فصل: فصل: في هديه صلى الله عليه وسلم في سفره وعبادته فيه

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: زاد المعاد في هدي خير العباد **


فصل‏:‏ في هديه صلى الله عليه وسلم في خطبه

كان إذا خطب، احمرَّت عيناه، وعلا صوتُه، واشتد غضبُه حتى كأنه منذرُ جيش، يقول‏:‏ ‏(‏صَبَّحَكُمْ ومساكم‏)‏ ويقول‏:‏ ‏(‏بُعِثتُ أَنَا والسَّاعَة كَهَاتَينِ، وَيَقْرُنُ بَيْنَ أصبُعَيهِ السَّبَّابَةِ وَالوُسْطَى‏)‏‏.‏ ويقول‏:‏ ‏(‏أَمَّا بَعْدُ، فإنَّ خَيْرَ الحَديثِ كِتَابُ الله، وَخَيْرَ الهدْي هَدْي مُحَمَّدِ، وَشَرَّ الأُمورِ مُحْدَثَاتُها، وَكُلَّ بِدعَةٍ ضَلاَلَة‏)‏‏.‏ ثم يقول‏:‏ ‏(‏أَنَا أَوْلَى بِكُلِّ مؤْمِنٍ مِنْ نَفْسِهِ، مَن ترَكَ مَالاً، فَلأَهلِهِ، وَمَنْ تَرَكَ دَيْنَاً أَو ضَيَاعاً، فإليَّ وعليَّ‏)‏ رواه مسلم‏.‏

وفي لفظ‏:‏ كانت خُطبة النبي صلى الله عليه وسلم يَوْمَ الجمعَةِ، يَحْمَدُ اللّه ويُثْنِي عَلَيهِ، ثُمَّ يَقُولُ عَلَى أثَرِ ذلِكَ وَقَدْ عَلاَ صَوْتُه فَذَكَرُه‏.‏

وفي لفظ‏:‏ يَحْمَدُ اللّه وَيُثْنِي عَلَيْهِ بِمَا هُوَ أَهْلُه، ثُمَّ يَقُولُ‏:‏ ‏(‏مَنْ يَهْدِ اللَّهُ، فَلا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ، فلاَ هَادِيَ لَهُ، وَخَيْر الحَدِيثِ كِتَابُ اللَّهِ‏)‏‏.‏

وفي لفظ للنسائي، ‏(‏وكُلُ بِدْعةٍ ضلاَلَةٌ، وَكُلّ ضلاَلَةٍ في النَّارِ‏)‏‏.‏

وكان يقول في خطبته بعد التحميدِ والثناءِ والتشهد ‏(‏أَمَّا بَعْدُ‏)‏‏.‏

وكان يُقصِّرُ الخُطبة، ويطيل الصلاة، ويكثر الذِّكر، ويَقْصدُ الكلماتِ الجوامع، وكان يقول‏:‏ ‏(‏إنَّ طُولَ صَلاَةِ الرَّجُلِ وَقِصَرَ خُطْبَتِه، مَئِنَّةٌ مِنْ فِقْهِهٌ‏)‏

وكان يُعَلِّمُ أصحابَه في خُطبته قواعِدَ الإِسلام، وشرائعَه، ويأمرهم، وينهاهم في خطبته إذا عَرَض له أمر، أو نهى، كما أمر الداخل وهو يخطب أن يُصلي ركعتين‏.‏

ونهى المتخطِّي رِقابَ الناس عن ذلك، وأمره بالجلوس‏.‏ وكان يقطعُ خطبته للحاجة تعْرِضُ، أو السؤالِ مِنْ أَحَدٍ من أصحابه، فيُجيبه، ثم يعود إلى خُطبته، فيتمُّها‏.‏

وكان ربما نزل عن المنبر للحاجة، ثم يعودُ فَيُتِمُّها، كما نزل لأخذ الحسن والحسين رضي اللّه عنهما، فأخذهما، ثم رَقِيَ بهما المنبر، فأتم خطبته‏.‏

وكان يدعو الرجل في خطبته‏:‏ تعالَ يا فلان، اجلِسْ يا فلان، صلِّ يا فُلان‏.‏

وكان يأمرهم بمقتضى الحال في خطبته، فإذا رأىَ منهم ذا فاقة وحاجة، أمرهم بالصدقة، وحضهم عليها‏.‏

وكان يُشير بأصبعه السَّبَّابَة في خطبته عند ذكر اللّه تعالى ودعائه‏.‏

وكان يستسقي بهم إذا قَحَطَ المطر في خطبته‏.‏

وكان يمهل يوم الجمعة حتى يجتمعَ الناسُ، فإذا اجتمعوا، خرج إليهم وحدَه من غير شاويش يصيح بين يديه، ولا لبس طيلسان، ولا طرحة، ولا سواد، فإذا دخل المسجد، سلَّم عليهم، فإذا صَعِد المنبر، استقبل الناسَ بوجهه، وسلَّم عليهم، ولم يدع مستقبلَ القبلة، ثم يجلِس، ويأخذ بلالٌ في الأذان، فإذا فرغ‏.‏ منه، قام النبي صلى الله عليه وسلم فخطب من غير فَصلٍ بين الأذان والخطبة، لا بإيراد خبر ولا غيره‏.‏

ولم يكن يأخذ بيده سيفاً ولا غيرَه، وإنما كان يعتَمِد على قوس أو عصاً قبل أن يتَّخذ المنبر، وكان في الحرب يَعتمد على قوس، وفي الجمعة يعتمِد على عصا‏.‏ ولم يُحفظ عنه أنه اعتمد على سيف، وما يظنه بعض الجهال أنه كان يعتمد على السيف دائماً، وأن ذلك إشارة إلى أن الدين قام بالسيف، فَمِن فَرطِ جهله، فإنه لا يُحفظ عنه بعد اتخاذ المنبر أنه كان يرقاه بسيف، ولا قوس، ولا غيره، ولا قبل اتخاذه أنه أخذ بيده سيفاً البتة، وإنما كان يعتمِد على عصا أو قوس‏.‏

وكان منبره ثلاثَ درجات، وكان قبلِ اتخاذه يخطُب إلى جِذع يستند إليه، فلما تحوَّل إلى المنبر، حنَّ الجِذْعُ حنيناً سمعه أهل المسجد، فنزل إليه صلى الله عليه وسلم وضمَّه قال أنس‏:‏ حنَّ لما فقد ما كان يسمع من الوحي، وفقده التصاق النبي صلى الله عليه وسلم‏.‏

ولم يُوضع المنبر في وسط المسجد، وإنما وضع في جانبه الغربي قريباً من الحائط، وكان بينه وبين الحائط قدر ممر الشاة‏.‏

وكان إذا جلس عليه النبي صلى الله عليه وسلم في غير الجمعة، أو خطب قائماً في الجمعة، استدار أصحابُه إليه بوجوههم، وكان وجهه صلى الله عليه وسلم قِبلَهم في وقت الخطبة‏.‏

وكان يقوم فيخطب، ثم يجلِس جلسة خفيفة، ثم يقوم، فيخطب الثانية، فإذا فرغ منها، أخذ بلال في الإِقامة‏.‏ وكان يأمر الناس بالدنِّو منه، ويأمرهم بالإِنصات، وتخبرهم أن الرجل إذا قَالَ لِصاحبه‏:‏ أَنْصِت فَقَدْ لَغَا‏.‏ ويقول‏:‏ ‏(‏مَنْ لَغَا فَلاَ جمُعَة لَهُ‏)‏‏.‏ وكان يقول‏:‏ ‏(‏مَن تَكَلَّمَ يَوْمَ الجمُعَة والإِمامُ يَخْطُبُ، فَهُوَ كَمَثَلِ الحِمَارِ يَحْمِلُ أَسفَاراً، والَذِي يَقُولَ لَه‏:‏ أنْصت لَيْسَت لَهُ جُمُعَة‏)‏‏.‏ رواه الإِمام أحمد‏.‏

وقال أبي بن كعب‏:‏ قرأ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم يوم الجمعة ‏(‏تبارك‏)‏ وهو قائم، فذكَّرنا بأيَّام الله، وأبو الدرداء أو أبو ذر يَغمِزُني، فقال‏:‏ متى أُنزِلَتْ هذه السورة‏؟‏ فإني لم أسمعها إلى الآَن، فأشار إليه أن اسكت، فلما انصرفوا، قال‏:‏ سألتُك متى أُنزلت هذه السورة فلم تخبرني، فقال‏:‏ إنّه ليحسن لك من صلاتك اليوم إلا ما لغوتَ، فذهب إلى رسول اللّه صلى الله عليه وسلم فذكر له ذلك، وأخبره بالذي قال له أُبي، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ‏(‏صَدَق أبيُّ‏)‏‏.‏ ذكره ابن ماجه، وسعيد بن منصور، وأصله في ‏(‏مسند أحمد‏)‏‏.‏

وقال صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏يَحْضُر الجُمُعَة ثَلاثَةُ نَفَر‏:‏ رَجُلٌ حَضرَها يَلغُو وَهُوَ حَظُه منها، ورَجُلٌ حَضَرَها يَدْعو، فَهُوَ رَجُلُ دَعا اللّه عَزَّ وَجَلَّ إن شَاءَ أَعْطَاهُ، وإنْ شَاءَ مَنَعَهْ، وَرَجلٌ حَضَرهَا بإنْصاتٍ وَسُكُوتٍ، وَلَمْ يَتَخَطَّ رَقَبَةَ مُسْلِمٍ، وَلَمْ يُؤْذِ أحداً، فَهي كَفَّارَةٌ له إلى يَوْمِ الجُمُعَةِ التي تَليها، وَزيادَة ثَلاثَةَ أيْامٍ، وَذَلِكَ أن اللّه عزَّ وجَلَ يقول‏:‏ ‏{‏مَن جَاءَ بِالحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أمثَالِها‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 160‏]‏‏)‏، ذكره أحمد وأبو داود‏.‏

وكان إذا فرغ بلال من الأذان، أخذ النبي صلى الله عليه وسلم في الخطبة، ولم يقم أحدٌ يركع ركعتين البتة، ولم يكن الأذانُ إلا واحداً، وهذا يدل على أن الجمعة كالعيد، لا سُنَّة لها قبلها، وهذا أصحُّ قولي العلماء، وعليه تدلُّ السُّنَّة، فإن النبي صلى الله عليه وسلم كان يخرج مِن بيته، فإذا رَقِي المنبر، أخذ بلالٌ في أذان الجمعة، فإذا أكمله، أخذ النبيُّ صلى الله عليه وسلم في الخطبة من غير فصل، وهذا كان رأَيَ عين، فمتى كانوا يُصلون السُّنَّة‏؟‏‏!‏ ومن ظن أنهم كانوا إذا فرغ بلال رضي اللّه عنه من الأذان، قاموا كلُّهم، فركعوا ركعتن، فهو أجهلُ الناس بالسُّنَّة، وهذا الذي ذكرناه من أنه لا سُنَّة قبلها، هو مذهب مالك، وأحمد في المشهور عنه، وأحدُ الوجهين لأصحاب الشافعي‏.‏

والذين قالوا‏:‏ إن لها سُنَّة، منهم من احتج أنها ظهرٌ مقصورة، فيثبت لها أحكامُ الظهر، وهذه حجة ضعيفة جداً، فإن الجمعة صلاةٌ مستقِلة بنفسها تُخالف الظهر في الجهر، والعدد، والخطبة، والشروط المعتبرة لها، وتُوافقها في الوقت، وليس إلحاقُ مسألة النزاع بموارد الاتفاق أولى من إلحاقها بموارد الافتراق، بل إلحاقها بموارد الافتراق أولى، لأنها أكثر مما اتفقا فيه‏.‏

ومنهم من أثبت السُّنَّة لها بالقياس على الظهر، وهو أيضاً قياس فاسد، فإن السُنَّة ما كان ثابتاً عن النبي من قول أو فعل، أو سُنة خلفائه الراشدين، وليس في مسألتنا شيء من ذلك، ولا يجوز إثباتُ السنن في مثل هذا بالقياس، وأن هذا مما انعقد سببُ فعله في عهد النبي صلى الله عليه وسلم، فإذا لم يفعله ولم يشرعه، كان تركُه هو السُنَّة، ونظيرُ هذا، أن يُشرع لصلاة العيد سنة قبلها أو بعدها بالقياس، فلذلك كان الصحيحُ أنه لا يسن الغسل للمبيت بمزدلفة، ولا لِرمي الجمار، ولا للطواف، ولا للكسوف، ولا للاستسقاء، لأن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابَه لم يغتسلوا لذلك مع فعلهم لهذه العبادات‏.‏

ومنهم من احتج بما ذكره البخاري في ‏(‏صحيحه‏)‏ فقال‏:‏ باب الصلاة قبل الجمعة وبعدها‏:‏ حدثنا عبد اللّه بن يُوسف، أنبأنا مالك، عن نافع، عن ابن عمر، أن النبي صلى الله عليه وسلم، كان يُصلي قبلَ الظُّهر ركعتين، وبعدها ركعتين، وبعد المغرب ركعتين في بيته، وقبل العشاء ركعتين، وكان لا يُصلي بعد الجمعة حتى ينصَرِف، فيُصلي ركعتين وهذا لا حُجة فيه، ولم يُرد به البخاري إثباتَ السنة قبل الجمعة، وإنما مرادُه أنه هل ورد في الصلاة قبلها أو بعدها شيء‏؟‏ ثم ذكر هذا الحديث، أي‏:‏ أنه لم يُرو عنه فعلُ السنة إلا بعدها، ولم يرد قبلها شيء‏.‏

وهذا نظير ما فعل في كتاب العيدين، فإنه قال‏:‏ باب الصلاة قبل العيد وبعدها، وقال أبو المعلَّى‏:‏ سمعت سعيداً عن ابن عباس، أنه كره الصلاة قبل العيد‏.‏ ثم ذكر حديث سعيد بن جبير، عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم خرج يوم الفطر، فصلَّى ركعتين، لم يصل قبلَهما ولا بعدَهما ومعه بلال الحديث‏.‏

فترجم للعيد مثلَ ما ترجم للجمعة، وذكر للعيد حديثاً دالاً على أنه لا تشرع الصلاةُ قبلَها ولا بعدَها، فدل على أن مراده من الجمعة كذلك‏.‏

وقد ظن بعضُهم أن الجمعة لما كانت بدلاً عن الظهر- وقد ذكر في الحديث السنة قبل الظهر وبعدها - دلَّ على أن الجمعة كذلك، وإنما قال‏:‏ ‏(‏وكان لا يُصلي بعد الجمعة حتى ينصرِفَ‏)‏ بياناً لموضع صلاة السنة بعد الجمعة، وأنه بعد الانصراف، وهذا الظن غلط منه، لأن البخاري قد ذكر في باب التطوع بعد المكتوبة حديثَ ابن عمر رضي اللّه عنه‏:‏ صليتُ مع رسول اللّه صلى الله عليه وسلم سَجْدتينِ قبل الظهر، وسجدتين بعدَ الظهر، وسجدتين بعدَ المغرب، وسجدتينِ بعد العشاء، وسجدتينِ بعد الجمعة‏.‏ فهذا صريح في أن الجمعة عند الصحابة صلاةٌ مستقِلَة بنفسها غير الظهر، وإلا لم يحتج إلى ذِكرها لِدخولها تحتَ اسم الظهر، فلما لم يذكر لها سنةً إلا بعدها، عُلِمَ أنه لا سنة لها قبلها‏.‏

ومنهم من احتج بما رواه ابن ماجه في ‏(‏سننه‏)‏ عن أبي هريرة وجابر، قال‏:‏ جاء سُلَيك الغَطفاني ورسولُ اللّه صلى الله عليه وسلم يخطبُ فقال له‏:‏ ‏(‏أَصَلَّيْتَ ركْعَتَيْن قَبْلَ أَنْ تَجِيءَ‏؟‏‏)‏ قال‏:‏ لا‏.‏ قال‏:‏ ‏(‏فَصلِّ رَكْعَتَيْنِ وَتَجَوَّز فيهما‏)‏‏.‏ وإسناده ثقات‏.‏

قال أبو البركات ابن تيمية‏:‏ وقوله‏:‏ ‏(‏قبل أن تجيء‏)‏ يدل عن أن هاتين الركعتين سنة الجمعة، وليست تحية المسجد‏.‏ قال‏:‏ شيخنا حفيدُه أبو العباس‏:‏ وهذا غلط، والحديث المعروف في ‏(‏الصحيحين‏)‏ عن جابر، قال‏:‏ دخل رجال يومَ الجمعة ورسول اللّه صلى الله عليه وسلم يخطب، فقال ‏(‏أَصلَّيْتَ‏)‏ قال‏:‏ لا‏.‏ قال‏:‏ فَصّل رَكْعَتَيْن‏.‏ وقال‏:‏ ‏(‏إذا جاء أَحَدُكُم الجُمُعَةَ والإِمَامُ يَخْطُبُ، فَليَرْكَعْ رَكْعَتَيْنِ، وَلْيتَجَوَّزْ فيهما‏)‏‏.‏ فهذا هو المحفوظ في هذا الحديث، وأفراد ابن ماجه في الغالب غيرُ صحيحة، هذا معنى كلامه‏.‏

وقال شيخنا أبو الحجَّاج الحافظ المزي‏:‏ هذا تصحيف من الرواة، إنما هو ‏(‏أصليتَ قبل أن تجلس‏)‏ فغلط فيه الناسخُ‏.‏ وقال‏:‏ وكتابُ ابنِ ماجه إنما تداولته شيوخ لم يعتنوا به، بخلاف صحيحي البخاري ومسلم، فإن الحفاظ تداولوهما، واعتَنَوْا بضبطهما وتصحيحهما، قال‏:‏ ولذلك وقع فيه أغلاطٌ وتصحيف‏.‏

قلت‏:‏ ويدل على صحة هذا أن الذين اعتَنَوْا بضبط سنن الصلاة قبلها وبعدها، وصنفوا في ذلك من أهل الأحكام والسنن وغيرها، لم يذكر واحدٌ منهم هذا الحديثَ في سنة الجمعة قبلها، وإنما ذكروه في استحباب فعل تحية المسجد والإِمام على المنبر، واحتجوا به على من منع مِن فعلها في هذه الحال، فلو كانت هي سنةَ الجمعة، لكان ذكرها هناك، والترجمةُ عليها، وحفظُها، وشهرتُها أولى من تحية المسجد‏.‏ ويدل عليه أيضاً أن النبي صلى الله عليه وسلم، لم يأمر بهاتين الركعتين إلا الداخل لأجل أنها تحيةُ المسجد‏.‏ ولو كانت سنة الجمعة، لأمر بها القاعدين أيضاً، ولم يخص بها الداخل وحده‏.‏

ومنهم من احتج بما رواه أبو داود في ‏(‏سننه‏)‏، قال‏:‏ حدثنا مسدَّد، قال‏:‏ حدثنا إسماعيل، حدثنا أيوب، عن نافع، قال‏:‏ كان ابن عمر يُطيل الصلاة قبل الجمعة، ويُصلي بعدها ركعتين في بيته، وحدث أن رسول اللّه صلى الله عليه وسلم كان يفعل ذلك‏.‏ وهذا لا حجة فيه على أن للجمعة سنةً قبلها، وإنما أراد بقوله‏:‏ إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يفعل ذلك‏:‏ أنه كان يُصلي الركعتين بعد الجمعة في بيته لا يُصليهما في المسجد، وهذا هو الأفضل فيهما، كما ثبت في ‏(‏الصحيحين‏)‏ عن ابن عمر أن رسول اللّه صلى الله عليه وسلم كان يُصلي بعد الجمعة ركعتين في بيته‏.‏ وفي ‏(‏السنن‏)‏ عن ابن عمر، أنه إذا كان بمكة، فصلى الجمعة، تقدم، فصلّى ركعتين، ثم تقدم فصلَّى أربعاً، وإذا كان بالمدينة، صلى الجمعة، ثم رجع إلى بيته، فصلَّى ركعتين، ولم يُصل بالمسجد، فقيل له، فقال‏:‏ كان رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم يفعل ذلك‏.‏ وأما إطالة ابن عمر الصلاة قبل الجمعة، فإنه تطوعٌ مطلق، وهذا هو الأولى لمن جاء إلى الجمعة أن يشتغِل بالصلاة حتى يخرج الإِمام، كما تقدم من حديث أبي هريرة، ونُبيشة الهذلي عن النبي صلى الله عليه وسلم‏.‏

قال أبو هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏من اغتسل يوم الجمعة، ثم أتى المسجدَ، فصلَّى ما قُدِّرَ له، ثم أنصتَ حتى يَفرُغَ الإمامُ من خُطبته، ثم يُصلي معه، غُفِرَ له ما بينه وبين الجمعة الأخرى، وفضل ثلاثة أيَّامٍ‏)‏‏.‏ وفي حديث نُبيشة الهذلي‏:‏ ‏(‏إن المسلمَ إذا اغتسل يومَ الجمعة، ثم أقبلَ إلى المسجد لا يُؤذي أحداً، فإن لم يجد الإِمام خَرج، صلَّى ما بدا له، وإن وجد الإمامَ خرج، جلس، فاستمع وأنصت حتى يقضيَ الإمامُ جمعته وكلامَه، إن لمَ يُغفر له في جُمعته تلك ذنوبه كلُّها أَنْ تكون كَفَّارَةً للجمعة التي تليها‏)‏ هكذا كان هديُ الصحابة رضي اللّه عنهم‏.‏

قال ابن المنذر‏:‏ روينا عن ابن عمر‏:‏ أنه كان يُصلي قبل الجمعة ثِنتي عشرة ركعة‏.‏

وعن ابن عباس، أنه كان يصلي ثمان ركعات‏.‏ وهذا دليل على أن ذلك كان منهم من باب التطوع المطلق، ولذلك اختلف في العدد المرويَ عنهم في ذلك، وقال الترمذي في ‏(‏الجامع‏)‏‏:‏ ورُوي عن ابن مسعود، أنه كان يُصلي قبل الجمعة أربعاً وبعدها أربعاً‏.‏ وإليه ذهب ابنُ المبارك والثوريُّ‏.‏

وقال إسحاق بن إبراهيم بن هانىء النيسابوري‏:‏ رأيتُ أبا عبد اللّه، إذا كان يوم الجمعة يُصلي إلى أن يعلمَ أن الشمس قد قاربت أن تزول، فإذا قاربت، أمسك عن الصلاة حتى يُؤذِّنَ المؤذِّن، فإذا أخذ في الأذان، قام فصلى ركعتين أو أربعاً، يَفصِل بينهما بالسلام، فإذا صلى الفريضة، انتظر في المسجد، ثم يخرج منه، فيأتي بعض المساجد التي بحضرة الجامع، فيُصلي فيه ركعتين، ثم يجلس، وربما صلَّى أربعاً، ثم يجلس، ثم يقوم، فيصلي ركعتين أخريين، فتلك ست ركعات على حديث علي، وربما صلى بعد الست ستاً أخر، أو أقل، أو أكثر‏.‏ وقد أخذ من هذا بعضُ أصحابه رواية‏:‏ أن للجمعة قبلها سنة ركعتين أو أربعاً، وليس هذا بصريح، بل ولا ظاهر، فإن أحمد كان يُمسك عن الصلاة في وقت النهي، فإذا زال وقت النهي، قام فأتم تطوعه إلى خروج الإِمام، فربما أدرك أربعاً، وربما لم يُدرك إلا ركعتين‏.‏

ومنهم من احتج على ثبوت السنة قبلها، بما رواه ابن ماجه في ‏(‏سننه‏)‏ حدثنا محمد بن يحيى، حدثنا يزيد بن عبد ربِّه، حدثنا بقية، عن مبشر بن عبيد، عن حجاج بن أرطاة، عن عطية العَوْفي، عن ابن عباس، قال‏:‏ كان النبي صلى الله عليه وسلم يركع قبل الجُمعة أربعاً، لا يفصِل بينها في شيء منها‏.‏ قال ابن ماجه‏:‏ باب الصلاة قبل الجمعة، فذكره‏.‏

وهذا الحديث فيه عدة بلايا، إحداها‏:‏ بقية بن الوليد‏:‏ إمام المدلسين وقد عنعنه، ولم يصرح بالسماع‏.‏

الثانية‏:‏ مبشر بن عُبيد، المنكر الحديث‏.‏ وقال عبد اللّه بن أحمد‏:‏ سمعت أبي يقول‏:‏ شيخ كان يقال له‏:‏ مبشر بن عبيد كان بحمص، أظنه كوفياً، روى عنه بقية، وأبو المغيرة، أحاديثُه أحاديث موضوعة كذب‏.‏ وقال الدارقطني‏:‏ مبشر بن عبيد متروك الحديث، أحاديثه لا يتابع عليها‏.‏

الثالثة‏:‏ الحجاج بن أرطاة الضعيف المدلس‏.‏

الرابعة‏:‏‏.‏عطية العوفي، قال البخاري‏:‏ كان هشيم يتكلم فيه، وضعفه أحمد وغيره‏.‏

وقال البيهقي‏:‏ عطية العَوْفي لا يحتج به، ومبشر بن عبيد الحمصي منسوب إلى وضع الحديث، والحجاج بن أرطاة، لا يحتج به‏.‏ قال بعضهم‏:‏ ولعل الحديث انقلب على بعضِ هؤلاء الثلاثة الضعفاء، لعدم ضبطهم وإتقانهم، فقال‏:‏ قَبْلَ الجُمُعة أربعاً، وإنما هو بعد الجمعة، فيكون موافقاً لما ثبت في ‏(‏الصحيح‏)‏ ونظير هذا‏:‏ قول الشافعي في رواية عبد اللّه بن عمر العمري‏:‏ ‏(‏للفارس سهمان، وللراجل سهم‏)‏‏.‏ قال الشافعي‏:‏ كأنه سمع نافعاً يقول‏:‏ للفرس سهمان، وللراجل سهم، فقال‏:‏ للفارس سهمان، وللراجل سهم‏.‏ حتى يكون موافقاً لحديث أخيه عبيد اللّه، قال‏:‏ وليس يشك أحد من أهل العلم في تقديم عبيد اللّه بن عمر على أخيه عبد اللّه في الحفظ‏.‏

قلت‏:‏ ونظير هذا ما قاله شيخُ الإِسلام ابن تيمية في حديث أبي هريرة ‏(‏لا تَزَالُ جَهَنم يُلقى فيهَا، وهي تَقُول‏:‏ هَل مِن مَزيد‏؟‏ حتى يَضَعَ ربُّ العِزَّةِ فيها قدمَه، فَيَرْوِي بَعضُها إلى بَعْض، وتقول‏:‏ قَط، قَط‏.‏ وأما الجنةُ‏:‏ فيُنشىء الله لها خلقاً‏)‏ فانقلب على بعض الرواة فقال أما النار‏:‏ فينشىء اللّه لها خلقاً‏.‏

قلت‏:‏ ونظيرُ هذا حديثُ عائشة ‏(‏إن بلالاً يؤذِّن بلَيل، فكُلُوا واشرَبُوا حتى يُؤذِّن ابنُ أم مكتوم‏)‏ وهو في ‏(‏الصحيحين‏)‏ فانقلب على بعض الرواة، فقال‏:‏ ابنُ أم مكتوم يؤذِّن بليل، فكلوا واشربوا حتى يؤذِّن بلال‏.‏

ونظيره أيضاً عندي حديث أبي هريرة ‏(‏إذا صَلَى أَحَدُكُم فَلاَ يَبْرُك كمَا يَبْرُكُ البَعيرُ وليضَعْ يَدَه قَبْلَ رُكبَتَيْهِ‏)‏ وأظنه وَهِمَ - واللّه أعلم - فيما قاله رسولُه الصادق المصدوق، ‏(‏وليضع ركبتيه قبل يديه‏)‏‏.‏ كما قال وائل بن حُجر‏:‏ كان رسول اللّه صلى الله عليه وسلم ‏(‏إذا سجد، وضع رُكبتيه قبل يديه‏)‏‏.‏ وقال الخطابي وغيره‏:‏ وحديثُ وائل بن حجر، أصح من حديث أبي هريرة‏.‏ وقد سبقت المسألة مستوفاة في هذا الكتاب والحمد لله‏.‏

وكان صلى الله عليه وسلم إذا صلى الجمعة، دخل إلى منزله، فصلى ركعتين سُنَّتَها، وأمر مَنْ صلاها أن يُصليَ بعدها أربعاً‏.‏ قال شيخنا أبو العباس ابن تيمية‏:‏ إن صلى في المسجد، صلى أربعاً، وإن صلى في بيته، صلى ركعتين‏.‏ قلتُ‏:‏ وعلى هذا تدل الأحاديث، وقد ذكر أبو داود عن ابن عمر أنه كان إذا صلَّى في المسجد، صلى أربعاً، وإذا صلى في بيته، صلى ركعتين‏.‏

وفي ‏(‏الصحيحين‏)‏‏:‏ عن ابن عمر، أن النبي صلى الله عليه وسلم، كان يصلي بعد الجمعة ركعتين في بيته‏.‏ وفي ‏(‏صحيح مسلم‏)‏، عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم ‏(‏إِذَا صَلَّى أَحَدُكُمُ الجُمُعَة، فَلْيصَلِّ بَعْدَهَا أَرْبَعَ رَكَعَاتٍ‏)‏‏.‏ واللّه أعلم‏.‏

فصل‏:‏ في هديه صلى الله عليه وسلم، في العيدين

كان صلى الله عليه وسلم يُصلي العيدين في المُصَلَّى، وهو المصلَّى الذي على باب المدينة الشرقي، وهو المصلَّى الذي يُوضع فيه مَحْمِلُ الحاج، ولم يُصلِّ العيدَ بمسجده إلا مرةً واحدة أصابهم مطر، فصلَّى بهم العيدَ في المسجد إن ثبت الحديث، وهو في سنن أبي داود وابن ماجة وهديُه كان فِعلهما في المصلَّى دائماً‏.‏

وكان يلبَس للخروج إليهما أجملَ ثيابه، فكان له حُلَّة يلبَسُها للعيدين والجمعة، ومرة كان يَلبَس بُردَين أخضرين، ومرة برداً أحمر، وليس هو أحمرَ مُصمَتاً كما يظنه بعضُ الناس، فإنه لو كان كذلك، لم يكن بُرداً، وإنما فيه خطوط حمر كالبرود اليمنية، فسمي أحمر باعتبار ما فيه من ذلك‏.‏ وقد صح عنه صلى الله عليه وسلم مِن غير معارضٍ النهيُ عن لُبس المعصفر والأحمر، وأمر عبد اللّه بن عمرو لما رأى عليه ثوبين أحمرين أن يَحرِقَهما فلم يكن ليكره الأحمر هذه الكراهة الشديدة ثم يلبَسُه، والذي يقُوم عليه الدليل تحريمُ لِباس الأحمر، أو كراهيتُه كراهية شديدة‏.‏

وكان صلى الله عليه وسلم يأكُل قبلَ خروجه في عيد الفطر تمرات، ويأكلهن وتراً، وأما في عيد الأضحى، فكان لا يَطعَمُ حتى يَرجِعَ مِن المصلَّى، فيأكل من أضحيته‏.‏

وكان يغتسل للعيدين، صح الحديث فيه، وفيه حديثان ضعيفان‏:‏ حديث ابن عباس، من رواية جبارة بن مُغَلِّس، وحديث الفاكِه بن سعد، من رواية يوسف بن خالد السمتي‏.‏ ولكن ثبت عن ابن عمر مع شِدة اتِّباعه للسُنَّة، أنه كان يغتسل يوم العيد قبل خروجه‏.‏

وكان صلى الله عليه وسلم يخرج ماشياً، والعَنَزَةُ تحمل بين يديه، فإذا وصل إلى المصلَّى، نُصِبت بين يديه ليصليَ إليها، فإن المصلَّى كان إذ ذاك فضاءً لم يكن فيه بناءٌ ولا حائط، وكانت الحربةُ سُترتَه‏.‏

وكان يُؤَخِّر صلاة عيد الفطر، ويُعجِّل الأضحى، وكان ابنُ عمر مع شدة اتباعه للسنة، لا يخرُج حتى تطلُع الشمسُ، ويكبِّر مِن بيته إلى المصلى‏.‏ وكان صلى الله عليه وسلم إذا انتهى إلى المصلَّى، أخذ في الصلاة من غير أذان ولا إقامة ولا قول‏:‏ الصلاة جامعة، والسنة‏:‏ أنه لا يُفعل شيء من ذلك‏.‏

ولم يكن هو ولا أصحابُه يُصلون إذا انتهوا إلى المصلَّى شيئاً قبل الصلاة ولا بعدها‏.‏

وكان يبدأ بالصلاة قبلَ الخُطبة، فيُصلِّي ركعتين، يكبِّر في الأولى سبعَ تكبيراتِ مُتوالية بتكبيرة الافتتاح، يسكُت بين كُل تكبيرتين سكتةً يسيرة، ولم يُحفَظ عَنه ذكرٌ معين بين التكبيرات، ولكن ذُكرَ عن ابن مسعود أنه قال‏:‏ يَحمَدُ اللَّهَ، ويُثنيَ عليه، ويصلِّي على النبي صلى الله عليه وسلم، ذكرهَ الخلال‏.‏ وكان ابنُ عمر مع تحريه للاتباع، يرفع يديه مع كُلِّ تكبيرة‏.‏

وكان صلى الله عليه وسلم إذا أتم التكبير، أخذ في القراءة، فقرأ فاتِحة الكتاب، ثم قرأ بعدها ‏{‏ق والقرآن المجيد‏}‏ في إحدى الركعتين، وفي الأخرى، ‏{‏اقتربَت الساعَةُ وانشقَّ القَمَرُ‏}‏‏.‏

وربما قرأ فيهما ‏{‏سبحِّ اسمَ ربِّك الأعلى‏}‏، و‏{‏هل أتاك حديثُ الغَاشية‏}‏ صح عنه هذا وهذا، ولم يَصِح عنه غيرُ ذلك‏.‏

فإذا فرغ من القراءة، كبَّر وركع، ثم إذا أكمل الركعة، وقام من السجود، كبَّر خمساً متوالية، فإذا أكمل التكبيرَ، أخذ في القراءةِ، فيكون التكبيرُ أَوَّل ما يبدأ به في الركعتين، والقراءة يليها الركوع، وقد رُوي عنه صلى الله عليه وسلم أنه والى بين القراءتين، فكبر أولاً، ثم قرأ وركع، فلما قام في الثانية، قرأ وجعل التكبير بعد القراءة، ولكن لم يثبت هذا عنه، فإنه من رواية محمد بن معاوية النيسابوري‏.‏ قال البيهقي‏:‏ رماه غيرُ واحد بالكذب‏.‏

وقد روى الترمذي من حديث كثير بن عبد اللّه بن عمرو بن عوف، عن أبيه عن جده، أن رسول اللّه صلى الله عليه وسلم ‏.‏كبَّر في العيدين في الأولى سبعاً قَبل القِرَاءَة، وفي الآخِرَة خمساً قَبلَ القراءة‏.‏ قال الترمذي‏:‏ سألت محمداً يعني البخاريَّ عن هذا الحديث، قال‏:‏ ليس في الباب شيء أصحَّ مِن هذا، وبه أقول، وقال‏:‏ وحديث عبد الله بن عبد الرحمن الطائفي عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده في هذا الباب، هو صحيح أيضاً‏.‏

قلت‏:‏ يُريد حديثه أن النبي صلى الله عليه وسلم كبَّر في عيد ثِنتي عشرة تكبيرة، سبعاً في الأُولى، وخمساً في الآخرة، ولم يُصل قبلها ولا بعدها‏.‏ قال أحمد‏:‏ وأنا أذهب إلى هذا‏.‏ قلت‏:‏ وكثير بن عبد اللّه بن عمرو هذا ضرب أحمد على حديثه في ‏(‏المسند‏)‏ وقال‏:‏ لا يُساوي حديثُه شيئاً، والترمذي تارة يُصحح حديثه، وتارة يُحسنه، وقد صرح البخاريُّ بأنه أصح شيء في الباب، مع حكمه بصحة حديث عمرو بن شعيب، وأخبر أنه يذهب إليه‏.‏ والله أعلم‏.‏

وكان صلى الله عليه وسلم إذا أكمل الصلاةَ، انصرف، فقام مُقابِل الناس، والناسُ جلوس على صفوفهم، فيعِظهم ويُوصيهم، ويأمرهم وينهاهم، وإن كان يُريد أن يقطع بعثاً قطعه، أو يأمر بشيء أمر به‏.‏ ولم يكن هُنالك مِنبر يرقى عليه، ولم يكن يخْرِجُ منبر المدينة، وإنما كان يخطبهم قائماً على الأرض، قال جابر‏:‏ شهِدتُ مع رسولِ اللّه صلى الله عليه وسلم الصلاة يومَ العيد، فبدأ بالصلاة قبل الخطبة بلا أذان ولا إقامة، ثم قام متوكئاً على بلال، فامر بتقوى اللّه، وحثَّ على طاعته، ووعظ الناَّس، وذكَّرهم، ثم مضى حتى أتى النساء، فوعظهن وذكَّرهُن، متفق عليه‏.‏ وقال أبو سعيد الخُدري‏:‏ كانَ النبي صلى الله عليه وسلم يخرُج يوم الفِطر والأضحى إلى المُصلَّى، فأول ما يَبدأ به الصَّلاةُ، ثم ينصرِفُ، فيقُوم مقابِلَ الناس، والناسُ جلوس على صفوفهم ‏.‏‏.‏‏.‏ الحديث‏.‏ رواه مسلم‏.‏

وذكر أبو سعيد الخُدري‏:‏ أنه صلى الله عليه وسلم‏.‏ كان يخرج يوم العيد، فيُصلي بالناس ركعتين، ثم يُسَلِّم، فيقِف على راحلته مستقبِلَ الناس وهم صفوف جلوسٌ، فيقول‏:‏ ‏(‏تَصَدَّقوا‏)‏، فأكثرُ من يتصدق النساء، بالقُرط والخاتم والشيء‏.‏ فإن كانت له حاجة يُريد أن يبعث بعثاً يذكره لهم، وإلا انصرف‏.‏

وقد كان يقع لي أن هذا وهم، فإن النبي صلى الله عليه وسلم، إنما كان يخرج إلى العيد ماشياً، والعنزة بين يديه، وإنما خطب على راحلته يومَ النحر بمِنى، إلى أن رأيتُ بَقِي بنَ مَخْلَد الحافظ قد ذكر هذا الحديث في ‏(‏مسنده‏)‏ عن أبي بكر بن أبي شيبة، حدَّثنا عبد اللّه بن نُمير، حدَّثنا داود بن قيس، حدَّثنا عِياض بن عبد اللّه بن سعد بن أبي سرح، عن أبي سعيد الخُدري، قال‏:‏ كان رسول اللّه صلى الله عليه وسلم يخرُج يَوْمَ العِيد مِن يَومِ الفِطر، فيُصلي بالناس تَيْنِكَ الركعتين، ثم يُسلم، فيستقبل الناس، فيقول‏:‏ ‏(‏تَصَدَّقُوا‏)‏‏.‏ وكان أكثرُ من يتصدق النساء وذكر الحديث‏.‏

ثم قال‏:‏ حدَّثنا أبو بكر بن خلاَّد، حدَّثنا أبو عامر، حدَّثنا داود، عن عِياض، عن أبي سعيد‏:‏ كان النبيُّ صلى الله عليه وسلم يخرُج في يوم الفطر، فيُصلي بالناس، فيبدأ بالركعتين، ثم يستقبِلُهم وهم جلوس، فيقول‏:‏ ‏(‏تَصدَّقُوا‏)‏ فذكر مثله وهذا إسنادُ أبن ماجه إلا أنه رواه عن أبي كريب، عن أبي أسامة، عن داود‏.‏ ولعله‏:‏ ثم يقوم على رجليه، كما قال جابر‏:‏ قام متوكئاً على بلال، فتصحَّف على الكاتب‏:‏ براحلته‏.‏ واللّه أعلم‏.‏

فإن قيل‏:‏ فقد أخرجا في ‏(‏الصحيحين‏)‏ عن ابن عباس، قال شهِدتُ صلاةَ الفِطر مع نبي اللّه صلى الله عليه وسلم، وأبي بكر، وعمر، وعثمانَ رضي اللّه عنهم، فكلُّهم يُصَلِّيها قبل الخطبة، ثم يخطُب، قال‏:‏ فنزل نبي اللّه صلى الله عليه وسلم، كأني أنظر إليه حين يُجَلِّسُ الرِّجالَ بيده، ثم أقبل يشقُّهم حتى جاء إلى النساء ومعه بلال، فقال‏:‏ ‏{‏يَأَيُّها النَّبيُّ إذا جَاءكَ المُؤمِناتُ يُبايِعْنَكَ على أَنْ لا يُشْرِكْنَ بِاللّه شَيْئاً‏}‏ ‏[‏الممتحنة‏:‏ 12‏]‏ فتلا الآية حتى فرغ منها، الحديثَ‏.‏

وفي ‏(‏الصحيحين‏)‏ أيضاً، عن جابر، أن النبي صلى الله عليه وسلم قام، فبدأ بالصلاة، ثم خطب النَّاسَ بَعْدُ، فلما فرغ نبيُّ اللّه صلى الله عليه وسلم نزل فأتى النساء فذكَّرهن، الحديث‏.‏ وهو يدل على أنه كان يخطب على منبر، أو على، راحلته، ولعله كان قد بُني له منبر من لَبِنٍ أو طين أو نحوه‏؟‏

قيل‏:‏ لا ريب في صحة هذين الحديثين، ولا ريب أن المِنبر لم يكن يُخرَج من المسجد، وأول من أخرجه مروانُ بن الحكم، فأُنكِرَ عليه، وأما منبر اللَّبن والطين، فأول من بناه كثير بن الصلت في إمارة مروان على المدينة، كما هو في ‏(‏الصحيحين‏)‏ فلعله صلى الله عليه وسلم كانَ يقوم في المصلَى على مكان مرتفع، أو دُكان وهي التي تسمى مِصطَبة، ثم ينحدر منه إلى النساء، فيقِف عليهن، فيخطبهُن، فيعِظهن، ويذكِّرُهن‏.‏ واللّه أعلم‏.‏

وكان يفتتح خُطَبه كلَّها بالحمد اللّه، ولم يُحفظ عنه في حديث واحد، أنه كان يفتتح خطبتي العيدين بالتكبير، وإنما روى ابن ماجه في ‏(‏سننه‏)‏ عن سعد القرظ مؤذِّن النبي صلى الله عليه وسلم أنَّه كان يُكثر التكبير بَيْنَ أضعافِ الخطبة، ويكثر التكبير في خطبتي العيدين‏.‏ وهذا لايدل على أنه كان يفتتحها به‏.‏ وقد اختلف الناسُ في افتتاح خُطبة العيدين والاستسقاء، فقيل‏:‏ يُفتتحان بالتكبير، وقيل تفتتح خطبة الاستسقاء بالاستغفار، وقيل‏:‏ يُفتتحان بالحمد‏.‏ قال شيخ الإسلام ابن تيمية‏:‏ وهو الصواب، لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال ‏(‏كلُّ أَمْرٍ ذي بالٍ لاَ يُبْدَأ فيهِ بِحَمْدِ اللّه، فَهُوَ أَجْذَمُ‏)‏‏.‏

وكان يفتتح خطبَه كلَّها بالحمد لله‏.‏

ورخص صلى الله عليه وسلم لمن شهد العيد‏:‏ أن يجلس للخطبة، وأن يذهب، ورخَّص لهم إذا وقع العيدُ يومَ الجمعة أن يجتزئوا بصلاة العيد عن حضور الجمعة

‏.‏وكان صلى الله عليه وسلم يُخالف الطريقَ يوم العيد، فيذهب في طريق، ويرجعُ في آخر فقيل‏:‏ ليسلِّمَ على أهل الطريقين، وقيل‏:‏ لينال بركتَه الفريقان، وقيل‏:‏ ليقضيَ حاجة من له حاجة منهما، وقيل‏:‏ ليظهر شعائِرَ الإِسلام في سائر الفِجاج والطرق، وقيل‏:‏ ليغيظ المنافقين برؤيتهم عِزَّة الإسلام وأهله، وقيام شعائره، وقيل‏:‏ لتكثر شهادةُ البِقاع، فإن الذاهب إلىَ المسجد والمصلَّى إحدى خطوتيه ترفعُ درجة، والأخرى تحطُّ خطيئة حتى يرجع إلى منزله، وقيل وهو الأصح‏:‏ إنه لذلك كُلِّه، ولغيره من الحِكَم التي لا يخلو فعلُه عنها‏.‏

وروي عنه، أنه كان يُكبِّر من صلاة الفجر يوم عرفة إلى العصر من آخر أيام التشريق‏:‏ اللَّهُ أَكْبَرُ، اللَّهُ أَكْبَرُ، لاَ إلَهَ إلاَّ اللَّهُ، واللَّهُ أَكْبَرُ، اللَّهُ أَكبَر، وَللَّهِ الحَمْدُ‏.‏

فصل‏:‏ في هديه صلى الله عليه وسلم في صلاة الكسوف

لما كَسَفَتِ الشَّمسُ، خرجَ صلى الله عليه وسلم إلى المسجد مُسرِعاً فزِعاً يجُرُّ رداءه، وكان كسُوفُها في أوَّل النهار على مقدار رُمحين أو ثلاثة مِن طلوعها، فتقدَم، فصلى ركعتين، قرأ في الأولى بفاتحة الكتاب، وسورة طويلة، جهر بالقراءة، ثم ركع، فأطال الركوع، ثم رفع رأسه من الركوع، فأطال القيام وهو دون القيام الأول، وقال لما رفع رأسه‏:‏ ‏(‏سَمعَ اللَّه لِمَنْ حَمِدَهُ رَبَّنَا لَكَ الحَمْد‏)‏، ثم أخذ في القراءة، ثم ركع، فأطال الركوع وهو دون الركوع الأولِ، ثم رفع رأسه من الركوع، ثم سجد سجدة طويلة فأطال السجود، ثم فعل في الركعة الأخرى مِثلَ ما فعل في الأولى، فكان في كُلِّ ركعة رُكوعان وسجودان، فاستكمل في الركعتين أربعَ ركعات وأربعَ سجدات، ورأى في صلاته تلك الجنة والنار، وهمَّ أن يأخذ عُنقوداً من الجنة، فيُريَهم إياه، ورأى أهل العذاب في النار، فرأى امرأة تخدِشُها هِرَّةٌ ربطتها حتى ماتت جُوعاً وعطشاً، ورأى عمرو بن مالك يجر أمعاءَه في النار، وكان أولَ من غيَّر دين إبراهيم، ورأى فيها سارِقَ الحاج يُعذَب، ثم انصرف، فخطب بهم خطبة بليغة، حُفِظَ منها قوله‏:‏ ‏(‏إنَّ الشَّمْسَ وَالقَمَر آَيَتَانِ مِن آياتِ اللّه لا يَخْسِفَانِ بمَوْتِ أَحَدٍ، وَلا لِحَياتِهِ، فإذا رَأيْتُم ذَلِكَ، فادعوا اللّه وكَبروا، وصَلُوا، وتَصدَقوا يا أُمَّةَ مُحَمَّد، واللّه مَا أَحَدٌ أَغيَرَ مِنَ الله أَنْ يزنيَ عَبدُهُ، أَوْ تَزْنيَ أَمَته، يا أمَّة محَمَّد، والله لَو تَعلَمون ما أَعلَم لَضحِكتم قَليلاً، وَلَبَكَيْتمْ كَثِيراً‏)‏‏.‏

وقال‏:‏ ‏(‏لَقَدْ رَأيتُ في مَقَامِي هذا كُلَّ شَيءٍ وُعِدتُم به، حَتَّى لَقَدْ رأيتُني أريد أن آخذَ قِطفاً مِن الجنة حِينَ رأيتُمُوني أَتَقدَمُ، وَلَقَد رأيتُ جَهَنَّم يَحطِم بَعْضُها بَعْضَاً حِينَ رأيْتمُوني تَأَخَّرتُ‏)‏‏.‏

وفي لفظ‏:‏ وَرَأيت الناَّرَ فلم أرَ كاليوم مَنْظراَ قَطّ أَفْظَعَ منها، ورَأيْت أكثَر أهلِ ألنار النِّسَاءَ‏.‏ قالُوا‏:‏ وَبِمَ يا رسول اللّه‏؟‏ قال‏:‏ بِكُفرِهنَّ‏.‏ قيل‏:‏ أيكفُرنَ باللّه‏؟‏ قال‏:‏ يَكْفرنَ العَشيرَ، وَيَكفرنَ الإِحسَان، لو أَحسَنتَ إلى إحْداهنَّ الدَّهْرَ كُلَّه، ثُمَّ رأت مِنكَ شَيئاً، قالت‏:‏ مَا رَأيْتُ مِنكَ خَيراً قطُّ‏.‏

ومنها‏:‏ ‏(‏ولَقَدْ أُوحِي إليَّ أنَكُم تُفتَنون في القُبورِ مِثلَ، أو قَريباً مِنْ فِتْنَةِ الدَّجَال، يُؤْتى أَحَدُكُم فَيُقال له‏:‏ ما عِلْمُك بِهَذا الرَّجُلِ‏؟‏ فَأَمَّا المُؤمِن أو قال‏:‏ المُوقِن، فيقول‏:‏ مُحَمَّد رَسُول اللّه، جاءنَا بالبيِّنَاتِ وَالهُدَى، فَأَجَبنا، وآمنَاَّ، واتَّبَعنَا، فيُقال لَهُ‏:‏ نم صَالِحاً فَقَدْ عَلِمنَا إن كنتَ لمؤمنا، وأمَّا المُنافِق أَوْ قَالَ‏:‏ المُرْتابُ، فيَقُول‏:‏ لا أدْرِي، سمِعْت النَّاسَ يَقولُون شَيئاً، فقلتُه‏)‏‏.‏

وفي طريق أخرى لأحمد بن حنبل رحمه اللّه، أنه صلي الله عليه وسلم لما سَلَّمَ، حَمِدَ الله وأثنى عليه، وشَهد أن لا إلَه إلاَّ اللّه، وأنَّه عبدُه ورسولُه، ثم قال‏:‏ ‏(‏أَيُّهَا الناَّسُ، أُنُشِدُكُم باللَّهِ هَلْ تَعْلَمونَ أنِّي قَصرْتُ في شيء مِنْ تَبْلِيغ رِسَالاتِ ربِّي لمَا أخْبَرتُموني بِذَلِك‏؟‏ فَقَامَ رَجُلٌ، فَقَالَ‏:‏ نَشْهَدُ أَّنكَ قَدْ بَلَّغْتَ رِسَالاَتِ رَبِّكَ، وَنَصَحْتَ لأُمَّتِكَ، وقَضيْتَ الَّذي عَلَيْكَ‏)‏‏.‏ ثُمَّ قَال‏:‏ ‏(‏أمَّا بَعدُ فإنَّ رِجَالاً يَزعَمُونَ أَنَّ كُسُوفَ هذِهِ الشَّمْس، وكُسُوفَ هَذا القَمَر، وَزَوَالَ هذه النُّجُومِ عَن مَطالِعها لِموتِ رِجَالٍ عُظَمَاءَ مِنْ أَهْل الأرْضِ، وإنَّهُم قَدْ كَذَبُوا، وَلَكِنَّهَا آيات مِن آياتِ اللّه تَبارَكَ وَتَعَالى يَعْتَبِرُ بِهَا عِبادُهُ، فَيَنظُرُ منْ يُحْدِثُ مِنهُم تَوْبَةً، وايْمُ اللَّهِ لَقَدْ رَأَيْتُ منُذ قُمْتُ أُصَلِّي ما أَنْتُم لاقُوه مِنْ أمْرِ دُنيَاكُمْ وآخِرَتِكُم، وإنَّهُ - واللَّهُ أَعْلَمُ - لا تَقوم السَّاعَةُ حَتَّى يَخْرُجَ ثَلاثَون كَذَّاباً آخرُهُم الأعْوَرُ الدَّجَّالُ، مَمْسُوح العَيْنِ اليسْرى، كَأَنَّها عَيْنُ أَبي تحيى لِشيْخٍ حِينَئذٍ مَن الأَنْصَارِ، بَينَه وبَيْنَ حُجرَة عائشة، وإنَّه مَتَى يَخْرُجْ، فسَوْفَ يَزْعُمُ أنَّه اللَّهُ، فَمَن آمَنَ بِهِ وَصَدَّقَهُ واتّبَعَه، لَم يَنفَعْه صَالح مِن عَمَلِه سَلَفَ، وَمن كَفَر به وكَذَّبه، لَم يُعاقَب بشيءٍ مِنْ عَمَلِهِ سَلَفاً، وإنَّه سَيَظهَرُ عَلَى الأَرْضِ كُلِّهَا إلاَّ الحَرَمَ وَبَيْتَ المَقدِس، وإنه يَحْصُر المُؤمنين في بَيْت المَقْدِس، فَيُزَلْزَلونَ زِلزَالاً شَدِيدَاً، ثُمَّ يُهلِكُه اللّه عزَّ وجَلَّ وَجنودَه، حتى إنَّ جِذْمَ الحَائِطِ أَوْ قَال‏:‏ أَصْلَ الحَائِطِ، وأصْلَ الشَّجَرَةِ ليُنَادي‏:‏ يا مُسْلمُ، يا مُؤْمِن، هذَا يَهُودِيٌ، أَوْ قَالَ‏:‏ هَذَا كَافِرٌ، فَتَعَالَ فاقْتُلْهُ قَالَ‏:‏ وَلَنْ يَكُونَ ذلِكَ حَتَى تَرَوْا أُمُوراً يَتَفَاقَمُ بَيْنكم شَأْنُهَا في أَنْفُسِكم، وتساءلونَ بَيْنكم‏:‏ هَلْ كَانَ نَبيّكُمْ ذَكَر لَكُمْ مِنْهَا ذِكْراَ‏:‏ وحتَّى تَزُولَ جِبَالٌ عَنْ مَراتِبها، ثمَّ على أثَر ذَلِكَ القَبْضُ‏)‏‏.‏

فهذا الذي صح عنه صلي الله عليه وسلم‏:‏ من صفة صلاة الكسوف وخطبتها‏.‏ وقد رُوي عنه أنه صلاَّها على صفات أخر‏.‏

منها‏:‏ كُلّ ركعة بثلاث ركوعات‏.‏

ومنها‏:‏ كل ركعة بأربع ركوعات‏.‏

ومنها‏:‏ إنها كإحدى صلاة صُلِّيت كل ركعة بركوع واحد، ولكن كِبار الأئمة، لا يُصححون ذلك، كالإِمام أحمد، والبخاري، والشافعي، ويرونه غلطاً‏.‏ قال الشافعي وقد سأله سائل، فقال‏:‏ روى بعضُهم أن النبي صلي الله عليه وسلم صلى بثَلاث ركعاتٍ في كل ركعة، قال الشافعي‏:‏ فقلتُ له‏:‏ أتقول به أنت‏؟‏ قال‏:‏ لا، ولكن لِم لم تقل به أنت وهو زيادةٌ على حديثكم‏؟‏ يعني حديثَ الركوعين في الركعة، فقلتُ‏:‏ هو من وجه منقطع، ونحن لا نثبت المنقطع على الانفراد، ووجهٍ نراه -واللّه أعلم - غلطاً، قال البيهقي‏:‏ أراد بالمنقطع قولَ عبيد بن عمير‏:‏ حدثني من أصدِّق، قال عطاء‏:‏ حسبته يُريد عائشة الحديث، وفيه‏:‏ فركع في كلِّ ركعة ثلاثَ رُكوعات وأربعَ سجدات‏.‏ وقال قتادة‏:‏ عن عطاء، عن عُبيد بن عمير، عنها‏:‏ ست ركعات في أربع سجدات فعطاء، إنما أسنده عن عائشة بالظن والحسبان، لا باليقين، وكيف يكون ذلك محفوظاً عن عائشة، وقد ثبت عن عُروة، وعَمرة، عن عائشة خلافه وعروة وعمرة أخصُّ بعائشة وألزمُ لها من عُبيد بن عمير وهما اثنان، فروايتُهما أولى أن تكون هي المحفوظة‏.‏ قال‏:‏ وأما الذي يراه الشافعي غلطاً، فأحسبه حديثَ عطاء عن جابر‏:‏ ‏(‏انكسفتِ الشمسُ في عهد رسول اللّه صلي الله عليه وسلم يومَ ماتَ إبراهيمُ بن رسول اللّه صلي الله عليه وسلم‏.‏، فقال الناسُ إنما انكسفت الشَّمسُ لموت إبراهيم، فقام النبي صلي الله عليه وسلم، فصلّى بالنَّاس ستِ ركعات في أربع سجدات‏)‏ الحديث‏.‏

قال البيهقي‏:‏ من نظر في قصة هذا الحديث، وقصة حديث أبي الزبير، علم أنهما قصة واحدة، وأن الصلاة التي أخبر عنها إنما فعلها مرة واحدة، وذلك في يوم توفي ابنه إبراهيم عليه السلام‏.‏

قال‏:‏ ثم وقع الخلافُ بين عبد الملك يعني ابن أبي سُليمان، عن عطاء، عن جابر، وبين هشام الدستوائي، عن أبي الزُّبير، عن جابر في عدد الركوع في كل ركعة، فوجدنا رواية هشام أولى، يعني أن في كل ركعة ركوعين فقط، لكونه مع أبي الزبير أحفظ من عبد الملك، ولموافقة روايته في عدد الركوع رواية عَمرة وعروة عن عائشة، ورواية كثير بن عباس، وعطاء بن يسار، عن ابن عباس، ورواية أبي سلمة عن عبد اللّه بن عمرو، ثم رواية يحيى بن سليم وغيره، وقد خولف عبدُ الملك في روايته عن عطاء، فرواه ابن جريج وقتادة، عن عطاء، عن عُبيد بن عمير‏:‏ ست ركعات في أربع سجدات، فرواية هشام عن أبي الزبير عن جابر التي لم يقع فيها الخلافُ ويُوافقها عدد كثيرٌ أولى من روايتي عطاء اللتين إنما إسناد أحدِهما بالتوهم، والأخرى يتفرد بها عنه عبد الملك بن أبي سليمان، الذي قد أُخذَ عليه الغلطُ في غير حديث‏.‏

قال‏:‏ وأما حديثُ حبيب بن أبي ثابت، عن طاووس، عن ابن عباس، عن النبي صلي الله عليه وسلم، أنه صلى في كسوف، فقرأ، ثم ركع، ثم قرأ، ثم ركع، ثم قرأ، ثم ركع، ثم قرأ، ثم ركع، ثم سجد قال والأخرى مثلها، فرواه مسلم في ‏(‏صحيحه‏)‏ وهو مما تفرد به حبيب بن أبي ثابت، وحبيب وإن كان ثقة، فكان يُدلس، ولم يُبين فيه سماعَه مِن طاووس، فيشبه أن يكون حمله عن غير موثوق به، وقد خالفه في رفعه ومتنه سليمان المكي الأحول، فرواه عن طاووس، عن ابن عباس مِن فعله ثلاثَ ركعات في ركعة‏.‏ وقد خولف سليمان أيضاً في عدد الركوع، فرواه جماعة عن ابن عباس مِن فعله، كما رواه عطاء بن يسار وغيره عنه، عن النبي صلي الله عليه وسلم، يعني في كل ركعة ركوعان‏.‏ قال‏:‏ وقد أعرض محمد بن إسماعيل البخاريَ عن هذه الروايات الثلاث، فلم يخرِّج شيئاً منها في ‏(‏الصحيح‏)‏ لمخالفتهن ما هو أصح إسناداً، وأكثر عدداً، وأوثق رجالاً، وقال البخاري في رواية أبي عيسى الترمذي عنه‏:‏ أصحُّ الروايات عندي في صلاة الكسوف أربعُ ركعات في أربع سجداتٍ قال البيهقي‏:‏ وروي عن حذيفة مرفوعاً ‏(‏أربع ركعات في كل ركعة‏)‏، وإسناده ضعيف‏.‏

ورُوي عن أبيِّ بنِ كعب مرفوعاً ‏(‏خمس ركوعات في كل ركعة‏)‏ وصاحبا الصحيح لم يحتجا بمثل إسناد حديثه‏.‏

قال‏:‏ وذهب جماعة من أهل الحديث إلى تصحيح الروايات في عدد الركعات، وحملوها على أن النبي صلي الله عليه وسلم فعلها مراراً، وأن الجميع جائز، فممن ذهب إليه إسحاقُ بن راهويه، ومحمد بن إسحاق بن خزيمة، وأبو بكر بن إسحاق الضبعي، وأبو سليمان الخطابي، واستحسنه ابن المنذر‏.‏ والذي ذهب إليه البخاري والشافعي من ترجيح الأخبار أولى لما ذكرنا من رجوع الأخبار إلى حكاية صلاته صلي الله عليه وسلم في يومَ توفي ابنه‏.‏

قلت‏:‏ والمنصوصُ عن أحمد أيضاًَ أخذه بحديث عائشة وحده في كل ركعة ركوعان وسجودان‏.‏ قال في رواية المروزي‏:‏ وأذهب إلى أن صلاة الكسوف أربعُ ركعات، وأربعُ سجدات، في كل ركعة ركعتان وسجدتان، وأذهب إلى حديث عائشة، أكثرُ الأحاديث على هذا‏.‏ وهذا اختيارُ أبي بكر وقدماء الأصحاب، وهو اختيار شيخنا أبي العباس ابن تيمية‏.‏‏؟‏كان يضعف كُلَّ ما خالفه من الأحاديث، ويقول‏:‏ هي غلط، وإنما صلَّى النبي‏:‏صلي الله عليه وسلم الكسوفَ مرة واحدة يومَ مات ابنه ابراهيم‏.‏ واللّه أعلم‏.‏

وأمر صلي الله عليه وسلم في الكسوف بذكرِ اللّه، والصلاةِ، والدعاء، والاستغفار والصدقة، والعتاقة، واللّه أعلم‏.‏

فصل‏:‏ في هديه صلي الله عليه وسلم الاستسقاء

ثبت عنه صلي الله عليه وسلم، أنه استسقى على وجوه‏.‏

أحدها‏:‏ يومَ الجمعة على المنبر في أثناء خطبته، وقال‏:‏ ‏(‏اللَّهم أَغِثنا، اللَّهُم أَغِثنَا، اللَّهُمَّ أَغِثْنَا، اللّهم اسقِنا، اللَّهُم اسقِنَا، اللَّهُمَّ اسقِنَا‏)‏‏.‏

الوجه الثاني‏:‏ أنه صلي الله عليه وسلم وعد الناسَ يوماً يخرجُون فيه إلى المصلى، فخرج لما طلعت الشمسُ متواضعاً، متبذِّلاً، متخشِّعاً، مترسِّلاً، متضِّرعاً، فلما وافى المصلَّى، صَعِدَ المنبر - إن صحِ، وإلا ففي القلب منه شيء - فحمد الله وأثنى عليه وكبَّره، وكان مما حُفِظ من خطبته ودعائه‏:‏ ‏(‏الحَمْدُ لِله رَبِّ العالَمين، الرَّحْمن الرَّحيم، مالِكِ يَوْمِ الذَين، لا إله إلا اللَّهُ، يَفْعَلُ ما يُريد، اللَّهُم أَنتَ اللَّه لا إله إلا أنت، تَفْعَل ما تُريدُ، اللَّهُم لا إلا إله إلا أَنْتَ، أَنْتَ الغَنيُ وَنَحْن الفُقَراءُ، أَنْزِل عَلَينَا الغَيْثَ، واجعَل ما أَنْزَلْتَه علينا قُوَّةً لَنَا، وَبلاغَاً إلى حين‏)‏ ثم رفع يديه، وأخذ في التضرُّع، والابتهال، والدعاء، وبالغ في الرفع حتى بدا بياضُ إبطيه، ثم حوَّل إلى الناس ظهَره، واستقبل القبلة، وحول إذ ذاك رداءَه وهو مستقبل القبلة، فجعل الأيمنَ على الأيسر، والأيسر على الأيمن، وظهرَ الرداء لبطنه، وبطنه لظهره، وكان الرداء خميصةً سوداء، وأخذ في الدعاء مستقبلَ القِبلة، والناسُ كذلك، ثم نزل فصلَّى بهم ركعتين كصلاة العيد من غير أذان ولا إقامة ولا نداءٍ البتة، جهر فيهما بالقراءة، وقرأ في الأولى بعد فاتحة الكتاب‏:‏‏.‏‏{‏سبح اسم ربك الأعلى‏}‏ ‏[‏الأعلى‏:‏ 1‏]‏، وفي الثانية‏:‏ ‏{‏هل أتاك حديث الغاشية‏}‏ ‏[‏الغاشية‏:‏ 1‏]‏‏.‏

الوجه الثالث‏:‏أنه صلي الله عليه وسلم استسقى على منبر المدينة استسقاء مجرداً في غير يوم جمعة، ولم يُحفظ عنه صلي الله عليه وسلم في هذا الاستسقاء صلاة‏.‏

الوجه الرابع‏:‏ أنه صلي الله عليه وسلم استسقى وهو جالس في المسجد، فرفعٍ يديه، ودعا اللَّهَ عز وجل، فحُفِظَ مِن دعائه حينئذ‏:‏ ‏(‏اللَّهُم اسْقِنا غَيْثاً مُغيثا مَرِيعاً طَبَقاً عَاجِلاً غَيْرَ رائِثٍ، نافِعاً غَيْرَ ضَارٍّ‏)‏

الوجه الخامس‏:‏ أنه صلي الله عليه وسلم استسقى عند أحجار الزيت قريباَ من الزَّوراء، وهي خارج باب المسجد الذي يُدعى اليوم باب السلام نحو قذفةِ حجر، ينعطفُ عن يمين الخارج من المسجد‏.‏

الوجه السادس‏:‏ أنه صلى الله عليه وسلم استسقى في بعض غزواته لما سبقه المشركون إلى الماء، فأصاب المسلمينَ العطشُ، فشَكَوا إلى رسول اللّه صلي الله عليه وسلم‏.‏ وقال بعضُ المنافقين‏:‏ لو كان نبياً، لاستسقى لقومه، كما استسقى موسى لقومه، فبلغ ذلك النبيَّ صلي الله عليه وسلم‏؟‏ فقال‏:‏ ‏(‏أَوَقَدْ قَالُوها‏؟‏ عَسَىَ رَبّكم أَنْ يَسْقِيَكم، ثُمَ بَسَطَ يَدَيه، ودعا، فما ردَّ يديه من دعائه، حتى أظلَّهُمُ السَّحابُ، وأُمطِروا، فأفعمَ السيلُ الوادي، فشرب الناس، فارتَوَوْا‏)‏‏.‏

وحُفظ من دعائه في الاستسقاء‏:‏ ‏(‏اللَّهُم اسقِ عِبَادَكَ وَبَهَائِمَكَ، وانْشُرِ رَحْمَتَك، وأَحْي بَلَدَكَ المَيِّتَ‏)‏، ‏(‏اللَهُم اسْقِنا غَيثاً مُغِيثاً مَريئاً، مريعاً، نافِعاً غير ضارٍّ، عاجِلاً غَيْرَ اَجِل‏)‏‏.‏ وأُغيث صلى الله عليه وسلم في كل مرة استسقى فيها‏.‏

واستسقى مرة، فقام إليه أبو لُبابة فقال‏:‏ يا رسول اللّه صلى الله عليه وسلم إن التمر في المَرابد، فقال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏اللَّهم اسقِنَا حَتَّى يَقومَ أبو لُبَابة عُرياناً، فَيَسدَّ ثَعلَبَ مِرْبَدِه بإزاره‏)‏، فأمطرت، فاجتمعوا إلى أبي لُبابة، فقالوا‏:‏ إنها لن تُقلعَ حتى تقوم عُرياناً، فتسُدَّ ثعلبَ مربدك بإزارك كما قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم، ففعل، فاستهلت السماء‏.‏

ولما كثر المطر، سألوه الاستصحاء، فاستصحى لهم وقال‏:‏ ‏(‏اللهم حَوَالَيْنَا ولا عَلَينَا، اللَّهُم على الآكام والجِبال، وَالظِّراب، وبُطونِ الأودية وَمَنَابِت الشَّجَر‏)‏‏.‏

وكان صلى الله عليه وسلم‏:‏ إذا رأى مطر قال‏:‏ ‏(‏الَّلهم صيِّبَاً نَافِعاً‏)‏

وكان يحسر ثوبَه حتى يصيبه من المطر، فسئل عن ذلك،فقال‏:‏ ‏(‏لأنه حَديثُ عَهْدٍ بِرَبِّه‏)‏‏.‏

قال الشافعي رحمه اللّه‏:‏ أخبرني من لا أتهم عن يزيد بن الهاد، أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا سال السيل قال‏:‏ ‏(‏اخرُجُوا بِنَا إلى هَذَا الَذِي جَعَلَهُ الله طَهُوراً، فَنَتَطَهَّرَ منه، ونَحْمَدَ اللَّهَ عَلَيْهِ‏)‏‏.‏

وأخبرني من لا أتَّهم، عن إسحاق بن عبد اللّه أن عمر كان إذا سال السيلُ ذهب بأصحابه إليه، وقال‏:‏ ما كان لِيجيء منْ مجيئه أحدٌ إلا تمسَّحنا به‏.‏

وكان صلى الله عليه وسلم إذا رأى الغيمَ والريح، عُرِفَ ذلك في وجهه، فأقبل وأدبر، فإذا أمطرت، سُرِّيَ عنه، وذهب عنه ذلك، وكان يخشى أن يكون فيه العذاب‏.‏ قال الشافعي‏:‏ وروي عن سالم بنِ عبد اللّه عن أبيه مرفوعاً أنه كان إذا استسقى قال‏:‏ ‏(‏اللَّهُم اسقِنَا غيثاً مُغيثاً هَنِيئاً مَرِيئاً غَدَقاً مُجلِّلاً عَامَّاً طَبَقاً سَحَّاً دائماً، اللَّهُم اسقِنَا الغَيْثَ، ولا تجعلنا من القَانِطين، اللهم إن بِالعبادِ والبِلادِ والبهائِم والخلق مِن اللأواءِ والجهد والضَّنْكِ ما لا نشكوه إلاَّ إليك، اللهم أَنْبِتْ لنا الزَّرَعَ، وأَدِرَّ لنا الضَّرْعَ، واسقِنا مِن بركات السماء، وأنبِتْ لنا مِن بركات الأرض، اللهم ارفع عنا الجَهْدَ والجُوعَ والعُريَ، واكشفْ عنا مِن البلاء ما لا يكشِفُه غيرُك، اللهم إنا نستغفِرك، إنك كنتَ غفَّاراً، فأرسل السماء علينا مِدراراً‏)‏‏.‏

قال الشافعي رحمه اللّه‏:‏ وأحبُّ أن يدعوَ الإِمام بهذا، قال‏:‏ وبلغني أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا دعا في الاستسقاء رفع يديه وبلغنا أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يتمطَّر في أول مطرة حتى يصيبَ جسده‏.‏ قال‏:‏ وبلغني أن بعض أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا أصبح وقد مُطِرَ الناس، قال‏:‏ مُطِرنا بنَوءِ الفَتح، ثم يقرأ‏:‏ ‏{‏ما يَفتحَ اللَّهُ لِلنَّاس من رَحْمَةٍ فلا ممسِكَ لَهَا‏}‏ ‏[‏فاطر‏:‏ 2‏]‏‏.‏

قال‏:‏ وأخبرني من لا أتهم عن عبد العزيز بن عمر،عن مكحول عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:‏ ‏(‏اطلبُوا استجابة الدعاء عند التقاء الجيوش وإقامة الصلاة، ونزول الغيث‏)‏‏.‏

وقد حَفظْتُ عن غير واحد طلبَ الإِجابة غد‏:‏ نزول الغيث، وإقامة الصلاة‏.‏ قال البيهقى‏:‏ وقد روينا في حديث موصول عن سهل بن سعد، عن النبي صلى الله عليه وسلم ‏(‏الدعاء لا يُرَدُّ عنِدَ النداءِ، وَعِنْدَ البَأس، وتَحْتَ المَطَرِ‏)‏‏.‏ وروينا عن أبي أمامة، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏تُفتَحُ أبوابُ السماء، ويُستجابُ الدعاء في أربعة مواطن‏:‏ عند التقاء الصُّفوف، وعِندَ نُزُول الغَيْث، وعندَ إقَامَة الصَّلاةِ، وَعِنْدَ رُؤْيَةِ الكَعْبَةِ‏)‏‏.‏

فصل‏:‏ في هديه صلى الله عليه وسلم في سفره وعبادته فيه

كانت أسفاره صلى الله عليه وسلم دائرةَ بين أربعة أسفار‏:‏ سفرِه لهجرته، وسفره للجهاد وهو أكثرها، وسفرِه للعمرة، وسفرِه للحج‏.‏

وكان إذا أراد سفراً، أقرع بين نسائه، فأيَّتُهُن خرج سهمُها، سافر بها معه، ولما حجّ، سافر بهن جميعاً‏.‏

وكان إذا سافر، خرج مِن أول النهار، وكان يستحِبُّ الخروجَ يوم الخميس، ودعا اللّه تبارك وتعالى أن يُبارك لأُمَّتِهِ في بُكورها‏.‏

وكان إذا بعث سرية أو جيشاً، بعثهم من أول النهار، وأمرَ المسافرين إذا كانوا ثلاثة أن يؤمِّروا أحدهم‏.‏ ونهى أن يُسافر الرجل وحدَه، وأخبر أن الراكِبَ شَيْطَانٌ، والرَّاكِبانِ شَيْطَانَانِ، وَالثَّلاثَةُ رَكْب‏.‏

وذُكِرَ عنه أنه كان يقول حين ينهض للسفر ‏(‏اللَهُم إلَيْك تَوَجَهْتُ، وبِكَ اعْتَصَمْت، اللَّهُم اكْفِني مَا أَهمَّني وَمَا لاَ أَهْتَم بهِ، اللَّهُمَّ زَوِّدْني التَّقْوَى، وَاغْفِرْ لي ذَنْبِي، وَوَجِّهْنِي لِلخَيْرِ أَيَنَمَا تَوَجَّهْتُ‏)‏‏.‏

وكان إذا قُدِّمتَ إليه دابتُه ليركبها، يقول‏:‏ ‏(‏بسم اللّه حين يضع رجله في الرِّكاب، وإذا استوى على ظهرها، قال‏:‏ الحمدُ لله الَذي سَخَّرَ لَنَا هَذا وَمَا كُنَّا لَهُ بمقْرِنينَ وَإنَّا إِلَى رَبِّنَا لمنْقَلِبونَ، ثُمَّ يَقُولُ‏:‏ الحَمْدُ لِلَّهِ، الحَمد لِلَّهِ، الحَمْدُ لِلَّهِ، ثم يقول‏:‏‏.‏ اللَّه أَكْبَرُ، اللَّهُ أَكْبَرُ، اللَّهُ أَكبر، ثم يقولٌ‏:‏ سُبْحَانَكَ إِنَيّ ظَلَمْتُ نَفْسِي، فَاغفِرِ لِي إِنَّه لاَ يَغْفر الذُنُوبَ إِلاَّ أَنتَ‏)‏ وكان يقول‏:‏ ‏(‏اللَّهم إنَّا نَسْألُكَ في سَفَرِنَا هَذَا البِرَّ وَالتَّقْوَى، وَمِنَ العَمَلِ مَا تَرْضَى، اللَّهُم هَوِّن عَلَيْنَا سَفَرَنَا هذا، وَاطْوِ عَنَّا بُغدَهُ، اللَّهم أَنْتَ الصَّاحِبُ في السَّفَرِ، وَالخَلِيفَةُ في الأَهْلِ، اللَهُمَّ إنيِّ أَعُوذُ بِكَ مِن وَعْثَاءِ السَّفَرِ، وَكَآبَةِ المنقَلَبِ، وَسوءِ المَنْظَرِ في الأَهلِ وَالمَالِ‏)‏ وإذا رجع، قالهن، وزاد فيهن‏:‏ ‏(‏آيبون تَائِبُونَ عَابِدُون لِرَبِّنَا حَامِدُون‏)‏‏.‏

وكان هو وأصحابُه إذا عَلوا الثنايا، كبَّروا، وإذا هبطوا الأودية،سبَحوا‏.‏

وكان إذا أشرف على قرية يُريد دخولَها يقولُ ‏(‏اللَّهُمًّ رَبَّ السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ وما أظْلَلْنَ، وَرَبَّ الأَرضين السَّبْعِ وَمَا أَقْلَلْنَ، وَرَبَّ الشَّيَاطِينِ وما أَضْلَلْنَ، وَرَبَّ الرِّيَاحِ وَما ذَرَيْنَ، أَسْأَلُكَ خَيْرَ هذِه القَرْيَةِ وَخَيْرَ أهْلِهَا، وأَعُوذُ بِكَ مِنْ شَرِّهَا، وَشَرِّ أَهْلِهَا وَشَرِّ مَا فِيهَا‏)‏

وذكر عنه أنه كان يقول‏:‏ ‏(‏اللَّهُمَّ إِنِّي أسأَلُكَ مِنْ خَيْرِ هذِهِ القَرْيَة وَخَيْرِ مَا جَمَعْتَ فِيهَا، وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ شَرِّهَا وَشرِّ مَا جَمَعْتَ فِيهَا، اللَّهُمّ ارزُقْنَا جَنَاهَا، وَأَعِذْنَا مِنْ وَبَاهَا، وَحَبِّبْنَا إِلَى أَهْلِهَا، وَحَبِّب صَالِحِي أَهْلِهَا إِلَيْنَا‏)‏‏.‏

وكان يَقصُر الرُّبَاعية، فيصليها ركعتين مِن حين يخرُج مسافراً إلى أن يرجع إلى المدينة، ولم يثبُت عنه أنه أتمَّ الرُّباعية في سفره البتة، وأما حديث عائشة‏:‏ أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقصُرُ في السفر ويتِمُّ، ويُفْطِرُ ويَصُومُ، فلا يَصحّ‏.‏ وسمعتُ شيخ الإِسلام ابن تيمية يقول‏:‏ هو كذب على رسول اللّه صلى الله عليه وسلم انتهى، وقد روي‏:‏ كان يقصرُ وتتم، الأول بالياء آخر الحروف، والثاني بالتاء المثناة من فوق، وكذلك يُفطر ويَصوم، أي‏:‏ تأخذ هي بالعزيمة في‏.‏ الموضعين، قال شيخنا ابن تيمية‏:‏ وهذا باطل ما كانت أم المؤمنين لِتُخالف رسول الله صلى الله عليه وسلم وجميعَ أصحابه، فتصليَ خلاف صلاتهم، كيف والصحيح عنها أنها قالت‏:‏ إن اللّه فرض الصلاة ركعتين ركعتين، فلما هاجرَ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم إلى المدينة، زِيد في صلاة الحضر، وأقرت صلاة السفر فكيف يُظن بها مع ذلك أن تُصليَ بخلاف صلاة النبي صلى الله عليه وسلم والمسلمين معه‏.‏

قلت‏:‏ وقد أتمَّت عائشةُ بعد موت النبي صلى الله عليه وسلم، قال ابن عباس وغيره‏:‏ إنها تأوَّلت كما تأوَّل عثمان وإن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقصر دائماً، فركب بعضُ الرواة من الحديثين حديثاً، وقال‏:‏ فكان رسول صلى الله عليه وسلم يقصر وتُتم هي، فغلط بعضُ الرواة، فقال‏:‏ كان يقصُرُ ويُتِمُّ، أي‏:‏ هو‏.‏

والتأويل الذي تأولته قد اختُلِف فيه، فقيل‏:‏ ظنت أن القصر مشروط بالخوف في السفر، فإذا زال الخوف، زال سكبُ القصر، وهذا التأويل غيرُ صحيح، فإن النبي صلى الله عليه وسلم سافر آمِناً وكان يقصرُ الصلاة، والآية قد أشكلت على عُمر وعلى غيره، فسأل عنها رسول اللّه صلى الله عليه وسلم، فأجابه بالشِّفاء وأن هذا صَدَقَة مِنَ اللَّهِ وشرع شرعه للأمة، وكان هذا بيانَ أن حكم المفهوم غيرُ مراد، وأن الجناح مرتفعٌ في قصر الصلاة عن الآمِن والخائف، وغايتُه أنه نوع تخصيص للمفهوم، أو رفع له، وقد يقال‏:‏ إن الآية اقتضت قصراً يتناول قصرَ الأركان بالتخفيف، وقصر العدد بنُقصان ركعتين، وقُيِّدَ ذلك بأمرين‏:‏ الضرب في الأرض، والخوفِ، فإذا وُجدَ الأمرانِ، أبيحَ القصران، فيُصلُون صلاةَ الخوف مقصورة عددُها وأركانُها، وإن انتفى الأمرانِ، فكانوا آمنين مقيمين، انتفى القصران، فتصلُّون صلاة تامة كاملة، وإن وُجِدَ أحدُ السببين، ترتب عليه قصرُه وحدَه، فإذا وُجِدَ الخوف والإِقامة، قُصرت الأركان، واستوفي العدد، وهذا نوع قصر، وليس بالقصر المطلق في الآية، فإن وجد السفرُ والأمن، قُصِرَ العدد واستوفي الأركان، وسميت صلاة أمن، وهذا نوع قَصْرٍ، وليس بالقصر المطلق، وقد تُسمى هذه الصلاة مقصورة باعتبار نقصان العدد، وقد تُسمى تامة باعتبار إتمام أركانها، وأنها لم تدخل في قصر الآية، والأول اصطلاح كثير من الفقهاء المتأخرين، والثاني يدل عليه كلام الصحابة، كعائشة وابن عباس وغيرهما، قالت عائشة‏:‏ فُرِضَتِ الصلاةُ ركعتين ركعتين، فلما هاجر رسولُ اللّه صلى الله عليه وسلم إلى المدينة، زيد في صلاة الحضر، وأُقِرَّتْ صلاة السفر‏.‏ فهذا يدل على أن صلاة السفر عندها غيرُ مقصورة من أربع، وإنما هي مفروضة كذلك، وأن فرض المسافر ركعتان‏.‏ وقال ابن عباس‏:‏ فرضَ اللَّهُ الصَّلاَة على لِسان نبيكم في الحضر أربعاً، وفي السفر ركعتين، وفي الخوف ركعة متفق على حديث عائشة، وانفرد مسلم بحديث ابن عباس وقال عمر رضى اللّه عنه‏:‏ صلاة السفر ركعتان، والجمعة ركعتان،والعيد ركعتان، تمامٌ غيرُ قصرٍ على لسان محمد، وقد خاب من افترى‏.‏ وهذا ثابت عن عمر رضي اللّه عنه، وهو الذي سأل النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ما بالُنا نقصُر وقد أمِنَّا‏؟‏ فقال له رسولُ اللّه صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏صدَقَةٌ تَصَدَّقَ بهَا اللَّهُ عَلَيْكُمْ، فَاقْبَلوا صَدَقَتَهُ‏)‏‏.‏

ولا تناقضَ بين حديثيه، فإن النبي صلى الله عليه وسلم لما أجابه بأن هذه صدقةُ الله عليكم، ودِينُه اليسر السمح، علم عمرُ أنه ليس المرادُ من الآية قصرَ العدد كما فهمه كثير من الناس، فقال‏:‏ صلاة السفر ركعتان، تمامٌ غير قصر‏.‏ وعلى هذا، فلا دلالة في الآية على أن قصر العدد مباح منفي عنه الجناح، فإن شاء المصلي، فعله، وإن شاء أتم‏.‏

وكان رسول اللّه صلى الله عليه وسلم يُواظب في أسفاره على ركعتين ركعتين، ولم يُربِّع قطُّ إلا شيئاً فعله في بعض صلاة الخوف، كما سنذكره هناك، ونبين ما فيه إن شاء الله تعالى‏.‏

وقال أنس‏:‏ خرجنا مع رسول اللّه صلى الله عليه وسلم من المدينة إلى مكة، فكان يُصلي ركعتين ركعتين حتى رجَعْنَا إلى المدينة‏.‏ متفق عليه‏.‏

ولما بلغ عبد اللّه بن مسعود أن عثمانَ بن عفان صلَّى بمِنى أربعَ ركعات قال‏:‏ إنَّا لله وإنَّا إليه راجِعون، صليتُ مع رسول اللّه صلى الله عليه وسلم بمِنى ركعتين وصليتُ مع أبي بكر بمِنى ركعتين، وصليتُ مع عمر بن الخطاب بِمنى ركعتين، فليت حظي مِن أربع رَكعاتٍ ركْعَتَانِ متقبَّلتَانِ‏.‏ متفق عليه‏.‏ ولم يكن ابنُ مسعود لِيسترجع مِن فعل عثمان أحد الجائزين المخيَّرِ بينهما، بل الأولى على قول، وإنما استرجع لما شاهده مِن مداومة النبي صلى الله عليه وسلم وخُلفائه على صلاة ركعتين في السفر‏.‏

وفي ‏(‏صحيح البخاري‏)‏ عن ابن عمر رضي اللّه عنه قال‏:‏ صحبتُ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم، فكان في السفر لا يَزيد على ركعتين، وأبا بكر وعُمَر وعُثمان يعني في صدر خلافة عثمان، وإلا فعثمان قد أتم في آخر خلافته، وكان ذلك أحدَ الأسباب التي أُنكِرت عليه‏.‏ وقد خرج لفعله تأويلات‏:‏

أحدها‏:‏ أن الأعراب كانوا قد حجُوا تلك السنة، فأراد أن يُعلِّمَهم أن فرضَ الصلاة أربع، لئلا يتوهَّموا أنها ركعتان في الحضر والسفر، ورُدَّ هذا التأويلُ بأنهم كانوا أحرى بذلك في حج النبي صلى الله عليه وسلم، فكانوا حديثي عهد بالإِسلام، والعهدُ بالصلاة قريبٌ، ومع هذا، فلم يُربِّعْ بهم النبي صلى الله عليه وسلم‏.‏

التأويل الثاني‏:‏ أنه كان إماماً للناس، والإِمام حيث نزل، فهو عمله ومحل ولايته، فكأنه وطنه، ورُدَّ هذا التأويل بأن إمام الخلائق على الإِطلاق رسول اللّه صلى الله عليه وسلم كان هو أولى بذلك، وكان هو الإِمامَ المطلق، ولم يُربِّع‏.‏

التأويل الثالث أن مِنى كانت قد بُنيت وصارت قرية كثر فيها المساكن في عهده، ولم يكن ذلك في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم بل كانت فضاءً، ولهذا قيل له‏:‏ يا رسول الله ألا نبني لك بمِنى بيتاً يُظِلُكَ مِن الحر‏؟‏ فقال‏:‏ ‏(‏لا منى مُنَاخُ مَنْ سَبَق‏)‏‏.‏ فتأوَّل عثمانُ أن القصر إنما يكون في حال السفر‏.‏ هذا التأويلُ بأن النبي صلى الله عليه وسلم أقام بمكة عشراً يقصُر الصلاة‏.‏

التأويل الرابع‏:‏ أنه أقام بها ثلاثاً، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏يُقيمُ المُهَاجر بَعْدَ قَضَاءِ نسُكِهِ ثَلاثاً‏)‏ فسماه مقيماً، والمقيم غيرُ مسافر، ورُدَّ هذا التأويلُ بأن هذه إقامة مقيدة في أثناء السفر ليست بالإِقامة التي هي قسيم السفر، وقد أقام صلى الله عليه وسلم بمكة عشراً يقصُر الصلاة، وأقام بمِنى بعد نسُكه أيامَ الجمار الثلاث يقصُرُ الصَّلاة‏.‏

التأويل الخامس‏:‏ أنه كان قد عزم على الإِقامة والاستيطان بمِنى، واتخاذِها دارَ الخلافة، فلهذا أتم، ثم بدا له أن يَرجع إلى المدينة، وهذا التأويل أيضاً مما لا يقوى، فإن عثمانَ رضي الله عنه من المهاجرين الأولين، وقد مَنع صلى الله عليه وسلم المهاجرين من الإِقامة بمكة بعد نسكهم، ورخَّص لهم فيها ثلاثة أيام فقط، فلم يكن عُثمانُ لِيقيم بها، وقد منع النبيُّ صلى الله عليه وسلم من ذلك، وإنما رخَص فيها ثلاثاً وذلك لأنهم تركوها للّه، وما تُرِكَ للّه، فإنه لا يُعاد فيه، ولا يُسترجع، ولهذا منع النبي صلى الله عليه وسلم مِن شراء المتصدِّق لصدقته، وقال لعمر‏:‏ ‏(‏لا تَشتَرِهَا، ولا تَعُدْ في صَدَقَتِكَ‏)‏‏.‏ فجعله عائداً في صدقته مع أخذها بالثمن‏.‏

التأويل السادس‏:‏ أنه كان قد تأهَّل بمنى والمسافر إذا أقام في موضع، وتزوج فيه، أو كان له به زوجة، أتم، ويُروى في ذلك حديث مرفوع، عن النبي صلى الله عليه وسلم‏.‏ فروى عكرمة بن إبراهيم الأزدي، عن ابن أبي ذُباب، عن أبيه قال‏:‏ صلى عثمان بأهل مِنى أربعاً وقال‏:‏ يا أيُّها الناسُ‏!‏ لما قَدِمتُ تأهَّلت بها، وإني سمعتُ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم يقول‏:‏ ‏(‏إذا تَأهَّل الرَّجُل بِبَلْدَةٍ، فإنَّه يُصَلِّي بها صلاةَ مُقيم‏)‏‏.‏ رواه الإِمام أحمد رحمه اللّه في ‏(‏مسنده‏)‏ وعبد الله بن الزبير الحُميدي في ‏(‏مسنده‏)‏ أيضاً، وقد أعله البيهقي بانقطاعه، وتضعيفه عكرمة بن إبراهيم‏.‏ قال أبو البركات ابن تيمية‏:‏ ويمكن المطالبة بسبب الضعف، فإن البخاري ذكره في ‏(‏تاريخه‏)‏ ولم يطعن فيه، وعادتُه ذكر الجرح والمجروحين، وقد نص أحمد وابن عباس قبله أن المسافر إذا تزوج، لزمه الإِتمام، وهذا قول أبي حنيفة، ومالك، وأصحابهما، وهذا أحسن ما اعتُذِر به عن عثمان‏.‏

وقد اعتُذِرَ عن عائشة أنها كانت أمَّ المؤمنين، فحيث نزلت كان وطنها، وهو أيضاً اعتذار ضعيف، فإن النبي صلى الله عليه وسلم أبو المؤمنين أيضاً، وأمومة أزواجه فرع عن أبوته، ولم يكن يُتم لهذا السبب‏.‏ وقد روى هشام بن عُروة، عن أبيه، أنها كانت تُصلي في السفر أربعاً، فقلت لها‏:‏ لو صليتِ ركعتين، فقالت‏:‏ يا ابن أختي‏!‏ إنه لا يشق عليَّ‏.‏

قال الشافعي رحمه اللّه‏:‏ لو كان فرضُ المسافر ركعتين، لما أتمها عثمان، ولا عائشة، ولا ابنُ مسعود، ولم يَجُزْ أن يُتمها مسافر مع مقيم، وقد قالت عائشة‏:‏ كلُّ ذلك قد فعل رسول اللّه صلى الله عليه وسلم، أتم وقصر، ثم روى عن إبراهيم بن محمد، عن طلحة بن عمرو، عن عطاء بن أبي رباح، عن عائشة قالت‏:‏ كُلّ ذلك فعل النبي صلى الله عليه وسلم، قصر الصلاة في السفر وأتم‏.‏

قال البيهقى‏:‏ وكذلك رواه المغيرة بن زياد، عن عطاء، وأصح إسناد فيه ما أخبرنا أبو بكر الحارثي، عن الدارقطني، عن المحاملي، حدثنا سعيد بن محمد بن ثواب، حدثنا أبو عاصم، حدثنا عمر بن سعيد، عن عطاء، عن عائشة، أن النبي صلى الله عليه وسلم، كان يقصرُ في الصلاةِ ويتم، ويُفطر، ويصوم‏.‏

قال الدارقطني‏:‏ وهذا إسناد صحيح ثم ساق من طريق أبي بكر النيسابوري، عن عباس الدوري، أنبأنا أبو نعيم، حدثنا العلاء بن زهير، حدثني عبد الرحمن بن الأسود، عن عائشة، أنها اعتمرت مع النبي صلى الله عليه وسلم من المدينة إلى مكة، حتى إذا قَدِمت مكة، قالت‏:‏ يا رسول الله بأبي أنتَ وأمي، قصرتَ وأتممت، وصمتَ وأفطرتُ‏.‏ قال‏:‏ ‏(‏أحسنتِ يا عائشة‏)‏‏.‏

وسمعتُ شيخ الإِسلام ابن تيمية يقول‏:‏ هذا الحديث كذبٌ على عائشة، ولم تكن عائشة لتُصلي بخلاف صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم وسائر الصحابة، وهي تشاهدهم يقصُرون، ثم تتم هي وحدها بلا موجب‏.‏ كيف وهي القائلة‏:‏ فُرِضتِ الصلاةُ ركعتين ركعتين، فَزِيد في صلاة الحضر، وأُقِرَّت صلاةُ السفر‏.‏ فكيف يُظن أنها تزيد على ما فرض اللّه، وتُخالف رسول اللّه صلى الله عليه وسلم وأصحابه‏.‏

قال الزهري لعروة لما حدثه عنها بذلك‏:‏ فما شأنها كانت تُتم الصلاة‏؟‏ فقال‏:‏ تأولت كما أول عثمان فإذا كان النبي صلى الله عليه وسلم قد حسَّن فِعلها وأقرَّها عليه، فما للتأويل حينئذ وجه، ولا يصح أن يُضاف إتمامُها إلى التأويل على هذا التقدير، وقد أخبر ابن عمر، أن رسول اللّه صلى الله عليه وسلم، لم يكن يَزيدُ في السفر على ركعتين، ولا أبو بكر، ولا عمر‏.‏ أفيُظَنُّ بعائشة أم المؤمنين مخالفتهم، وهي تراهم يقصُرون‏؟‏ وأما بعد موته صلى الله عليه وسلم، فإنها أتمت كما أتم عثمان، وكلاهما تأول تأويلاً، والحجة في روايتهم لا في تأويل الواحد منهم مع مخالفة غيره له واللّه أعلم‏.‏ وقد قال أميةُ بن خالد لعبد اللّه بن عمر‏:‏ إنا نجد صلاة الحضر، وصلاة الخوف في القرآن، ولا نجد صلاة السفر في القرآن‏؟‏ فقال له ابنُ عمر‏:‏ يا أخي إن اللّه بعث محمداً صلى الله عليه وسلم، ولا نعلم شيئاً، فإنما نفعل كما رأينا محمداً صلى الله عليه وسلم يفعل‏.‏

وقد قال أنس‏:‏ خرجنا مع رسول اللّه صلى الله عليه وسلم إلى مكة، فكان يُصلي ركعتينِ ركعتينِ، حتى رجعنا إلى المدينة‏.‏

وقال ابن عمر‏:‏ صحبتُ رسولَ اللّه صلى الله عليه وسلم، فكان لا يزيد في السفر على ركعتين، وأبا بكر وعمر، وعثمان رضي اللّه عنهم، وهذه كلّها أحاديثُ صحيحة‏.‏

فصل

وكان من هديه صلى الله عليه وسلم في سفره الاقتصارُ على الفرض، ولم يُحفظ عنه أنه صلى سُنة الصلاة قبلَها ولا بعدَها، إلا ما كان من الوِتر وسنة الفجر، فإنه لم يكن ليدعهما حَضراً، ولا سفراً‏.‏ قال ابنُ عمر وقد سئل عن ذلَك‏:‏ فقال‏:‏ صحبتُ اَلنبى صلى الله عليه وسلم، فلم أره يُسبِّح في السفر، وقال اللّه عز وجل‏:‏ ‏{‏لَقَدْ كَانَ لَكُمْ في رَسُولِ اللهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ‏}‏ ‏[‏الأحزاب‏:‏ 21‏]‏، ومراده بالتسبيح‏:‏ السنة الراتبة، وإلا فقد صحّ عنه صلى الله عليه وسلم، أنه كان يُسبِّح على ظهر راحلته حيث كان وجهه‏.‏ وفي ‏(‏الصحيحين‏)‏، عن ابن عمر، قال‏:‏ كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يُصلي في السفر على راحلته حيثُ توجهت، يُومئ إيماءً صلاةَ الليل، إلا الفرائضَ ويُوتر على راحلته‏.‏

قال الشافعي رحمه اللّه‏:‏ وثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم، أنه كان يتنفل ليلاً، وهو يقصُر، وفي ‏(‏الصحيحين‏)‏‏:‏ عن عامر بن ربيعة، أنه رأى النبي صلى الله عليه وسلم يُصلي السُّبحة بالليل في السفر على ظهر راحلته فهذا قيام الليل‏.‏

وسئل الإمام أحمد رحمه اللّه، عن التطوع في السفر‏؟‏ فقال‏:‏ أرجو أن لا يكون بالتطوع في السفر بأسٌ، ورُوي عن الحسن قال‏:‏ كان أصحابُ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم يُسافرون، فيتطوَّعون قبل المكتوبة وبعدها، وروي هذا عن عمر، وعلي، وابنِ مسعود، وجابرٍ، وأنس، وابنِ عباس، وأبي ذر‏.‏

وأما ابنُ عمر، فكان لا يتطوَّع قبلَ الفريضة ولا بعدَهَا، إلا مِن جوف الليل مع الوتر، وهذا هو الظاهر من هدي النبي بطلى صلى الله عليه وسلم أنه كان لا يُصلي قبل الفريضة المقصورة ولا بعدها شيئاً، ولكن لم يكن يمنعُ من التطوع قبلها ولا بعدها، فهو كالتطوع المطلق، لا أنه سنة راتِبة للصلاة، كسنة صلاة الإِقامة، ويؤيد هذا أن الرباعية قد خُففت إلى ركعتين تخفيفاً على المسافر، فكيف يجعل لها سنة راتبة يُحافظ عليها وقد خفف الفرض إلى ركعتين، فلولا قصد التخفيف على المسافر، وإلا كان الإِتمام أولى به، ولهذا قال عبد اللّه بن عمر‏:‏ لو كنت مسبِّحاً، لأتممتُ، وقد ثبت عنه صلى الله عليه وسلم، أنه صلى يوم الفتح ثمان ركعات ضُحى، وهو إذ ذاك مسافر‏.‏ وأما ما رواه أبو داود والترمذي في السنن، من حديث الليث، عن صفوان بن سليم، عن أبي بُسرة الغفاري، عن البراء بن عازب، قال‏:‏ سافرتُ مع رسول اللّه صلى الله عليه وسلم ثمانيةَ عشر سفراً، فلم أره ترك ركعتين غد زَيْغِ الشمس قبل الظهر‏.‏ قال الترمذي‏:‏ هذا حديث غريب‏.‏ قال‏:‏ وسألت محمداً عنه، فلم يعرفه إلا من حديث الليث بن سعد، ولم يعرف اسم أبي بسرة ورآه حسناً‏.‏ وبسرة‏:‏ بالباء الموحدة المضمومة، وسكون السين المهملة‏.‏

وأما حديث عائشة رضي اللّه عنها‏:‏ أن النبي صلى الله عليه وسلم كان لا يدعُ أربعاً قبل الظهر، وركعتينِ بعدها، فرواه البخاري في ‏(‏صحيحه‏)‏ ولكنه ليس بصريح في فعله ذلك في السفر، ولعلها أخبرت عن أكثر أحواله وهو الإِقامة، والرجال أعلم بسفره من النساء، وقد أخبر ابن عمر أنه لم يزد على ركعتين، ولم يكن ابن عمر يصلي قبلها ولا بعدها شيئاً‏.‏ والله أعلم‏.‏

فصل

وكان من هديه صلى الله عليه وسلم صلاةُ التطوع على راحلته حيث توجَّهت به، وكان يُومئ إيماءً برأسه في ركوعه، وسجوده، وسجودُه أخفضُ مِن ركوعه، وروى أحمد وأبو داود عنه، مِن حديث أنس، أنه كان يستقبِل بناقته القِبلَة عند تكبيرة الافتتاح، ثم تصلي سائرَ الصلاة حيث توجَّهت به‏.‏ وفي هذا الحديث نظر، وسائر من وصف صلاته صلى الله عليه وسلم على راحلته، أطلقوا أنه كان يُصلي عليها قِبَلَ أيِّ جهة توجَّهت به، ولم يستثنوا من ذلك تكبيرة الإِحرام ولا غيرَها، كعامر بن ربيعة، وعبد الله بن عمر، وجابر بن عبد الله، وأحاديثُهم أصحُ مِن حديث أنس هذا، والله أعلم‏.‏ وصلى على الراحلة، وعلى الحمار إن صح عنه، وقد رواه مسلم في ‏(‏صحيحه‏)‏ من حديث ابن عمر‏.‏

وصلى الفرضَ بهم على الرواحل لأجل المطر والطين إن صح الخبرُ بذلك، وقد رواه أحمد والترمذي والنسائي أنه عليه الصلاة والسلام انتهى إلى مضيق هو وأصحابُه وهو على راحلته، والسَّماء مِن فوقهم، والبِلَّةُ من أسفلَ منهم، فحضرتُ الصلاةُ، فأمر المؤذِّن فأذن، وأقام، ثم تقدَم رسول اللّه صلى الله عليه وسلم على راحلته، فصلى بهم يُومى إيماءً، فجعل السجود أخفضَ من الركوع‏.‏ قال الترمذي‏:‏ حديث غريب، تفرد به عمر بن الرماح، وثبت ذلك عن أنس من فعله‏.‏

فصل

وكان من هديه صلى الله عليه وسلم، أنه إذا ارتحل قبل أن تَزيغ الشمسُ، أخَّر الظهر إلى وقت العصر، ثم نزل، فجمع بينهما، فإن زالت الشمسُ قبل أن يَرتَحِلَ، صلَّى الظهر، ثم ركب‏.‏ وكان إذا أعجله السيرُ، أخَّر المغربَ حتى يجمع بينها وبين العشاء في وقت العشاء‏.‏ وقد رُوي عنه في غزوة تبوك، أنه كان إذا زاغت الشمسُ قبل أن يرتحِل، جمع بين الظهر والعصر، وإن ارتحل قبل أن تزيغ الشمس، أخَّر الظهر حتى ينزل للعصر، فيصليهما جميعاً، وكذلك في المغرب والعشاء، لكن اختلف في هذا الحديث، فمن مصحح له، ومن محسن، ومن قادح فيه، وجعله موضوعاً كالحاكم، وإسناده على شرط الصحيح، لكن رُمي بعلّة عجيبة، قال الحاكم‏:‏ حدثنا أبو بكر بن محمد بن أحمد بن بالويه، حدثنا موسى بن هارون، حدثنا قُتيبة بن سعيد، حدثنا الليث بنُ سعد، عن يزيد بن أبي حبيب، عن أبي الطُفيل، عن معاذ بن جبل، أن النبي صلى الله عليه وسلم كان في غزوة تبوك إذا ارتحل قبل أن تزِيغ الشمس، أخَّر الظهر حتى يجمعها إلى العصر، ويُصليَهما جميعاً، وإذا ارتحل بعد زيغ الشمس، صلى الظهر والعصر جميعاً، ثم سار، وكان إذا ارتحل قبل المغرب، أخَّر المغرب حتى يُصليها مع العشاء، وإذا ارتحل بعد المغرب، عجل العشاء فصلها مع المغرب‏.‏ قال الحاكم‏:‏ هذا الحديث رواته أئمة ثقات، وهو شاذ الإِسناد والمتن، ثم لا نعرِف له علة نُعله بها‏.‏ فلو كان الحديث عن الليث، عن أبي الزبير، عن أبي الطفيل، لعللنا به الحديث‏.‏ ولو كان عن يزيد بن أبي حبيب، عن أبي الطفيل، لعللنا به، فلما لم نجد له العلتين، خرج عن أن يكون معلولاً، ثم نظرنا فلم نجد ليزيد بن أبي حبيب عن أبي الطفيل رواية، ولا وجدنا هذا المتن بهذه السياقة عن أحد من أصحاب أبي الطفيل، ولا عن أحد ممن روى عن معاذ بن جبل غير أبي الطفيل، فقلنا‏:‏ الحديث شاذ‏.‏ وقد حدثوا عن أبي العباس الثقفي قال‏:‏ كان قُتيبة بن سعيد يقول لنا‏:‏ على هذا الحديث علامةُ أحمد بن حنبل، وعليَ بن المديني، ويحيى بن معين، وأبي بكر بن أبي شيبة، وأبي خيثمة، حتى عد قتيبة سبعة من أئمة الحديث كتبوا عنه هذا الحديث، وأئمة الحديث إنما سمعوه من قتيبة تعجُّباً من إسناده ومتنه، ثم لَمْ يَبلُغْنَا عن أحد منهم أنه ذكر للحديث عِلَّة، ثم قال‏:‏ فنظرنا فإذا الحديث موضوع، وقتيبة ثقة مأمون، ثم ذكر بإسناده إلى البخاري‏.‏ قال‏:‏ قلت لقتيبة بن سعيد‏:‏ مع من كتبت عن الليث بن سعد حديث يزيد بن أبي حبيب عن أبي الطفيل‏؟‏ قال‏:‏ كتبته مع خالد بن القاسم أبي الهيثم المدائني‏.‏ قال البخاري‏:‏ وكان خالد المدائني يُدخل الأحاديث على الشيوخ‏.‏

قلت‏:‏ وحكمه بالوضع على هذا الحديث غيرُ مسلَّم، فإن أبا داود رواه عن يزيد بن خالد بن عبد اللّه بن موهب الرملي، حدثنا المفضل بن فضالة، عن الليث بن سعد، عن هشام بن سعد، عن أبي الزبير، عن أبي الطفيل، عن معاذ فذكره‏.‏‏.‏‏.‏ فهذا المفضل قد تابع قتيبة، وإن كان قتيبة أجلَّ من المفضل وأحفظ، لكن زال تفرد قتيبة به، ثم إن قُتيبة صرح بالسماع فقال‏:‏ حدثنا ولم يعنعن، فكيف يُقدح في سماعه، مع أنه بالمكان الذي جعله الله به من الأمانة، والحفظ، والثقة، والعدالة‏.‏ وقد روى إسحاق بن راهويه‏:‏ حدثنا شبابة، حدثنا الليث، عن عقيل، عن ابن شهاب، عن أنس، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏كان إذا كان في سفر، فزالت الشمسُ، صلَّى الظهر والعصر، ثم ارتحل‏)‏‏.‏ وهذا إسناد كما ترى، وشبابة‏:‏ هو شبابة بن سوار الثقة المتفق على الاحتجاج بحديثه، وقد روى له مسلم في ‏(‏صحيحه‏)‏ عن الليث بن سعد بهذا الإِسناد، على شرط الشيخين، وأقلُّ درجاته أن يكون مقوياً لحديث معاذ، وأصله في ‏(‏الصحيحين‏)‏ لكن ليس فيه جمعُ التقديم‏.‏ ثم قال أبو داود‏:‏ وروى هشام، عن عروة، عن حسين بن عبد للّه، عن كريب، عن ابن عباس، عن النبي صلى الله عليه وسلم، نحو حديث المفضل، يعني حديث معاذ في الجمع والتقديم، ولفظه‏:‏ عن حسين بن عبد اللّه بن عُبيد الله بن عباس، عن كريب، عن ابن عباس، أنه قال‏:‏ ألا أخبركم عن صلاة النبي صلى الله عليه وسلم في السفر‏؟‏ كان إذا زالتِ الشمس وهو في منزله، جمع بين الظهر والعصر في الزوال، وإذا سافر قبل أن تزول الشمس، أخر الظهر حتى يجمع بينها وبين العصر في وقت العصر، قال‏:‏ وأحْسِبُه قال في المغرب والعشاء مثل ذلك، ورواه الشافعي من حديث ابن أبي يحيى، عن حسين، ومن حديث ابن عجلان بلاغاً عن حسين‏.‏

قال البيهقي‏:‏ هكذا رواه الأكابر، هشام بن عروة وغيره، عن حسين بن عبد اللّه‏.‏ ورواه عبد الرزاق، عن ابن جريج، عن حسين، عن عكرمة، وعن كريب كلاهما عن ابن عباس، ورواه أيوب عن أبي قِلابة، عن ابن عباس، قال‏:‏ ولا أعلمه إلا مرفوعاً‏.‏

وقال إسماعيل بن إسحاق‏:‏ حدثنا إسماعيل بن أبي إدريس، قال‏:‏ حدثني أخي، عن سليمان بن مالك، عن هشام بن عروة، عن كريب عن ابن عباس، قال‏:‏ كان رسولى اللّه صلى الله عليه وسلم إذا جدَّ به السير، فراح قبل أن تَزيغ الشمسُ، ركِب فسار، ثم نزل، فجمع بين الظهر والعصر، وإذا لم يَرُحْ حتى تزِيغ الشمس، جمع بين الظهر والعصر، ثم ركب، وإذا أراد أن يركب ودخلت صلاةُ المغرب، جمع بين المغرب وبين صلاة العشاء‏.‏

قال أبو العباس بن سريج‏:‏ روى يحيى بن عبد الحميد، عن أبي خالد الأحمر، عن الحجاج، عن الحكم، عن مقسم، عن ابن عباس، قال‏:‏ كان رسول اللّه صلى الله عليه وسلم يخض إذا لم يرتحِلْ حتى تزيغ الشمس، صلَّى الظهر والعصر جميعاً، فإذا لم تَزِغْ، أخَرها حتى يجمع بينهما في وقت العصر‏.‏

قال شيخ الإِسلام ابن تيمية‏:‏ ويدل على جمع التقديم جمعه بعرفة بين الظهر والعصر لمصلحة الوقوف، ليتصل وقت الدعاء، ولا يقطعُه بالنزول لصلاة العصر مع إمكان ذلك بِلا مشقة، فالجمعُ كذلك لأجل المشقة والحاجة أولى‏.‏

قال الشافعي‏:‏ وكان أرفقَ به يوم عرفة تقديمُ العصر لأن يتَّصِلَ له الدعاءُ، فلا يقطعه بصلاة العصر، وأرفق بالمزدلفة أن يتصلَ له المسير، ولا يقطعه بالنزول للمغرب، لما في ذلك من التضييق على الناس‏.‏ والله أعلم‏.‏

فصل

ولم يكن مِن هديه صلى الله عليه وسلم الجمعُ راكباً في سفره، كما يفعله كثير من الناس، ولا الجمع حال نزوله أيضاً، وإنما كان يجمع إذا جدَّ به السير، وإذا سار عقيبَ الصلاة، كما ذكرنا في قصة تبوك، وأما جمعه وهو نازل غيرُ مسافر، فلم يُنقل ذلك عنه إلا بعرفة لأجل اتصال الوقوف، كما قال الشافعي رحمه اللّه وشيخنا، ولهذا خصه أبو حنيفة بعرفة، وجعله من تمام النسك، ولا تأثير للسفر عنده فيه‏.‏ وأحمد، ومالك، والشافعي، جعلوا سببه السفر، ثم اختلفوا، فجعل الشافعي وأحمد في إحدى الروايات عنه التأثير للسفر الطويل، ولم يجوزاه لأهل مكة، وجوز مالك وأحمد في الرواية الأخرى عنه لأهل مكة الجمعَ، والقصرَ بعرفة، واختارها شيخُنا وأبو الخطاب في عباداته، ثم طرَّد شيخنا هذا، وجعله أصلاً في جواز القصر والجمع في طويل السفر وقصيره، كما هو مذهبُ كثير من السلف، وجعله مالك وأبو الخطاب مخصوصاً بأهل مكة‏.‏

ولم يحدَّ صلى الله عليه وسلم لأمته مسافة محدودة للقصر والفطر، بل أطلق لهم ذلك في مُطلق السفر والضرب في الأرض، كما أطلق لهم التيمم في كل سفر، وأما ما يُروى عنه من التحديد باليوم، أو اليومين، أو الثلاثة، فلم يصح عنه منها شيء البتة، واللّه أعلم‏.‏

فصل‏:‏ في هديه صلى الله عليه وسلم في قراءة القرآن، واستماعه، وخشوعه، وبكائه عند قراءته، واستماعه وتحسين صوته به وتوابع ذلك

كان له صلى الله عليه وسلم حِزب يقرؤه، ولا يُخِلُّ به، وكانت قراءتُه ترتيلاً لا هذَّا ولا عجلة، بل قِراءةً مفسَّرة حرفاً حرفاً‏.‏ وكان يُقَطِّع قراءته آية آية، وكان يمدُّ عند حروف المد، فيمد ‏(‏الرحمن‏)‏ ويمد ‏(‏الرحيم‏)‏، وكان يستعيذ باللّه من الشيطان الرجيم في أول قراءته، فيقول‏:‏ ‏(‏أعُوذُ بِاللهِ مِنَ الشَّيطَانِ الرَجِيم‏)‏، ورُبَّما كان يقول‏:‏ ‏(‏اللَّهُمَّ إنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيم من هَمْزِهِ ونَفْخِهِ، ونَفثِهِ‏)‏‏.‏ وكان تعوّذُه قبلَ القراءة‏.‏

وكان يُحبُّ أن يسمع القراَنَ مِن غيره، وأمر عبد اللّه بن مسعود، فقرأ عليه وهو يسمع‏.‏ وخَشَع صلى الله عليه وسلم لسماع القران مِنه، حتى ذرفت عيناه‏.‏

وكان يقرأ القراَن قائماً، وقاعداً، ومضطجعاً ومتوضئاً، ومُحْدِثاً، ولم يكن يمنعه من قِراءته إلا الجنابة‏.‏

وكان صلى الله عليه وسلم يتغنَّى به، ويُرجِّع صوتَه به أحياناً كما رجَّع يوم الفتح في قراءته ‏{‏إنَّا فتَحْنَا لَكَ فَتْحَاً مُبِيناً‏}‏ ‏[‏الفتح‏:‏ 1‏]‏‏.‏ وحكى عبد الله بن مغفَّل ترجِيعَه، آ ا آ ثلاث مرات، ذكره البخاري‏.‏

وإذا جمعت هذه الأحاديثَ إلى قوله‏:‏ ‏(‏زَيِّنُوا القُرآن بأصْواتِكُم‏)‏‏.‏ وقوله‏:‏ ‏(‏لَيْسَ مِنَّا مَنْ لَمْ يَتَغَنَّ بِالقُرْآن‏)‏‏.‏ وقوله‏:‏ ‏(‏ما أَذِنَ اللهُ لِشَيء، كأَذَنِهِ لِنَبيٍّ حَسَنِ الصَّوْتِ يَتَغَنَّى بِالقُرْان‏)‏‏.‏ علمت أن هذا الترجيعَ منه صلى الله عليه وسلم، كان اختياراً لا اضطراراً لهزِّ الناقة له، فإن هذا لو كان لأجل هزِّ الناقة، لما كان داخلاً تحت الاختيار، فلم يكن عبدُ الله بن مغفَّل يحكيه ويفعلُه اختياراً لِيُؤتسى به، وهو يرى هزَّ الراحلة له حتى ينقطع صوتُه، ثم يقول‏؟‏ كان يُرجِّعُ في قراءته، فنسب التَّرجيع إلى فعله‏.‏ ولو كان مِن هزِّ الراحلة، لم يكن منه فعل يسمى ترجيعاً‏.‏

وقد استمع ليلةً لقراءة أبي موسى الأشعري، فلما أخبره بذلك، قال‏:‏ لوْ كنتُ أعلم أنك تسمعه، لحبَّرْته لَكَ تَحْبِيراً‏.‏ أي‏:‏ حسَّنته وزيَّنته بصوتي تزييناً، وروى أبو داود في ‏(‏سننه‏)‏ عن عبد الجبار بن الورد، قال‏.‏ سمعتُ ابنَ أبي مُليكة يقول‏:‏ قال عبد اللّه بن أبي يزيد‏:‏ مر بنا أبو لُبابة، فاتَّبعناه حتى دخل بيته، فإذا رجلٌ رثُّ الهيئة، فسمعتُه يقول‏:‏ سمعتُ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم يقول‏:‏ ‏(‏لَيْسَ مِنَّا مَنْ لَمْ يَتَغَنَّ بالقراَنِ‏)‏‏.‏ قال‏:‏ فقلت لابن أبي مُليكة‏:‏ يا أبا محمد‏!‏ أرأيتَ إذا لم يكن حسنَ الصوت‏؟‏ قال‏:‏ يُحسِّنُه ما استطاع‏.‏

قلت‏:‏ لا بد من كشف هذه المسألة، وذكر اختلافِ الناس فيها، واحتجاج كلِّ فريق، وما لهم وعليهم في احتجاجهم، وذكر الصواب في ذلك بحول اللّه تبارك وتعالى ومعونته، فقالت طائفة‏:‏ تكره قراءة الألحان، وممن نص على ذلك أحمد ومالكٌ وغيرهما، فقال أحمد في رواية علي بن سعيد في قراءة الألحان‏:‏ ما تعجبُني وهو محْدَث‏.‏ وقال في رواية المروَزي‏:‏ القراءةُ بالألحان بدعة لا تسمع، وقال في رواية عبد الرحمن المتطبب‏:‏ قراءةُ الألحان بدعة، وقال في رواية ابنه عبد اللّه، ويوسف بن موسى، ويعقوب بن بختان، والأثرم، وإبراهيم بن الحارث‏:‏ القراءةُ بالألحان لا تُعجبني إلا أن يكون ذلك حُزناً، فيقرأ بحزن مثلَ صوت أبي موسى، وقال في رواية صالح‏:‏ ‏(‏زَيِّنُوا القُرْاَنَ بِأصْوَاتِكُم‏)‏، معناه‏:‏ أن يُحسِّنه، وقال في رواية المروَزي‏:‏ ‏(‏ما أذِن اللّه لشيء كأذَنِهِ لنبي حسن الصوت أن يتغنَّى بالقرآن‏)‏ وفي رواية قوله‏:‏ ‏(‏لَيْسَ مِنَّا مَنْ لَمْ يَتَغَنَّ بِالقُرْآنِ‏)‏، فقال‏:‏ كان ابنُ عيينة يقول‏:‏ يستغني به‏.‏ وقال الشافعي‏:‏ يرفع صوته، وذكر له حديث معاوية بن قرة في قصة قراءة سورة الفتح والترجيع فيها، فأنكر أبو عبد اللّه أن يكون على معنى الألحان، وأنكر الأحاديثَ التي يُحتج بها في الرخصة في الألحان‏.‏

وروى ابن القاسم، عن مالك، أنه سئل عن الألحان في الصلاة، فقال‏:‏ لا تُعجبني، وقال‏:‏ إنما هو غناءٌ يتغنَّون به، ليأخذوا عليه الدراهم، وممن رُويت عنه الكراهةُ، أنس بن مالك، وسعيد بن المسيِّب، وسعيد بن جبير، والقاسم بن محمد، والحسن، وابن سيرين، وإبراهيم النخعي‏.‏ وقال عبد اللّه بن يزيد العكبري‏:‏ سمعت رجلاً يسأل أحمد، ما تقولُ في القراءة بالألحان‏؟‏ فقال ما اسمك‏؟‏ قال محمد‏:‏ قال‏:‏ أيسرك أن يقال لك‏:‏ يا موحمد ممدوداً، قال القاضي أبو يعلى‏:‏ هذه مبالغة في الكراهة‏.‏ وقال الحسن بنُ عبد العزيز الجَرَوي‏:‏ أوصى إليَّ رجل بوصية، وكان فيما خلَّف جارية تقرأ بالألحان، وكانت أكثَر تَرِكته أو عامتها، فسألتُ أحمد بن حنبل والحارث بن مسكين، وأبا عُبيد، كيف أبيعُها‏؟‏ فقالوا‏:‏ بعها ساذجةً، فأخبرتُهم بما في بيعها من النقصان، فقالوا‏:‏ بعها ساذَجة، قال القاضي‏:‏ وإنما قالوا ذلك، لأن سماع ذلك منها مكروه، فلا يجوز أن يُعاوض عليه كالغناء‏.‏

قال ابن بطَّال‏:‏ وقالت طائفة‏:‏ التغنِّي بالقران، هو تحسينُ الصوت به، والترجعُ بقراءته، قال‏:‏ والتغني بما شاء مِن الأصوات واللحون هو قول ابن المبارك، والنضرِ بن شُميل، قال‏:‏ وممن أجاز الألحان في القرآن‏:‏ ذكر الطبري، عن عمر بن الخطاب رضي اللّه عنه، أنه كان يقول لأبي موسى‏:‏ ذكِّرنا ربَّنا، فيقرأ أبو موسى ويتلاحن، وقال‏:‏ من استطاع أن يتغنى بالقرآن غِناء أبي موسى، فليفعل، وكان عقبة بن عامر من أحسن الناس صوتاً بالقراَن، فقال له عمر‏:‏ اعرض عليَّ سورة كذا، فعَرض عليه، فبكى عمر، وقال‏:‏ ما كنتُ أظن أنها نزلت، قال‏:‏ وأجازه ابن عباس، وابن مسعود، وروي عن عطاء بن أبي رباح، قال‏:‏ وكان عبد الرحمن بن الأسود بن يزيد، يتتبَع الصوتَ الحسن في المساجد في شهر رمضان‏.‏ وذكر الطحاوي عن أبي حنيفة وأصحابه‏:‏ أنهم كانوا يستمعون القران بالألحان‏.‏ وقال محمد بن عبد الحكم‏:‏ رأيت أبي والشافعي ويوسف بن عمر يستمعون القرآن بالألحان، وهذا اختيارُ ابن جرير الطبرى‏.‏

قال المجوِّزون - واللفظ لابن جرير-‏:‏ الدليلُ‏:‏ على أن معنى الحديث تحسينُ الصوت، والغناء المعقول الذي هو تحزين القارئ سامعَ قراءته، كما أن الغناء بالشعر هو الغناءُ المعقولُ الذي يُطرب سامعه -‏:‏ ما روى سفيان، عن الزهري، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة، أن النبي صلى الله عليه وسلم، قال‏:‏ ‏(‏مَا أذنَ اللَّهُ لشيء مَا أذنَ لنبيٍّ حسن التَّرنُّم بالقُرْآن‏)‏ ومعقول عند ذوي الحِجا، أنَ الترنُّم لاَ يكًون إلا بالَصوت إذا حسَّنه المترنم وطرَّب به‏.‏ وروي في هذا الحديث ‏(‏ما أذِنَ اللّه لشيء ما أذن لنبي حسنِ الصوت يتغنى بالقراَن يجهرُ به‏)‏‏.‏ قال الطبري‏:‏ وهذا الحديث من أبين البيان أن ذلك كما قلنا، قال‏:‏ ولو كان كما قال ابنُ عيينة، يعني‏:‏ يستغني به عن غيره، لم يكن لذكر حُسن الصوت والجهر به معنى، والمعروف في كلام العرب أن التغني إنما هو الغناء الذي هو حسنُ الصوت بالترجيع، قال الشاعر‏:‏

تَغَنَ بِالشِّعْرِ إمَّا كُنْتَ قَائِلَه ** إنَّ الغِنَاءَ لِهَذا الشِّعرِ مِضْمَارُ

قال‏:‏ وأما ادعاء الزاعم، أن تغنّيتَ بمعنى استغنيت فاشٍ في كلام العرب، فلم نعلم أحداً قال به من أهل العلم بكلام العرب‏.‏ وأما احتجاجُه لتصحيح قوله بقولِ الأعشى‏:‏

وكُنْتُ امْرَءاً زَمَناً بالعِرَاق ** عَفِيفَ المُنَاخِ طويلَ التَّغَنْ

وزعم أنه أراد بقوله‏:‏ طويل التغني‏:‏ طويل الاستغناء، فإنه غلط منه، وإنما عنى الأعشى بالتغني في هذا الموضع‏:‏ الإِقامة من قول العرب‏:‏ غني فلان بمكان كذا إذا أقام به، ومنه قوله تعالى‏:‏ ‏{‏كأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 92‏]‏ واستشهاده بقول الآخر‏:‏

كِلاَنا غَنِيُّ عَنْ أخِيهِ حَيَاتَهُ وَنَحْنُ إذا مِتْنا أَشَدُ تَغَانِيا

فإنه إغفال منه، وذلك لأن التغاني تفاعل من تغنَّى‏:‏ إذا استغنى كل واحد منهما عن صاحبه، كما يقال‏:‏ تضارب الرجلان، إذا ضرب كل واحد منهما صاحبه، وتشاتما، وتقاتلا‏.‏ ومن قال‏:‏ هذا في فعل اثنين، لم يجز أن يقول مثله في فعل الواحد، فيقول‏:‏ تغانى زيد، وتضارب عمرو، وذلك غيرُ جائز أن يتول‏:‏ تغنى زيد بمعنى استغنى، إلا أن يريد به قائله أنه أظهر الاستغناء، وهو غير مستغن، كما يقال‏:‏ تجلَّد فلان‏:‏ إذا أظهر جَلَدا من نفسه، وهو غير جليد، وتشجَّع، وتكرَّم، فإن وجَّه موجِّه التغنِّي بالقرآن إلى هذا المعنى على بُعده من مفهوم كلام العرب، كانت المُصيبة في خطئه في ذلك أعظمَ، لأنه يُوجب على من تأوله أن يكون اللّه تعالى ذِكرُه لم يأذن لنبيه أن يستغني بالقرآن، وإنما أذِنَ له أن يُظهر من نفسه لنفسه خلافَ ما هو به من الحال، وهذا لا يخفى فسادُه‏.‏ قال‏:‏ ومما يُبين فسادَ تأويل ابن عُيينة أيضاً أن الاستغناء عن الناس بالقرآن مِن المحال أن يُوصف أحد به أنه تؤذن له فيه أو لا يؤذن، إلا أن يكون الأذن غد ابن عيينة بمعنى الإِذن الذي هو إطلاق وإباحة، وإن كان كذلك، فهو غلط من وجهين، أحدهما‏:‏ من اللغة، والثاني‏:‏ من إحالة المعنى عن وجهه‏.‏ أما اللغة، فإن الأذن مصدر قوله‏:‏ أذن فلان لكلام فلان، فهو يأذَن له‏:‏ إذا استمع له وأنصت، كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏وأَذِنَت لِرَبِّهَا وَحُقَّتْ‏}‏ ‏[‏الانشقاق‏.‏ 2‏]‏، بمعنى سمِعت لربها وحُقَّ لها ذلك، كما قال عدى بن زيد‏:‏

* إنَّ هَمِّي فِي سَمَاعٍ وأذَن *

بمعنى، في سماع واستماع‏.‏ فمعنى قوله‏:‏ ما أذن اللّه لشيء، إنما هو‏:‏ ما استمع اللّه لشيء من كلام الناس ما استمع لنبي يتغنى بالقرآن‏.‏ وأما الإِحالة في المعنى، فلأن الاستغناء بالقُرْآن عن الناس غيرُ جائز وصفه بأنه مسموع ومأذون له، انتهى كلام الطبري‏.‏

قال أبو الحسن بن بطال‏:‏ وقد وقع الإِشكال في هذه المسألة أيضاً، بما رواه ابن أبي شيبة، حدثنا زيد بن الحباب، قال‏:‏ حدثني موسى بن عليّ بن رباح، عن أبيه، عن عُقبة بن عامر، قال‏:‏ قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏تَعَلَّموا القُرْآنَ وتَغَنَّوا بِهِ، واكتبوه، فَوالذي نَفسي بِيَدِهِ، لَهوَ أَشَدُّ تَفَصِّياَ مِنَ المَخَاضِ مِنَ العقُلِ‏)‏‏.‏ قال‏:‏ وذكر عمر بن شَبَّة، قال‏:‏ ذكر لأبي عاصم النبيل تأويلُ ابن عيينة في قوله ‏(‏يتغنّىَ بالقرآن‏)‏ يستغني به، فقال‏:‏ لم يصنع ابن عيينة شيئاً، حدثنا ابنُ جريج، عن عطاء، عن عبيد بن عُمير، قال‏:‏ كانت لداود نبيِّ اللّه صلى الله عليه وسلم مِعزَفَةٌ يتغنَّى عليها يَبكي ويُبكي‏.‏ وقال ابن عباس‏:‏ إنه كان يقرأ الزبور بسبعين لحناً، تكون فيهن، ويقرأ قراءة يَطْرَبُ منها الجموعُ‏.‏ وسئل الشافعي رحمه اللّه، عن تأويل ابن عيينة فقال‏:‏ نحن أعلمُ بهذا، لو أراد به الاستغناء، لقال‏:‏ ‏(‏من لم يستغن بالقُرآن‏)‏، ولكن لما قال‏:‏ ‏(‏يتغنَّى بالقرآن‏)‏، علمنا أنه أراد به التغنِّي‏.‏

قالوا‏:‏ ولأن تزيينه، وتحسين الصوت به، والتطريب بقراءته أوقعُ في النفوس، وأدعى إلى الاستماع والإِصغاء إليه، ففيه تنفيذ للفظه إلى الأسماع، ومعانيه إلى القلوب، وذلك عونٌ على المقصود، وهو بمنزلة الحلاوة التي تُجعل في الدواء لتنفذه إلى موضع الداء، وبمنزلة الأفاويه والطِّيب الذي يُجعل في الطعام، لتكون الطبيعة أدعى له قبولاً، وبمنزلة الطِّيب والتحكِّي، وتجمُّل المرأة لبعلها، ليكون أدعى إلى مقاصد النكاح‏.‏ قالوا‏:‏ ولا بد للنفس من طرب واشتياق إلى الغناء، فعُوِّضت عن طرب الغناء بطرب القرآن، كما عُوِّضت عن كل محرَّم ومكروه بما هو خيرٌ لها منه، وكما عوِّضت عن الاستقسام بالأزلام بالاستخارة التي هي محضُ التوحيد والتوكل، وعن السِّفاح بالنكاح، وعن القِمار بالمُراهنة بالنِّصال وسباق الخيل، وعن السماع الشيطاني بالسماع الرحماني القرآني، ونظائره كثيرة جداً‏.‏

قالوا‏:‏ والمحرَّم، لا بد أن يشتمِل على مفسدة راجحة، أو خالصة، وقراءة التطريب والألحان لا تتضمن شيئاً مِن ذلك، فإنها لا تُخرِجُ الكلام عن وضعه، ولا تَحولُ بين السامع وبين فهمه، ولو كانت متضمِّنة لزيادة الحروف كما ظن المانع منها، لأخرجت الكلمة عن موضعها، وحالت بين السامع وبين فهمها، ولم يدر ما معناها، والواقعُ بخلاف ذلك‏.‏

قالوا‏:‏ وهذا التطريب والتلحين، أمر راجع إلى كيفية الأداء، وتارة يكون سليقة وطبيعة، وتارة يكون تكلُّفاً وتعقُلاً، وكيفيات الأداء لا تخرِجُ الكلام عن وضع مفرداته، بل هي صِفات لصوت المؤدِّي، جارية مجرى ترقيقه وتفخيمه وإمالته، وجارية مجرى مدود القرَّاء الطويلة والمتوسطة، لكن تلك الكيفيات متعلقة بالحروف، وكيفيات الألحان والتطريب، متعلقة بالأصوات، والآثار في هذه الكيفيات، لا يمكن نقلُها، بخلاف كيفيات أداء الحروف، فلهذا نُقلت تلك بألفاظها، ولم يمكن نقل هذه بألفاظها، بل نقل منها ما أمكن نقله، كترجيع النبي صلى الله عليه وسلم في سورة الفتح بقوله‏:‏ ‏(‏آ آ آ‏)‏‏.‏ قالوا‏:‏ والتطريب والتلحين راجع إلى أمرين‏:‏ مدٍ وترجيع، وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم، أنه كان يمد صوته بالقراءة يمد ‏(‏الرحمن‏)‏ ويمد ‏(‏الرَّحيم‏)‏، وثبت عنه الترجيع كما تقدم‏.‏

قال المانعون من ذلك‏:‏ الحجة لنا من وجوه‏.‏ أحدها‏:‏ ما رواه حُذيفة بن اليمان، عن النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏إقرؤوا القُرْآن بِلحُونِ العَرَبِ وأصْوَاتِها، وإيَاكُم وَلُحُونَ أَهْلِ الكِتَابِ وَالفِسْق، فإنَّهُ سَيَجيء في مِنْ بَعْدِي أَقوَامٌ يُرَجِّعُونَ بِالقُرْآنِ تَرْجِيعَ الغِنَاءِ وَالنَّوْحِ، لا يُجَاوِزُ حَنَاجِرَهم، مَفتُونَةً قُلُوبُهُم، وَقُلُوبُ الَذِينَ يُعْجِبُهُم شَأْنُهُم‏)‏ رواه أبو الحسن رَزِينّ في ‏(‏تجريد الصحاح‏)‏ ورواه أبو عبد اللّه الحكيم الترمذي في ‏(‏نوادر الأصول‏)‏‏.‏ واحتج به القاضي أبو يعلى في ‏(‏الجامع‏)‏، واحتج معه بحديث آخر، أنه صلى الله عليه وسلم ذكر شرائطَ الساعة، وذكر أشياء، منها‏:‏ ‏(‏أن يُتخذ القرآنُ مَزاميرَ، يُقدِّمونَ أَحَدَهُم لَيْسَ بِأَقْرَئِهِم وَلا أَفْضَلِهِم ما يُقَدِّمُونَهُ إلا لِيُغَنِّيَهُم غِنَاءً‏)‏‏.‏

قالوا‏:‏ وقد جاء زياد النهدي إلى أنس رضي اللّه عنه مع القراء، فقيل له‏:‏ إقرأ، فرفع صوته وطرَّب، وكان رفيعَ الصوت، فكشف أنس عن وجهه، وكان على وجهه خِرقة سوداء، وقال‏:‏ يا هذا‏!‏ ما هكذا كانوا يفعلون، وكان إذا رأى شيئاً يُنكره، رفع الخِرقة عن وجهه‏.‏ قالوا‏:‏ وقد منع النبيُّ صلى الله عليه وسلم المؤذِّن المُطَرِّبَ في أذانه من التطريب، كما روى ابن جريج، عن عطاء، عن ابن عباس قال‏:‏ كان لرسول اللّه صلى الله عليه وسلم مؤذِّن يطرِّب، فقال النبيُّ صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏إنَّ الأذان سَهْلِّ سمح‏.‏، فإن كان أَذَانُكَ سَهْلا سَمْحاً، وإلاَّ فَلا تُؤذِّن‏)‏ رواه الدارقطني وروى عبد الغني بن سعيد الحافظ من حديث قتادة، عن عبد الرحمن بن أبي بكر، عن أبيه، قال‏:‏ كانت قراءةُ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم المدَّ، ليس فيها ترجيع‏.‏ قالوا‏:‏ والترجيع والتطريب يتضمن همزَ ما ليس بمهموز، ومدَّ ما ليس بممدود، وترجيعَ الألف الواحد ألفات، والواوَ واوات، والياء ياءاتٍ، فيؤدِّي ذلك إلى زيادة في القران، وذلك غير جائز، قالوا‏:‏ ولا حدَّ لما يجوز من ذلك، وما لا يجوز منه، فإن حُدَّ بحدٍّ معيَّنٍ، كان تحكُّماً في كتاب اللّه تعالى ودِينه، وإن لم يُحَدَّ بحدٍّ، أفض إلى أن يُطلق لفاعله ترديدُ الأصوات، وكثرةُ الترجيعات، والتنويعُ في أصناف الإِيقاعات والألحان المشبِهة للغناء، كما يفعل أهلُ الغناء بالأبيات، وكما يفعله كثير من القُرَّاء أمام الجنائز، ويفعلُه كثيرٌ مِن قراء الأصوات، مما يتضمن تغييرَ كتاب الله والغِناء به على نحو ألحان الشعر والغناء، ويُوقعون الإِيقاعات عليه مثل الغناء سواء، اجتراءً على اللّه وكتابه، وتلاعباً بالقرآن، وركوناً إلى تزيين الشيطان، ولا يجيز ذلك أحدٌ من علماء الإِسلام، ومعلوم‏:‏ أن التطريبَ والتلحين ذريعةٌ مُفضية إلى هذا إفضاءً قريباً، فالمنع منه، كالمنع من الذرائع الموصلة إلى الحرام، فهذا نهايةُ اقدام الفريقين، ومنتهى احتجاج الطائفتين‏.‏

وفصل النزاع، أن يقال‏:‏ التطريب والتغنِّي على وجهين، أحدهما‏:‏ ما اقتضته الطبيعة، وسمحت به من غير تكلف ولا تمرين ولا تعليم، بل إذا خُلّي وطبعه، واسترسلت طبيعته، جاءت بذلك التطريب والتلحين، فذلك جائز، وإن أعان طبيعتَه بفضلِ تزيين وتحسين، كما قال أبو موسى الأشعري للنبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏لَو علمتُ أنّكَ تَسمَع لَحَبَّرْتُه لَكَ تحبِيراً‏)‏ والحزين ومَن هاجه الطرب، والحبُ والشوق لا يملك من نفسه دفعَ التحزين والتطريب في القراءة، ولكن النفوسَ تقبلُه وتستحليه لموافقته الطبع، وعدم التكلف والتصنع فيه، فهو مطبوع لا متطبِّع، وكَلفٌ لا متكلَف، فهذا هو الذي كان السلف يفعلونه ويستمعونه، وهو التغني الممدوح المحمود، وهو الذي يتأثر به التالي والسامعُ، وعلى هذا الوجه تُحمل أدلة أرباب هذا القول كلها‏.‏

الوجه الثاني‏:‏ ما كان من ذلك صناعةً من الصنائع، وليس في الطبع السماحة به، بل لا يحصُل إلا بتكلُّف وتصنُّع وتمرُّن، كما يتعلم أصوات الغِناء بأنواع الألحان البسيطة، والمركبة على إيقاعات مخصوصة، وأوزانٍ مخترعة، لا تحصل إلا بالتعلُم والتكلف، فهذه هي التي كرهها السلفُ، وعابوها، وذمّوها، ومنعوا القراءةَ بها، وأنكروا على من قرأ بها، وأدلة أرباب هذا القول إنما تتناول هذا الوجه، وبهذا التفصيل يزول الاشتباهُ، ويتبين الصوابُ من غيره، وكلُّ من له علم بأحوال السلف، يعلم قطعاً أنهم بُرآء من القراءة بألحان الموسيقى المتكلفة، التي هي إيقاعات وحركات موزونة معدودة محدودة، وأنهم أتقى للّه من أن يقرؤوا بها، ويُسوّغوها، ويعلم قطعاً أنهم كانوا يقرؤون بالتحزين والتطريب، ويحسِّنون أصواتَهم بالقرآن، ويقرؤونه بِشجىً تارة، وبِطَربِ تارة، وبِشوْق تارة، وهذا أمر مركوز في الطباع تقاضيه، ولم ينه عنه الشارع مع شدة تقاضي الطباع له، بل أرشد إليه وندب إليه، وأخبر عن استماع اللّه لمن قرأ به، وقال‏:‏ ‏(‏لَيْسَ مِنَّا مَن لَمْ يَتَغَنَّ بِالْقرآنِ‏)‏ وفيه وجهان‏:‏ أحدهما‏:‏ أنه إخبار بالواقع الذي كلُّنا نفعله، والثاني‏:‏ أنه نفي لهدي من لم يفعله عن هديه وطريقته صلى الله عليه وسلم‏.‏