكاة، وغيرها‏.‏

فصل‏:‏ في كتبه ورسله صلى الله عليه وسلم إلى الملوك

لما رجع من الحُدَيْبِيَةِ، كتب إلى ملوك الأرض، وأرسل إليهم رسله، فكتب إلى ملك الرُّوم، فقيل له‏:‏ إنهم لا يقرؤون كتاباً إلا إذا كان مختوماً، فاتخذ خاتماً من فضة، ونقش عليه ثلاثة أسطر‏:‏ محمَّد سطر، ورسول سطر، والله سطر، وختم به الكتب إلى الملوك، وبعث ستة نفر في يوم واحد في المحرم سنة سبع‏.‏

فأولهم عمرو بن أمية الضَّمْري، بعثه إلى النجاشي، واسمه أَصْحمة بن أَبجر، وتفسير ‏(‏أصحمة‏)‏ بالعربية‏:‏ عطية، فعظَّم كتابَ النبي صلى الله عليه وسلم، ثم أَسلم، وشهد شهادة الحق، وكان مِنْ أعلم الناس بالإِنجيل، وصلى عليه النبيُّ صلى الله عليه وسلم يوم مات بالمدينة وهو بالحبشة، هكذا قال جماعة، منهم الواقدي وغيره، وليس كما قال هؤلاء، فإن أصحمة النجاشي الذي صلى عليه رسول اللّه صلى الله عليه وسلم ليس هو الذي كتب إليه، هذا الثاني لا يعرف إسلامه، بخلاف الأول، فإنه مات مسلماً‏.‏ وقد روى مسلم في ‏(‏صحيحه ‏)‏ من حديث قتادة عن أنس قال‏:‏ كتَبَ رسولُ اللّه صلى الله عليه وسلم إلى كِسْرَى، وإلى قَيْصَر، وإلى النَّجَاشِي، وَإلَى كُلِّ جَبَّارٍ يَدْعُوهُم إِلَى اللَّهِ تَعَالَى، ولَيْسَ بِالنَّجَاشِيِّ الَّذِي صَلَّى عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقال أبو محمد بن حزم‏:‏ إن هذا النجاشي الذي بَعَثَ إليه رسولُ اللّه صلى الله عليه وسلم عمرو بن أمية الضَّمْرِي، لم يُسلم، والأول هو اختيار ابن سعد وغيره، والظاهر قول ابن حزم‏.‏

وبعث دِحية بن خليفة الكَلْبي إلى قيصر ملِك الروم، واسمه هِرَقْل، وهَمَّ بالإِسلام وكاد، ولم يفعل، وقيل‏:‏ بل أسلم، وليس بشيء‏.‏

وقد روى أبو حاتم ابنُ حبان في ‏(‏صحيحه‏)‏ عن أنس بن مالك قال‏:‏ قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏مَنْ يَنْطَلِقُ بِصحِيفَتِي هذِهِ إِلَى قَيْصَرَ وَلَهُ الجَنَّة‏؟‏‏)‏ فَقَالَ رَجُلٌ مِنَ الْقَوْمِ‏:‏ وإنْ لَمْ يَقْبَلْ‏؟‏ قَالَ‏:‏ ‏(‏وَإِنْ لَمْ يَقْبَلْ‏)‏ فَوَافَقَ قَيْصَرَ وَهُوَ يأتِي بَيْتَ المَقْدِس قَدْ جُعِلَ عَلَيْهِ بِسَاطٌ لاَ يَمْشِي عَلَيْهِ غَيْرُهُ، فَرَمَى بِالْكِتَابِ عَلَى البِسَاطِ، وَتَنَحَّى، فَلَمَّا انْتَهَى قَيْصَرُ إِلَى الكِتَابِ، أَخَذَهُ، فَنَادَى قَيْصَرُ‏:‏ مَنْ صاحِبُ الكِتَابِ‏؟‏ فَهُوَ آمِنٌ، فَجَاءَ الرّجُل‏؟‏ فَقَالَ‏:‏ أَنَا‏.‏ قَالَ‏:‏ فَإذَا قَدِمْتَ فَأْتِنِي، فَلَمَّا قَدِمَ، أَتاهُ، فَأَمَرَ قَيْصَرُ بِأَبْوَابِ قَصْرِهِ فَغُلِّقَتْ، ثمَّ أَمَرَ مُنَادِياً يُنَادي‏:‏ أَلاَ إنَّ قَيْصَرَ قَدِ اتَّبَعَ مُحَمَّداً، وَتَرَكَ النَّصْرَانِيَّةَ، فَأَقْبَلَ جُنْدُهُ وَقَدْ تَسَلَّحُوا حَتَّى أَطَافوا به، فَقَالَ لِرَسُولِ رسولِ اللَّهِ صلى الله عليه وَسلمَ‏:‏ قَدْ تَرَى أَنيِّ خَائِفٌ عَلَى مَمْلَكَتِي، ثُمَّ أَمَر مُنَادِيَه فَنَادى‏:‏ أَلاَ إنَّ قَيْصَرَ قَدْ رَضِيَ عَنْكُمْ، وإنَّما اخْتَبَرَكُمْ لينْظُرَ كَيْفَ صَبْرُكُمْ عَلَى دِينكُمْ، فَارجِعُوا فَانصَرِفُوا، وَكَتَبَ إلى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم‏:‏ إنِّي مُسْلِمٌ، وَبَعَثَ إليهِ بدَنانِيرَ، فقًالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏كذبَ عَدُوُّ اللَّهِ لَيْسَ بِمُسْلِمٍ وَهُوَ عَلَى النَّصْرَانِيَّةِ‏)‏ وَقَسَمَ الدَّنَانِيرَ‏.‏

وبعث عبد اللّه بن حُذافة السَّهمي إلى كسرى، واسمه أبرويز بن هُرمز ابن أنوشروان، فمزق كتابَ النبي صلى الله عليه وسلم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏اللهمَّ مَزِّق مُلْكَه‏)‏ فمزق اللّه ملكه، وملك قومه‏.‏

وبعث حاطب بن أبي بَلتعة إلى المُقَوْقِس، واسمه خريج بن ميناء ملك الإِسكندرية عظيم القبط، فقال خيراً، وقارب الأمر ولم يُسلم، وأهدى للنبي صلى الله عليه وسلم مارية، وأختيها سيرين وقيسرى، فتسرى مارية، ووهب سيرين لحسان بن ثابت، وأهدى له جارية أخرى، وألفَ مثقال ذهباً، وعشرين ثوباً من قباطي مصر وبغلة شهباء وهي دُلْدل، وحماراً أشهب، وهو عفير، وغلاماً خصياً يقال له‏:‏ مابور‏.‏ وقيل‏:‏ هو ابن عم مارية، وفرساً وهو اللزاز، وقدحاً من زجاج، وعسلاً، فقال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏ضَنَّ الْخَبِيثُ بِملْكِهِ وَلاَ بقَاءَ لِمُلْكِهِ‏)‏‏.‏

وبعث شجاع بن وهب الأسدي إلى الحارث بن أبي شَمِر الغساني ملك البلقاء، قاله ابن إسحاق والواقدي‏.‏ قيل‏:‏ إنما توجه لِجَبَلَةَ بنِ الأيْهَمِ‏.‏ وقيل‏:‏ توجه لهما معاً‏.‏ وقيل‏:‏ توجه لهرقل مع دِحية بن خليفة، واللّه أعلم‏.‏

وبعث سَلِيطَ بن عمرو إلى هَوذَةَ بن علي الحنفي باليمامة، فأكرمه‏.‏ وقيل‏:‏ بعثه إلى هوذة وإلى ثُمامَة بنِ أثال الحنفي، فلم يسْلِمْ هَوذة، وأسلم ثمامة بعد ذلك، فهؤلاء الستة قيل‏:‏ هم الذين بعثهم رسولُ اللّه صلى الله عليه وسلم في يوم واحد‏.‏

وبعث عمرو بن العاص في ذي القعدة سنة ثمان إلى جعفر وعبد اللّه ابني الجُلَنْدَى الأزديين بعُمان، فأسلما، وصدقا، وخلَّيا بين عمرو وبين الصدقة والحكم فيما بينهم، فلم يزل فيما بينهم حتى بلغته وفاةُ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم‏.‏

وبعث العلاء بن الحَضْرمي إلى المنذر بن سَاوَى العبدي ملك البحرين قبل منصرفه من ‏(‏الجِعْرَانَةِ‏)‏ وقيل‏:‏ قبل الفتح فأسلم وصدق‏.‏

وبعث المهاجر بن أبي أمية المخزومي إلى الحارث بن عبد كلال الحِميري باليمن، فقال‏:‏ سأنظر في أمري‏.‏

وبعث أبا موسى الأشعري، ومعاذَ بن جبل إلى اليمن عند انصرافه من تبوك‏.‏ وقيل‏:‏ بل سنة عشر من ربيع الأول داعيين إلى الإِسلام، فأسلم عامة أهلها طوعاً من غير قتال‏.‏

ثم بعث بعد ذلك علي بن أبي طالب إليهم، ووافاه بمكة في حجة الوداع‏.‏

وبعث جرير بن عبد اللّه البَجَلي إلى ذي الكَلاع الحِميري، وذي عمرو، يدعوهما إلى الإِسلام، فأسلما، وتوفي رسولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وجرير عندهم‏.‏

وبعث عمرو بن أمية الضَّمْري إلى مسيلمَة الكذاب بكتاب، وكتب إليه بكتاب آخر مع السائب بن العوام أخي الزبير فلم يُسلم‏.‏

وبعث إلى فروة بن عمرو الجُذَامي يدعوه إلى الإِسلام‏.‏ وقيل‏:‏ لم يبعث إليه، وكان فروة عاملاً لقيصر بمعان، فأسلم، وكتب إلى النبي صلى الله عليه وسلم بإسلامه، وبعث إليه هدية مع مسعود بن سعد، وهي بغلة شهباء يقال لها‏:‏ فضة، وفرس يقال لها‏:‏ الظَّرب، وحمار يقال له‏:‏ يعفور، كذا قاله جماعة، والظاهر - واللّه أعلم - أن عفيراً ويعفور واحد، عفير تصغير يعفور تصغير الترخيم‏.‏

وبعث أثواباً وقَبَاءً مِنْ سندس مُخَوَّصٍ بالذهب، فقبل هديته، ووهب لمسعود بن سعد اثنتي عشرة أوقية ونشاً‏.‏ وبعث عياش بن أبي ربيعة المخزومي بكتاب إلى الحارث، ومسروح، ونعيم بني عبد كُلال من حمير‏.‏

فصل‏:‏ في مؤذنيه صلى الله عليه وسلم

وكانوا أربعة‏:‏ اثنان بالمدينة‏:‏ بلالُ بن رباح، وهو أول من أذن لرسول اللّه صلى الله عليه وسلم، وعمرُو بن أم مكتوم القرشي العامري الأعمى، وبقباء سعد القرظ مولى عمار بن ياسر، وبمكّة أبو محذورة واسمه أوس بن مغيرة الجمحي، وكان أبو محذورة منهم يرجِّع الأذان، ويثنِّي الإِقامة، وبلال لايرجِّع، ويفرد الإِقامة، فأخذ الشافعي رحمه اللّه وأهلُ مكّة بأذان أبي محذورة، وإقامةِ بلال، وأخذ أبو حنيفة رحمه اللّه وأهلُ العراق بأذان بلال، وإقامة أبي محذورة، وأخذ الإِمام أحمد رحمه اللّه وأهلُ الحديث وأهلُ المدينة بأذان بلال وإقامته، وخالف مالك رحمه اللّه في الموضعين‏:‏ إعادة التكبير، وتثنية لفظ الإِقامة، فإنه لا يكررها‏.‏

فصل‏:‏ في أمرائه صلى الله عليه وسلم

منهم باذان بن ساسان، من ولد بهرام جور، أمَّره رسول اللّه صلى الله عليه وسلم على أهل اليمن كلِّها بعد موت كسرى، فهو أولُ أمير في الإِسلام على اليمن، وأولُ مَنْ أسلم من ملوك العجم‏.‏ ثم أمَّر رسولُ اللّه صلى الله عليه وسلم بعد موت باذان ابنه شهر بن باذان على صنعاء وأعمالها‏.‏ ثمّ قُتِلَ شهر، فأمَّر رسول اللّه صلى الله عليه وسلم على صنعاء خالد بن سعيد بن ا لعاص‏.‏

وولَّى رسولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم المهاجِرَ بن أبي أمية المخزومي كِندَة والصَّدِف، فتوفي رسولُ اللّه صلى الله عليه وسلم ولم يَسِرْ إليها، فبعثه أبو بكر إلى قتال أناس من المرتدين‏.‏

وولَّى زيادَ بن أمية الأنصاري حضرموت‏.‏ وولَّى أبا موسى الأشعري زبيدَ وعدن والساحل‏.‏ وولَّى معاذ بن جبل الجَنَد‏.‏ وولَّى أبا سفيان صخر بن حرب نَجْرَان‏.‏ وولَّى ابنه يزيد تيماء‏.‏ وولَّى عَتَّابَ بنَ أَسِيد مكَّة، وإقامة الموسم بالحج بالمسلمين سنة ثمان وله دون العشرين سنة‏.‏ وولَّى علي بن أبي طالب الأخماس باليمن والقضاء بها‏.‏ وولَّى عمرو بن العاص عُمَان وأعمالها‏.‏

وولَّى الصدقاتِ جماعة كثيرة، لأنه كان لكل قبيلة والٍ يقبض صدقاتها، فمن هنا كثر عمالُ الصدقات‏.‏

وولَّى أبا بكر إقامةَ الحج سنة تسع، وبعث في أَثَرِهِ علياً يقرأ على الناس سورة ‏(‏براءة‏)‏ فقيل‏:‏ لأن أولها نزل بعد خروج أبي بكر إلى الحج‏.‏ وقيل‏:‏ بل لأن عادة العرب كانت أنه لا يَحِلُّ العقودَ ويعقدها إلا المطاعُ، أو رجلٌ مِنْ أهل بيته‏.‏ وقيل‏:‏ أردفه به عوناً له ومساعداً‏.‏ ولهذا قال له الصديق‏:‏ أمير أو مأمور‏؟‏ قال‏:‏ بل مأمور‏.‏

وأمّا أعداء اللّه الرافضة، فيقولون‏:‏ عزله بعلي، وليس هذا ببدع من بهتهم وافترائهم، واختلف الناس، هل كانت هذه الحجةُ قد وقعت في شهر ذي الحجة، أو كانت في ذي القَعدة من أجل النسيء‏؟‏ على قولين، واللّه أعلم‏.‏

فصل‏:‏ في حرسه صلى الله عليه وسلم

فمنهم سعدُ بن معاذ، حرسه يومَ بدر حين نام في العريش، ومحمد بن مسلمة حرسه يوم أُحد، والزبير بن العوام حرسه يوم الخندق‏.‏ ومنهم عبَّاد بن بشر، وهو الذي كان على حرسه، وحرسه جماعة آخرون غير هؤلاء، فلما نزل قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَاللّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النّاسِ‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 67‏]‏ خرج على الناس فأخبرهم بها، وصرف الحرس‏.‏

فصل‏:‏ فيمن كان يضرب الأعناق بين يديه صلى الله عليه وسلم

علي بن أبي طالب، والزبير بن العوام، والمقداد بن عمرو، ومحمد بن مسلمة، وعاصم بن ثابت بن أبي الأقلح، والضحاك بن سفيان الكِلابي، وكان قيس بن سعد بن عبادة الأنصاري منه صلى الله عليه وسلم بمنزلة صاحب الشًّرَطَةِ من الأمير ووقف المغيرةُ بن شعبة على رأسه بالسيف يوم الحُديبيَةِ‏.‏

فصل‏:‏ فيمن كان على نفقاته وخاتمه ونعله وسواكه ومن كان يأذن عليه

كان بلال على نفقاته، ومعيقيب بن أبي فاطمة الدَّوسي على خاتمه، وابنُ مسعود على سواكه ونعله، وأذن عليه رباح الأسود وأنسة مولياه، وأنس بن مالك، وأبو موسى الأشعري‏.‏

فصل‏:‏ في شعرائه وخطبائه

كان من شعرائه الذين يَذبُّون عن الإِسلام‏:‏ كعبُ بن مالك، وعبدُ اللّه بن رواحة، وحسَّان بن ثابت، وكان أشدَّهم على الكفار حسانُ بن ثابت وكعبُ بن مالك يُعيِّرهم بالكفر والشرك، وكان خطيبَه ثابت بن قيس بن شمَّاس‏.‏

فصل‏:‏ في حُداته الذين كانوا يحدون بين يديه صلى الله عليه وسلم في السفر

منهم عبدُ اللّه بن رواحة، وأنجشة، وعامر بن الأكوع وعمه سلمة بن الأكوع‏.‏ وفي ‏(‏صحيح مسلم‏)‏‏:‏ كان لرسول اللّه صلى الله عليه وسلم حَادٍ حَسَنُ الصَّوْتِ، فَقَالَ لَهُ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏رُوَيْداً يَا أنْجشَةُ، لاَ تكْسِرِ القَوَارِيرَ‏)‏‏.‏ يعني ضعفة النساء‏.‏

فصل‏:‏ في غزواته وبعوثه وسراياه صلى الله عليه وسلم

غزواتُه كلها وبعوثه وسراياه كانت بعد الهجرة في مدة عشر سنين، فالغزواتُ سبع وعشرون، وقيل‏:‏ خمس وعشرون، وقيل‏:‏ تسع وعشرون وقيل غير ذلك، قاتل منها في تسع‏:‏ بدر، وأُحد، والخندق، وقريظة، والمصطلق، وخيبر، والفتح، وحنين، والطائف‏.‏ وقيل‏:‏ قاتل في بني النضير والغابة ووادي القُرى من أعمال خيبر‏.‏

وأمّا سراياه وبعوثه، فقريب من ستين، والغزوات الكبار الأمهات سبع‏:‏ بدر، وأُحد، والخندق، وخيبر، والفتح، وحنين، وتبوك‏.‏ وفي شأن هذه الغزوات نزل القران، فسورة ‏(‏الأنفال ‏)‏ سورة بدر، وفي أُحُد آخر سورة ‏(‏آل عمران ‏)‏ من قوله‏:‏ ‏{‏وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 121‏]‏ إلى قبيل آخرها بيسير، وفي قصة الخندق، وقريظة، وخيبر صدر ‏(‏سورة الأحزاب‏)‏، وسورة ‏(‏الحشر‏)‏ في بني النضير، وفي قصة الحديبية وخيبر سورة ‏(‏الفتح ‏)‏ وأشير فيها إلى الفتح، وذكر الفتح صريحاً في سورة ‏(‏النصر‏)‏‏.‏

وجرح منها صلى الله عليه وسلم في غزوة واحدة وهي أحد، وقاتلت معه الملائكة منها في بدر وحنين، ونزلت الملائكة يوم الخندق، فزلزلتِ المشركين وهزمتهم، ورمى فيها الحصباءَ في وجوه المشركين فهربوا، وكان الفتحُ في غزوتين‏:‏ بدر، وحنين‏.‏ وقاتل بالمنجنيق منها في غزوة واحدة، وهي الطائف، وتحصَّن في الخندق في واحدة، وهي الأحزاب أشار به عليه سلمان الفارسي رضي اللّه عنه‏.‏

فصل‏:‏ في ذكر سلاحه وأثاثه صلى الله عليه وسلم

كان له تسعة أسياف‏:‏

مأثور، وهو أول سيف ملكه، ورثه من أبيه‏.‏

والعضْب، وذو الفِقار، بكسر الفاء، وبفتح الفاء، وكان لا يكادُ يُفارقه، وكانت قائمته وقبيعتُه وحلقتُه وذؤابته وبكراتُه ونعلُه مِنْ فضة‏.‏ والقلعي، والبتار، والحتف، والرَّسوب، والمِخْذَم، والقضيب، وكان نعلُ سيفه فضةً، وما بين ذلك حلق فضة‏.‏

وكان سيفه ذو الفِقار تنفَّله يوم بدر، وهو الذي أُري فيها الرؤيا، ودخل‏.‏ يوم الفتح مكة وعلى سيفه ذهب وفضة‏.‏

وكان له سبعة أدرع‏:‏

ذات الفضول‏:‏ وهي التي رهنها عند أبي الشحم اليهودي على شعير لعياله، وكان ثلاثين صاعاً، وكان الدَّيْن إلى سنة، وكانت الدِّرعُ مِن حديد‏.‏

وذات الوِشاح، وذات الحواشي، والسعدية، وفضة، والبتراء والخِرْنق

وكانت له ستُّ قِسيٍّ‏:‏ ا لزوراء، والرَّوحاء، والصفراء، والبيضاء، والكَتوم، كُسِرَتْ يوم أحد، فأخذها قتادة بن النعمان، والسَّداد‏.‏

وكانت له جَعْبَة تدعى‏:‏ الكافور، وَمِنْطَقَة من أديم منشور فيها ثلاث حلق من فضة، والإِبزيم من فضة، والطرف من فضة، وكذا قال بعضهم، وقال شيخ الإِسلام ابن تيمية‏:‏ لم يبلغنا أن النبي صلى الله عليه وسلم شدَّ على وسطه منطقة‏.‏

وكان له ترس يقال له‏:‏ الزَّنوق، وترس يقال له‏:‏ الفتَق‏.‏ قيل وترس أهدى إليه، فيه صورةُ تمثال، فوضع يده عليه، فأذهب اللّه ذلك التمثال‏.‏

وكانت له خمسة أرماح، يقال لأحدهم‏:‏ المُثْوِي، والآخر‏:‏ المُثْنِي، وحربة يقال لها‏:‏ النبعة، وأخرى كبيرة تدعى‏:‏ البيضاء، وأخرى صغيرة شبه العكاز يقال لها‏:‏ العَنَزَة يمشي بها بين يديه في الأعياد، تركز أمامَه، فيتخذها سترة يُصلي إليها، وكان يمشي بها أحياناً‏.‏

وكان له مِغْفَر من حديد يقال له‏:‏ الموشَّح، وشح بِشَبَهٍ وَمِغفَر آخر يقال له‏:‏ السبوغ، أو‏:‏ ذو السبوغ‏.‏

وكان له ثلاث جِباب يلبسها في الحرب‏.‏ قيل فيها‏:‏ جبة سندسٍ أخضر، والمعروف أن عروة بن الزبير كان له يلمق من ديباج، بطانته سندس أخضر يلبسه في الحرب، والإِمام أحمد في إحدى روايتيه يُجَوِّزُ لبس الحرير في الحرب‏.‏

وكانت له راية سوداء يقال لها‏:‏ العُقاب‏.‏ وفي ‏(‏سنن أبي داود‏)‏ عن رجل من الصحابة قال‏:‏ رأيتُ راية رسول اللّه صلى الله عليه وسلم صفراء، وكانت له ألوية بيضاء، وربما جعل فجها الأسود‏.‏

وكان له فُسطاط يسمى‏:‏ الكن، ومِحجَن قدر ذراع أو أطول يمشي به ويركب به، ويُعلقه بين يديه على بعيره، وَمِخْصَرة تسمى‏:‏ العرجون، وقضيب من الشوحط يسمى‏:‏ الممشوق‏.‏ قيل‏:‏ وهو الذي كان يتداوله الخلفاء‏.‏

وكان له قدح يسمى‏:‏ الرَّيان، ويسمى مغنياً، وقدح آخر مضبب بسلسلة من فضة‏.‏

وكان له قدح من قوارير، وقدح مِن عِيدان يوضع تحت سريره يبول فيه بالليل، ورَكوة تسمى‏:‏ الصادر، قيل‏:‏ وتَوْر من حجارة يتوضأ منه، ومِخْضب من شبَهٍ، وقعب يسمى‏:‏ السعة، ومغتسل من صُفْر، ومُدهُن، ورَبْعة يجعل فيه المراَة والمشط‏.‏ قيل‏:‏ وكان المُشط من عاج، وهو الذَّبْلُ، ومكحلة يكتحِل منها عند النوم ثلاثاً في كل عين بالإِثمد، وكان في الربعة المقراضان والسواك‏.‏

وكانت له قصعة تُسمى‏:‏ الغراء، لها أربع حلق، يحملها أربعة رجال بينهم، وصاع، ومد، وقطيفة، وسرير قوائمه من ساج، أهداه له أسعد بن زرارة، وفراش من أدَمٍ حشوه ليف‏.‏

وهذه الجملة قد رويت متفرقة في أحاديث‏.‏

وقد روى الطبراني في ‏(‏معجمه‏)‏ حديثاً جامعاً في الآنية من حديث ابن عباس قال‏:‏ كان لرسول اللّه صلى الله عليه وسلم سيفٌ قائمته من فضة، وقبيعتُه من فضة، وكان يسمى‏:‏ ذا الفِقار، وكانت له قوس تسمى‏:‏ السداد، وكانت له كِنانة تسمى‏:‏ الجمع، وكانت له درع موشحة بالنحاس تسمى‏:‏ ذات الفُضول، وكانت له حربه تسمى‏:‏ النبعاء، وكان له مِحجن يسمى‏:‏ الدقن، وكان له ترس أبيض يسمى‏:‏ الموجز، وكان له فرس أدهم يسمى‏:‏ السَّكْب، وكان له سرج يسمى‏:‏ الداج، وكانت له بغلة شهباء تسمى‏:‏ دُلدُل، وكانت له ناقة تسمى‏:‏ القصواء، وكان حمار يسمى‏:‏ يعفور، وكان له بساط يسمى‏:‏ الكن، وكانت له عنزة تسمى‏:‏ القمرة، وكانت له رَكوة تسمى‏:‏ الصادرة، وكان له مقراض اسمه‏:‏ الجامع، ومرآة وقضيب شوحط يسمى‏:‏ الموت‏.‏

فصل‏:‏ في دوابه صلى الله عليه وسلم

فمن الخيل‏:‏ السَّكْب‏.‏ قيل‏:‏ وهو أول فرس ملكه، وكان اسمه عند الأعرابي الذي اشتراه منه بعشر أواقٍ‏:‏ الضرس، وكان أغرَّ محجَّلاً، طلَقَ اليمين كُميتاً‏.‏ وقيل‏:‏ كان أدهم‏.‏

والمُرْتَجز، وكان أشهب، وهو الذي شهد فيه خزيمة بن ثابت‏.‏

وَاللُّحَيْفُ، وَاللِّزَازُ، وَالظَّرِب، وَسَبْحَة، وَالوَرْدُ‏.‏ فهذه سبعة متفق عليها جمعها الإِمام أبو عبد اللّه محمد بن إسحاق بن جماعة الشافعي في بيت فقال‏:‏

والخَيْلُ سَكْبٌ لُحَيْفٌ سَبْحَة ظَرِبٌ لِـزَازُ مُرْتَجَزٌ وَرْدٌ لهَا أسْـرَارُ

أخبرني بذلك عنه ولده الإِمام عز الدين عبد العزيز أبو عمرو، أعزه اللّه بطاعته‏.‏

وقيل‏:‏ كانت له أفراس أخر خمسة عشر، ولكن مختلف فيها، وكان دفتا سرجه من ليف‏.‏

وكان له من البغال دُلْدُل، وكانت شهباء، أهداها له المقوقِس‏.‏ وبغلة أخرى‏.‏ يقال لها‏:‏ ‏(‏فضة‏)‏‏.‏ أهداها له فروة الجذامي، وبغلة شهباء أهداها له صاحبُ أيلة، وأخرى أهداها له صاحب دومة الجندل، وقد قيل‏:‏ إن النَجاشي أهدى له بغلة فكان يركبها‏.‏

ومن الحمير غفير، وكان أشهب، أهداه له المقوقِس ملك القبط، وحمار آخر أهداه له فروة الجذامي‏.‏ وذكر أن سعد بن عبادة أعطى النبي صلى الله عليه وسلم حماراً فركبه‏.‏

ومن الإِبل القصواء، قيل‏:‏ وهي التي هاجر عليها، والعضباء، والجدعاء، ولم يكن بهما عضب ولا جدع، وإنما سُمِّيتا بذلك، وقيل‏:‏ كان بأذنها عضب، فسميت به، وهل العضباء والجدعاء واحدة، أو اثنتان‏؟‏ فيه خلاف، والعضباء هي التي كانت لا تُسبق، ثم جاء أعرابي على قَعود فسبقها، فشق ذلك على المسلمين، فقال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏إنَّ حَقًّا عَلَى اللَّهِ أَلا يَرْفَعَ مِنَ الدُّنْيَا شَيْئاً إلاَّ وَضعَهُ‏)‏ وغنِم صلى الله عليه وسلم يوم بدر جملاً مَهْرِيّاً لأبي جهل في أنفه بُرَةّ مِنْ فضة، فأهداه يوم الحديبية ليغيظ به المشركين

وكانت له خمسٌ وأربعون لِقحَة، وكانت له مَهْرِيَّةٌ أرسل بها إليه سعد بن عبادة من نَعَم بني عقيل‏.‏

وكانت له مائة شاة وكان لا يُريد أن تزيد، كلما ولَّد له الراعي بهمة، ذبح مكانها شاة، وكانت له سبعُ أعنز منَائحَ ترعاهن أمُّ أيمن‏.‏

فصل‏:‏ في ملابسه صلى الله عليه وسلم

كانت له عمامة تُسمى‏:‏ السحاب، كساها علياً، وكان يلبَسُها ويلْبَسُ تحتها القَلَنسُوة‏.‏ وكان يلبَس القلنسُوة بغير عمامة، ويلبَسُ العِمامة بغير قلنسُوة‏.‏ وكان إذا اعتم، أرخى عِمامته بين كتفيه، كما رواه مسلم في ‏(‏صحيحه‏)‏ عن عمرو بن حريث قال‏:‏ ‏(‏رأيتُ رسولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم على المنبرِ وَعَلَيهِ عِمَامَة سَوْدَاءُ قَدْ أرخَى طَرفَيهَا بينَ كَتِفَيْهِ‏)‏‏.‏

وفي مسلم أيضاً، عن جابر بن عبد اللّه، أن رسول اللّه صلى الله عليه وسلم ‏(‏دَخَلَ مَكَّة وَعَلَيْهِ عمَامَةٌ سَودَاء‏)‏‏.‏ ولم يذكر في حديث جابر‏:‏ ذؤابة، فدل على أن الذؤابة لم يكن يرخيها دائماً بين كتفيه‏.‏ وقد يقال‏:‏ إنه دخل مكة وعليه أهبةُ القتال والمِغفَرُ على رأسه، فلبسَ في كل مَوطِنٍ ما يُناسبه‏.‏

وكان شيخنا أبو العباس ابن تيمية قدَّس اللّه روحه في الجنَّة، يذكر في سبب الذُّؤابة شيئاً بديعاً، وهو أن النبي صلى الله عليه وسلم إنما اتخذها صبيحة المنام الذي رآه في المدينة، لما رأى ربَّ العزَّة تبارك وتعالى، فقال‏:‏ ‏(‏يَا مُحَمَّدُ فِيمَ يَخْتَصِمُ المَلأُ الأَعلَى‏؟‏ قُلْتُ‏:‏ لاَ أَدْرِي، فَوضع يَدَهُ بَيْن كَتِفَيَّ فَعَلِمْت مَا بَيْنَ السَّمَاءِ وَالأرْض‏.‏‏.‏ الحديث‏)‏، وهو في الترمذي، وسئل عنه البخاري، فقال صحيح‏.‏ قال‏:‏ فمن تلك الحال أرخى الذؤابة بين كتفيه، وهذا مِن العلم الذي تنكره ألسنةُ الجهال وقلوبُهم، ولم أرَ هذه الفائدة في إثبات الذؤابة لغيره‏.‏ ولبس القميص وكان أحبَّ الثياب إليه، وكان كُمُّه إلى الرُّسُغ، ولبس الجُبَّةَ والفَروج وهو شبه القَباء، والفرجية، ولبس القَباء أيضاً، ولبس في السفر جُبة ضَيِّقَةَ الكُمَّين، ولبس الإِزار والرداء‏.‏ قال الواقدي‏:‏ كان رداؤه وبرده طولَ ستة أذرع في ثلاثة وشبر، وإزاره من نسج عُمان طول أربعة أذرع وشبر في عرض ذراعين وشبر‏.‏

ولبس حُلة حمراء، والحلة‏:‏ إزار ورداء، ولا تكون الحُلة إلا اسماً للثوبين معاً، وغلط من ظن أنها كانت حمراء بحتاً لا يُخالطها غيره، وإنما الحلةُ الحمراء‏:‏ بردان يمانيان منسوجان بخطوط حمر مع الأسود، كسائر البرود اليمنية، وهي معروفة بهذا الاسم باعتبار ما فيها من الخطوط الحمر، وإلا فالأحمر البحتُ منهي عنه أشد النهي، ففي ‏(‏صحيح البخاري‏)‏ أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن المياثر الحمر وفي ‏(‏سنن أبي داود‏)‏ عن عبد اللّه بن عمرو أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى عليه رَيْطَةً مُضَرَّجَة بالعُصْفُرِ، فَقَالَ‏:‏ ‏(‏مَا هذِهِ الرَّيْطَةُ الَّتي عَليْكَ‏؟‏‏)‏ فعَرَفت مَا كَرِه فَأَتَيْتُ أهْلي وَهُمْ يَسْجُرُونَ تَنُّوراً لَهم، فقذفتها فيه، ثُمَّ أَتَيْتُهُ مِنَ الغَدِ، فَقَالَ‏:‏ ‏(‏يَا عَبْدَ اللَّهِ مَا فَعَلتِ الرَّيْطَةُ‏؟‏‏)‏ فَأَخْبَرْتُهُ، فَقَالَ‏:‏ ‏(‏هَلاَّ كَسَوْتَهَا بَعْضَ أَهْلِكَ، فَإِنَّهُ لاَ بَأْسَ بِهَا لِلنِّسَاءِ‏)‏‏.‏ وفي ‏(‏صحيح مسلم‏)‏ عنه أيضاً، قال‏:‏ رأى النبي صلى الله عليه وسلم ثوبين معصفرين‏.‏ فقال‏:‏ ‏(‏إنَّ هذِهِ مِنْ لِبَاسِ الكُفَارِ فَلاَ تلبَسْهَا‏)‏ وفي ‏(‏صحيحه‏)‏ أيضاً عَنْ علي رضي اللّه عنه قال‏:‏ ‏(‏نَهَى النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عَنِ لِبَاسِ المُعَصْفَرِ‏)‏‏.‏ ومعلوم أن ذلك إنما يصبغ صبغاً أحمر‏.‏ وفي بعض ‏(‏السنن‏)‏ أنهم كانوا مع النبي صلى الله عليه وسلم في سفر، فرأى على رواحلهم أكسيةً فيها خطوطٌ حمراء، فقال‏:‏ ‏(‏آلاَ أَرى هذِهِ الحُمْرَةَ قَدْ عَلَتْكُمْ، فَقُمْنَا سِرَاعاً لِقَوْلِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، حَتَّى نَفَرَ بَعْضُ إِبِلنَا، فَأَخَذْنَا الأَكْسِتً فَنَزَعْنَاهَا عَنْهَا‏)‏‏.‏ رواه أبو داود‏.‏

وفي جواز لبس الأحمر من الثياب والجوخ وغيرها نظر‏.‏ وأما كراهته، فشديدة جداً، فكيف يُظن بالنبي صلى الله عليه وسلم أنه لبس الأحمر القاني، كلا لقد أعاذه اللَّهُ منه، وإنما وقعت الشبهةُ مِن لفظ الحلة الحمراء، واللّه أعلم‏.‏

ولبس الخميصة المُعْلَمَةَ والساذَجَة، ولبس ثوباً أسود، ولبس الفَروة المكفوفة بالسندس‏.‏

وروى الإِمام أحمد، وأبو داود بإسنادهما عن أنس بن مالك ‏(‏أن ملك الروم أهدى للنبي صلى الله عليه وسلم مُسْتَقَةً مِنْ سُنْدُسٍ، فلبسها، فَكأَنِّي أنظرُ إلى يَدَيْه تَذَبْذَبانِ‏)‏‏.‏ قال الأصمعي‏:‏ المساتق فراء طوال الأكمام‏.‏ قال الخطابي‏:‏ يشبه أن تكون هذه المستقة مكففة بالسندس، لأن نفس الفروة لا تكون سندسا‏.‏

فصل

واشترى سراويل والظاهر أنه إنما اشتراها ليلبَسها، وقد روي في غير حديث أنه لبس السراويل، وكانوا يلبسون السراويلات بإذنه‏.‏

ولبس الخفين، ولبس النعل الذي يسمى التَّاسُومة‏.‏

ولبس الخاتم، واختلفت الأحاديث هل كان في يمناه أو يُسراه، وكلها صحيحة السند‏.‏

ولبس البيضة التي تسمى‏:‏ الخوذة، ولبس الدرع التي تسمى‏:‏ الزردية، وظاهر يومَ أُحد بين الدرعين‏.‏

وفي ‏(‏صحيح مسلم‏)‏ عن أسماء بنت أبي بكر قالت‏:‏ هذه جبة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأخرجت جبةَ طيالِسة كَسِروانية لها لبنةُ دِيباج‏.‏ وفرجاها مكفوفان بالديباج، فقالت‏:‏ هذِهِ كانت عند عائشة حتى قُبِضَت، فلما قبضت قبضتُها، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يلبَسُها، فنحنُ نَغْسلهَا للمرضى تسْتَشفى بها‏.‏

وكان له بردان أخضران، وكِساء أسود، وكساء أحمر ملبد، وكساء من شعر‏.‏

وكان قميصه من قطن، وكان قصيرَ الطول، قصيرَ الكُمَّين، وأما هذه الأكمام الواسعة الطِّوال التي هي كالأخراج، فلم يلبسها هو ولا أحد من أصحابه البتة، وهي مخالفة لسنته، وفي جوازها نظر، فإنها من جنس الخيلاء‏.‏

وكان أحبَّ الثياب إليه القميصُ والحِبَرَةُ، وهي ضرب من البرود فيه حمرة‏.‏

وكان أحبَّ الألوان إليه البياضُ، وقال‏:‏ ‏(‏هي مِنْ خَيْرِ ثِيَابكُمْ، فَالبسوها، وَكَفِّنُوا فِيهَا مَوْتَاكمْ‏)‏ وفي ‏(‏الصحيح‏)‏ عن عائشة أنها أخرجت كِساءً ملبَّدا وإزاراَ غليظاً فقالت‏:‏ قُبِضَ روح رَسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم في هذين‏.‏

ولبس خاتماً من ذهب، ثم رمى به، ونهى عن التختم بالذهب، ثم اتخذ خاتماً من فضة، ولم ينه عنه‏.‏ وأما حديث أبي دَاود أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن أشياء، وذكر منها‏:‏ ونهى عن لبوس الخاتم إلا لذي سلطان، فلا أدري ما حال الحديث، ولا وجهه، والله أعلم‏.‏

وكان يجعل فص خاتمه مما يلي باطن كفه‏.‏ وذكر الترمذي أنه كان إذا دخل الخلاء نزع خاتمه، وصححه، وأنكره أبو داود‏.‏

وأما الطيلسان، فلم ينقل عنه أنه لبسه، ولا أحدٌ من أصحابه، بل قد ثبت في ‏(‏صحيح مسلم‏)‏ من حديث أنس بن مالك عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه ذكر الدَّجَّال فقال‏:‏ ‏(‏يخْرُجُ مَعَهُ سَبْعُونَ أَلْفاً مِنْ يَهُودِ أَصْبِهَانَ عَلَيْهِمُ الطَّيالِسَةُ‏)‏‏.‏ ورأى أنس جماعة عليهم الطيالسة، فقال‏:‏ ما أشبَههُم بيهود خيبر‏.‏ ومن ها هنا كره لبسها جماعة من السلف والخلف، لما روى أبو داود، والحاكم في ‏(‏المستدرك‏)‏ عن ابن عمر، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:‏ ‏(‏مَنْ تَشَبَّهَ بِقَوْمٍ فَهُوَ مِنْهُمْ‏)‏‏.‏ وفي الترمذي عنه صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏لَيْسَ مِنَّا مَنْ تَشَبَّهَ بِقَوْمٍ غَيْرِنَا‏)‏ وأما ما جاء في حديث الهجرة أن النبي صلى الله عليه وسلم جاء إلى أبي بكر مُتَقَنِّعاً بالهَاجِرَة، فَإنما فعله النبيُّ صلى الله عليه وسلم تلك الساعة ليختفي بذلك، ففعلهُ للحاجة، ولم تكن عادتُه التقنعَ، وقد ذكر أنس عنه صلى الله عليه وسلم أنه كان يُكثر القِنَاعَ، وهذا إنما كان يفعله- والله أعلم- للحاجة من الحر ونحوه، وأيضاً ليس التقنع من التطيلس‏.‏

فصل

وكان غالبُ ما يلبس هو وأصحابُه ما نُسِجَ مِن القطن، وربما لبسوا ما نُسِجَ من الصوف والكتَّان، وذكر الشيخ أبو إسحاق الأصبهاني بإسناد صحيح عن جابر بن أيوب قال‏:‏ دخل الصَّلْتُ بن راشد على محمد بن سيرين وعليه جُبة صوف، وإزارُ صوف، وعِمامة صوف، فاشمأزَّ منه محمد، وقال‏:‏ أظن أن أقواماً يلبسون الصوف ويقولون‏:‏ قد لبسه عيسى بن مريم، وقد حدثني من لا أتهم أن النبي صلى الله عليه وسلم قد لبس الكتان والصوف والقطن، وسُنَّةُ نبينا أحقُّ أن تُتَّبَعَ‏.‏ ومقصود ابن سيرين بهذا أن أقواماً يرون أن لبس الصوف دائماً أفضلُ من غيره، فيتحرَّونه ويمنعون أنفسهم من غيره، وكذلك يتحرَون زِياً واحداً من الملابس، ويتحرَّون رسوماً وأوضاعاً وهيئات يرون الخروج عنها منكراً، وليس المنكرُ إلا التقيد بها، والمحافظة عليها، وترك الخروج عنها‏.‏

والصواب أن أفضل الطرق طريقُ رسول الله صلى الله عليه وسلم التي سنها، وأمر بِها، ورغَّب فيها، وداوم عليها، وهي أن هديَه في اللباس‏:‏ أن يلبس ما تيسر مِنَ اللباس، من الصوف تارة، والقطن تارة، والكتان تارة‏.‏

ولبس البرود اليمانية، والبردَ الأخضر، ولَبسَ الجبة، والقَباء، والقميص، وا لسراويل، والإِزار، والرداء، والخف، والنعل، وأرخى الذؤابة من خَلْفِه تارة، وتركها تارة‏.‏

وكان يتلحى بالعمامة تحت الحنك‏.‏

وكان إذا استجدَّ ثوباً، سماه باسمه، وقال‏:‏ ‏(‏اللَّهمَّ أَنتَ كَسَوتَنِي هذا القَمِيصَ أَو الرِّدَاءِ أَوِ العِمَامَةَ، أَسْألُكَ خَيرَهُ وَخَيرَ مَا صنعَ لَهُ، وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ شَرِّهِ وَشَرِّ ما صنعَ لَهُ‏)‏‏.‏

وكان إذا لبس قميصه، بدأ بميامِنه‏.‏ ولبس الشعر الأسود، كما روى مسلم في ‏(‏صحيحه‏)‏ عن عائشة قالت‏:‏ خرج رسول اللّه صلى الله عليه وسلم وَعَلَيْهِ مِرْطٌ مُرَحَّل مِنْ شَعَر أَسْوَدَ‏.‏

وفي ‏(‏الصحيحين‏)‏ عن قتادة قلنا لأنس‏:‏ أيُّ اللباسِ كان أحبَّ إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم‏؟‏ قال‏:‏ ‏(‏الحِبَرَة‏)‏‏.‏ والحبرة‏:‏ برد من برود اليمن فإن غالب لباسهم كان مِن نسج اليمن، لأنها قريبة منهم، وربما لبسوا ما يُجلب مِن الشَّام ومصر، كالقباطي المنسوجة من الكتان التي كانت تنسجها القبطُ‏.‏ وفي ‏(‏صحيح النسائي‏)‏ عن عائشة أنها جعلت للنبي صلى الله عليه وسلم بُردة من صوف، فلبسها، فلما عَرِق، فوجد رِيحَ الصوف، طرحها، وكان يُحبُ الرّيحَ الطَّيِّب‏.‏ وفي ‏(‏سنن أبي داود‏)‏ عن عبد اللّه بن عباس قال‏:‏ لَقَدْ رأيتُ عَلَى رسول اللّه صلى الله عليه وسلم أحْسَنَ مَا يَكُونُ مِنَ الحُلَلِ‏.‏ وفي ‏(‏سنن النسائي‏)‏ عن أبي رِمْثَةَ قال‏:‏ رأيتُ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم يَخطُبُ وَعَلَيْهِ بُرْدَانِ أَخضَرَانِ‏.‏ والْبُرد الأخضر‏:‏ هو الذي فيه خطوط خضر، وهو كالحلة الحمراء سواء، فمن فهم مِن الحُلة الحمراء الأحمر البحت، فينبغي أن يقول‏:‏ إِنَّ البرد الأخضر كان أخضرَ بحتاً، وهذا لا يقولُه أحد‏.‏

وكانت مِخَدَّتُه صلى الله عليه وسلم من أَدَمٍ حَشوُهَا لِيف، فالذين يمتنعون عما أباح اللَّهُ مِن الملابس والمطاعم والمناكح تزهُّداً وتعبُّداً، بإزائهم طائفةٌ قابلوهم، فلا يلبَسُون إلا أشرفَ الثياب، ولا يأكلون إلا ألينَ الطعام، فلا يرون لَبِسَ الخَشنِ ولا أكله تكبُّراً وتجبُّراً، وكلا الطائفتين هديُه مخالِفٌ لهدي النبي صلى الله عليه وسلم ولهذا قال بعض السلف‏:‏ كانوا يكرهون الشهرتين من الثياب‏:‏ العالي، والمنخفضِ‏.‏

وفي ‏(‏السنن‏)‏ عن ابن عمر يرفعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏مَنْ لَبِسَ ثَوْبَ شُهْرَةٍ، أَلْبَسَهُ اللَّهُ يَوْمَ القِيَامَةِ ثَوْبَ مَذَلَّةٍ، ثُمَّ تَلَهَّبُ فيه النَّارُ‏)‏ وهذا لأنه قصد به الاختيال والفخر، فعاقبه اللّه بنقيضِ ذلك، فأَذَلَّه، كما عاقب من أطال ثيابه خُيلاء بأَن خسف به الأرض، فهو يتجلجلُ فيها إلى يوم القيامة‏.‏ وفي ‏(‏الصحيحين‏)‏ عن ابن عمر قال‏:‏ قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏مَنْ جَرَّ ثَوْبَهُ خُيَلاَءَ، لَمْ يَنْظُرِ اللَّهُ إلَيْهِ يَوْمَ القِيَامَةِ‏)‏ وفي ‏(‏السنن‏)‏ عنه أيضاً صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏الإِسْبَالُ في الإِزَار، وَالقَمِيصِ وَالعِمَامَةِ، مَنْ جَرَ شَيْئَاً مِنْهَا خُيَلاَءَ، لَمْ يَنْظُرِ اللَّهُ إِلَيْهِ يَوْمَ القِيَامَةِ‏)‏ وفي ‏(‏السنن‏)‏ عن ابن عمر أيضاً قال‏:‏ مَا قَال رسول الله صلى الله عليه وسلم في الإِزَارِ، فَهُوَ فِي القَمِيصِ، وكذلك لُبس الدنيء من الثياب يُذَمُّ في موضع، ويُحمد في موضع، فيُذم إذا كان شُهرةً وخُيلاء ويمدح إذا كان تواضعاً واستكانة، كما أن لبس الرفيع من الثياب يُذم إذا كان تكبُّراً وفخراً وخيلاء، ويُمدح إذا كان تجملاً وإظهاراً لنعمة اللّه، ففي ‏(‏صحيح مسلم‏)‏ عن ابن مسعود قال‏:‏ قال رسولُ اللّه صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏لا يَدْخُلُ الجَنَةَ مَنْ كَانَ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ حَبَّةِ خَرْدَلٍ مِنْ كبْرِ، وَلاَ يَدْخُلُ النَّارَ مَنْ كَانَ في قَلْبِهِ مِثْقَالُ حَبَّةِ خَرْدَلٍ مِنْ إيمَانٍ‏)‏، فَقَالَ رَجُلٌ‏:‏ يَا رَسُولَ اللَّهِ إنِّي أُحِبُّ أَن يَكُونَ ثَوْبِي حَسَنَاً، وَنَعْلِي حَسَنَةً، أفَمِنَ الكِبْرِ ذَاكَ‏؟‏ فَقَالَ‏:‏ ‏(‏لا، إِنَّ اللَّهَ جَمِيلٌ يُحِبُّ الجَمَالَ، الكِبْرُ‏:‏ بَطَرُ الْحَقِّ، وَغَمْطُ ا لنَاسِ‏)‏‏.‏

فصل

وكذلك كان هديُه صلى الله عليه وسلم، وسيرتُه في الطعام، لا يردُّ موجوداً، ولا يتكلف مفقوداً، فما قُرِّبَ إليه شيءٌ من الطيبات إلا أكله، إلا أن تعافَه نفسُه، فيتركَه من غير تحريم، وما عاب طعاماً قطُّ، إن اشتهاه أكله، وإلا تركه، كما ترك أكل الضَّبِّ لمَّا لَمْ يَعْتَدْهُ ولم يحرمه على الأمة، بل أُكِلَ على مائدته وهو ينظر‏.‏

وأكل الحلوى والعسل، وكان يُحبهما، وأكل لحم الجزور، والضأن، والدجاج، ولحم الحُبارى، ولحم حِمار الوحش، والأرنب، وطعام البحر، وأكل الشواء، وأكل الرُّطبَ والتمرَ، وشرب اللبنَ خالصاً ومشوباً، والسويق، والعسل بالماء، وشرب نقيع التمر، وأكل الخَزِيرَة، وهي حَسَاء يتخذ من اللبن والدقيق، وأكل القِثَّاء بالرُّطَبِ، وأكل الأَقِطَ، وأكل التمر بالخبز، وأكل الخبز بالخل، وأكل الثريد، وهو الخبز باللحم، وأكل الخبز بالإِهالة، وهي الودك، وهو الشحم المذاب، وأكل من الكَبِدِ المَشوِيَّةِ، وأكل القَدِيد، وأكلَ الدُّبَّاء المطبوخةَ، وكان يُحبُّها وأكلَ المسلُوقةَ، وأكلَ الثريدَ بالسَّمْن، وأكلَ الجُبنَ، وأكلَ الخبز بالزيت، وأكل البطيخ بالرُّطَبِ، وأكل التمر بِالزُّبْدِ، وكان يُحبه، ولم يكن يردُّ طَيِّباً، ولا يتكلفه‏.‏

بل كان هديه أكلَ ما تيسر، فإن أعوزه، صَبَرَ حتى إنه ليربِطُ على بطنه الحجر من الجوع، ويُرى الهلالُ والهلالُ والهلالُ، ولا يُوقد في بيته نارٌ‏.‏ وكان معظمُ مطعمه يوضع على الأرض في السُّفرة، وهي كانت مائدَته، وكان يأكل بأصابعه الثلاث، ويلعَقُها إذا فرغ، وهو أشرفُ ما يكون من الأكلة، فإن المتكبِّرَ يأكل بأصبع واحدة، والجَشِعُ الحريصُ يأكل بالخمس، ويدفع بالراحة‏.‏

وكان لا يأكل مُتكِئاً، والاتكاء على ثلاثة أنواع، أحدها‏:‏ الاتكاء على الجنب، والثاني‏:‏ التربُّع، والثالث‏:‏ الاتكاء على إحدى يديه، وأكله بالأخرى، والثلاث مذمومة‏.‏

وكان يسمى الله تعالى على أول طعامه ، ويحمده في آخره فيقول عند انقضائه‏:‏ ‏(‏الْحَمْدُ للهِ حَمداً كَثِيراً طَيِّباً مُبَارَكاً فِيهِ غَيْرَ مَكْفِيٍّ وَلاَ مُوَدَّع وَلاَ مُسْتَغْنَىَ عَنْه رَبُّنَا‏)‏‏.‏ وربما قال‏:‏ ‏(‏الْحَمْدُ للهِ الَّذِي يُطْعِمُ وَلاَ يُطعَمُ، مَنَّ عَلَينَا فَهَدَانَا، وَأَطعَمَنَا وَسَقَانَا، وَكلَّ بَلاَءٍ حَسَنٍ أَبْلاَنا، الحَمد للهِ الَّذِي أَطْعَمَ مِنَ الطًعَام، وَسَقَى مِنَ الشَّرابِ، وَكَسَا مِنَ الْعُريَ، وَهَدَى، منَ الضَّلاَلَةِ، وَبَصَّرَ مِنَ العَمَى، وَفضَّلَ عَلَى كَثِير مِمَّن خَلَقَ تَفْضِيلاً، الحَمْدُ للهِ رَبِّ العَالَمِينَ‏)‏‏.‏

وربما قال‏:‏ ‏(‏الْحَمد للَّهِ الَّذِي أَطعَمَ وَسَقَى، وَسَوَّغَهُ‏)‏‏.‏

وكان إذا فرغ مِن طعامه لَعِقَ أصابعه، ولم يكن لهم مناديلُ يمسحون بها أيديهم، ولم يكن عادتهم غسلَ أيديهم كلما أكلوا‏.‏

وكان أكثرُ شربه قاعداً، بل زجر عن الشرب قائماً ‏(‏وشرب مرَّة قائماً‏)‏‏.‏ فقيل‏:‏ هذا نسخ لنهيه، وقيل‏:‏ بل فعله لبيان جواز الأمرين، والذي يظهر فيه - واللّه أعلم - أنها واقعة عين شرب فيها قائماً لعذر، وسياق القصة يدل عليه، فإنه أتى زمزم وهم يستقون منها، فأخذ الدَّلو، وشرب قائماً‏.‏

والصحيح في هذه المسألة‏:‏ النهي عن الشرب قائماً، وجوازه لعذر يمنع من القعود، وبهذا تجمع أحاديث الباب، واللّه أعلم‏.‏

وكان إذا شرب، ناول مَنْ على يمينه، وإن كان مَنْ على يساره أكبرَ منه‏.‏

فصل‏:‏ في هديه في النكاح ومعاشرته صلى الله عليه وسلم أهله

صح عنه صلى الله عليه وسلم من حديث أنس رضي اللّه عنه، أنه صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏حُبِّبَ إليَّ، مِن دُنْيَاكُم‏:‏ النِّسَاءُ، والطِّيْبُ، وَجُعِلَتْ قُرَّةُ عَيْنِي في الصَّلاَةِ‏)‏ هذا لفظُ الحديث، ومن رواه ‏(‏حبب إليَّ من دنياكم ثلاث‏)‏، فقد وهم، ولم يقل صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏ثلاث‏)‏ والصلاة ليست من أمور الدنيا التي تُضاف إليها‏.‏ وكان النساء والطيب أحبَّ شيء إليه، وكان يطوف على نسائه في الليلة الواحدة، وكان قد أعطي قوة ثلاثين في الجماع وغيره، وأباح اللّه له من ذلك ما لم يُبحه لأحد من أمته‏.‏

وكان يقسم بينهن في المبيت والإِيواء والنفقة، وأما المحبة فكان يقول‏:‏ ‏(‏اللَّهُمَ هذا قَسْمِي فِيمَا أَمْلِكُ، فَلاَ تَلُمْنِي فِيمَا لاَ أَمْلِكُ‏)‏ فقيل‏:‏ هو الحب والجماع، ولا تجب التسوية في ذلك، لأنه مما لا يُملك‏.‏

وهل كان القَسْمُ واجباً عليه، أو كان له معاشرتهن من غير قسم‏؟‏ على قولين للفقهاء‏.‏

فهو أكثر الأمة نساءً، قال ابن عباس‏:‏ تزوجوا، فَإنّ خيرَ هذه الاُمةِ أكثرها نساء‏.‏

وطلق صلى الله عليه وسلم، وراجع، وآلى إيلاءً مؤقتاً بشهر، ولم يظاهر أبداً، وأخطأ من قال‏:‏ إنه ظاهر خطأً عظيماً، وإنما ذكرته هنا تنبيهاً على قبح خطئه ونسبته إلى ما برَّأه اللّه منه‏.‏

وكانت سيرته مع أزواجه حسنَ المعاشرة، وحسنَ الخلق‏.‏

وكان يُسَرِّبُ إلى عائشة بناتِ الأنصار يلعبن معها‏.‏ وكان إذا هويت شيئاً لا محذورَ فيه تابعها عليه، وكانت إذا شربت من الإِناء أخذه، فوضع فمه في موضع فمها وشرب، وكان إذا تعرقت عَرقاً - وهو العَظْمُ الذي عليه لحم - أخذه فوضع فمه موضع فمها، وكان يتكئ في حَجْرِها، ويقرأ القرآن ورأسه في حَجرِها، وربما كانت حائضاً، وكان يأمرها وهي حائض فَتَتَّزِرُ ثم يُباشرها، وكان يقبلها وهو صائم، وكان من لطفه وحسن خُلُقه مع أهله أنه يمكِّنها من اللعب، ويريها الحبشة وهم يلعبون في مسجده، وهي متكئة على منكبيه تنظر، وسابقها في السفر على الأقدام مرتين، وتدافعا في خروجهما من المنزل مرة‏.‏

وكان إذا أراد سفراً، أقرع بين نسائه، فأيتهنّ خرج سهمها، خرج بها معه، ولم يقضِ للبواقي شيئاً، وإلى هذا ذهب الجمهور‏.‏

وكان يقول‏:‏ ‏(‏خَيْرُكُمْ خَيْرُكُمْ لأَهْلِهِ، وَأَنَا خَيرُكُم لأهلي‏)‏‏.‏

وربما مد يده إلى بعض نسائه في حضرة باقيهن‏.‏

وكان إذا صلى العصر، دار على نسائه، فدنا منهن واستقرأ أحوالهن، فإذا جاء الليل، انقلب إلى بيت صاحبة النَّوبة، فخصها بالليل‏.‏ وقالت عائشة‏:‏ كان لا يُفَضِّلُ بَعْضَنَا عَلَى بَعضٍ في مُكْثِهِ عِنْدَهُنَّ في القَسمِ، وقلَّ يومٌ إلا كان يطوف علينا جميعاً، فيدنو من كل امرأة من غير مسيس حتى يبلغَ التي هو في نوبتها، فيبيت عندها‏.‏

وكان يقسم لثمان منهن دون التاسعة، ووقع في ‏(‏صحيح مسلم‏)‏ من قول عطاء أن التي لم يكن يقسم لها هي صفية بنت حيَيٍّ، وهو غلط مِن عطاء رحمه اللّه، وإنما هي سودة، فإنها لما كَبِرَت وهبت نوبتها لعائشة‏.‏

وكان صلى الله عليه وسلم يقسِم لعائشة يومها ويومَ سودة، وسبب هذا الوهم -والله أعلم- أنه كان قد وَجَدَ على صفيَّة في شيء، فقالت لعائشة‏:‏ هل لَكِ أن تُرضي رسول اللّه صلى الله عليه وسلم، وأَهبَ لَكِ يومي‏؟‏ قالت‏:‏ نعم، فقعدت عائشةُ إلى جنب النبي صلى الله عليه وسلم في يوم صفية، فقال‏:‏ ‏(‏إلَيْكِ عَنِّي يَا عَائِشَةُ، فَإنَّه لَيسَ يَومَكِ‏)‏ فقالَت‏:‏ ذَلِكَ فَضل اللَّهِ يُؤتيه من يَشاء وأخبرته بالخبرِ، فرضيَ عنها‏.‏ وإنما كانت وهبتها ذلك اليومَ وتلك النَّوبَة الخاصة، ويتعين ذلك، وإلا كان يكون القسم لسبع منهن، وهو خلاف الحديث الصحيح الذي لا ريب فيه أن القسم كان لثمانٍ، واللّه أعلم‏.‏ ولو اتفقت مثل هذه الواقعة لمن له أكثر من زوجتين، فوهبت إحداهن يومها للأخرى، فهل للزوج أن يُوالِيَ بين ليلة الموهوبة وليلتها الأصلية وإن لم تكن ليلة الواهبة تليها، أو يجب عليه أن يجعل ليلَتها هي الليلة التي كانت تستحقها الواهبة بعينها‏؟‏ على قولين في مذهب أحمد وغيره‏.‏

وكان صلى الله عليه وسلم يأتي أهلَه آخرَ الليل، وأوله، فَكَانَ إذا جامع أول الليل، ربما اغتسل ونام، وربما توضأ ونام‏.‏ وذكر أبو إسحاق السَّبيعي عن الأسود عن عائشة أنه كان ربما نام، ولم يمس ماء وهو غلط عند أئمة الحديث، وقد أشبعنا الكلام عليه في كتاب ‏(‏تهذيب سنن أبي داود‏)‏ وإيضاح علله ومشكلاته‏.‏

وكان يطوف على نسائه بغسل واحد، وربما اغتسل عند كل واحدة، فعل هذا وهذا‏.‏

وكان إذا سافر وَقَدِمَ، لم يطرُقْ أهله ليلاً، وكان ينهى عن ذلك‏.‏