فصل: إثبات علو الله على مخلوقاته:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: شرح العقيدة الواسطية (نسخة منقحة)



.إثبات علو الله على مخلوقاته:

وقوله: {يا عيسى إني متوفيك ورافعك إليَّ}.
(1) ذكر المؤلف رحمه الله في إثبات علو الله على خلقه ست آيات.
الآية الأولى: قوله: {يا عيسى إني متوفيك ورافعك إلى} [آل عمران: 55]
الخطاب لعيسى بن مريم الذي خلقه الله من أم بلا أب، ولهذا ينسب إلى أمه، فيقال: عيسى بن مريم.
يقول الله: {إني متوفيك} : ذكر العلماء فيها ثلاثة أقوال:
القول الأول: {متوفيك}؛ بمعنى قابضك، ومنه قولهم: توفى حقه؛ أي: قبضه.
القول الثاني: {متوفيك} : منيمك؛ لأن النوم وفاة؛ كما قال تعالى: {وهو الذي يتوفاكم بالليل ويعلم ما جرحتم بالنهار ثم يبعثك فيه ليقضي أجل مسمى} [الأنعام: 60].
القول الثالث: أنه وفاة موت: {متوفيك} : مميتك، ومنه قوله تعالى: {الله يتوفى الأنفس حين موتها} [الزمر: 43].
والقول بأن {متوفيك} متوفيك بمعنى مميتك بعيد؛ لأن عيسى عليه السلام لم يمت، وسينزل في آخر الزمان؛ قال الله تعالى: {وإن من أهل الكتاب إلا ليؤمن به قبل موته} [النساء: 159]؛ أي: قبل موت عيسى على أحد القولين، وذلك إذا نزل في آخر الزمان. وقيل: قبل موت الواحد؛ يعني: ما من أحد من أهل الكتاب إلا إذا حضرته الوفاة؛ أمن بعيسى، حتى وإن كان يهوديا. وهذا القول ضعيف.
بقي النظر بين وفاة القبض ووفاة النوم، فنقول: إنه يمكن أن يجمع بينهما فيكون قابضًا له حال نومه؛ أي أن الله تعالى ألقى عليه النوم؛ ثم رفعه، ولا منافاة بين الأمرين.
قوله: {ورافعك إلي} : الشاهد هنا؛ فإن {إلي} تفيد الغاية، وقوله: {ورافعك إلي} يدل على أن المرفوع إليه كان عاليًا، وهذا يدل على علو الله عز وجل.
فلو قال قائل: المراد: رافعك منزلة؛ كما قال الله تعالى: {وجيها في الدنيا والآخرة ومن المقربين} [آل عمران: 45].
قلت هذا لا يستقيم؛ لأن الرفع هنا عدى بحرف يختص بالرفع الذي هو الفوقية؛ رفع الجسد، وليس رفع المنزلة.
واعلم أن علو الله عز وجل ينقسم إلى قسمين: علو معنوي، وعلو ذاتي:
1- أما العلو المعنوي؛ فهو ثابت لله بإجماع أهل القبلة؛ أي: بالإجماع من أهل البدع وأهل السنة؛ كلهم يؤمنون بأن الله تعالى عال علوًا معنويًا.
2- وأما العلو الذاتي؛ فيثبته أهل السنة، ولا يثبته أهل البدعة؛ يقولون: إن الله تعالى ليس عاليًا علوًا ذاتيًّا.
فنبدأ أولًا بأدلة أهل السنة على علو الله سبحانه وتعالى الذاتي فنقول: إن أهل السنة استدلوا على علو الله تعال علوًا ذاتيًّا بالكتاب والسنة والإجماع والعقل والفطرة:
أولًا: فالكتاب تنوعت دلالته على علو الله؛ فتارة بذكر العلو، وتارة بذكر الفوقية، وتارة بذكر نزول الأشياء من عنده، وتارة بذكر صعودها إليه، وتارة بكونه في السماء...
(1) فالعلو مثل قوله: {وهو العلي العظيم} [البقرة: 255]، {سبح أسم ربك الأعلى} [الأعلى: 1].
(2) والفوقية: {وهو القاهر فوق عباده} [الأنعام: 18]، {يخافون ربهم من فوقهم ويفعلون ما يؤمرون} [النحل:50].
(3) ونزول الأشياء منه؛ مثل قوله: {إليه يصعد الكلم الطيب والعمل الصالح يرفعه} [فاطر: 10]، ومثل قوله: {تعرج الملائكة والروح إليه} [المعارج: 4].
(4) كونه في السماء؛ مثل قوله: {أأمنتم من في السماء أن يخسف بكم الأرض} [الملك: 16].
ثانيًا: وأما السنة فقد تواترت عن النبي، صلى الله عليه وسلم من قوله وفعله وإقراره:
(1) فأما قول الرسول عليه الصلاة والسلام:
فجاء بذكر العلو والفوقية، ومنه قوله، صلى الله عليه وسلم: «سبحان ربي الأعلى»، وقوله لما ذكر السماوات؛ قال: «والله فوق العرش».
وجاء بذكر أن الله في السماء؛ مثل قوله، صلى الله عليه وسلم: «ألا تأمنوني وأنا أمين من في السماء».
(2) وأما الفعل؛ فمثل رفع أصبعه إلى السماء، وهو يخطب الناس في أكبر جمع، وذلك في يوم عرفة، عام حجة الوداع؛ فإن الصحابة لم يجتمعوا اجتماعًا أكبر من ذلك الجمع؛ إذ إن الذي حج معه بلغ نحو مئة ألف، والذي مات عنهم نحو مئة وأربعة وعشرين ألفًا: يعني: عامة المسلمين حضروا ذلك الجمع، فقال عليه الصلاة والسلام: «ألا هل بلغت؟». قالوا: نعم. «ألا هل بلغت؟». قالوا: نعم. «ألا هل بلغت؟» وكان يقول: «اللهم أشهد»؛ يشير إلى السماء بأصبعه، وينكتها إلى الناس.
ومن ذلك رفع يديه إلى السماء في الدعاء.
وهذا إثبات للعلو بالفعل.
(3) وأما التقرير؛ فإنه في حديث معاوية بن الحكم رضي الله عنه؛ أنه أتى بجارية يريد أن يعتقها، فقال لها النبي، صلى الله عليه وسلم: «أين الله؟». قالت: في السماء. فقال: «من أنا؟». قالت: رسول الله. قال: «أعتقها؛ فإنها مؤمنة». فهذه جارية لم تتعلم، والغالب على الجواري الجهل، لا سيما أمة غير حرة، لا تملك نفسها،تعلم أن ربها في السماء، وضلال بني آدم ينكرون أن الله في السماء، ويقولون: إما أنه لا فوق العالم ولا تحته ولا يمين ولا شمال! أو أنه في كل مكان!!
ثالثًا: وأما دلالة الإجماع؛ فقد أجمع السلف على أن الله تعالى بذاته في السماء، من عهد الرسول عليه الصلاة والسلام، إلى يومنا هذا. إن قلت كيف أجمعوا؟
نقول: إمرارهم هذه الآيات والأحاديث مع تكرار العلو فيها والفوقية ونزول الأشياء منه وصعودها إليه دون أن يأتوا بما يخالفها إجماع منهم على مدلولها.
ولهذا لما قال شيخ الإسلام: (إن السلف مجمعون على ذلك)؛ قال: (ولم يقل أحد منهم: إن الله ليس في السماء، أو: إن الله في الأرض، أو: إن الله لا داخل العالم ولا خارجه ولا متصل ولا منفصل، أو: إنه لا تجوز الإشارة الحسية إليه).
رابعًا: وأما دلالة العقل؛ فنقول: لا شك أن الله عز وجل إما أن يكون في العلو أو في السفل، وكونه في السفل مستحيل؛ لأنه نقص يستلزم أن يكون فوقه شيء من مخلوقاته فلا يكون له العلو التام والسيطرة التامة والسلطان التام فإذا كان السفل مستحيلًا؛ كان العلو واجبًا.
وهناك تقرير عقلي آخر، وهو أن نقول: إن العلو صفة كمال باتفاق العقلاء، وإذا كان صفة كمال؛ وجب أن يكون ثابتًا لله؛ لأن كل صفة كمال مطلقة؛ فهي ثابتة لله.
وقولنا: (مطلقة): احترازًا من الكمال النسبي، الذي يكون كمالًا في حال دون حال؛ فالنوم مثلًا نقص، ولكن لمن يحتاج إليه ويستعيد قوته به كمال.
خامسًا: وأما دلالة الفطرة: فأمر لا يمكن المنازعة فيها ولا المكابرة؛ فكل إنسان مفطور على أن الله في السماء، ولهذا عندما يفجؤك الشيء الذي لا تستطيع دفعه، وإنما تتوجه إلى الله تعالى بدفعه؛ فإن قلبك ينصرف إلى السماء حتى الذين ينكرون علو الذات لا يقدرون أن ينزلوا أيديهم إلى الأرض.
وهذه الفطرة لا يمكن إنكارها. حتى إنهم يقولون: إن بعض المخلوقات العجماء تعرف أن الله في السماء كما في الحديث الذي يروى أن سليمان بن داود عليه الصلاة والسلام وعلى أبيه خرج يستسقي ذات يوم بالناس، فلما خرج؛ رأى نملة مستلقية على ظهرها، رافعة قوائمها نحو السماء، تقول: (اللهم! إنا خلق من خلقك، ليس بنا غنى عن سقياك). فقال: (ارجعوا؛ فقد سقيتم بدعوة غيركم). وهذا إلهام فطري.
فالحاصل أن: كون الله في السماء أمر معلوم بالفطرة. ووالله؛ لولا فساد فطرة هؤلاء المنكرين لذلك؛ لعلموا أن الله في السماء بدون أن يطالعوا أي كتاب؛ لأن الأمر الذي تدل عليه الفطرة لا يحتاج إلى مراجعة الكتب.
والذين أنكروا علو الله عز وجل بذاته يقولون: لو كان في العلو بذاته؛ كان في جهة، وإذا كان في جهة؛ كان محدودًا وجسمًا، وهذا ممتنع! والجواب عن قولهم: (إنه يلزم أن يكون محدودًا وجسمًا، وهذا ممتنع!) والجواب عن قولهم: (إنه يلزم أن يكون محدودًا وجسمًا)؛ نقول:
أولًا: لا يجوز إبطال دلالة النصوص بمثل هذه التعليلات، ولو جاز هذا؛ لأمكن كل شخص لا يريد ما يقتضيه النص أن يعلله بمثل هذه العلل العليلة.
فإذا كان الله أثبت لنفسه العلو، ورسوله، صلى الله عليه وسلم أثبت له العلو، والسلف الصالح أثبتوا له العلو؛ فلا يقبل أن يأتي شخص ويقول: لا يمكن أن يكون علو ذات؛ لأنه لو كان علو ذات؛ لكان كذا وكذا.
ثانيًا: نقول: إن كان ما ذكرتم لازمًا لإثبات العلو لزومًا صحيحًا؛ فلنقل به؛ لأن لازم كلام الله ورسوله حق؛ إذ أن الله تعالى يعلم ما يلزم من كلامه. فلو كانت نصوص العلو تستلزم معنى فاسدًا، لبينه، ولكنها لا تستلزم معنى فاسدًا.
ثالثًا: ثم نقول: ما هو الحد والجسم الذي أجلبتم علينا بخيلكم ورجلكم فيها.
أتريدون بالحد أن شيئًا من المخلوقات يحيط بالله؟ فهذا باطل ومنتف عن الله، وليس بلازم من إثبات العلو لله أو تريدون بالحد أن الله بائن من خلقه غير حال فيهم؟ فهذا حق من حيث المعني، ولكن لا نطلق لفظه نفيًا ولا إثباتًا، لعدم ورود ذلك.
وأما الجسم، فنقول: ماذا تريدون بالجسم؟ أتريدون أنه جسم مركب من عظم ولحم وجلد ونحو ذلك؟ فهذا باطل ومنتف عن الله، لأن الله ليس كمثله شيء وهو السميع البصير. أم تريدون بالجسم ما هو قائم بنفسه متصف بما يليق به؟ فهذا حق من حيث المعني، لكن لا نطلق لفظه نفيًا ولا إثباتًا، لما سبق.
وكذلك نقول في الجهة، هل تريدون أن الله تعالى له جهة تحيط به؟ فهذا باطل، وليس بلازم من إثبات علوه. أم تريدون جهة علو لا تحيط بالله؟ فهذا حق لا يصح نفيه عن الله تعالى.
{بل رفعه الله إليه} (1) …………………………………………….
(1) الآية الثانية: قوله: {بل رفعه الله إليه} [النساء: 158].
* {بل} : للإضراب الإبطالي، لإبطال قولهم: {إنا قتلنا المسيح عيسي ابن مريم رسول الله وما قتلوه وما صلبوه ولكن شبه لهم وإن الذين اختلفوا فيه لفي شك منه ما لهم به من علم إلا اتباع الظن وما قتلوه يقينا بل رفعه الله إليه وكان الله عزيزًا حكيمًا} [النساء: 157- 158]، فكذبهم الله بقوله: {وما قتلوه يقينًا بل رفعه الله إليه}.
والشاهد قوله: {بل رفعه الله إليه}، فإنه صريح بأن الله تعالى عال بذاته، إذ الرفع إلى الشيء يستلزم علوه.
{إليه يصعد الكلم الطيب والعمل الصالح يرفعه}، الآية الثالثة: قوله: {إليه يصعد الكلم الطيب والعمل الصالح يرفعه} [فاطر: 10].
* {إليه} : إلى الله عز وجل.
* {يصعد الكلم الطيب} : و: {الكلم} هنا اسم جمع، مفرده كلمة، وجمع كلمة كلمات، والكلم الطيب يشمل كل كلمة يتقرب بها إلى الله، كقراءة القرآن والذكر والعلم والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فكل كلمة تقرب إلى الله عز وجل، فهي كلمة طيبة، تصعد إلى الله عز وجل، وتصل إليه، والعمل الصالح يرفعه الله إليه أيضًا.
فالكلمات تصعد إلى الله، والعمل الصالح يرفعه الله، وهذا يدل على أن الله عال بذاته، لأن الأشياء تصعد إليه وترفع.
{يا هامان ابن لي صرحًا لعلي أبلغ الأسباب أسباب السموات فأطلع إلى إله موسي وإني لأظنه كاذبًا} (1)..
(1) الآية الرابعة: قوله: {يا هامان ابن لي صرحًا لعلي أبلغ الأسباب أسباب السموات فأطلع إلى إله موسي وإني لأظنه كاذبًا} [غافر:36- 37].
هامان وزير فرعون، والآمر بالبناء فرعون.
* {صرحًا}، أي بناء عاليًا.
* {لعلي أبلغ الأسباب أسباب السموات}، يعني: لعلي أبلغ الطرق التي توصل إلى السماء.
* {فأطلع إلى إله موسي}، يعني: أنظر إليه، وأصل إليه مباشرة، لأن موسي قال له: أن الله في السماء. فموه فرعون على قومه بطلب بناء هذا الصرح العالي ليرقى عليه ثم يقول: لم أجد أحدًا، ويحتمل أنه قاله على سبيل التهكم، يقول: إن موسي قال: إلهه في السماء، اجعلونا نرقي لنراه!! تهكمًا.
وأيا كان، فقد قال: {وإني لأظنه كاذبًا}، للتمويه على قومه، وإلا، فهو يعلم أنه صادق، وقد قال له موسي: {لقد علمت ما أنزل هؤلاء إلا رب السموات والأرض بصائر} [الإسراء: 102]، فلم يقل: ما علمت! بل أقره على هذا الخبر المؤكد باللام و: (قد) والقسم. والله عز وجل يقول في آية أخرى: {وجحدوا بها واستيقنتها أنفسهم ظلمًا وعلوا} [النمل: 14].
* الشاهد من هذا: أن أمر فرعون ببناء صرح يطلع به على إله موسي يدل على أن موسي صلى الله عليه وسلم قال لفرعون وآله: إن الله في السماء. فيكون علو الله تعال ذاتيًّا قد جاءت به الشرائع السابقة.
{أأمنتم من في السماء أن يخسف بكم الأرض فإذا هي تمور أم أمنتم من في السماء أن يرسل عليكم حصابًا فستعلمون كيف نذير} (1) ………
(1) الآية الخامسة والسادسة: قوله: {أأمنتم من في السماء أن يخسف بكم الأرض فإذا هي تمور أم أمنتم من في السماء أن يرسل عليكم حاصبًا فستعلمون كيف نذير} [الملك: 16- 17].
* والذي في السماء هو الله عز وجل، لكنه كني عن نفسه بهذا، لأن المقام مقام إظهار عظمته، وأنه فوقكم، قادر عليكم، مسيطر عليكم، مهيمن عليكم، لأن العالي له سلطة على من تحته.
* {فإذا هي تمور}، أي: تضطرب.
والجواب: لا تأمن والله! بل نخاف على أنفسنا إذا كثرت معاصينا أن تخسف بنا الأرض.
والانهيارات التي يسمونها الآن: انهيارا أرضيًّا، وانهيارًا جبليًّا.. وما أشبه ذلك هي نفس التي هدد الله بها هنا، لكن يأتون بمثل هذه العبارات ليهونوا الأمر على البسطاء من الناس.
* {أم أمنتم}، يعني بل أأمنتم، و: (أم) هنا بمعنى (بل) والهمزة.
* {أن يرسل عليكم حاصبًا} : الحاصب عذاب من فوق يحصبون به، كما فعل بالذين من قبلهم، كقوم لوط وأصحاب الفيل، والخسف من تحت.
فالله عز وجل هددنا من فوق ومن تحت، قال الله تعالى: {فكلا أخذنا بذنبه فمنهم من أرسلنا عليه حاصبًا ومنهم من أخذنه الصيحة ومنهم من خسفنا به الأرض ومنهم من أغرقنا} [العنكبوت:40]، أربعة أنواع من العذاب.
وهنا ذكر الله نوعين منها: الحاصب والخسف.
والشاهد من هذه الآية هو قوله: {من في السماء}.
والذي هاهنا إشكال، وهو أن (في) للظرفية، فإذا كان الله في السماء، و: (في) للظرفية، فإن الظرف محيط بالمظروف! أرأيت لو قلت: الماء في الكأس، فالكأس محيط بالماء وأوسع من الماء! فإذا كان الله يقول: {أأمنتم من في السماء}، فهذا ظاهره أن السماء محيطة بالله، وهذا الظاهر باطل، وإذا كان الظاهر باطلًا، فإننا نعلم علم اليقين أنه غير مراد لله، لأنه لا يمكن أن يكون ظاهر الكتاب والسنة باطلًا.
فما الجواب على هذا الإشكال؟
قال العلماء: الجواب أن نسلك أحد طريقين:
1- فإما أن نجعل السماء بمعنى العلو، والسماء معنى العلو وارد في اللغة، بل في القرآن، قال تعالى: {أنزل من السماء ماء فسالت أودية بقدرها} [الرعد: 17]، والمراد بالسماء العلو، لأن الماء ينزل من السحاب لا من السماء التي هي السقف المحفوظ، والسحاب في العلو بين السماء والأرض، كما قال الله تعالى: {والسحاب المسخر بين السماء والأرض} [البقرة: 164].
فيكون معنى {من في السماء}، أي: من في العلو.
ولا يوجد إشكال بعد هذا، فهو في العلو. ليس يحاذيه شيء، ولا يكون فوقه شيء.
2- أو نجعل (في) بمعنى (على)، ونجعل السماء هي السقف المحفوظ المرفوع، يعني: الأجرام السماوية، وتأتي (في) بمعنى (على) في اللغة العربية، بل في القرآن الكريم، قال فرعون لقومه السحرة الذين آمنوا: {ولأصلبنكم في جذوع النخل} [طه: 71]، أي: على جذوع النخل.
فيكون معنى {من في السماء}، أي: من على السماء.
ولا إشكال بعد هذا.
فإن قلت: كيف تجمع بين هذه الآية وبين قوله تعالى: {وهو الذي في السماء إله وفي الأرض إله} [الزخرف: 84]، وقوله: {وهو الله في السموات وفي الأرض يعلم سركم وجهركم} [الأنعام: 3]؟!
فالجواب: أن نقول:
أما الآية الأولى، فإن الله يقول: {وهو الذي في السماء إله وفي الأرض إله}، فالظرف هنا لألوهيته، يعني: أن ألوهيته ثابتة في السماء وفي الأرض، كما تقول: فلان أمير في المدينة ومكة، فهو نفسه في واحدة منهما، وفيهما جميعًا بإمارته وسلطته، فالله تعالى ألوهيته في السماء وفي الأرض، وأما هو عز وجل ففي السماء.
أما الآية الثاني: {وهو الله في السموات وفي الأرض} فنقول فيها كما قلنا في التي قبلها: {وهو الله}، أي: وهو الإله الذي ألوهيته في السماوات وفي الأرض، أما هو نفسه، ففي السماء. فيكون المعني: هو المألوه في السماوات المألوه في الأرض، فألوهيته في السماوات وفي الأرض.
فتخرج هذه الآية كتخريج التي قبلها.
وقيل المعني: {وهو الله في السموات}، ثم تقف، ثم تقرأ: {وفي الأرض يعلم سركم وجهركم}، أي أنه نفسه في السماوات، ويعلم سركم وجهركم في الأرض، فليس كونه في السماء مع علوه بمانع من علمه بسركم وجهركم في الأرض.
وهذا المعني فيه شيء من الضعف، لأنه يقتضي تفكيك الآية وعدم ارتباط بعضها ببعض، والصواب الأول: أن نقول: {وهو الله في السموات وفي الأرض}، يعني أن ألوهيته ثابتة في السماوات وفي الأرض، فتطابق الآية الأخرى.
من الفوائد المسلكية في هذه الآيات:
أن الإنسان إذا علم بأن الله تعالى فوق كل شيء، فإنه يعرف مقدار سلطانه وسيطرته على خلقه، وحينئذ يخافه و: يعظمه، وإذا خاف الإنسان ربه وعظمه، فإنه يتقيه ويقوم بالواجب ويدع المحرم.