فصل: فصل: في هديه صلى الله عليه وسلم في سجود القرآن

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: زاد المعاد في هدي خير العباد **


فصل

وكان رسولُ اللّه صلى الله عليه وسلم إذا صلى إلى الجِدار، جعل بينه وبينه قدر ممرِّ الشاة، ولم يكن يتباعَدُ منه، بل أمر بالقُرب من السُّترة، وكان إذا صلَّى إلى عُود أو عَمود أو شَجرة، جعله على حاجبه الأيمنِ أو الأيسر، ولم يَصْمُد له صمداً، وكان يَرْكُزُ الحَربة في السفر والبرِّيَّة، فيُصلي إليها، فتكون سترتَه، وكان يُعَرِّض راحلته، فيُصلي إليها، وكان يأخذُ الرحل فيَعْدِلُه فيصلي إلى آخِرتِه، وأمر المصلي أن يستترِ ولو بِسهم أو عصا، فإن لم يجد فليخطَّ خطاً في الارض، قال أبو داود سمعتُ أحمد بن حنبل يقول‏:‏ الخطُّ عرضاً مثلُ الهلال‏.‏وقال عبد اللّه‏:‏ الخط بالطول، وأما العصا، فتُنصب نصباً، فإن لم يكن سُترة، فإنه صح عنه أنه يقطع صلاتَه، ‏(‏المرأةُ والحِمارُ والكلبُ الأسودُ‏)‏‏.‏ وثبت ذلك عنه من رواية أبي ذر وأبي هُرَيْرَة، وابن عباس، وعبد اللّه بن مُغَفَّل‏.‏ ومعارِض هذه الأحاديث قسمان‏:‏ صحيح غير صريح، وصريح غير صحيح، فلا يترك العمل بها لمعارض هذا شأنه‏.‏ وكان رسول اللّه صلى الله عليه وسلم يصلي وعائشةُ رضي الله عنها نائمة في قبلته وكأنَّ ذلك ليس كالمَارِّ، فإن الرجل محرَّم عليه المرورُ بين يدي المصلي، ولا يُكره له أن يكون لابثاً بين يديه، وهكذا المرأةُ يقطع مرورُها الصلاةَ دون لُبثها، والله أعلم‏.‏

فصل‏:‏ في هديه صلى الله عليه وسلم في السنن الرواتب

كان صلى الله عليه وسلم يُحافظ على عشر ركعات في الحضر دائماً، وهى التي قال فيها ابن عمر‏:‏ ‏(‏حَفِظْتُ مِن النبي صلى الله عليه وسلم عشرَ ركعات‏:‏ ركعتين قبل الظُّهرِ، وركعتين بعدَها وركعتين بعد المغرب في بيته، وركعتينِ بعد العشاء في بيته، وركعتينِ قبلَ الصُّبح‏)‏‏.‏ فهذه لم يكن يدعُها في الحضر أبداً، ولما فاتته الركعتانِ بعد الظهر قضاهما بعد العصر، وداوم عليهما، لأنه صلى الله عليه وسلم كان إذا عَمِلَ عَملاً أثبته، وقضاء‏.‏ السنن الرواتب في أوقات النهى عام له ولأمته، وأما المداومة على تلك الركعتين في وقت النهي، فمختص به كما سيأتي تقريرُ ذلك في ذكر خصائصه إن شاء الله تعالى‏.‏ وكان يُصلِّي أحياناً قبلَ الظهر أربعاً، كما في ‏(‏صحيح البخاري‏)‏ عن عائشة رضي اللّه عنها أنه صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏كَانَ لاَ يَدَعُ أَرْبَعاً قَبْلَ الظُّهْر، وركعتين قبل الغداة‏)‏، فَإِمَّا أن يُقال‏:‏ إنه صلى الله عليه وسلم كان إذا صلَّى في بيته صَلّى أربعاً، وإذا صلَّى في المسجد صلَّى ركعتين، وهذا أظهر، وإِمَّا أن يُقال‏:‏ كان يفعلُ هذا، ويفعل هذا، فحكى كلٌّ عن عائشة وابن عمر ما شاهده، والحديثان صحيحان لا مطعن في واحد منهما‏.‏ وقد يُقال‏:‏ إن هذه الأربعَ لم تكن سنةَ الظهر، بل هي صلاةٌ مستقِلة كان يصليها بعد الزوال، كما ذكره الإِمام أحمد عن عبد اللّه بن السائب، أن رسولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كان يُصلي أربعاً بعد أن تزولَ الشمس، وقال‏:‏ ‏(‏إنَّهَا سَاعَةٌ تُفْتَحُ فِيهَا أَبْوَابُ السَّمَاءِ، فَأُحِبُّ أَنْ يَصْعَدَ لِي فِيهَا عَمَلٌ صَالح‏)‏‏.‏

وفي السنن أيضاً عن عائشةَ رضي اللّه عنها‏:‏ ‏(‏أن رسولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، كان إذا لم يُصلِّ أربعاً قبل الظهر، صلاهُنَّ بعدها‏)‏ وقال ابن ماجه‏:‏ ‏(‏كان رسولُ اللّه صلى الله عليه وسلم إذا فاتته الأربعُ قبل الظهر، صلاَّها بعد الركعتين بعد الظهر‏)‏ وفي التِّرمذي عن علي بن أبي طالب رضي اللّه عنه قال‏:‏ ‏(‏كان رسولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يصلي أربعاً قبل الظهر، وبعدها ركعتين‏)‏‏.‏ وذكر ابن ماجه أيضاً عن عائشة‏:‏ كانَ رسولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم ‏(‏يصلي أربعاً قبل الظهر، يطيل فِيهِنَّ القِيام، ويحسن فيهن الركوعَ والسجود‏)‏ فهذه- واللّه أعلم - هي الأربع التي أرادت عائشة أنه كان لا يدعهن وأما سنةُ الظهر، فالركعتان اللتانِ قال عبدُ اللّه بن عمر، يُوضح ذلك أن سائرَ الصلواتِ سنتُها ركعتانِ ركعتانِ، والفجرِ جمع كونها ركعتين، والناس في وقتها أفرغُ ما يكونون، ومع هذا سنتُها ركعتانِ، وعلى هذا، فتكونُ هذه الأربعُ التي قبل الظهر وِرداً مُستقِلاً سببُه انتصافُ النهار وزوالُ الشمس وكان عبدُ اللَّهِ بنُ مسعود يُصلي بعد الزوال ثمانَ ركعات، ويقول‏:‏ إنَّهنَّ يَعْدِلْنَ بمثلهن مِن قيامِ الليل وسِرُّ هذا - واللّه أعلم - أن انتصافَ النهار مقابِل لانتصاف الليل، وأبوابُ السماء تُفتح بعد زوال الشمس، ويحصلُ النزول الإلهِي بعد انتصاف الليل، فهما وقتا قرب ورحمة، هذا تُفتح فيه أبوابُ السماء، وهذا ينزِل فيه الربُّ تبارك وتعالى إلى سماء الدنيا‏.‏ وقد روى مسلم في ‏(‏صحيحه‏)‏ من حديث أمِّ حبيبة قالت‏:‏ سمعتُ رسولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يقول‏:‏ ‏(‏مَنْ صَلَّى في يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ ثِنتَيْ عَشْرَةَ رَكْعَة، بُنِيَ لَهُ بِهِنَّ بَيْت في الجَنَةِ‏)‏ وزاد النسائي والترمذي فيه‏:‏ ‏(‏أَرْبَعاً قَبْلَ الظُّهْرِ، وَرَكْعَتَيْنِ بعدها، وركعتينِ بعد المغرب، وركعتين بعد العشاء، وركعتين قبل صلاة الفجر‏)‏ قال النسائي‏:‏ ‏(‏وركعتين قبل العصر‏)‏ ‏(‏بدل‏)‏ ‏(‏وركعتين بعد العشاء‏)‏ وصححه الترمذي وذكر ابن ماجه عن عائشة ترفعه‏:‏ ‏(‏مَنْ ثَابَرَ عَلَى ثِنَتَيْ عَشْرَةَ رَكْعَةَ مِنْ السُّنَّةِ، بَنَى اللهُ لَهُ بَيْتاً فِي الجَنَّةِ‏:‏ أَرْبعاً قَبْلَ الظُّهْرِ، وَرَكْعَتَيْنِ بَعْدَها، وَرَكْعَتَيْنِ بَعْدَ المَغْرِبِ، وَرَكْعَتَيْنِ بَعْدَ العِشَاءِ، وَرَكْعَتَيْنِ قَبْلَ الْفَجْرِ‏)‏‏.‏ وذكر أيضاً عن أبي هُرَيْرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم نحوه وقال‏:‏ ‏(‏ركعتينِ قبل الفجر، وركعتينِ قبل الظهر، وركعتينِ بعدها، وركعتينِ أظنه قال‏:‏ قبل العصر، وركعتينِ بعد المغرب أظنه قال‏:‏ وركعتينِ بعد العشاء الآخرة‏)‏ وهذا التفسير، يحتَمِل أن يكونَ مِن كلام بعض الرواة مُدْرَجاً في الحديث، ويحتَمِلُ أن يكون من كلام النبي صلى الله عليه وسلم مرفوعاً، واللّه أعلم‏.‏

وأما الأربع قبل العصر، فلم يصحَّ عنه عليه السلام في فعلها شيء إلا حديثُ عاصم بن ضمرة عن علي الحديث الطويل، أنه صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏كان يُصلي في النهار ست عشرة ركعة، يُصلي إذا كانت الشمس من هاهنا كَهَيْئَتِهَا من هاهنا لصلاة الظهر أربعَ ركعات، وكان يُصلِّي قبل الظهر أربعَ ركعات، وبعد الظهر ركعتين، وقبل العصر أربعَ ركعات‏)‏ وفي لفظ‏:‏ كان إذا زالتِ الشمس مِن هاهنا كَهَيْئَتِهَا من هاهنا عند العصر، صلَّى ركعتين، وإذا كانت الشمسُ من هاهنا كَهَيْئَتِهَا من هاهنا عند الظهر، صلَّى أربعاً، ويُصلي قبل الظهر أربعاً وبعدها ركعتين، وقبل العصر أربعاً، ويفصل بين كل ركعتين بالتسليم على الملائكة المقربين ومن تبعهم من المؤمنين والمسلمين‏)‏‏.‏ وسمعتُ شيخ الإِسلام ابن تيمية يُنكر هذا الحديث ويدفعه جداً، ويقول‏:‏ إنه موضوع‏.‏ ويذكر عن أبي إسحاق الجُوزجاني إنكاره‏.‏ وقد روى أحمد، وأبو داود، والترمذي من حديث ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:‏ ‏(‏رَحِمَ اللَّهُ امرءاً صَلَّى قَبْلَ الْعَصْرِ أَرْبَعاً‏)‏‏.‏ وقد اختلف في هذا الحديث، فصححه ابن حبان، وعلله غيرُه، قال ابنُ أبي حاتم‏:‏ سمعت أبي يقول‏:‏ سألت أبا الوليد الطيالسي عن حديث محمد بن مسلم بن المثنى عن أبيه عن ابن عمر، عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏رَحِمَ اللَّهُ امرءاً صَلًى قَبْلَ الْعَصْرِ أَرْبعاً‏)‏‏.‏ فقال‏:‏ دع هذا‏.‏ فقلت‏:‏ إن أبا داود قد رواه، فقال‏:‏ قال أبو الوليد‏:‏ كان ابن عمر يقول‏:‏ ‏(‏حفظتُ عن النبي صلى الله عليه وسلم عشرَ ركعاتٍ في اليوم والليلة‏)‏، فلو كان هذا لعدَّه‏.‏ قال أبي‏:‏ كان يقول‏:‏ ‏(‏حَفِظَتُ ثنتي عشرةَ ركعةَ‏)‏‏.‏ وهذا ليس بعلة أصلاً فإن ابن عمر إنما أخبر بما حفظه من فعل النبي صلى الله عليه وسلم، لم يُخبر عن غير ذلك،‏.‏ تنافي بين الحديثين البتة‏.‏

وأما الركعتان قبل المغرب، فإنه لم يُنقل عنه صلى الله عليه وسلم أنه كان يُصليهما، و عنه أنه أَقرَّ أصحابه عليهما، وكان يراهم يصلونهما، فلم يأمرهم ولم ينههم، وفى ‏(‏الصحيحين‏)‏ عن عبد اللّه المُزني، عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:‏ ‏(‏صلُوا قَبْلَ المَغْرِبِ صلُّوا قَبلَ المَغْرِبِ‏)‏ قال في الثَّالِثَةِ‏:‏ ‏(‏لِمَنْ شَاءَ كَرَاهَةَ أن يتخذها الناسُ سنة‏)‏ وهذا هو الصوابُ في هاتين الركعتين، أنهما مُسْتَحبَّتَانِ مندوبٌ إليهما، وليستا راتبة كسائر السنن الرواتب‏.‏

وكان يُصلي عامةَ السنن، والتطوع الذي لا سبب له في بيته، لا سيما المغرب، فإنه لم يُنقل عنه أنه فعلها في المسجد البتة‏.‏

وقال الإِمام أحمد في رواية حنبل‏:‏ السنة أن يُصليَ الرجلُ الركعتينِ‏.‏ المغرب في بيته، كذا رُويَ عن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه‏.‏ قال السائب بن يزيد‏:‏ رأيتُ الناس في زمن عمر بن الخطاب، إذا انصرفوا من المغرب، انصرفوا‏.‏ حتى لا يَبقى في المسجد أحد، كأنهم لا يُصلون بعد المغرب حتى يصيروا إلى أهليهم انتهى كلامه‏.‏ فإن صلَّى الركعتين في المسجد، فهل يجزئ عنه، وتقع موقعها‏؟‏ اختلف قولُه، فروى عنه ابنُه عبد اللّه أنه قال‏:‏ بلغني عن رجل سماه أنه قال‏:‏ لو أن رجلاً صلَّى الركعتين بعد المغرب في المسجد ما أجزأه‏؟‏ فقال‏:‏ ما أحسنَ ما قال هذا الرجلُ، وما أجودَ ما انتزع، قال أبو حفص‏:‏ ووجهه أمر النبي صلى الله عليه وسلم بهذه الصلاة في البيوت‏.‏ وقال المروزي‏:‏ من صلى ركعتين بعد المغرب في المسجد يكون عاصياً، قال‏:‏ ما أعرف هذا، قلتُ له‏:‏ يُحكى عن أبي ثور أنه قال‏:‏ هو عاص‏.‏ قال‏:‏ لعله ذهب إلى قول النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏اجْعَلُوهَا فِي بُيُوتِكُمْ‏)‏‏.‏ قال أبو حفص‏:‏ ووجهُه أنه لو صَلَّى الفرضَ في البيت، وترك المسجد، أجزأه، فكذلك السنة انتهى كلامه وليس هذا وجهَه عند أحمد رحمه اللّه، وانما وجهُه أن السنن لا يُشترط لها مكان معين، ولا جماعة، فيجوزُ فعلها في البيت والمسجد، واللّه أعلم‏.‏

وفي سنة المغرب سنتان، إحداهما‏:‏ أنه لا يُفصل بينها وبين المغرب بكلام، قال أحمد رحمه اللّه في رواية الميموني والمروزي‏:‏ يستحب ألا يكون قبل الركعتين بعد المغرب إلى أن يُصَلِّيَهما كلامٌ وقال الحسن بن محمد‏:‏ رأيت أحمد إذا سلم من صلاة المغرب، قام ولم يتكلم، ولم يركع في المسجد قبل أن يدخل الدار، قال أبو حفص‏:‏ ووجهه قول مكحول‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏مَن صَلَّى رَكْعَتَيْنِ بَعْدَ المَغْرِبِ قَبلَ أَنْ يَتكَلَّمَ، رُفِعَتْ صَلاته فِي عِلِّيِّينَ‏)‏، ولأنه يتصل النفل بالفرض، انتهى كلامه‏.‏

والسنة الثانية‏:‏ أن تفعل في البيت، فقد روى النسائي، وأبو داود، والتِّرمذي من حديث كعب بن عُجرة، أن النبي صلى الله عليه وسلم أتى مسجدَ بني عبد الأشهل، فصلَّى فيه المغربَ، فلما قَضَوْا صَلاتهم رآهم يُسَبِّحُونَ بعدها فقال‏:‏ ‏(‏هَذِهِ صَلاة الْبُيُوتِ‏)‏‏.‏ ورواه ابن ماجه من حديث رافع بن خديج، وقال فيها‏:‏ ‏(‏ارْكَعُوا هَاتَيْنِ الرَكْعَتَيْنِ فِي بُيُوتِكُم‏)‏‏.‏

والمقصود، أن هدي النبي صلى الله عليه وسلم، فعل عامة السنن والتطوع في بيته كما في الصحيح عن ابن عمر‏:‏ حَفِظْتُ عن النبي صلى الله عليه وسلم عشرَ ركعات‏:‏ ركعتين قبلَ الظُّهر، وركعتينِ بعدها، وركعتين بعد المغرب في بيته، وركعتين بعد العشاء في بيته، وركعتين قبل صلاة الصبح‏.‏

وفي ‏(‏صحيح مسلم‏)‏ عن عائشة رضي اللّه عنها قالت‏:‏ كان النبي صلى الله عليه وسلم يُصلي في بيتي أربعاً قبل الظهر، ثم يخرج فيُصلي بالناس، ثم يدخُل فيُصلي ركعتين، وكان يُصلي بالناس المغرب، ثم يدخل فيُصلي ركعتين، ويُصلي، بالناس العشاء، ثم يدخل بيتي فيُصلي ركعتين‏.‏ وكذلك المحفوظ عنه في سنة الفجر، إنما كان يُصليها في بيته كما قالت حفصة وفي ‏(‏الصحيحين‏)‏ عن ابن عمر، أنه صلى الله عليه وسلم كان يُصلي ركعتينِ بعد الجُمُعة في بيته وسيأتي الكلام على ذكر سنة الجمعة بعدها والصلاة قبلَها، عند ذكر هديه في الجمعة إن شاء اللّه تعالى، وهو مُوافِق لقوله في‏:‏ ‏(‏أَيُّهَا النَّاسُ صَلُّوا في بُيُوتِكُمْ، فَإِنَّ أَفْضَلَ صَلاَةِ المَرْءِ في بَيْتِه إِلاَّ المَكْتُوبَةَ‏)‏‏.‏ وكان هديُ النبي صلى الله عليه وسلم و فعلَ السنن، والتطوع في البيت إِلا لِعارض، كما أن هديَه كان فِعلَ الفرائض في المسجد إِلا لِعارض من سفر، أو مرض، أو غيره مما يمنعُه من المسجد، وكان تعاهده ومحافظته على سنة الفجر أشدَّ مِن جميع النوافل‏.‏

ولذلك لم يكن يدعُها هي والوترَ سفراً وحضراً، وكان في السفر يُواظب على سنة الفجر والوتر أشدَّ مِن جميع النوافل دون سائر السنن، ولم يُنقل عنه في السفر أنه صلى الله عليه وسلم صَلَّى سنة راتبة غيرَهما، ولذلك كان ابن عمر لا يزيد على ركعتين ويقول‏:‏ سافرتُ مع رسول اللّه صلى الله عليه وسلم، ومع أبي بكر، وعمر رضي اللّه عنهما، فكانوا لا يزيدون في السفر على ركعتين، وهذا وإن احتمل أنهم لم يكونوا يربِّعون، إلا أنهم لم يُصلوا السنة، لكن قد ثبت عن ابن عمر أنه سئل عن سنة الظهر في السفر، فقال‏:‏ لو كنتُ مُسَبِّحا لأتممتُ، وهذا من فقهه رضي اللّه عنه، فإن اللّه سُبحانه وتعالى خفَّف عن المسافر في الرباعية شطرَها، فلو شرع له الركعتانِ قبلها أو بعدها، لكان الإِتمام أولى به‏.‏

وقد اختلف الفقهاءُ‏:‏ أيُّ الصلاتين آكدُ، سنة الفجر أو الوتر‏؟‏ قولين‏:‏ ولا يمكن الترجيحُ باختلاف الفقهاء في وجوب الوتر، فقد اختلفوا أيضاً في وجوب سنة الفجر، وسمعت شيخَ الإِسلام ابن تيمية يقول‏:‏ سنة الفجر تجري مجرى بداية العمل، والوتر خاتمته‏.‏ ولذلك كان النبي صلى الله عليه وسلم يصلى سنة الفجر والوتر بسورتي الإِخلاص، وهما الجامعتان لتوحيدِ العلم والعمل، وتوحيدِ المعرفة والإِرادة، وتوحيدِ الاعتقادِ والقصد، انتهى‏.‏

فسورة ‏{‏قُلْ هُوَ اللهُ أَحَد‏}‏‏:‏ متضمنة لتوحيد الاعتقاد والمعرفة، وما يجب إثباته للرَب تعالى من الأَحَدِيَّةِ المنافية لمطلق المشاركة بوجه من الوجوه، والصمديَّة المثبتة له جميع صفات الكمال التي لا يلحقها نقصّ بوجه من الوجوه، ونفي الولد والوالد الذي هو من لوزام الصمدية، وغناه وَأَحَديَّته ونفي الكفء المتضمِّن لخفي التشبيه والتمثيل والتنظير، فتضمنت هذه السورة إثباتَ كل كمال له، ونفي كل نقص عنه، ونفيَ إثبات شبيه أو مثيل له في كماله، ونفي مطلق الشريك عنه، وهذه الأصول هي مجامع التوحيد العلمي الاعتقاد في الذي يُباين صاحبُه جميعَ فرق الضلال والشرك، ولذلك كانت تَعْدِل ثلثَ القرآن، فإن القرآن مدارُه على الخبر والإِنشاء، والإِنشاء ثلاثة‏:‏ أمر، ونهي، وإباحة‏.‏ والخبر نوعان‏:‏ خبر عن الخالق تعالى وأسمائه وصفاته وأحكامه، وخبر عن خلقه‏.‏ فأخلصت سورة ‏{‏قل هو الله أحد‏}‏ الخبرَ عنه، وعن أسمائه، وِصفاته، فعدلت ثلثَ القرآن، وخلَّصت قارئها المؤمنَ بها من الشرك العلمى، كما خلَّصت سورة ‏{‏قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُون‏}‏ من الشرك العملي الإِرادي القصدي‏.‏ ولما كان العلم قبل العمل وهو إمامُه وقائدُه وسائقُه، والحاكُم عليه ومنزله منازِله، كانت سورة ‏{‏قُل هُوَ اللَّهُ أَحَد‏}‏ تعدِل ثلثَ القران‏.‏ والأحاديث بذلك تكاد تبلغ مبلغ التواتر، و‏{‏قل يا أيها الكافرون‏}‏، تعدِل ربع القرآن، والحديث بذلك في الترمذي من رواية ابن عباس رضي اللّه عنهما يرفعه‏:‏ ‏(‏إِذَا زُلْزِلَتْ تَعْدِلُ نِصْفَ القُرآنِ، وَقُل هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ، تَعدِلُ ثُلُثَ القُرْآنِ، وَقُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ، تَعْدِلُ رُبُعَ الْقُرْآنِ‏)‏‏.‏ رواه الحاكم في ‏(‏المستدرك‏)‏ وقال‏:‏ صحيح الإِسناد‏.‏

ولما كان الشرك العملي الإِرادي اغلبَ على النفوس لأجل متابعتها هواها، وكثيرٌ منها ترتكبه مع علمها بمضرَّته وبطلانِه، لِمَا لهَا فيه من نيل الأغراض، وإزالتُه، وقلعُه منها أصعبُ، وأشدّ من قلع الشرك العلمي وإزالته، لأن هذا يزول بالعلم والحُجَّة، ولا يمكن صاحبُه أن يعلم الشىء على غير ما هو عليه، بخلاف شرك الإِرادة والقصد، فإن صاحبه يرتكِب ما يدله العلم على بطلانه وضرره لأجل غلبة هواه، واستيلاء سُلطان الشهوة والغضب على نفسه، فجاء من التأكيد والتكرار في سورة ‏{‏قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُون‏}‏ المتضمنة لإِزالة الشرك العملي، ما لم يجىء مثلُه في سورة ‏{‏قُل هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ‏}‏، ولما كان القرآن شطرين‏:‏ شطراً في الدنيا وأحكامِها، ومتعلقاتِها، والأمورِ الواقعة فيها من أفعال المكلفين وغيرها، وشطراً في الآخرة وما يقع فيها، وكانت سورة ‏{‏إِذَا زُلْزِلَتْ‏}‏ قد أُخْلِصت من أولها وآخرها لهذا الشطر، فلم يذكر فيها إلا الآخرة‏.‏ وما يكون فيها من أحوال الأرض وسُكَّانها، كانت تَعدِلُ نصفَ القرآن، فأحرى بهذا الحديث أن يكون صحيحاً - واللّه أعلم - ولهذا كان يقرأ بهاتين السورتين في ركعتي الطواف، ولأنهما سورتا الإِخلاص والتوحيد، كان يفتتح بهما عمل النهار، ويختمها بهما، ويقرأ بهما في الحج الذي هو شعار التوحيد‏.‏

فصل

وكان صلى الله عليه وسلم يضطجع بعد سنة الفجر على شِقه الأيمن، هذا الذي ثبت عنه في ‏(‏الصحيحين‏)‏ من حديث عائشة رضي اللّه عنها وذكر الترمذي من حديث أبي هريرة رضي اللّه عنه، عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:‏ ‏(‏إِذَا صَلَّى أَحَدُكُمُ الرَّكْعَتَيْنِ قَبْلَ الصُّبحِ، فَلْيَضْطَجعْ عَلَى جَنْبِهِ الأَيْمَنِ‏)‏ قال الترمذي‏:‏ حديث حسن غريب‏.‏ وسمعت ابن تيمية يقول‏:‏ هذا باطل، وليس بصحيح، وإنما الصحيح عنه الفعل لا الأمرُ بها، والأمر تفرد به عبد الواحد بن زياد وغلط فيه، وأما ابن حزم ومن تابعه، فإنهم يوجبون هذه الضجعة، ويُبطل ابن حزم صلاةَ من لم يضجعها بهذا الحديثِ، وهذا مما تفرد به عن الأمة، ورأيت مجلداً لبعض أصحابه قد نصر فيه هذا المذهب‏.‏ وقد ذكر عبد الرزَّاق في ‏(‏المصنف‏)‏ عن معمر، عن أيوب، عن ابن سيرين، أن أبا موسى، ورافعَ بن خَديج، وأنسَ بن مالك رضي اللّه عنهم، كانوا يضطجعون بعد ركعتي الفجر، ويأمرون بذلك، وذكر عن معمر، عن أيوب، عن نافع، أن ابن عمر كان لا يفعله، ويقول‏:‏ كفانا بالتسليم‏.‏ وذكر عن ابن جريج‏:‏ أخبرني من أصدق أن عائشة رضي اللّه عنها كانت تقول‏:‏ ‏(‏إن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن يضطجع لسنة، ولكنه كان يدأَبُ ليله فيستريح‏)‏‏.‏ قال‏:‏ وكان ابنُ عمر يَحصِبُهم إذا رآهم يضطجعون على أيمانهم‏.‏ وذكر ابن أبي شيبة عن أبي الصِّدِّيق الناجي، أن ابن عمر رأى قوماً اضطجعوا بعد ركعتي الفجر، فأرسل إليهم فنهاهم، فقالوا‏:‏ نريد بذلك السنة، فقال ابنُ عمر‏:‏ ارجع إليهم وأخبرهم أنها بدعة‏.‏ وقال أبو مِجلز‏:‏ سألتُ ابن عمر عنها فقال‏:‏ يلعبُ بكم الشَّيطانُ‏.‏ قال ابنُ عمر رضي اللّه عنه‏:‏ ما بالُ الرجل إذا صَلَّى الركعتين يفعل كما يفعل الحمار إذا تمعَّك‏.‏

وقد غلا في هذه الضجعة طائفتان، وتوسط فيها طائفةّ ثالثة، فأوجبها جماعة من أهل الظاهر، وأبطلوا الصلاةَ بتركها كابن حزم ومن وافقه، وكرهها جماعة من الفقهاء، وسموها بدعة، وتوسط فيها مالك وغيره، فلم يروا بها بأساً لمن فعلها راحة، وكرهوها لمن فعلها استناناً، واستحبها طائفة على الإِطلاق، سواء استراح بها أم لا، واحتجوا بحديث أبي هريرة‏.‏ والذين كرهوها، مِنهم مَن احتج بآثار الصحابة كابن عمر وغيره، حيث كان يحصبُ مَن فعلها، ومنهم من أنكر فعل النبي صلى الله عليه وسلم لها، وقال‏:‏ الصحيح أن اضطجاعه كان بعد الوتر، وقبل ركعتي الفجر، كما هو مصرح به في حديث ابن عباس قال‏:‏ وأما حديثُ عائشة، فاختلف على ابن شهاب فيه، فقال مالك عنه‏:‏ فإذا فرغ يعني من الليل، اضطجع على شِقه الأيمن حتى يأتيه المؤذن فصلي ركعتين خفيفتين وهذا صريح أن الضجعة قبل سنة الفجر، وقال غيرُه عن ابن شهاب‏:‏ فإذا سكت المؤذن من أذان الفجر، وتبين له الفجرُ، وجاءه المؤذن، قام فركع ركعتين خفيفتين، ثم اضطجع على شقه الأيمن‏.‏ قالوا‏:‏ وإذا اختلف أصحاب ابن شهاب فالقول ما قاله مالك، لأنه أثبتُهم فيه وأحفظُهم‏.‏ وقال الآخرون‏:‏بل الصواب هذا مع من خالف مالكاً، وقال أبو بكر الخطيب‏:‏ روى مالك عن الزهري، عروة، عن عائشة‏:‏ كان رسولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يصلي من الليل إحدى عشرة ركعة، يوتر منها بواحدة، فإذا فرغ منها، اضطجع على شِقه الأيمن حتى يأتيه المؤذن، ‏(‏ركعتين خفيفتين‏)‏‏.‏ وخالف مالكاً، عقيلٌ، ويونس، وشعيب، وابنُ أبي ذئب‏.‏ والأوزاعي، وغيرهم، فرووا عن الزهري، أن النبي صلى الله عليه وسلم، كان يركع الركعتين للفجر، ثم يضطجع على شقه الأيمن حتى يأتيه المؤذن، فيخرج معه فذكر ما أن اضطجاعه كان قبل ركعتي الفجر وفي حديث الجماعة، أنه اضطجع بعد فحكم العلماء أن مالكاً أخطأ وأصاب غيره، انتهى كلامه‏.‏

وقال أبو طالب‏:‏ قلتُ لأحمد‏:‏ حدثنا أبو الصلت، عن أبي كُدَينة،عن سهيل بن أبي صالح عن أبيه، عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم، أنه اضطجع بعد ركعتي الفجر، قال‏:‏ شعبة لا يرفعه، قلتُ‏:‏ فإن لم يضطجع عليه شيء‏؟‏ قال‏:‏ لا، عائشة ترويه وابن عمر ينكره‏.‏ قال الخلال‏:‏ وأنبأنا المروزي أن أبا عبد اللّه قال‏:‏ حديثُ أبي هريرة ليس بذاك‏.‏ قلت‏:‏ إن الأعمش يُحدث به عن أبي صالح، عن أبي هريرة‏.‏ قال‏:‏ عبد الواحد وحده يُحدث به‏.‏ وقال إبراهيم بن الحارث‏:‏ إن أبا عبد اللّه سئل عن الاضطجاع بعد ركعتي الفجر قال‏:‏ ما أفعلُه، وإن فعله رجل، فحسن‏.‏ انتهى‏.‏ فلو كان حديث عبد الواحد بن زياد، عن الأعمش، عن أبي صالح صحيحاً عنده، لكان أقلُّ درجاته عنده الاستحبابَ، وقد تقال‏:‏ إن عائشة رضي اللّه عنها روت هذا، وروت هذا، فكان يفعلُ هذا تارة، وهذا تارة، فليس في ذلك خلاف، فإنه من المباح، والله أعلم‏.‏

وفي اضطجاعه على شِقه الأيمن سر، وهو أن القلب معلَّق في الجانب الأيسر، فإذا نام الرجل على الجنب الأيسر، استثقل نوماً، لأنه يكون في دَعة واستراحة، فيثقل نومه، فإذا نام على شِقه الأيمن، فإنه يقلق ولا يستغرق في النوم، لقلق القلب، وطلبه مستقره، وميله إليه، ولهذا استحب الأطباء النوم على الجانب الأيسر لكمال الراحة وطيب المنام، وصاحب الشرع يستحب النوم على الجانب الأيمن، لئلا يثقل نومه فينام عن قيام الليل، فالنوم على الجانب الأيمن أنفعُ للقلب، وعلى الجانب الأيسر أنفع للبدن، واللّه أعلم‏.‏

فصل‏:‏ في هديه صلى الله عليه وسلم في قيام الليل

قد اختلف السلفُ والخلف في أنه‏:‏ هل كان فرضاً عليه أم لا‏؟‏ والطائفتان احتجوا بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَمِنَ الْلَيْلِ فَتَهَجَّد بِهِ نَافِلَةً لَكَ‏}‏ ‏[‏الإِسراء‏:‏ 79‏]‏ قالوا‏:‏ فهذا صريح في عدم الوجوب، قال الآخرون‏.‏ أمره بالتهجد في هذه السورة، كما أمره في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏يَأَيُّهَا المزَّمِّلُ قُمِ الْلَّيْلَ إِلاَّ قَلِيلاً‏}‏ ‏[‏المزمل‏:‏1‏]‏ ولم يجىء ما ينسخُه عنه، وأما قولُه تعالى‏:‏ ‏{‏نَافِلَةً لَكَ‏}‏ فلو كان المرادُ به التطوعَ، لم يخصه بكونه نافلة له، وإنما المراد بالنافلة الزيادة، ومطلقُ الزيادة لا يدل على التطوع، قال تعالى‏:‏ ‏{‏وَوَهَبنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقوبَ نَافِلَةً‏}‏ ‏[‏الأنبياء‏:‏ 72‏]‏، أى زيادة على الولد، وكذلك النافلة في تهجد النبي صلى الله عليه وسلم زيادة في درجاته، وفي أجره ولهذا خصه بها، فإن قيامَ الليل في حق غيره مباحٌ، ومكفِّر للسيئات، وأما النبي صلى الله عليه وسلم، فقد غَفَرَ اللَّهُ له ما تقدم مِن ذنبه وما تأخر، فهو يعمل في زيادة الدرجات وعلو المراتب، وغيره يعمل في التكفير‏.‏ قال مجاهد‏:‏ إنما كان نافلةً للنبي صلى الله عليه وسلم، لأنه قد غُفِرَ له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، فكانت طاعته نافلة، أي‏:‏ وزيادة في الثواب، ولغيره كفارة لذنوبه، قال ابن المنذر في تفسيره‏:‏ حدثنا يعلى بن أبي عبيد، حدثنا الحجاج، عن ابن جريج، عن عبد اللّه بن كثير، عن، مجاهد قال‏:‏ ما سوى المكتوبة، فهو نافلة مِن أجل أنه لا يعمل في كفارة الذنوب، وليست للناس نوافل، إنما هي للنبي صلى الله عليه وسلم خاصة، والناس جميعاً يعملون ما سوى المكتوبة لذنوبهم في كفارتها‏.‏

حدثنا محمد بنُ نصر، حدثنا عبد اللّه، حدثنا عمرو، عن سعيد وقبيصة، عن سفيان، عن أبي عثمان، عن الحسن في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَة لَكَ‏}‏ ‏[‏الإسراء‏:‏ 79‏]‏، قال‏:‏ لا تكون نافلة الليل إلا للنبى صلى الله عليه وسلم‏.‏ وذكر عن الضحاك، قال‏:‏ نافلة للنبى صلى الله عليه وسلم خاصة‏.‏

وذكر سُليم بن حيان، حدثنا أبو غالب، حدثنا أبو أمامة، قال‏:‏ إذا وضعتَ الطهورَ مواضعه، قمتَ مغفوراً لك، فإن قمتَ تصلي، كانت لك فضيلةً وأجراً، فقال رجل‏:‏ يا أبا أمامة، أرأيت إن قام يصلي تكون له نافلة‏؟‏ قال‏:‏ لا، إنما النافلةُ للنبي صلى الله عليه وسلم، فكيف يكون له نافلة، وهو يسعى في الذنوب والخطايا‏؟‏‏!‏ تكون له فضيلة وأجراً قلتُ‏:‏ والمقصودُ أن النافلة في الآية، لم يُرد بها ما يجوز فعلُه وتركه، كالمستحب، والمندوب، وإنما المراد بها الزيادة في الدرجات، وهذا قدر مشترك بين الفرض والمستحب، فلا يكون قوله‏:‏ ‏{‏نافلة لك‏}‏ نافياً لما دلَّ عليه الأمر من الوجوب، وسيأتي مزيدُ بيان لهذه المسألة إن شاء اللّه تعالى، عند ذكر خصائص النبي صلى الله عليه وسلم‏.‏

ولم يكن صلى الله عليه وسلم يدع قيامَ الليل حضراً ولا سفراً، وكان إذا غلبه نوم أو وجع، صلى من النهار ثنتي عشرة ركعة‏.‏ فسمعت شيخ الإِسلام ابن تيمية يقول‏:‏ في هذا دليل على أن الوتر لا يُقض لفوات محله، فهو كتحية المسجد، وصلاةِ الكسوف والاستسقاءِ ونحوها، لأن المقصودَ به أن يكون آخرُ صلاة الليل وتراً، كما أن المغرب آخر صلاة النهار، فإذا انقضى الليل وصليت الصبح، لم يقع الوتر موقعَه‏.‏ هذا معنى كلامه‏.‏ وقد روى أبو داود، وابن ماجه من حديث أبي سعيد الخُدري، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏مَنْ نَامَ عَنِ الوِتْرِ أَوْ نَسِيه، فَلْيُصَلِّه إذا أصبَحَ أَو ذَكَرَ‏)‏ ولكن لهذا الحديث عدة علل‏.‏

أحدُها‏:‏ أنه من رواية عبد الرحمن بن زيد بن أسلم وهو ضعيف‏.‏

الثاني‏:‏ أن الصحيح فيه أنه مرسل له عن أبيه، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال الترمذي‏.‏ هذا أصح، يعني المرسل‏.‏

الثالث‏:‏ أن ابن ماجه حكى عن محمد بن يحيى بعد أن روى حديث أبي سعيد‏:‏ الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏أَوْتِرُوا قَبْلَ أَن تصْبِحُوا‏)‏‏.‏ قال‏:‏ فهذا الحديث دليل على أن حديث عبد الرحمن واهٍ‏.‏

وكان قيامُه صلى الله عليه وسلم بالليل إحدى عشرة ركعة، أو ثلاثَ عشرة، كما قال ابن عباس وعائشة، فإنه ثبت عنهما هذا وهذا، ففي ‏(‏الصحيحين‏)‏ عنها‏:‏ ما كان رسولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يزيد في رمضان ولا غيره على إحدى عشرة ركعة‏.‏ وفى ‏(‏الصحيحين‏)‏ عنها أيضاً، كان رسول اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يُصلي من الليل ثلاثَ عشر‏.‏ ركعة، يُوتر من ذلك بخمس، لا يجلس في شيء إلا في آخِرِهِن والصحيح عن عائشة الأول‏:‏ والركعتان فوق الإِحدى عشرة هما ركعتا الفجر، جاء ذلك مبيناً عنها في هذا الحديث بعينه، كان رسول اللّه صلى الله عليه وسلم يُصلي ثلاث عشرة ركعة بركعتي الفجر، ذكره مسلم في ‏(‏صحيحه‏)‏‏.‏ وقال البخاري‏:‏ في هذا الحديث‏:‏ كان رسول اللّه صلى الله عليه وسلم يُصلي بالليل ثلاثَ عشرة ركعة، ثم يُصلي إذا سمع النداء بالفجر ركعتين خفيفتين وفي ‏(‏الصحيحين‏)‏ عن القاسم بن محمد قال‏:‏ سمعتُ عائشة رضي اللّه عنها تقول‏:‏ كانت صلاةُ رسول الله صلى الله عليه وسلم من الليل عشرَ ركعات، ويُوتر بسجدة، ويركع ركعتي الفجر، وذلك ثلاثَ عشرة ركعة، فهذا مفسر مبين‏.‏

وأما ابنُ عباس، فقد اختلف عليه، ففي ‏(‏الصحيحين‏)‏ عن أبي جمرة عنه‏:‏ كانت صلاةُ رسولِ اللّه صلى الله عليه وسلم ثلاثَ عشرة ركعةً يعني بالليل لكن قد جاء عنه هذا مفسراً أنها بركعتي الفجر‏.‏ قال الشعبي‏:‏ سألتُ عبد اللّه بن عباس، وعبد اللّه بن عمر رضي اللّه عنهما، عن صلاةِ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم بالليل، فقالا‏:‏ ثلاثَ ركعات ركعة، منها ثمان، ويُوتر بثلاث، وركعتين قبل صلاة الفجر‏.‏ وفي ‏(‏الصحيحين‏)‏ عن كُريب عنه، في قصة مبيته عند خالته ميمونة بنت الحارث، أنه صلى الله عليه وسلم صلَّى ثلاث عشرة ركعة، ثم نام حتى نفخ، فلما تبيَّن له الفجرُ، صلَّى ركعتين خفيفتينِ وفي لفظ‏:‏ فصلَّى ركعتين، ثم ركعتين، ثم ركعتين، ثم ركعتين، ثم ركعتين، ثم ركعتين، ثم أوتر ثم اضطجع حتى جاءه المؤذِّنُ‏.‏ فقام فصلَّى ركعتين خفيفتين، ثم خرج يُصلي الصبح‏.‏ فقد حصل الاتفاقُ على إحدى عشرة ركعة‏.‏

واختلف في الركعتين الأخيرتين هل هما ركعتا الفجر أو هما غيرهما‏.‏ فإذا انضاف ذلك إلى عدد ركعات الفرض والسنن الراتبة التي كان يُحافظ عليها، جاء مجموعُ ورده الراتب بالليل والنهار أربعين ركعة، كان يُحافظ عليها دائماً سبعة عشر فرضاً، وعشر ركعات، أو ثنتا عشرة سنة راتبة، وإحدى عشرة، أو ثلاث عشرة ركعة قيامه بالليل، والمجموع أربعون ركعة، وما زاد على ذلك، فعارض غيرُ راتب، كصلاة الفتح ثمان ركعات، وصلاة الضحى إذا قَدِمَ من سفر، وصلاته عند من يزوره، وتحية المسجد ونحو ذلك، فينبغي للعبد أن يُواظب على هذا الورد دائماً إلى الممات، فما أسرع الإِجابة وأعجل فتح الباب لمن يقرعُه كلَّ يوم وليلة أربعين مرة‏.‏ واللّه المستعان‏.‏

فصل‏:‏ في سياق صلاته صلى الله عليه وسلم بالليل ووتره وذكر صلاة أول الليل‏.‏

قالت عائشةُ رضي اللّه عنها‏:‏ ما صلَّى رسولُ اللّه صلى الله عليه وسلم العِشاء قطُّ فدخل علي، إلا صلَّى أربع ركعات، أو ست ركعات، ثم يأوي إلى فراشه‏.‏

وقال ابن عباس لما بات عنده‏:‏ صلَّى العِشاء، ثم جَاء، ثُمَّ صلَى، ثم نام ذكرهما أبو داود‏.‏ وكان إذا استيقظ، بدأ بالسواك، ثم يذكُر الله تعالى، وقد تقدم ذكرهما كان يقوله عند استيقاظه، ثم يتطهر، ثم يُصلى ركعتين خفيفتين، كما في ‏(‏صحيح مسلم‏)‏، عن عائشة قالت‏:‏ كان رسولُ اللّه صلى الله عليه وسلم إذا قام من الليل، افتتح صلاتَه بركعتينِ خفيفتين وأمر بذلك في حديث أبي هريرة رضي اللّه عنه قال‏:‏ ‏(‏إذا قام أحدُكم مِن الليل، فليفتَتح صلاتَه بركعتين خفيفتين‏)‏ ‏(‏رواه مسلم‏)‏ وكان يقومُ تارة إذا انتصف الليلُ، أو قبله بقليل، أو بعدَه بقليل، وربما كان يقوم إذا سمع الصارِخَ وهو الدِّيكُ وهو إنما يصيح في النصف الثاني، وكان يقطع ورده تارة، ويصله تارة وهو الأكثر، ويقطعه كما قال ابن عباس في حديث مبيته عنده، أنه صلى الله عليه وسلم استيقظ، فتسوَّك، وتوضأ، وهو يقول‏:‏ ‏{‏إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ والأَرْضِ وَاخْتِلاَفِ الْلَّيْلِ وَالنَّهَارِ لآيَاتٍ لأُولي الألبَاب‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 190‏]‏ فقرأ هؤلاء الآيات حتى ختم السورة، ثم قام فصلَّى ركعتين أطال فيهما القيامَ والركوع والسجودَ، ثم انصرف، فنام حتى نفخ، ثم فعل ذلك ثلاثَ مرات بست ركعات كل ذلك يَستاك ويتوضأ، ويقرأ هؤلاء الآيات، ثم أوتر بثلاث، فأَذن المؤذِّن‏؟‏ فخرج إلى الصلاة وهو يقول‏:‏ ‏(‏اللَّهُمَّ اجْعَلْ في قَلبي نُوراً، وَفِي لِسَانِي‏.‏ وَاجْعَلْ في سَمْعِي نُوراً، وَاجعَل في بَصَرِي نُوراً، وَاجْعَلْ مِنْ خَلْفِي نُوراَ، ومن أَمَامِي نُوراً، وَاجْعَل مِنْ فَوْقِي نُوراً، وَمِنْ تَحْتِي نُوراُ، اللَّهُمَّ أَعْطِني نوراً‏)‏ رواه مسلم‏.‏ ولم يذكر ابنُ عباس افتتاحَه بركعتين خفيفتين كما ذكرته عائشة، أنه كان يفعل هذا تارة، وهذا تارة، وَإِمَّا أن تكون عائشةُ حفظت ما لم يحفظ بن عباس، وهو الأظهر لملازمتها له، ولمراعاتها ذلك، ولكونها أعلمَ الخلق‏.‏ بقيامه بالليل، وابنُ عباس إنما شاهده ليلة المبيت عند خالته، وإذا اختلف ابنُ عباس وعائشة في شيء من أمر قيامِه بالليل، فالقولُ ما قالت عائشة‏.‏

وكان قيامُه بالليل ووِترُه أنواعاً، فمِنها هذا الذي ذكره ابن عباس‏.‏

النوع الثاني‏:‏ الذي ذكرته عائشة، أنه كان يفتتح صلاته بركعتين‏.‏ ثم يُتمم ورده إحدى عشرة ركعة، يُسلم من كل ركعتين ويوتر بركعة‏.‏

النوع الثالث‏:‏ ثلاث عشرة ركعة كذلك‏.‏

النوع الرابع‏:‏ يُصلي ثمانَ ركعات، يُسلم من كل ركعتين، ثم يُوتر‏.‏ سرداً متوالية، لا يجلس في شيء إلا في آخرهن‏.‏

النوع الخامس‏:‏ تسع ركعات، يسرُد منهن ثمانياً لا يجلِس في شيء إلا في الثامنة، يجلِس يذكر اللّه تعالى ويحمده ويدعوه، ثم ينهض ولا يسلم، ثم يُصلي التاسعة، يسلم ثم يقعد، ويتشهد، ويُسلِّم، ثم يُصلي ركعتين جالساً بعدما يسلم‏.‏

النوع السادس‏:‏ يُصلي سبعاً كالتسع لمذكورة، ثم يُصلي بعدها ركعتين جالساً‏.‏

النوع السابع‏:‏ أنه كان يُصلي مَثنى مَثنى، ثم يُوتر بثلاث لا يفصِل بينهن فهذا رواه الإِمام أحمد رحمه اللّه عن عائشة، أنه كان يُوتِر بثلاث لا فصل فيهن وروى النسائي عنها‏:‏ كان لا يُسلم في ركعتي الوتر وهذه الصفة فيها نظر، فقد روى أبو حاتم بن حبان في ‏(‏صحيحه‏)‏ عن أبي هريرة، النبى صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏لا تُوتِرُوا بِثَلاَثٍ، أَوْتِرُوا بِخَمسٍ أَوْ سَبْعٍ، وَلاَ تَشَبَّهُوا بِصَلاةِ المَغرِبِ‏)‏‏.‏ قال الدارقطني‏:‏ رواته كلهم ثقات، قال مهنا‏:‏ سألتُ أبا عبد اللّه‏:‏ إلى أي شيء تذهب في الوتر، تُسلم في الركعتين‏؟‏ قال‏:‏ نعم‏.‏ قلتُ‏:‏ لأَي شيء‏؟‏ قال‏:‏ لأن الأحاديث فيه أقوى وأكثر عن النبي صلى الله عليه وسلم في الركعتين‏.‏ الزهري، عن عروة، عن عائشة، أن النبي صلى الله عليه وسلم، سلم من الركعتين وقال حرب‏:‏ سئل أحمد عن الوتر‏؟‏ قال‏:‏ في الركعتين‏.‏ وإن لم يسلم، رجوت ألا يضرَّه، إلا أن التسليم أثبتُ عن النبي صلى الله عليه وسلم، وقال أبو طالب‏:‏ سألتُ أبا عبد اللّه‏:‏ إلى أي حديث تذهب في، الوتر‏؟‏ قال‏:‏ أذهب إليها كلِّها‏:‏ مَنْ صلَّى خمساً لا يجلس إلا في آخرهن، ومن صلَّى سبعاً لا يجلس إلا في آخرهن، وقد روي فَي حديث زرارة عن عائشة‏:‏ يُوتر بتسع يجلَس في الثامنة قال‏:‏ ولكن أكثر الحديث وأقواه ركعة، فأنا أذهبُ إليهاَ‏.‏ قلت‏:‏ ابن مسعود يقول‏:‏ ثلاث، قال‏:‏ نعم، قد عاب على سعد ركعة، فقال له سعد أيضاً شيئاً يرد عليه‏.‏

النوع الثامن‏:‏ ما رواه النسائي، عن حُذيفة، أنه صلَّى مع النبي صلى الله عليه وسلم في رمضان، فركع، فقال في ركوعه‏:‏ ‏(‏سُبْحَانَ رَبيَ الْعَظيمِ‏)‏ مثل ما كان قائماً، ثم جلس يقول‏:‏ ‏(‏رَبِّ اغفرْ لي، رَبِّ اغْفِرْ لي‏)‏ مثلَ مَا كان قائماً‏.‏ ثم سجد، فقال‏:‏ ‏(‏سُبْحَانَ رَبِّيَ الأَعْلًى‏)‏ مثلَ ما كان قائماً، فما صلَّى إلا أربع ركعات حتى جاء بلال يدعوه إلى الغداة، وأوتر أوّل الليل، ووسطه، وآخرَه‏.‏ وقام ليلة تامة بآية يتلوها ويردِّدُها حتى الصباح وهي‏:‏ ‏{‏إنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُم عِبَادُكَ‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 118‏]‏‏.‏

وكانت صلاته بالليل ثلاثةَ أنواع

أحدها - وهو أكثرها‏:‏ صلاته قائماً

الثاني‏:‏ أنه كان يُصلي قاعداً، ويركع قاعداً

الثالث‏:‏ أنه كان يقرأ قاعداً، فإذا بقي يسيرٌ مِن قراءته، قام فركع قائماً، والأنواع الثلاثة صحت عنه‏.‏

وأما صفة جلوسه في محل القيام، ففي ‏(‏سنن النسائي‏)‏، عن عبد اللّه بن شقيق، عن عائشة قالت‏:‏ رأيتُ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم يصلي متربِّعاً قال النسائي‏:‏ لا أعلم أحداً روى هذا الحديثَ غيرَ أبي داود، يعني الحفري، وأبو داود ثقة، ولا أحسب إلا أن هذا الحديث خطأ واللّه أعلم‏.‏

فصل

وقد ثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه كان يصلي بعد الوتر ركعتين جالساً تارة، وتارة يقرأ فيهما جالساً، فإذا أراد أن يركع، قام فركع، وفي ‏(‏صحيح مسلم‏)‏ عن أبي سَلَمة قال‏:‏ سألتُ عائشة رضي اللّه عنها عن صلاة رسولِ اللّه صلى الله عليه وسلم، فقالت‏:‏ كان يُصلي ثلاثَ عشرة ركعةً، يُصلي ثمانَ ركعات، ثم يُوتِر، ثم يُصلي ركعتين وهو جالس، فإذا أراد أن يركع، قام فركع، ثم يُصلي ركعتين بين النداءِ والإِقامةِ مِن صلاة الصبح وفي ‏(‏المسند‏)‏ عن أم سلمة، أن النبي صلى الله عليه وسلم، كان يُصلي بعد الوتر ركعتين خفيفتين وهو جالس وقال الترمذي‏:‏ روي نحوُ هذا عن عائشة، وأبي أمامة، وغيرِ واحدٍ عن النبي صلى الله عليه وسلم‏.‏

وفي ‏(‏المسند‏)‏ عن أبي أمامة، أن رسول اللّه صلى الله عليه وسلم، كان يُصلي ركعتين بعد الوتر وهو جالس، يقرأ فيهما بـ‏{‏إِذَا زُلزِلَت‏}‏ و ‏{‏قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ‏}‏‏.‏

وروى الدارقطني نحوَه من حديث أنس رضي اللّه عنه‏.‏

وقد أشكل هذا على كثير من الناس، فظنوه معارضاً، لقوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏اجْعَلُوا آخِرَ صَلاَتِكُم بِالْلَّيْلِ وِتْراً‏)‏‏.‏ وأنكر مالك رحمه اللّه هاتين الركعتين، وقال أحمد‏:‏ لا أفعله ولا أمنعُ مَنْ فعله، قال‏:‏ وأنكره مالك وقالت طائفة‏:‏ إنما فعل هاتين الركعتين، ليبين جوازَ الصلاة بعد الوتر، وأن فعله لا يقطع التنفُّل، وحملوا قولُه‏:‏ ‏(‏اجْعَلُوا آخِرَ صَلاَتِكُم بِالْلَّيْلِ وِتْراً‏)‏ على الاستحباب، وصلاة الركعتين بعده على الجواز‏.‏

والصواب‏:‏ أن يقال‏:‏ إن هاتين الركعتين تجريان مجرى السنة، وتكميل الوتر، فإن الوترَ عبادة مستقلة، ولا سيما إن قيل بوجوبه، فتجري الركعتان بعده‏.‏ مجرى سنة المغربِ مِن المغرب، فإنها وِتر النهار، والركعتان بعدها تكميل لها، فكذلك الركعتان بعد وتر الليل، واللّه أعلم‏.‏

فصل

ولم يُحفظ عنه صلى الله عليه وسلم أنه قنت في الوتر، إلا في حديث رواه ابن ماجه، عن علي بن ميمون الرَّقي، حدثنا مخلد بن يزيد، عن سفيان، عن زُبيد اليامي، عن سعيد بن عبد الرحمن بن أبزى، عن أبيه، عن أبي بن كعب، أن رسول اللّه صلى الله عليه وسلم كان يُوتر فيقنُت قبل الركوع وقال أحمد في رواية ابنه عبد اللّه‏:‏ أختار القنوت بعد الركوع، إنَّ كُلَّ شيء ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم في القنوت، إنما هو في الفجر لمَا رفع رأسه من الركوع، وقنوت الوتر أختارُه بعد الركوع، ولم يصحَّ عن النبي صلى الله عليه وسلم في قنوت الوتر قبلُ أو بعدُ شيء‏.‏ وقال الخلاَّل‏:‏ أخبرني محمد بن يحيى الكحال، أنه قال لأبي عبد اللّه في القنوت في الوتر‏؟‏ فقال‏:‏ ليس يُروى فيه عن النبي صلى الله عليه وسلم شيء، ولكن كان عمر يقنُت من السنة إلى السنة‏.‏

وقد روى أحمد وأهل ‏(‏السنن‏)‏ من حديث الحسن بن علي رضي الله عنهما قال‏:‏ علَّمني رسول اللّه صلى الله عليه وسلم كلماتٍ أقولهن في الوتر‏:‏ ‏(‏اللَّهُمَّ اهْدِنِي فِيمَنْ هَدَيْتَ، وَعَافِني فِيمَنْ عَافَيْتَ، وَتَولَّنِي فِيمَنْ تَوَلَّيْتَ، وَبَارِك لِي فِيمَا أَعْطَيْتَ، وَقِنِي شَرَّ مَا قضَيْتَ، إِنَّكَ تَقْضِي وَلاَ يُقْضَى عَلَيْكَ، إِنَّهُ لاَ يَذِلُّ مَنْ وَاَليْتَ، تَبَارَكْتَ رَبَّنَا وَتَعَالَيْتَ‏)‏ زاد البيهقي والنسائي‏:‏ ‏(‏وَلاَ يَعِزُّ من عَادَيْتَ‏)‏‏.‏

وزاد النسائي في روايته‏:‏ ‏(‏وَصَلَّى اللَّهُ عَلَى النَبيّ‏)‏

وزاد الحاكم في ‏(‏المستدرك‏)‏ وقال‏:‏ ‏(‏علَّمني رسولُ اللّه صلى الله عليه وسلم في وتري إذا رفعت رأسي ولم يبق إلا السجود‏)‏‏.‏ ورواه ابن حبان في ‏(‏صحيحه‏)‏ ولفظه سمعتُ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم يدعو‏.‏

قال الترمذي‏:‏ وفي الباب عن علي رضي اللّه عنه، وهذا حديث لا نعرِفُه إلا مِن هذا الوجه من حديث أبي الحوراء السعدي، واسمه ربيعة بن شيبان، ولا نعرف عن النبي صلى الله عليه وسلم في القنوت في الوتر شيئاً أحسنَ مِن هذا انتهى‏.‏

والقنوت في الوتر محفوظ عن عمر، وابن مسعود، والرواية عنهم أصح من القنوت في الفجر، والروايةُ عن النبي صلى الله عليه وسلم في قنوت الفجر، أصح الرواية في قنوت الوتر‏.‏ واللّه أعلم‏.‏

وقد روى أبو داود والترمذي والنسائي من حديث عليّ بن أبي طالب رضي اللّه عنه، أن رسول اللّه صلى الله عليه وسلم - كان يقول في آخر وتره‏:‏ ‏(‏اللَّهُمَّ إنّي أعوذ بِرِضَاكَ مِن سَخَطِكَ، وَبِمُعَافَاتِكَ مِنْ عُقُوبَتِكَ، وَأَعُوذُ بِكَ مِنكَ لاَ أُحْصِي ثَناءً عَلَيْكَ أَنْتَ كَمَا أَثْنَيْتَ عَلَى نَفْسِكَ‏)‏‏.‏ وهذا يحتمِل، أنه قبل فراغه منه وبعده، وفي إحدى الروايات عن النسائي‏:‏ كان يقولُ إِذَا فَرَغَ مِنْ صَلاته، وتبوَّأَ مضجعه، وفي هذه الرواية‏:‏ ‏(‏لاَ أُحْصِي ثنَاءً عَلَيْكَ وَلَوْ حَرَصْتُ‏)‏ وثبت عنه صلى الله عليه وسلم- أنه قال ذلك في السجود، فلعله قاله في الصلاة وبعدها‏.‏ وذكر الحاكم في ‏(‏المستدرك‏)‏ من حديث ابن عباس رضي اللّه عنهما، في صلاة النبي صلى الله عليه وسلم، ووتره‏:‏ ثم أوتر، فلما قضى صلاته، سمعته يقول‏:‏ ‏(‏اللَّهُمَّ اجعَلْ في قَلْبي نُوّراً، وَفي بَصَرِي نُوراً، وفي سَمْعِي نُوراً، وَعَنْ يَمِينِي نُوراً، وَعَنْ شِمَالِي نُوراً، وَفَوقِي نُوراً، وَتَحْتِي نُوراً، وَأَمَامِي نُوراً، وَخَلْفِي نُورا، وَاجْعَل لِي يَوْمَ لِقَائِكَ نُوراً‏)‏‏.‏ قال كُريب‏:‏ وسبع في القنوت، فلقيتُ رجلاً مِن ولد العباس، فحدثني بهن، فذكر‏:‏ ‏(‏لَحْمِي وَدَمِي، وَعَصَبي وَشَعْرِي وَبَشَرِي‏)‏، وذكر خصلتين، وفي رواية النسائي في هذا الحديث، وكان يقولُ في سجوده وفي رواية لمسلم في هذا الحديث‏:‏ فخرج إلى الصلاة يعني صلاة الصبح، وهو يقول‏.‏‏.‏‏.‏ فذكر هذا الدعاء، وفي رواية له أيضاً، ‏(‏وفي لِسَاني نُوراً وَاجْعَلْ في نَفْسِي نُوراً، وَأَعْظِمْ لِي نُوراً‏)‏، وفي رواية له، ‏(‏وَاجْعَلْني نُورا‏)‏‏.‏

وذكر أبو داود، والنسائي من حديث أبي بن كعب، قال‏:‏ ‏(‏كان رسول اللّه صلى الله عليه وسلم يقرأ في الوتر، ‏{‏سبح اسم ربك الأعلى‏}‏ و ‏{‏قل يا أيها الكافرون‏}‏ و ‏{‏قل هو اللَّهُ أحد‏}‏، فإذا سلم قال‏:‏ ‏(‏سُبْحَانَ المَلِكِ القُدُوس ثَلاَثَ مَرَّاتٍ، يَمدُّ بها صَوْتَهُ في الثَّالِثَةِ ويرفع‏)‏‏.‏ وهذا لفظ النسائي‏.‏ زاد الدارقطني ‏(‏رَبِّ المَلاَئِكَةِ وَالرُّوح‏)‏‏.‏

وكان صلى الله عليه وسلم يقَطِّعُ قراءتَه، ويقِفُ عِندَ كُلِّ آيَةٍ فيقول‏:‏ ‏(‏الحَمْدُ للِه رَبِّ العَالَمِين، ويقِف‏:‏ الرَّحمنِ الرَّحِيم، ويقِفُ‏:‏ مَالِك يَوْمِ الدِّين‏)‏‏.‏

وذكر الزهري أن قراءة رسول الله صلى الله عليه وسلم كانت آية آية، وهذا هو الأفضل، الوقوفُ على رؤوس الآيات وإن تعلقت بما بعدها، وذهب بعضُ القراء إلى تتبع الأغراض والمقاصد، والوقوف عند انتهائها، واتباعُ هدي النبي صلى الله عليه وسلم وسنته أولى‏.‏ وممّن ذكر ذلك البيهقى في ‏(‏شعب الإِيمان‏)‏ وغيره، ورجح الوقوف على رؤوس الآي وإن تعلقت بما بعدها‏.‏

وكان صلى الله عليه وسلم يُرتِّل السورة حتى تكون أطولَ مِنْ أَطْوَلِ منها، وقام بآَية يُرَدِّدُهَا حتى الصباح‏.‏

وقد اختلف الناسُ في الأفضل من الترتيل وقلة القراءة، كثرة القراءة‏:‏ أيهما أفضل‏؟‏ على قولين‏.‏

فذهب ابنُ مسعود وابن عباس رضي اللّه عنهما وغيرُهما إلى أن الترتيلَ والتدبر مع قلة القراءة أفضلُ مِن سرعة القراءة مع كثرتها‏.‏ واحتج أربابُ هذا القول بأن المقصود من القراءة فهمُه وتدبُّره، والفقهُ فيه والعملُ به، وتلاوتُه وحفظُه وسيلة إلى معانيه، كما قال بعض السلف‏:‏ نزل القرآن لِيعمَل به، فاتخذوا تلاوته عملاً، ولهذا كان أهلُ القرآن هم العالِمون به، والعاملون بما فيه، وإن لم يحفظوه عن ظهر قلب وأما من حفظه ولم يفهمه ولم يعمل بما فيه، فليس مِن أهله وإن أقام حروفه إقامةَ السهم‏.‏

قالوا‏:‏ ولأن الإِيمان أفضلُ الأعمال، وفهم القرآن وتدبُّره هو الذي يُثمر الإِيمان، وأما مجردُ التلاوة من غير فهم ولا تدبر، فيفعلها البرُّ والفاجرُ، والمؤمن والمنافق، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏وَمَثَلُ المُنَافِقِ الَّذِي يَقرَأُ الْقُرْانَ، كَمَثَلِ الرَّيْحَانَةِ، رِيحُهَا طَيِّبٌ، وَطَعْمُهَا مُرٌّ‏)‏‏.‏

والناس في هذا أربع طبقات‏:‏ أهلُ القرآن والإِيمان، وهم أفضل الناس‏.‏ والثانية‏:‏ من عَدِم القرآن والإِيمان‏.‏ الثالثة‏:‏ من أوتي قرآناً، ولم يُؤت إيماناً، الرابعة‏:‏ من أوتي إيماناً ولم يُؤت قرآناً‏.‏

قالوا‏:‏ فكما أن من أوتي إيماناً بلا قرآن أفضلُ ممن أوتي قرآناً بلا إيمان، فكذلك من أوتي تدبراً، وفهماً في التلاوة أفضل ممن أوتي كثرة قراءة وسرعتها بلا تدبر‏.‏ قالوا‏:‏ وهذا هديُ النبي صلى الله عليه وسلم، فإنه كان يرتِّل السورة حتى تكون أطولَ من أطول منها، وقام بآية حتى الصباح‏.‏

وقال أصحابُ الشافعي رحمه اللّه‏:‏ كثرة القراءة أفضلُ، واحتجوا بحديث ابن مسعود رضي اللّه عنه قال‏:‏ قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏مَنْ قَرَأَ حَرْفاً مِنْ كِتَابِ اللَّهِ، فَلَهُ بِهِ حَسَنَةٌ، وَالْحَسَنَةُ بِعَشْرِ أَمْثَالِهَا، لاَ أَقُولُ الم حَرْف، وَلَكِنْ أَلِف حَرْفٌ، وَلاَمٌ حَرْفٌ، وَمِيمٌ حَرْفٌ‏)‏‏.‏ رواه الترمذي‏.‏ وصححه‏.‏

قالوا‏:‏ ولأن عثمان بن عفان قرأَ القرآن في ركعة، وذكروا آثاراً عن كثير من السلف في كثرة القراءة‏.‏

والصواب في المسألة أن يُقال‏:‏ إن ثواب قراءة الترتيل والتدبر أجلُّ وأرفعُ قدراً، وثوابَ كثرة القراءة أكثرُ عدداً، فالأول‏:‏ كمن تصدَّق بجوهرة عظيمة، أو أعتق عبداً قيمتُه نفيسة جداً، والثاني‏:‏ كمن تصدَّق بعدد كثير من الدراهم، أو أعتق عدداً من العبيد قيمتُهم رخيصة، وفي ‏(‏صحيح البخاري‏)‏ عن قتادة قال‏:‏ سألت أنساً عن قراءة النبي صلى الله عليه وسلم، فقال‏:‏ ‏(‏كان يمدُّ مدًّا‏)‏‏.‏

وقال شعبة‏:‏ حدثنا أبو جمرة، قال‏:‏ قلت لابن عباس‏:‏ إني رجل سريعُ القِراءة، وربما قرأتُ القرآن في ليلة مرة أو مرتين، فقال ابنُ عباس‏:‏ لأن أقرأ سورةَ واحدة أعجبُ إِلَيَّ من أن أفعل ذَلِكَ الذي تفعل، فإن كنت فاعلاً ولا بد، فاقرأ قِراءَةً تُسْمعُ أُذُنَيْك، وَيعيها قلبُك‏.‏

وقال إبراهيم‏:‏ قرأ علقمةُ على ابن مسعود، وكان حسنَ الصوت، فقال‏:‏ رتِّل فِداك أبي وأمي، فإنه زينُ القرآن‏.‏

وقال ابن مسعود‏:‏ لاَ تَهُذُّوا القُرْآنَ هَذَّ الشِّعْرِ، وَلاَ تَنْثُرُوه نَثْرَ الدَّقَل، وَقِفُوا عِنْدَ عَجَائبِهِ، وَحَرِّكُوا بِهِ القُلُوبَ، وَلاَ يَكُنْ هَمُّ أَحَدِكُمْ آخِرَ السُّورَةِ‏.‏

وقال عبد اللّه أيضاً‏:‏ إذا سمعتَ اللّه يقول‏:‏ ‏{‏يَأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا‏}‏ فأصغِ لها سمعك، فإنه خيرٌ تُؤمر به، أو شرٌّ تُصرف عنه‏.‏ وقال عبد الرحمن بن أبي ليلى‏:‏ دخلت عليَّ امرأة وأنا أقرأُ ‏(‏سورةَ هُود‏)‏ فقالت‏:‏ يا عبد الرحمن‏:‏ هكذا تقرأ سورة هود‏؟‏‏!‏ واللّه إني فيها منذ ستةِ أشهر وما فرغتُ مِن قراءتها‏.‏

وكان رسولُ اللّه صلى الله عليه وسلم يُسرُ بالقراءة في صلاة الليل تارة، ويجهر بها تارة، ويُطيل القيام تارة، ويخفِّفه تارة، ويُوتر آخر الليل - وهو الأكثر - وأوَّله تارة، وأوسطَه تارة‏.‏

وكان يُصلي التطوع بالليل والنهار على راحلته في السفر قِبَلَ أي جهة توجهت به، فيركع ويسجد عليها إيماءً، ويجعل سجودَه أخفضَ مِن ركوعه، وقد روى أحمد وأبو داود عن أنس بن مالك، قال‏:‏ ‏(‏كانَ رسولُ اللّه صلى الله عليه وسلم إذا أراد أن يُصلي على راحلته تطوعاً، استقبل القبلة، فكبر للصلاة، ثم خلّى عن راحلته، ثم صلَّى أينما توجهت به‏)‏ فاختلف الرواة عن أحمد‏:‏ هل يلزمه أن يفعل ذلك إذا قدر عليه‏؟‏ على روايتين‏:‏ فإن أمكنه الاستدارةُ إلى القبلة في صلاته كلِّها مِثلَ أن يكون في مَحْمِل أو عمارية ونحوها، فهل يلزمه، أو يجوز له أن يُصلِّيَ حيث توجهت به الراحلةُ‏؟‏ فروى محمد بن الحكم عن أحمد فيمن صلَّى في مَحْمِلٍ‏:‏ أنه لا يُجزئُه إلا أن يستقبل القبلة، لأنه يمكنه أن يدور، وصاحب الراحلة والدابة لا يُمكنه‏.‏ وروى عنه أبو طالب أنه قال‏:‏ الاستدارةُ في المَحْمِلِ شديدة يُصلي حيث كان وجهه‏.‏ واختلفت الرواية عنه في السجود في المَحْمِلِ، فروى عنه ابنه عبد اللّه أنه قال‏:‏ وإن كان مَحْمِلاً فقدر أن يسجد في المَحْمِل، فيسجد‏.‏ وروى عنه الميموني، إذا صلَّى في المَحْمِلِ أحبُّ إليَّ أن يسجد، لأنه يمُكنه‏.‏ وروى عنه الفضل بن زياد‏:‏ يسجد في المَحْمِلِ إذا أمكنه وروى عنه جعفر بن محمد‏:‏ السجود على المِرْفَقَةِ إذا كان في المَحْمِلِ، وربما أسند على البعير، ولكن يُومىء ويجعل السجودَ أخفضَ مِن الركوع، وكذا روى عنه أبو داود‏.‏

فصل‏:‏ في هديه صلى الله عليه وسلم في صلاة الضحى

روى البخاري في ‏(‏صحيحه‏)‏ عن عائشة رضي اللّه عنها، قالت‏:‏ ما رأيتُ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم يُصلي سُبْحةَ الضحى، وإني لأُسبِّحُها‏.‏ وروى أيضاً من حديث مُوَرِّقٍ العِجلي، قلتُ لابن عمر‏:‏ أتُصلي الضحى‏؟‏ قال لا، قلتُ‏:‏ فَعُمَر‏؟‏ قال‏:‏ لا، قلتْ‏:‏ فأبو بكر‏؟‏ قال‏:‏ لا‏.‏ قلت‏:‏ فالنبيُّ صلى الله عليه وسلم‏؟‏ قال‏:‏ لا إخاله‏.‏

وذكر عن ابن أبي ليلى قال‏:‏ ما حدثنا أحد أنه رأى النبي صلى الله عليه وسلم يُصلي الضحى غيرَ أم هانىء، فإنها قالت‏:‏ إن النبي صلى الله عليه وسلم دخل بيتَها يومَ فتح مكة، فاغتسل، وصلَّى ثمانَ ركعات، فلم أرَّ صلاةً قطُّ أخفَ مِنها، غير أنهُ يُتم الركوعَ و السجود‏.‏

وفي ‏(‏صحيح مسلم‏)‏، عن عبد اللّه بن شقيق قال‏:‏ سألت عائشة هل كان رسولُ اللّه صلى الله عليه وسلم يُصلي الضحى‏؟‏ قالت‏:‏ لا إلا أن يَجيءَ مِن مغيبه‏.‏

قلتُ‏:‏ هل كان رسولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقْرُنُ بين السور‏؟‏ قالت‏:‏ مِن المفصل‏.‏

وفي ‏(‏صحيح مسلم‏)‏ عن عائشة، قالت‏:‏ كان رسولُ اللّه صلى الله عليه وسلم يُصلي الضحى أربعاً، ويزيد ما شاء اللّه وفي ‏(‏الصحيحين‏)‏ عن أم هانئ، أن رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم صلَّى يوم الفتح ثمان ركعات وذلك ضحى‏.‏

وقال الحاكم في ‏(‏المستدرك‏)‏‏:‏ حدثنا الأصم، حدثنا الصغاني، حدثنا ابن أبي مريم، حدثنا بكر بن مضر، حدثنا عمرو بن الحارث، عن بكر بن الأشج، عن الضحاك بن عبد اللّه، عن أنس رضي اللّه عنه قال‏:‏ رأيتُ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم صلى في سفر سُبْحةَ الضُّحى، صلَّى ثمانَ ركعات، فلما انصرف، قال‏:‏ ‏(‏إِنِّي صَلَّيْتُ صلاَةَ رَغْبَةٍ وَرَهْبَةٍ، فَسَأَلْتُ رَبِّي ثَلاَثاً، فَأَعْطَانِي اثْنَتَيْنِ، وَمَنَعَنِي وَاحِدَةً، سَأَلْتُهُ أَلاَ يَقْتُلَ أُمَّتِي بِالسِّنِينَ فَفَعَلَ، وسألتُه أَلاَّ يُظْهِرَ عَلَيْهِمْ عَدُوَّاً، فَفَعَلَ، وَسَأَلْتُهُ أَنْ لاَ يُلبسَهُمْ شِيَعاً فَأَبَى عَلَيَّ‏)‏‏.‏ قال الحاكم صحيح قلت‏:‏ الضحاك بن عبد اللّه هذا يُنظر من هو وما حاله‏؟‏

وقال الحاكم‏:‏ في كتاب ‏(‏فضل الضحى‏)‏‏:‏ حدثنا أبو بكر الفقيه، أخبرنا بشر بن يحيى، حدثنا محمد بن صالح الدولابي، حدثنا خالد بن عبد اللّه بن الحصين، عن هلال بن يساف، عن زاذان، عن عائشة رضي اللّه عنها قالت‏:‏ صلَّى رسولُ الله صلى الله عليه وسلم الضحى، ثم قال‏:‏ ‏(‏اللَّهُمَّ اغْفِرْ لي، وَارحَمْني، وَتُبْ عَلَيَّ إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ الغَفُورُ‏)‏ حتى قالها مائة مرة‏.‏

حدثنا أبو العباس الأصم، حدثنا أسد بن عاصم، حدثنا الحصين بن حفص، عن سُفيان، عن عمر بن ذر، عن مجاهد، أن رسول اللّه صلى الله عليه وسلم، صلَّى الضحى ركعتين، وأربعاً، وستاً وثمانياً

وقال الإِمام أحمد‏:‏ حدثنا أبو سعيد مولى بني هاشم، حدثنا عثمان بن عبد الملك العمري، حدثتنا عائشة بنت سعد، عن أم ذرة، قالت‏:‏ رأيتُ عائشة رضي اللّه عنها تُصلي الضُّحى وتقول‏:‏ ما رأيتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي إلا أربعَ ركعات‏.‏

وقال الحاكم أيضاً‏:‏ أخبرنا أبو أحمد بكر بن محمد المروزي، حدثنا أبو قِلابة، حدثنا أبو الوليد، حدثنا أبو عَوانة، عن حصين بن عبد الرحمن، عن عمرو بن مرة، عن عمارة بن عمير، عن ابن جبير بن مطعم، عن أبيه أنه رأى رسول اللّه صلى الله عليه وسلم يصلي صلاة الضحى‏.‏

قال الحاكم أيضاً‏:‏ حدثنا إسماعيل بن محمد، حدثنا محمد بن عدي بن كامل، حدثنا وهب بن بقية الواسطي، حدثنا خالد بن عبد اللّه، عن محمد بن قيس، عن جابر بن عبد اللّه، أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى الضُّحى ستَّ ركعات‏.‏

ثم روى الحاكم عن إسحاق بن بشير المحاملي، حدثنا عيسى بن موسى، عن جابر، عن عمر بن صبح، عن مقاتل بن حيان، عن مسلم بن صبيح، عن مسروق، عن عائشة وأم سلمة رضي اللّه عنهما، قالتا‏:‏ كان رسول اللّه صلى الله عليه وسلم يُصلي صلاة الضحى ثنتي عشرة ركعة، وذكر حديثاً طويلاً‏.‏

وقال الحاكم‏:‏ أخبرنا أبو أحمد بن محمد الصيرفي، حدثنا أبو قِلابة الرقاشي، حدثنا أبو الوليد، حدثنا شعبة، عن أبي إسحاق، عن عاصم بن ضُمرة، عن علي رضي اللّه عنه‏:‏ ‏(‏أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يُصلي الضحى‏)‏‏.‏

وبه إلى أبي الوليد‏.‏ حدثنا أبو عَوانة، عن حُصين بن عبد الرحمن، عن عمرو بن مرة، عن عِمارة بن عمير العبدي، عن ابن جبير بن مُطعم، عن أبيه، أنه رأى رسول اللّه صلى الله عليه وسلم يُصلي الضحى‏.‏ قال الحاكم‏:‏ وفي الباب عن أبي سعيد الخُدري، وأبي ذر الغِفاري، وزيد بن أرقم، وأبي هريرة، وبُريدة الأسلمي، وأبي الدرداء، وعبد اللّه بن أبي أوفى، وعِتبان بن مالك، وأنس بن مالك، وعُتبة بن عبد اللّه السلمي، ونعيم بن همَّار الغطفاني، وأبي أمامة الباهلي رضي اللّه عنهم، ومن النساء، عائشة بنت أبي بكر، وأم هانىء، وأم سلمة رضى اللّه عنهن، كلهم شهدوا أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يُصليها‏.‏

وذكر الطبراني من حديث علي، وأنس، وعائشة، وجابر، أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يُصلي الضحى ست ركعات‏.‏

فاختلف الناس في هذه الأحاديث على طرق، منهم من رجح رواية الفعل على الترك بأنها مثبتة تتضمن زيادةَ علم خفيت على النافي‏.‏ قالوا‏:‏ وقد يجوز أن يذهب علمُ مثل هذا على كثير من الناس، ويُوجد عند الأقل‏.‏ قالوا‏:‏ وقد أخبرت عائشة، وأنس، وجابر، وأم هانىء، وعليُّ بنُ أبي طالب، أنه صلاها‏.‏ قالوا‏:‏ ويؤيد هذا الأحاديثُ الصحيحة المتضمنةُ للوصية بها، والمحافظةِ عليها، ومدحِ فاعلها، والثناءِ عليه، ففي ‏(‏الصحيحين‏)‏ عن أبي هريرة رضي اللّه عنه قال‏:‏ أوصاني خليلي محمد بصيامِ ثلاثَةِ أيام مِن كل شهر، وركعتي الضحى، وأن أُوتِرَ قبل أن أنام‏.‏

وفي ‏(‏صحيح مسلم‏)‏ نحوه عن أبي الدرداء‏.‏

وفي ‏(‏صحيح مسلم‏)‏، عن أبي ذر يرفعه، قال‏:‏ ‏(‏يُصبِحُ عَلَى كُلِّ سُلاَمىَ مِن أَحَدِكُم صَدَقَةٌ، فَكُلُّ تَسبِيْحَةٍ صدَقَةٌ، وَكُلُّ تَحمِيْدَةٍ صَدَقَةٌ، وَكُلُّ تَهْلِيلَةٍ صَدَقَةٌ، وَكُلُّ تَكْبِيرَةٍ صَدَقَةٌ، وَأَمْرٌ بِالمَعْرُوفِ صَدَقَةٌ، وَنَهْيٌ عَنِ المُنْكَرِ صَدَقَةٌ، وتجْزِىءُ مِن ذَلِكَ رَكْعَتانِ يَرْكَعُهُمَا مِنَ الضحَى‏)‏‏.‏

وفي ‏(‏مسند الإِمام أحمد‏)‏، عن مُعاذ بن أنس الجُهَني، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم‏.‏ قال‏:‏ ‏(‏مَن قَعَدَ في مُصَلاَّهُ حينَ يَنْصَرِفُ مِنْ صَلاَةِ الصُّبْحِ حَتَّى يُسَبِّحَ رَكعتَي الضُّحى لا يقول إِلاَّ خَيراً، غَفَرَ الله خَطَايَاهُ وإِن كَانَتْ مِثْلَ زَبَدِ البحْرِ‏)‏‏.‏

وفي الترمذى، و‏(‏سنن ابن ماجه‏)‏ عن أبي هريرة رضي اللّه عنه، قال‏:‏ قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم ‏(‏مَن حَافَظَ على سُبْحَةِ الضُّحَى، غفِرَ لَهُ ذُنُوبُه وإِن كانَت مِثْلَ زَبَدِ البَحْرِ‏)‏‏.‏

وفي ‏(‏المسند‏)‏ والسنن، عن نعيم بن همَّار قال‏:‏ سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول ‏(‏قال اللّه عز وجل‏:‏ يا ابْنَ آدَمَ لاَ تَعْجزَنَّ عَنْ أَرْبعِ رَكَعاتٍ في أوَّلِ النَّهار أكفك آخِرَه‏)‏ رواه الترمذي من حديث أبي الدرداء، وأبي ذر‏.‏

وفي ‏(‏جامع الترمذي‏)‏ و‏(‏سنن ابن ماجه‏)‏، عن أنس مرفوعاً‏:‏ ‏(‏مَنْ صَلَّى الضُّحَى ثِنْتَيْ عَشْرَةَ رَكْعَةً، بَنَى اللَّهُ لَهُ قَصْراً مِن ذَهَبٍ في الجنة‏)‏‏.‏

وفي ‏(‏صحيح مسلم‏)‏، عن زيد بن أرقم أنه رأى قوماً يُصلون من الضحى في مسجد قُباء، فقال‏:‏ أما لقد عَلِموا أن الصلاة في غير هذه الساعة أفضلُ إنَّ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏صلاَةُ الأوَّابين حينَ تَرْمَض الفِصَالُ‏)‏‏.‏

وقوله‏:‏ ترمَضُ الفِصال، أي‏:‏ يشتد حر النهار، فتجد الفِصال حرارةَ الرمضاء‏.‏ وفي ‏(‏الصحيح‏)‏ أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى الضُّحى في بيت عِتبان بن مالك ركعتين‏.‏

وفي ‏(‏مستدرك‏)‏ الحاكم من حديث خالد بن عبد اللّه الواسطي، عن محمد بن عمرو، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة، أن رسول اللّه صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏لا يُحافِظُ عَلى صَلاةِ الضُّحَى إلا أَوَاب‏)‏ وقال‏:‏ ‏(‏هذا إسناد قد احتج بمثله مسلمُ بن الحجاج، وأنه حدث عن شيوخه، عن محمد بن عمرو، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة رضي اللّه عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم ‏(‏مَا أَذِنَ الله لِشَيء ما أَذِنَ لِنَبِيٍّ يَتَغَنَّى بِالقُرْآنِ‏)‏ قال‏:‏ ولعل قائلاً يقول‏:‏ قد أرسله حماد بن سلمة، وعبد العزيز بن محمد الدَّرَاوردي، عن محمد بن عمرو، فيقال له‏:‏ خالد بن عبد اللّه ثقة، والزيادة من الثقة مقبولة‏.‏

ثم روى الحاكم‏:‏ حدثنا عبدان بن يزيد، حدثنا محمد بن المغيرة السكري، حدثنا القاسم بن الحكم العرَني، حدثنا سليمان بن داود اليمامي، حدثنا يحيى بن أبي كثير، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة، قال‏:‏ قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏إِنَ لِلْجَنَّةِ باباً يُقالُ لَهُ بابُ الضُّحَى، فَإِذَا كَانَ يَوْم القِيَامَة نادَى مُنَادٍ‏:‏ أَيْنَ الَّذِينَ كانوا يُداوِمونَ عَلى صلاة الضحَى، هذا بابكم، فادْخُلُوه بِرَحْمَةِ اللهِ‏)‏‏.‏

وقال الترمذي في ‏(‏الجامع‏)‏‏:‏ حدثنا أبو كُريبٍ محمد بن العلاء، حدثنا يُونس بن بكير، عن محمد بن إسحاق، قال‏:‏ حدثني موسى بن فلان، عن عمه ثُمامة بن أنس بن مالك، عن أنس بن مالك، قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ‏(‏مَن صَلَّى الضّحَى ثِنْتَيْ عَشرَةَ رَكْعَةً، بَنَى اللَّهُ لَهُ قَصْراً مِنْ ذَهَبٍ في الجَنَّة‏)‏،‏.‏ قال الترمذي‏:‏ حديث غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه‏.‏ وكان أحمد يرى أصحَّ شيء في هذا الباب حديثَ أم هانئ‏.‏ قلت‏:‏ وموسى ابن فلان هذا، هو موسى بن عبد اللّه بن المثنى بن أنس بن مالك‏.‏

وفي ‏(‏جامعه‏)‏ أيضاً مِن حديث عَطية العَوْفي، عن أبي سعيد الخُدري، قال‏:‏ كانَ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم يصلي الضُّحَى حتى نقولَ‏:‏ لا يدعُها، ويدعُها حتى نقولَ‏:‏ لا يصليها‏.‏ قال‏:‏ هذا حديث حسن غريب‏.‏

وقال الإِمام أحمد في ‏(‏مسنده‏)‏ حدثنا أبو اليمان، حدثنا إسماعيل بن عياش، عن يحيى بن الحارث الذِّمَاريَ، عن القاسم، عن أبي أمامة، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال‏:‏ ‏(‏مَنْ مَشى إلى صَلاةٍ مكَتوبَةٍ وَهوَ مُتَطَهِّر، كانَ لَه كَأَجْرِ الحاجِّ المُحرِم، ومَنْ مَشى إلى سُبحَة الضُّحَى كَانَ لَهُ كَأَجْرِ المُعتَمِرِ، وَصَلاة عَلى إِثرِ صَلاة لاَ لَغْوَ بَيْنَهمَا كِتَابٌ في عِلِّيِين‏)‏ قال أبو أمامة‏:‏ الغدو والرواح إلى هذِهِ المَساجِدِ مِنَ الجِهادِ في سَبيلِ اللَّهِ عزّ وَجَلّ‏.‏

وقال الحاكم‏:‏ حدثنا أبو العباس، حدثنا محمد بن إسحاق الصغاني حدثنا أبو المورِّع محاضر بن المورِّع، حدثنا الأحوصُ بن حكيم، حدثني عبد اللّه بن عامر الألهاني، عن منيب بن عيينة بن عبد اللّه السّلمي، عن أبي أمامة، عن رسول اللّه صلى الله عليه وسلم أنه كان يقول‏:‏ ‏(‏مَن صَلَّى الصبحَ في مَسجِدِ جَمَاعَةٍ، ثمَّ ثبتَ فيهِ حَتَّى الضُّحَى، ثمَّ يُصلِّي سُبحَةَ الضُّحَى، كانَ لَهُ كَأَجرِ حاجٍّ أَوْ مُعْتَمِرٍ تَام لَهُ حَجَّتُه وَعُمرَتُه‏)‏‏.‏

وقال ابن أبي شيبة‏:‏ حدثني حاتم بن إسماعيل، عن حميد بن صخر، عن المقبُري، عن الأعرج، عن أبي هُريرة رضي اللّه عنه، قال‏:‏ بعث النبي صلى الله عليه وسلم جيشاً، فأعظموا الغنيمةَ، وأسرعوا الكَرَّة‏.‏ فقال رجل‏:‏ يا رسول اللّه ‏!‏ ما رأينا بعثاً قطُّ أسرعَ كرةً ولا أعظَمَ غنيمة من هذا البَعثِ، فقال‏:‏ ‏(‏أَلا أُخبِركُمْ بِأَسرَعَ كَرَّةً، وَأَعْظَمَ غَنيمَةً‏:‏ رَجُلٌ توضأَ في بَيتِهِ فَأَحْسَنَ وُضوءَه، ثَمَّ عَمَدَ إلى المَسجِد، فَصَلَّى فيهِ صَلاَةَ الغَداةِ، ثُمَّ أَعقَبَ بِصلاةِ الضّحَى، فَقَد أَرَعَ الكَرَةَ وَأعْظَمَ الغَنِيمَة‏)‏‏.‏

وفي الباب أحاديث سوى هذه، لكم هذه أمثلها قال الحاكم‏:‏ صحبتُ جماعةً من أئمة الحديث، فوجدتهم يختارون هذا العددَ، يعني أربعَ ركعات، ويُصلون هذه الصلاة أربعاً، لتواتر الأخبار الصحيحة فيه، وإليه أذهب، وإليه أدعو اتِّباعاَ للأخبار المأثورة، واقتداء بمشايخ الحديث فيه‏.‏

قال ابن جرير الطبري وقد ذكر الأخبارَ المرفوعةَ في صلاة الضحى، واختلاف عددها‏:‏ وليس في هذه الأحاديث حديثّ يدفع صاحبه، وذلك أن من حكى أنه صلى الضحى أربعاً جائز أن يكون رآه في حال فعلِه ذلك، ورآه غيرُه في حالٍ أخرى صلى ركعتين، ورآه آخرُ في حال أخرى صلاها ثمانياً، وسمعه آخر يحثّ على أن يُصلي ستاً، وآخر يحثُّ على أن يُصلي ركعتين، وآخر على عشر، وآخر على ثنتي عشرة، فأخبر كلُّ واحد منهم عما رأى وسمع‏.‏ قال‏:‏ والدليل على صحة قولنا، ما روِيَ عن زيد بن أسلم قال‏.‏ سمعتُ عبد اللّه بن عمر يقول لأبي ذر‏:‏ أوصني يا عم، قال‏:‏ سألتُ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم كما سألتني، فقال‏؟‏ ‏(‏مَنْ صَلَّى الضّحَى رَكْعَتَيْنِ، لَمْ يكْتَبْ مِن الغَافِلِينَ، وَمَنْ صَلًى أربَعاً، كتِبَ مِنَ العَابِدين، ومَن صَلَّى سِتّاً، لَمْ يَلْحَقْةُ ذَلِكَ اليَوْمَ ذَنْبٌ، وَمَنْ صَلَّى ثَمانِياَ، كُتِبَ مِنَ القَانِتِينَ، ومَنْ صَلَّى عَشْراً بَنى اللَّه لَهُ بَيْتا في الجَنَّة‏)‏‏.‏

وقال مجاهد‏:‏ صلَّى رسولُ اللّه صلى الله عليه وسلم يوماً الضحى ركعتين، ثم يوماً أربعاً، ثم يوماً سِتّاً، ثم يوماً ثمانياً ثم تركَ‏.‏ فأبان هذا الخبر عن صحة ما قلنا من احتمال خبر كل مُخْبِرٍ ممن تقدم أن يكون إخبارُه لِما أخبر عنه في صلاة الضُّحى على قدر ما شاهده وعاينه‏.‏

والصواب‏:‏ إذا كان الأمر كذلك‏:‏ أن يُصلّيها من أراد على ما شاء من العدد‏.‏ وقد روِيَ هذا عن قوم من السلف حدثنا ابنُ حميد، حدثنا جرير، عن إبراهيم، سأل رجل الأسود، كم أصلي الضحى‏؟‏ قال‏:‏ كم شئت‏.‏

وطائفة ثانية، ذهبت إلى أحاديث الترك، ورجَّحتها من جهة صحة إسنادها، وعمل الصحابة بموجبها، فروى البخاري عن ابن عمر، أنه لم يكن يُصليها، ولا أبو بكر، ولا عمر‏.‏ قلت‏:‏ فالنبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ لا إخاله‏.‏ وقال وكيع‏:‏ حدثنا سفيان الثوري، عن عاصم بن كُليب، عن أبيه، عن أبي هريرة، قال‏:‏ ما رأيتُ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم صلَّى صلاة الضحى إلا يوماً واحداً‏.‏ وقال علي بن المديني‏:‏ حدثنا معاذ بن معاذ، حدثنا شعبة، حدثنا فضيل بن فَضالة، عن عبد الرحمن بن أبي بكرة، قال‏:‏ رأى أبو بكرة ناساً يُصلون الضحى، قال‏:‏ إنكم لتصلون صلاة ما صلاها رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا عامَةُ أصحابه‏.‏

وفي ‏(‏الموطأ‏)‏‏:‏ عن مالك، عن ابن شهاب، عن عُروة، عن عائشة قالت‏:‏ ما سبَّح رسولُ اللّه صلى الله عليه وسلم سُبحةَ الضّحى قطُّ، وإني لأسبِّحُها، وإن كان رسولُ اللّه صلى الله عليه وسلم ليَدَعُ العمل وهو يحب أن يعمل به خشيةَ أن يعمل به الناس، فَيُفرض عليهم‏.‏

وقال أبو الحسن علي بن بطَّال‏:‏ فأخذ قوم من السَّلف بحديث عائشة، ولم يَرَوا صلاةَ الضحى، وقال قوم‏:‏ إنها بدعة، روى الشعبي، عن قيس بن عُبيد، قال‏:‏ كنت أختلِف إلى ابن مسعود السَّنَةَ كلَّها، فما رأيتُه مصلياً الضحى‏.‏ وروى شعبة، عن سعد بن إبراهيم، عن أبيه أن عبد الرحمن بن عوف، كان لا يصلي الضحى‏.‏ وعن مجاهد، قال‏:‏ دخلت أنا وعروة بن الزبير المسجدَ، فإذا ابنُ عمر جالس عند حُجرة عائشة، وإذا الناس في المسجد يُصلون صلاة الضحى، فسألناه عن صلاتهم، فقال‏:‏ بدعة،‏.‏ وقال مرة‏:‏ ونِعمَتِ البِدْعةُ‏.‏

وقال الشعبي‏:‏ سمعتُ ابن عمر يقول‏:‏ ما ابتدع المسلمون أفضل صلاة مِن الضحى، وسئل أنس بن مالك عن صلاة الضحى، فقال‏:‏ الصلوات خمس‏.‏

وذهبت طائفة ثالثة إلى استحباب فعلها غِبّاً، فتُصلى في بعض الأيام دون بعض، وهذا أحدُ الروايتين عن أحمد، وحكاه الطبري عن جماعة، قال‏:‏ واحتجوا بما روى الجُريري، عن عبد اللّه بن شَقيق، قال‏:‏ قلتُ لعائشة أكانَ رسول الله صلى الله عليه وسلم يُصلي الضحى‏؟‏ قالت‏:‏ لا إلا أن يَجيءَ مِن مغيبه ثم ذكر حديث أبي سعيد‏:‏ كان رسولُ اللّه صلى الله عليه وسلم يُصلي الضحى، حتى نقول لا يدعها، ويدعها حتى نقول‏:‏ لا يصليها، وقد تقدم‏.‏ ثم قال كذا ذكر من كان يفعل ذلك مِن السلف وروى شعبة، عن حبيب بن الشهيد، عن عكرمة قال‏:‏ كان ابنُ عباس يُصليها يوماً، ويدعها عشرة أيام يعني صلاةَ الضحى وروى شعبة، عن عبد اللّه بن دينار، عن ابن عمر، أنه كان لا يُصلي الضحى‏.‏ فإذا أتى مسجد قُباء، صلَّى، وكان يأتيه كلَّ سبت‏.‏ وروى سفيان، عن منصور، قال كانوا يكرهون أن يحافظوا عليها كالمكتوبة، ويُصلون ويدعون يعني صلاة الضحى‏.‏ وعن سعيد بن جبير‏:‏ إني لأدع صلاة الضحى وأنا أشتهيها، مخافة أن أراها حتماً علي وقال مسروق‏:‏ كنا نقرأ في المسجد، فنبقى بعد قيام ابن مسعود، ثم نقوم، فنصلي الضحى، فبلغ ابن مسعود ذلك فقال‏:‏ لِم تُحمِّلون عبادَ الله ما لم يُحمِّلهم اللَّه‏؟‏‏!‏ إن كنتم لا بُدَّ فاعلين، ففي بيوتكم وكان أبو مِجْلَز يصلي الضحى في منزله‏.‏

قال هؤلاء‏:‏ وهذا أولى لئلا يتوهم متوهمٌ وجوبَها بالمحافظة عليها، أو كونَها سنةَ راتبةً ولهذا قالت عائشة‏:‏ لو نُشِرَ لي أَبَواي ما تَرَكتها‏.‏ فإنها كانت تُصليها في البيت حتى لا يراها الناس‏.‏

وذهبت طائفة رابعة إلى أنها تُفعل بسبب من الأسباب، وأن النبي صلى الله عليه وسلم، إنما فعلها بسبب، قالوا‏:‏ وصلاته صلى الله عليه وسلم يومَ الفتح ثمان ركعات ضحى، إنما كانت مِن أجل الفتح، وأن سنة الفتح أن تصلى عنده ثمان ركعات، وكان الأمراء يُسمونها صلاة الفتح وذكر الطبريَ في ‏(‏تاريخه‏)‏ عن الشعبي قال‏:‏ لما فتح خالد بن الوليد الحِجرة، صلَى صلاة الفتح ثمانَ ركعات لم يُسلم فيهن، ثم انصرف‏.‏ قالوا‏:‏ وقول أم هانىء‏:‏ ‏(‏وذلك ضحى‏)‏‏.‏ تريد أن فعله لهذه الصلاة كان ضحى، لا أن الضحى اسم لتلك الصلاة‏.‏ قالوا‏:‏ وأما صلاته في بيت عِتبان بن مالك، فإنما كانت لسبب أيضاَ، فإن عِتْبان قال له‏:‏ إنِّي أنكرتَ بصري، وإنَّ السيول تحولُ بيني وبين مسجد قومي، فَودِدتُ أنك جئت، فصليتَ في بيتي مكاناً أتخذه مسجداَ، فقال‏:‏ ‏(‏أفعل إن شاء الله تعالى‏)‏ قال‏:‏ فغدا عليَّ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم وأبو بكر معه بعدما أشتدَّ النهارُ فاستأذن النبي صلى الله عليه وسلم فأذنت له، فلم يجلِس حتى قال‏:‏ ‏(‏أين تحِبّ أَن أصَلِّيَ مِن بَيتِكَ‏)‏،‏؟‏ فأشرت إليه من المكان الذي أُحب أن يصلي فيه، فقام وصففنا خلفه، وصلى، ثم سلم، وسلمنا حين سلم‏.‏ متفق عليه‏.‏

فهذا أصل هذه الصلاة وقصتها، ولفظ البخاري فيها، فاختصره بعض الرواة عن عِتبان، فقال‏:‏ إن رسولَ الله صلى الله عليه وسلم صلَّى في بيتي سُبحة الضحى، فقاموا وراءه فصلَّوْا‏.‏

وأما قولُ عائشة‏:‏ لم يكن رسول اللّه صلى الله عليه وسلم يُصلي الضحى إلا أن يَقْدَمَ مِنْ مغيبه، فهذا من أبين الأمور أن صلاته لها إنما كانت لسبب، فإنه صلى الله عليه وسلم كان إذا‏.‏ قَدِمَ من سفر، بدأ بالمسجد، فصلى فيه ركعتين‏.‏

فهذا كان هديَه، وعائشةُ أخبرت بهذا وهذا، وهي القائلةُ‏:‏ ‏(‏ما صلَّى رسول اللّه صلى الله عليه وسلم صلاةَ الضحى قطّ‏)‏‏.‏

فالذي أثبتته فعلها بسبب، كقدومه من سفر، وفتحه، وزيارتِه لقوم ونحوه، وكذلك إتيانُه مسجد قباء للصلاة فيه، وكذلك ما رواه يوسف بن يعقوب، حدَّثنا محمد بن أبي بكر، حدَّثنا سلمة بن رجاء، حدَّثتنا الشعثاء، قالت‏:‏ رأيتُ ابنَ أبي أوفى صلى الضُّحى ركعتين يوم بُشِّر برأس أبي جهل‏.‏ فهذا إن صحَّ فهي صلاة شكر وقعت وقت الضحى، كشُكر الفتح والذيَ نفته، هو ما كان يفعله الناس، تصلونها لغير سبب، وهي لم تقل‏:‏ إن ذلك مكروه، ولا مخالفٌ لسنته، ولكن لم يكن مِن هديه فعلُها لغير سبب‏.‏ وقد أوصى بها وندب إليها، وحضَّ عليها، وكان يَستغني عنها بقيام الليل، فإن فيه غُنية عنها وهي كالبدل منه، قال تعالى‏:‏ ‏{‏وَهُوَ الَّذي جَعَلَ اللَيْلَ والنَّهارَ خِلْفَةً لِمَن أَرادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أوْ أرادَ شُكورَاً‏}‏ ‏[‏الفرقان‏:‏ 62‏]‏ قال ابن عباس، والحسن، وقتادة‏:‏ عوضاً وخلفاً يقوم أحدُهما مقامَ صاحبه، فمن فاته عمل في أحدهما، قضاه في الآخر‏.‏

قال قتادة‏:‏ فأدوا للّه من أعمالكم خيراً في هذا الليل والنهار، فإنهما مطيَّتان يُقحِمَان الناسَ إلى آجالهم، ويُقرِّبان كلَّ بعيد، ويبليان كلَّ جديد، ويَجيئان بكلَّ موعود إلى يوم القيامة‏.‏

وقال شقيق‏:‏ جاء رجل إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه فقال‏:‏ فاتتني الصلاةُ الليلة، فقال‏:‏ أدرك ما فاتك مِن ليلتك في نهارك، فإن اللّه عزّ وجل جعل الليلَ والنهار خِلفة لمن أراد أن يذّكّر أو أراد شُكورا‏.‏

قالوا‏:‏ وفِعل الصحابة رضي اللّه عنهم يدل على هذا، فإن ابن عباس كان يُصليها يوماً، ويدعها عشرة، وكان ابنُ عمر لا يصليها، فإذا أتى مسجد قُباء، صلاها، وكان يأتيه كلَّ سبت وقال سفيان، عن منصور‏:‏ كانوا يكرهون أن يُحافظوا عليها، كالمكتوبة، ويصلون ويَدعون، قالوا‏:‏ ومِن هذا الحديثُ الصحيح عن أنس، أن رجلاً من الأنصار كان ضخماً، فقال للنبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ إني لا أستطيع أن أُصليَ معك، فصنع للنبي صلى الله عليه وسلم طعاماً، ودعاه إلى بيته، ونضح له طرفَ حصير بماء، فصلى عليه ركعتين قال أنس ما رأيته صلى الضحى غير ذلك اليوم رواه البخاري‏.‏

ومن تأمل الأحاديث المرفوعة وآثارَ الصحابة، وجدها لا تدل إلا على هذا القول، وأما أحاديثُ الترغيب فيها، والوصيةُ بها، فالصحيح منها كحديث أبي هريرة وأبي ذر لايدل على أنها سنة راتبة لكل أحد، وإنما أوصى أبا هريرة بذلك، لأنه قد روي أن أبا هريرة كان يختار درس الحديث بالليل على الصلاة، فأمره بالضحى بدلاً من قيام الليل، ولهذا أمره ألا ينام حتى يوتر، ولم يأمر بذلك أبا بكر وعمر وسائر الصحابة‏.‏

وعامة أحاديث الباب في أسانيدها مقال، وبعضها منقطع، وبعضها موضوع لا يحل الاحتجاج به، كحديث يروى عن أنس مرفوعاً ‏(‏مَنْ دَاوَمَ على صَلاَةِ الضُّحَى ولمْ يَقطَعْهَا إلا عَنْ عِلّة، كنتُ أَنَا وَهُو في زَوْرَقٍ مِنْ نُورٍ في بَحرٍ مِنْ نورٍ‏)‏ وضعه زكريا بن دُويد الكِندي، عن حميد‏.‏

وأما حديث يعلى بن أشدق، عن عبد الله بن جراد، عن النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏من صَلَّى مِنْكُم صلاَةَ الضُحى، فَلْيصلها مُتَعَبِّداً، فإنَّ الرَّجُلَ لَيُصَلِّيها السَّنَةَِ من الدَّهْرِ ثمَّ يَنسَاهَا وَيَدَعهَا، فَتَحِنُّ إليهِ كَمَا تَحِنُّ النَّاقَة إلى وَلَدِهَا إذا فَقَدَته‏)‏ فيا عجباً للحاكم كيف يحتج بهذا وأمثاله، فإنه يروي هذا الحديثُ في كتاب أفرده للضحى، وهذه نسخة موضوعة على رسول الله صلى الله عليه وسلم يعنى نسخة يعلى بن الأشدق‏.‏ وقال ابن عدى‏:‏ روى يعلى بن الأشدق، عن عمه عبد اللّه بن جراد، عن النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ أحاديث كثيرة منكرة، وهو وعمُّه غيرُ معروفين، وبلغي عن أبي مسهر، قال‏:‏ قلت ليعلى بن الأشدق‏:‏ ما سمع عمُّك من حديث رسول اللّه صلى الله عليه وسلم‏؟‏ فقال‏:‏ جامعَ سفيان، وموطأ مالك، وشيئاً من الفوائد‏.‏ وقال أبو حاتم بن حبان‏:‏ لقي يعلى عبد اللّه بن جراد، فلما كَبِر، اجتمع عليه من لا دِين له، فوضعوا له شهباً بمائتي حديث، فجعل يحدِّث بها وهو لا يدري، وهو الذي قال له بعضُ مشايخ أصحابنا‏:‏ أيُّ شيء سمعته من عبد اللّه بن جراد‏؟‏ فقال‏:‏ هذه النسخة، وجامعُ سفيان لا تحِلُ الرواية عنه بحال‏.‏

وكذلك حديثُ عمر بن صُبح عن مقاتل بن حيان حديث عائشة المتقدم‏:‏ كان رسول اللّه صلى الله عليه وسلم يُصلي الضحى ثنتي عشرة ركعة، وهو حديث طويل ذكره الحاكم في ‏(‏صلاة الضحى‏)‏ وهو حديث موضوع، المتهم به عمر بن صبح قال البخاري‏:‏ حدَثني يحيى، عن علي بن جرير، قال سمعت عمر بن صبح يقول‏:‏ أنا وضعت خطبة النبي صلى الله عليه وسلم، وقال ابن عدى منكر الحديث‏.‏ وقال ابن حبان‏:‏ يضع الحديث على الثقات، لا يَحِلّ كتب حديثه إلا على جهة التعجب منه، وقال الدارقطني‏:‏ متروك، وقال الأزدي كذاب‏.‏

وكذلك حديثُ عبد العزيز بن أبان، عن الثوري، عن حجاج بن فُرَافِصة، عن مكحول، عن أبي هريرة مرفوعاً ‏(‏مَن حَافظَ عَلَى سبحَةِ الضّحى، غُفِرَتْ ذُنوبه، وإن كانت مثل عَدَدِ الجَرَادِ، وَأَكثر مِنْ زبَدِ البَحرِ‏)‏ ذكره الحاكم أيضاً‏.‏ وعبد العزيز هذا، قال ابن نمير‏:‏ هو كذّاب، وقال يحيى‏:‏ ليس بشيء، كذاب خبيث يضع الحديث، وقال البخاري، والنسائي، والدارقطني‏:‏ متروكُ الحديث‏.‏

وكذلك حديث النهاس بن قهم، عن شداد، عن أبي هريرة يرفعه ‏(‏من حَافَظَ عَلَى شُفْعَةِ الضُحَى، غُفِرَتْ ذُنُوبُه وَإنْ كَانَتْ أَكْثَر مِن زَبَدِ البحر‏)‏‏.‏ والنهاس، قال يحيى‏:‏ ليس بشيء ضعيف كان يروي عن عطاء، عن ابن عباس أشياء منكرة، وقال النسائي‏:‏ ضعيف، وقال ابن عدي‏:‏ لايساوى شيئاً، وقال ابن حبان‏:‏ كان يروي المناكير عن المشاهير، ويخالف الثقات، لا يجوز الاحتجاج به، وقال الدارقطني‏:‏ مضطرب الحديث، تركه يحيى القطان‏.‏

وأما حديث حُميد بن صخر، عن المقبري، عن أبي هريرة‏:‏ بعث رسول اللّه صلى الله عليه وسلم، بعثاً الحديثَ، وقد تقدم‏.‏ فحميد هذا ضعفه النسائي، ويحيى بن معين، ووثقه آخرون، وأُنكِرَ عليه بعض حديثه، وهو ممن لا يحتج به إذا انفرد واللّه أعلم‏.‏

وأما حديث محمد بن إسحاق، عن موسى، عن عبد الله بن المثنى، عن أنس، عن عمه ثُمامة، عن أنس يرفعه ‏(‏مَنْ صَلَّى الضُّحَى، بنى الله له قَصْراً في الجَنَّةِ مِنْ ذَهَبٍ‏)‏، فمن الأحاديث الغرائب، وقال الترمذيَ‏:‏ غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه‏.‏

وأما حديث نعيم بن همَّار‏:‏ ‏(‏ابن آدَمَ لاَ تَعْجِزْ لي عَنْ أرْبَعِ ركَعَات في أوَّلِ النَّهَارِ، أَكْفِكَ آخِرَهُ‏)‏، وكذلك حديث أبي الدرداء، وأبي ذر، فسمعت شيخ الإِسلام ابن تيمية يقول‏:‏ هذه الأربع عندي هي الفجر وسنتها‏.‏

فصل

وكان مِن هديه صلى الله عليه وسلم وهدي أصحابه سجودُ الشكر عند تجدُّد نِعمة تسُرُ أو اندفاع نِقمة، كما في ‏(‏المسند‏)‏ عن أبي بكرة، أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا أتاه أمرٌ يَسُرُّه، خرَّ لله سَاجِداً شُكْراً لله تَعَالى‏.‏

وذكر ابنُ ماجه، عن أنس، أن النبي صلى الله عليه وسلم بُشِّرَ بحَاجَةٍ، فخَرَّ للّه سَاجِداً‏.‏

وذكر البيهقي بإسناد على شرط البخاري، أن علياً رضي الله عنه، لما كتب إلى النبي صلى الله عليه وسلم بإسلام همْدَان، خرَّ ساجداً ثم رفع رأسه، فقال‏:‏ ‏(‏السَّلاَم عَلَى هَمْدَانَ، السَّلاَمَ عَلى هَمْدان‏)‏ وصدر الحديث في صحيح البخاري وهذا تمامه بإسناده عند البيهقي‏.‏

وفي ‏(‏المسند‏)‏ من حديث عبد الرحمن بن عوف، أن رسول اللّه صلى الله عليه وسلم، سجد شكراً لما جاءته البُشرى من ربه، أنه من صلَّى عليك، صلَّيْت عليه، ومن سلَّم عليك، سلمتُ عليه‏.‏

وفي سنن أبي داود من حديث سعد بن أبي وقاص، أن رسول اللّه صلى الله عليه وسلم في رفع يديه فسأل اللّه ساعة، ثم خرّ ساجداً ثلاثَ مرات، ثم قال‏:‏ ‏(‏إنِّي سَأَلْتُ رَبي وشَفَعْتُ لأمَّتي، فَأَعْطَاني ثلُثَ أُمَّتي، فَخرَرْت سَاجِداً شُكْرَاً لِرَبِّي، ثُمَّ رَفعت رأسْي، فَسَألتُ رَبِّي لأمَّتي، فَأَعْطَاني الثُّلثَ الثاني، فَخَرَرَت سَاجداً شكْراً لِرَبي ثمّ رَفَعت رَأسي، فَسَأَلْتُ رَبِّي لأُمَّتي، فأعطَاني الثُّلثَ الآخَرَ، فَخَررَتُ ساجداً لربِّي‏)‏‏.‏

وسجد كعب بن مالك لما جاءته البشرى بتوبة اللّه عليه، ذكره البخاري‏.‏

وذكر أحمد عن علي رضي اللّه عنه، أنه سجد حين وجد ذا الثُّدَيَّة في قتلى الخوارج‏.‏

وذكر سعيد بن منصور، أن أبا بكر الصِّديق رضي اللّه عنه، سجد حين جاءه قتلُ مسيلِمة‏.‏

فصل‏:‏ في هديه صلى الله عليه وسلم في سجود القرآن

كان صلى الله عليه وسلم، إذا مرَّ بسجدة، كبَّر وسجد، وربما قال في سجوده ‏(‏سَجَدَ وَجهي لِلّذي خَلَقَهُ وَصوَّرَهُ وَشَقَّ سَمْعَهُ وَبَصرَهُ بِحَولِهِ وَقُوَّتِهِ‏)‏‏.‏

وربما قال‏:‏ ‏(‏اللَّهم احطط عَنِّي بها وِزرا، واكْتُب لي بها أَجْرَاً، واجْعَلْهَا لي عِنْدَكَ ذُخْرَاً، وَتَقبَّلها مِنِّي كَمَا تَقَبَّلتَها مِن عَبْدِكَ داودَ‏)‏‏.‏ ذكرهما أهل السنن‏.‏

ولم يُذكر عنه أنه كان يكبر للرفع من هذا السجود، ولذلك لم يذكره الخِرقي ومتقدمو الأصحاب، ولا نُقِلَ فيه عنه تشهد ولا سلام البتة وأنكر أحمد والشافعي السلامَ فيه، فالمنصوص عن الشافعي‏:‏ إنه لا تشهدَ فيه ولا تسليم، وقال أحمد‏:‏ أما التسليمُ، فلا أدري ما هو، وهذا هو الصواب الذي لا ينبغي غيره‏.‏

وصح عنه صلى الله عليه وسلم أنه سجد في ‏{‏الم تنزيل‏}‏، وفي ‏{‏ص‏}‏، وفي ‏{‏النجم‏}‏ وفي‏؟‏ ‏{‏إذا السَماء انشقَّت‏}‏، وفي ‏{‏اقرأ باسْم رَبِّكَ الذي خَلَق‏}‏‏.‏

وذكر أبو داود عن عمرو بن العاص، أن رسول اللّه صلى الله عليه وسلم، أقرأه خمسَ عشرة، سجدة، منها ثلاث في المفصّل، وفي سورة الحج سجدتان‏.‏

وأما حديث أبي الدرداء، سجدت مع رسول اللّه صلى الله عليه وسلم إحدى عشرة سجدة، ليس فيها من المفصَّل شيء‏:‏ ‏(‏الأعراف‏)‏، و‏(‏الرعد‏)‏، و‏(‏النحل‏)‏، و‏(‏بني إسرائيل‏)‏، و‏(‏مريم‏)‏، و‏(‏الحج‏)‏، و‏(‏سجدة الفرقان‏)‏، و‏(‏النمل‏)‏، و‏(‏السجدة‏)‏، وصلى الله عليه وسلم، و‏(‏سجدة الحواميم‏)‏، فقال أبو داود‏:‏ روى أبو الدرداء عن النبي صلى الله عليه وسلم إحدى عشرة سجدة، وإسناده واهٍ‏.‏

وأما حديث ابن عباس رضي اللّه عنهما، أن رسول اللّه صلى الله عليه وسلم لم يسجد في المفصل منذ تحول إلى المدينة‏.‏ رواه أبو داود فهو حديث ضعيف، في إسناده أبو قدامة الحارث بن عبيد، لا يحتج بحديثه‏.‏ قال الإِمام أحمد‏:‏ أبو قدامة مضطرِب الحديث‏.‏ وقال يحيى بن معين‏:‏ ضعيف، وقال النسائي‏:‏ صدوق عنده مناكير، وقال أبو حاتم البستي‏:‏ كان شيخاً صالحاً ممن كثر وهمه وعلَّله ابن القطان بمطر الوراق، وقال‏:‏ كان يشبهه في سوء الحفظ محمد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى، وعيب على مسلم إخراجُ حديثه انتهى كلامه‏.‏

ولا عيب على مسلم في إخراج حديثه، لأنه ينتقي من أحاديث هذا الضرب ما يعلم أنه حفظه، كما يطرح من أحاديث الثقة ما يعلم أنه غلِط فيه، فغلِط في هذا المقام من استدرك عليه إخراجَ جميع حديث الثقة، ومن ضعَّف جميع حديث سيىء الحفظ، فالأولى‏:‏ طريقة الحاكم وأمثاله، والثانية‏:‏ طريقة أبي محمد بن حزم وأشكاله، وطريقة مسلم هي طريقة أئمة هذا الشأن واللّه المستعان‏.‏

وقد صح عن أبي هريرة أنه سجد مع النبي صلى الله عليه وسلم في ‏{‏اقرأ باسْم رَبِّكَ الَذي خَلَق‏}‏، وفي ‏{‏إذَا السَّمَاءُ انْشَقَّت‏}‏، وهو إنما أسلم بعد مَقدَم النبي صلى الله عليه وسلم المدَينة بست سنين أو سبع، فلو تعارض الحديثان من كل وجه، وتقاوما في الصحة، لتعين تقديمُ حديث أبي هريرة، لأنه مثبت معه زيادة علم خفيت على ابن عباس، فكيف وحديثُ أبي هريرة في غاية الصحَة متفق على صحته، وحديث ابن عباس فيه من الضعف ما فيه‏.‏ واللّه أعلم‏.‏