فصل: إحاطة علمه بجميع مخلوقاته:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: شرح العقيدة الواسطية (نسخة منقحة)



.إحاطة علمه بجميع مخلوقاته:

{يعلم ما يلج في الأرض وما يخرج منها وما ينزل من السماء وما يعرج فيها} [سبأ: 2].
{وعنده مفاتح الغيب لا يعلمها إلا هو ويعلم ما في البر والبحر وما تسقط من ورقة إلا يعلمها ولا حبة في ظلمات الأرض ولا رطب ولا يابس إلا في كتاب مبين} [الأنعام: 59].
وقوله: {وما تحمل من أنثى ولا تضع إلا بعلمه} [فاطر: 11].
وقوله: {لتعلموا أن الله على كل شيء قدير وأن الله قد أحاط بكل شيء علمًا} [الطلاق: 12] (1).................................
(1) هذه الآيات في تفصيل صفة العلم:
الآية الأولى: قوله: {يعلم ما يلح في الأرض وما يخرج منها وما ينزل من السماء وما يعرج فيها} [سبأ: 2]:
هذه تفصيل لما سبق من عموم علمه تعالى.
{ما} : اسم موصول يفيد العموم، كل ما يلج في الأرض مثل المطر والحب يبذر في الأرض والموتى والدود والنمل وغيره {وما يخرج منها}، كالماء والزروع.. وما أشبه ذلك {وما ينزل من السماء}، مثل المطر والوحي والملائكة وأمر الله عز وجل، {وما يعرج فيها}، كالأعمال الصالحة والملائكة والأرواح والدعاء.
وهنا قال: {وما يعرج فيها}، فعدى الفعل بـ: (في) وفي سورة المعارج قال: {تعرج الملائكة والروح إليه} [المعارج: 4]، فعداه بـ: (إلى)، وهذا هو الأصل، فما وجه كونه عدى بـ: (في) في قوله: {يعرج فيها}؟
فالجواب: اختلف نحاة البصرة والكوفة في مثل هذا، فقال نحاة البصرة: إن الفعل يضمن معنى يتلائم مع الحرف، وقال نحاة الكوفة: بل الحرف يضمن معنى يتلائم مع الفعل.
فعلى الرأي الأول: يكون قوله: {يعرج فيها} : مضمنًا معنى (يدخل)، فيصير المعنى: وما يعرج فيدخل فيها، وعليه يكون في الآية دلالة على أمرين: على عروج ودخول.
أما على الرأي الثاني، فنقول: (في) بمعنى (إلى) ويكون هذا من باب التناوب بين الحروف.
لكن على هذا القول لا تجد أن في الآية معنى جديدًا وليس فيها إلا اختلاف لفظ (إلى) لفظ (في) ولهذا كان القول الأول أصح وهو أن تضمن الفعل معنى يتناسب مع الحرف.
ولهذا نظير في اللغة العربية، قال الله تعالى: {عينا يشرب بها عباد الله يفجرونها تفجيرًا} [الإنسان: 6]، والعين يشرب منها والذي يشرب به الإناء، فعلى رأي أهل الكوفة نقول: {يشرب بها} الباء بمعنى (من)، أي: منها، وعلى رأي أهل البصرة يضمن الفعل: {يشرب} معنى يتلائم مع حرف الباء والذي يتلائم معها يروى ومعلوم أنه لا ري إلا بعد شرب، فيكون هذا الفعل ضمن معنى غايته وهو الري.
وكذلك نقول في: {وما يعرج فيها} : لا دخول في السماء إلا بعد العروج إليها، فيكون الفعل ضمن معنى الغاية.
ففي الآية ذكر الله عز وجل عموم علمه في كل شيء بنوع من التفصيل، ثم فصل في آية أخرى تفصيلًا آخر:
الآية الثانية: قوله: {وعنده مفاتح الغيب لا يعلمها إلا هو ويعلم ما في البر والبحر وما تسقط من ورقة إلا يعلمها ولا حبة في ظلمات الأرض ولا رطب ولا يابس إلى في كتاب مبين} [الأنعام: 59].
{عنده} : أي: عند الله وهو خبر مقدم {مفاتح} مبتدأ مؤخر.
ويفيد هذا التركيب الحصر والاختصاص، عنده لا عند غيره مفاتح الغيب وأكد هذا الحصر بقوله: {لا يعلمها إلا هو}، ففي الجملة حصر بأن علم هذه المفاتح عند الله بطريقتين: إحداهما: بطريقة التقديم والتأخير والثانية: طريقة النفي والإثبات.
كلمة: {مفاتح}، قيل: أنه جمع مفتح، بكسر الميم وفتح التاء: المفتاح، أو أنها جمع مفتاح لكن حذفت منها الياء وهو قليل، ونحن نعرف أن المفتاح ما يفتح به الباب وقيل: جميع مفتح، بفتح الميم والكسر التاء وهي الخزائن، فـ: {مفاتح الغيب} خزانته، وقيل: {مفاتح الغيب}، أي: مبادئه، لأن مفتح كل شيء يكون في أوله، فيكون على هذا: {مفاتح الغيب}، أي: مبادئ الغيب، فإن هذه المذكورات مبادئ لما بعدها.
{الغيب} : مصدر غاب يغيب غيبًا، والمراد بالغيب: ما كان غائبًا والغيب أمر نسب، لكن الغيب المطلق علمه خاص بالله.
هذه المفاتح سواء قلنا إن المفاتح: هي المبادئ، أو: هي الخزائن، أو: المفاتيح، لا يعلمها إلا الله عز وجل، فلا يعلمها ملك، ولا يعلمها رسول، حتى إن أشرف الرسل الملكي وهو جبريل- سأل أشرف الرسل ابشري- وهو محمد عليه الصلاة والسلام- قال: أخبرني عن الساعة؟ قال: «ما المسؤول عنها بأعلم من السائل»، والمعنى: كما أنه لا علم لك بها، فلا علم لي بها أيضًا. فمن ادعى علم الساعة، فهو كاذب كافر، ومن صدقه، فهو أيضًا كافر، لأنه مكذب للقرآن.
وهذه المفاتح؟ فسرها أعلم الخلق بكلام الله محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حين قرأ: {إن الله عنده علم الساعة وينزل الغيث ويعلم ما في الأرحام وما تدري نفس ماذا تكسب غدًا وما تدري نفس بأي أرض تموت إن الله عليم خبير} [لقمان: 34]، فهي خمسة أمور:
الأول علم الساعة: فعلم الساعة مبدأ مفتاح لحياة الآخرة، وسميت الساعة بهذا، لأنها ساعة عظيمة، يهدد بها جميع الناس، وهي الحاقة والواقعة، والساعة علمها عند الله لا يدري أحد متى تقوم إلا الله عز وجل.
الثاني: تنزيل الغيث: لقوله: {وينزل الغيث} : {الغيث} : مصدر ومعناه: إزالة الشدة والمراد به المطر، لأنه بالمطر نزول شدة القحط والجدب وإذا كان هو الذي ينزل الغيث، كان هو الذي يعلم وقت نزوله.
والمطر نزوله مفتاح لحياة الأرض بالنبات، وبحياة النبات يكون الخير في المرعى وجميع ما يتعلق بمصالح العباد.
وهنا نقطة: قال: {وينزل الغيث}، ولم يقل: وينزل المطر، لأن المطر أحيانًا ينزل ولا يكون فيه نبات، فلا يكون غيثًا، ولا تحيا به الأرض، ولهذا ثبت في (صحيح مسلم): «ليست السنة إلا تمطروا، إنما السنة أن تمطروا ولا تنبت الأرض شيئًا»، والسنة القحط.
الثالث: علم ما في الأرحام: لقوله: {ويعلم ما في الأرحام}، أي: أرحام الإناث، فهو عز وجل يعلم ما في الأرحام، أي: ما في بطون الأمهات من بني آدم وغيرهم، ومتعلق العلم عام بكل شيء، فلا يعلم ما في الأرحام إلا من خلقها عز وجل.
فإن قلت: يقال الآن: إنهم صاروا يعلمون الذكر من الأنثى في الرحم، فهل هذا صحيح؟
نقول: إن هذا الأمر وقع ولا يمكن إنكاره، لكنهم لا يعلمون ذلك إلا بعد تكوين الجنين وظهور ذكورته أو أنوثته، وللجنين أحوال أخرى لا يعلمونها، فلا يعلمون متى ينزل، ولا يعلمون إذا نزل إلى متى يبقى حيًا ولا يعلمون هل يكون شقيًا أو سعيدًا، ولا يعلمون هل يكون غنيًا أم فقيرًا.. إلى غير ذلك من أحواله المجهولة.
إذًا أكثر متعلقات العلم فيما يتعلق بالأجنة مجهول للخلق، فصدق العموم في قوله: {ويعلم ما في الأرحام}.
الرابع: علم ما في الغد: وهو ما بعد يومك: لقوله: {وما تدري نفس ماذا تكسب غدًا} وهذا مفتاح الكسب في المستقبل، وإذا كان الإنسان لا يعلم ما يكسب لنفسه، فعدم علمه بما يكسبه غيره أولى.
لكن لو قال قائل: أنا أعلم ما في الغد، سأذهب إلى المكان الفلاني، أو أقرأ، أو أزور أقاربي فنقول: قد يجز بأنه سيعمل ولكن يحول بينه وبين العمل مانع.
الخامس: علم مكان الموت: لقوله: {وما تدري نفس بأي أرض تموت}، ما يدري أي أحد هل يموت في أرضه أو في أرض أخرى؟ في أرض إسلامية أو أرض كافر أهلها؟ ولا يدري هل يموت في البر أو في البحر أو في الجو؟ وهذا شيء مشاهد.
ولا يدري بأي ساعة يموت، لأنه إذا كان لا يمكنه أن يدري بأي أرض يموت وهو قد يتحكم في المكان، فكذلك لا يدري بأي زمن وساعة يموت.
فهذه الخمسة هل مفاتح الغيب التي لا يعلمها إلا الله وسميت مفاتح الغيب، لأن علم ما في الأرحام مفتاح للحياة الدنيا، {ماذا تكسب غدًا} مفتاح للعمل المستقبل {وما تدري نفس بأي أرض تموت} مفتاح لحياة الآخرة، لأن الإنسان إذا مات، دخل عالم الآخرة، وسبق بيان علم الساعة وتنزيل الغيث، فتبين أن هذه المفاتح كلها مبادئ لكل ما وراءها، {إن الله عليم خبير}.
ثم قال عز وجل: {ويعلم ما في البر والبحر} [الأنعام: 59]: هذا إجمال، فمن يحصي أجناس ما في البر؟ كم فيها من عالم الحيوان والحشرات والجبال والأشجار والأنهار أمور لا يعلمها إلا الله عز وجل والبحر كذلك فيه من العوالم مالا يعلمه إلا خالقه عز وجل، يقولون: إن البحر يزيد على البر ثلاثة أضعاف من الأجناس، لأن البحر أكثر من اليابس.
قال: {وما تسقط من ورقة إلى يعلمها} :
هذا تفصيل، فأي ورقة في أي شجرة صغيرة أو كبيرة قريبة أو بعيدة تسقط، فالله تعالى يعلمها، ولهذا جاءت: {ما تسقط} النافية و: {من} الزائدة، ليكون ذلك نصًا في العموم، والورقة التي تخلق يعلمها من باب أولى، لأن عالم ما يسقط عالم بما يخلق عز وجل.
انظر إلى سعة علم الله تعالى كل شيء يكون، فهو عالم به، حتى الذي لم يحص وسيحصل، فهو تعالى عالم به.
قال: {ولا حبة في ظلمات الأرض} : حبة صغيرة لا يدركها الطرف في ظلمات الأرض يعلمها عز وجل.
{ظلمات} : جمع ظلمة ولنفرض أن حبة صغيرة غائصة في قاع البحر، في ليلة مظلمة مطيرة، فالظلمات: أولًا: طين البحر. ثانيًا: ماء البحر. ثالثًا: المطر. رابعًا: السحاب. خامسًا: الليل، فهذه خمس ظلمات من ظلمات الأرض ومع ذلك هذه الحبة يعلمها الله سبحانه وتعالى ويبصرها عز وجل.
قال: {ولا رطب ولا يابس} : هذا عام، فما من شيء إلا وهو إما رطب وإما يابس.
{إلا في كتاب مبين} : {كتاب}، بمعنى مكتوب. {مبين} أي: مظهر وبين، لأن (أبان) تستعمل متعديًا ولازمًا فيقال: أبان الفجر، بمعنى ظهر الفجر ويقال: أبان الحق بمعنى أظهره والمراد بالكتاب هنا: اللوح المحفوظ.
كل هذه الأشياء معلومة عند الله سبحانه وتعالى ومكتوبة عنده في اللوح المحفوظ، لأن الله تعالى: «لما خلق القلم، قال له: اكتب قال القلم: ماذا أكتب؟ قال: أكتب ما هو كائن إلى يوم القيامة»، فكتب في تلك اللحظة ما هو كائن إلى يوم القيامة ثم جعل سبحانه في أيدي الملائكة كتبًا تكتب ما يعمله الإنسان، لأن الذي في اللوح المحفوظ قد كتب فيه ما كان يريد الإنسان أن يفعل، والكتاب التي تكتبها الملائكة هي التي يجزى عليها الإنسان ولهذا يقول الله عز وجل: {ولنبلونكم حتى نعلم المجاهدين منكم والصابرين} [محمد: 31]، أما علمه بأن عبده فلانًا سيصبر أو لا يصبر، فهذا سابق من قبل، لكن لا يترتب عليه الثواب والعقاب.
الآية الثالثة: قوله: {وما تحمل من أنثى ولا تضع إلا بعلمه} [فاطر: 11].
{ما} : نافية.
{أنثى} فاعل {تحمل} لكنه معرب بضمة مقدرة على آخره منع من ظهورها اشتغال المحل بحركة حرف الجر الزائد.
وهنا إشكال: كيف تقول زائد وليس في القرآن زائد؟
فالجواب: أنه زائد من حيث الإعراب، أما من حيث المعنى، فهو مفيد وليس في القرآن شيء زائد لا فائدة منه، ولهذا نقول: هو زائد، زائد بمعنى أنه لا يخل بالإعراب إذا حذف، زائد من حيث المعنى يزيد فيه.
وقوله: {من أنثى} : يشمل أي أنثى، سواء آدمية أو حيوانية أخرى الذي يحمل حيوانًا واضح أنه داخل في الآية، كبقرة، وبعير، وشاة.. وما أشبه ذلك، ويدخل في ذلك الذي يحمل البيض، كالطيور، لأن البيض في جوف الطائر حمل.
{ولا تضع إلا بعلمه}، فابتداء الحمل بعلم الله، وانتهاؤه وخروج الجنين بعلم الله عز وجل.
الآية الرابعة: قوله: {لتعلموا أن الله على كل شيء قدير وأن الله قد أحاط بكل شيء علمًا} [الطلاق: 12].
{لتعلموا} : اللام للتعليل، لأن الله قال: {الله الذي خلق سبع سموات ومن الأرض مثلهن يتنزل الأمر بينهن لتعلموا أن الله على كل شيء قدير} [الطلاق: 12]، فقد خلق هذه السماوات السبع والأرضين السبع، وأعلمنا بذلك، لنعلم: {أن الله على كل شيء قدير}.
القدرة وصف يتمكن به الفاعل من الفعل بدون عجز، فهو على كل شيء قدير، يقدر على إيجاد المعدوم وعلى إعدام الموجود، فالسماوات والأرض كانت معدومة، فخلقها الله عز وجل وأوجدها على هذا النظام البديع.
{وأن الله قد أحاط بكل شيء علمًا} : كل شيء، الصغير والكبير، والمتعلق بفعله أو بفعل عباده والماضي واللاحق والحاضر، كل ذلك قد أحاط الله سبحانه به علمًا.
وذكر الله عز وجل العلم والقدرة بعد الخلق، لأن الخلق لا يتم إلا بعلم وقدرة، ودلالة الخلق على العلم والقدرة من باب دلالة التلازم وقد سبق أن دلالات الأسماء على الصفات ثلاثة أنواع.
تنبيه: ذكر في (تفسير الجلالين)- عفا الله عنا وعنه- في آخر سورة المائدة ما نصه (وخص العقل ذاته، فليس عليها بقادر)!
ونحن نناقش هذا الكلام من وجهين:
الوجه الأول: أنه لا حكم للعقل فيما يتعلق بذات الله وصفاته، بل لا حكم له في جميع الأمور الغيبية، ووظيفة العقل فيها التسليم التام، وأن نعلم أن ما ذكره الله من هذه الأمور ليس محالًا، ولهذا يقال: إن النصوص لا تأتي بمحال، وإنما تأتي بمحار، أي: بما يحير العقول، لأنها تسمع ما لا تدركه ولا تتصوره.
والوجه الثاني: قوله: (فليس عليها بقادر): هذا خطأ عظيم، كيف لا يقدر على نفسه وهو قادر على غيره، فكلامه هذا يستلزم أنه لا يقدر أن يستوي ولا أن يتكلم ولا أن ينزل إلى السماء الدنيا ولا يفعل شيئًا أبدًا وهذا خطير جدًّا!!
لكن لو قال قائل: لعله يريد: (خص العقل ذاته، فليس عليها بقادر)، يعني: لا يقدر على أن يلحق نفسه نقصًا قلنا: إن هذا لم يدخل في العموم حتى يحتاج إلى إخراج وتخصيص، لأن القدرة إنما تتعلق بالأشياء الممكنة، لأن غير الممكن ليس بشيء، لا في الخارج ولا في الذهن فالقدرة لا تتعلق بالمستحيل، بخلاف العلم.
فينبغي للإنسان أن يتأدب فيما يتعلق بجانب الربوبية، لأن المقام مقام عظيم، والواجب على المرء نحوه أن يستسلم ويسلم.
إذًا، نحن نطلق ما أطلقه الله، ونقول إن الله على كل شيء قدير، بدون استثناء.
وفي هذه الآيات من صفات الله تعالى: إثبات عموم علم الله على وجه التفصيل، وإثبات عموم قدرة الله تعالى.
والفائدة المسلكية من الإيمان بالعلم والقدرة: قوة مراقبة الله والخوف منه.
وقوله: {إن الله هو الرزاق} (1)......................................................
(1) في هذه الآية إثبات صفة القوة لله عز وجل.
جاءت هذه الآية بعد قوله: {وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون ما أريد منهم من رزق وما أريد أن يطمعون} [الذاريات: 56- 57]، فالناس يحتاجون إلى رزق الله، أما الله تعالى، فإنه لا يريد منهم رزقًا ولا أن يطعموه.
* {الرازق} : صيغة مبالغة من الرزق، وهو العطاء، قال تعالى: {وإذا حضر القسمة أولوا القربى واليتامى والمساكين فارزقوهم منه} [النساء: 8]، أي: أعطوهم، والإنسان يسأل الله تعالى في صلاته، ويقول: اللهم ارزقني.
وينقسم إلى قسمين: عام وخاص.
فالعالم: كل ما ينتفع به البدن، سواء كان حلالًا أو حرامًا، وسواء كان المرزوق مسلمًا أو كافرًا، ولهذا قال السفاريني:
والرزق ما ينفع من حلال ** أو ضده فحل عن المحال

لأنه رازق كل الخلــق ** وليس مخلوق بغير رزق

لأنك لو قلت: إن الرزق هو العطاء الحلال. لكان كل الذين يأكلون الحرام، لم يرزقوا، مع أن الله أعطاهم ما تصلح به أبدانهم، لكن الرزق نوعان: طيب وخبيث، ولهذا قال الله تعالى: {قل من حرم زينة الله التي أخرج لعباده والطيبات من الرزق} [الأعراف: 32]، ولم يقل: والرزق، أما الخبائث من الرزق، فهي حرام.
أما الرزق الخاص، فهو ما يقوم به الدين من العلم النافع والعمل الصالح والرزق الحلال المعين على طاعة الله، ولهذا جاءت الآية الكريمة: {الرزاق} ولم يقل: الرازق، لكثره رزقه وكثرة من يرزقه، فالذي يرزقه الله عز وجل لا يحصى باعتبار أجناسه، فضلًا عن أنواعه، فضلًا عن آحاده، لأن الله تعالى يقول: {وما من دابة في الأرض إلا على الله رزقها ويعلم مستقرها ومستودعها} [هود: 6]، ويعطي الله الرزق بحسب الحال.
ولكن إذا قال قائل: إذا كان الله هو الرزاق، فهل أسعى لطلب الرزق: أو أبق في بيتي ويأتيني الرزق؟
فالجواب نقول: اسع لطلب الرزق، كما أن الله غفور، فليس معنى هذا أن لا تعمل وتتسبب للمغفرة.
أما قول الشاعر:
جنون من أن تسعى لرزق ** ويرزق في غشاوته الجنين

فهذا القول باطل. وإما استشهاده بالجنين، فالجواب: أن يقال الجنين لا يمكن أن يوجه إليه طلب الرزق، لأنه غير قادر، بخلاف القادر.
ولهذا قال الله تعالى: {هو الذي جعل لكم الأرض ذلولًا فامشوا في مناكبها وكلوا من رزقه} [الملك: 15]، فلابد من سعي، وأن يكون هذا السعي على وفق الشرع.
{ذو القوة (1) المتين} (2)..............................................................
(1) القوة: صفة يتمكن الفاعل بها من الفعل بدون ضعف، والدليل على قوله تعالى: {الله الذي خلقكم من ضعف ثم جعل من بعد ضعف قوة} [الروم: 54]، وليست القوة هي القدرة، لقوله تعالى: {وما كان الله ليعجزه من شيء من السموات ولا في الأرض إنه كان عليمًا قديرًا} [فاطر: 44]، فالقدر يقابلها العجز، والقوة يقابلها الضعف، والفرق بينهما: أن القدرة يوصف بها ذو الشعور، والقوة يقابلها الضعف، والفرق بينهما: أن القدرة يوصف بها ذو الشعور، والقوة يوصف بها ذو الشعور وغيره. ثانيًا: أن القوة أخص فكل قوي من ذي الشعور قادر، وتقول: الحديد قوي، ولا تقول: قادر، لكن ذو الشعور تقول: إنه قوي، وإنه قادر.
ولما قالت عاد: {من أشد منا قوة} قال الله تعالى: {أو لم يروا أن الله الذي خلقهم هو أشد منهم قوة} [فصلت: 15].
(2) المتين قال ابن عباس رضي الله عنهما: الشديد. أي الشديد في قوته، والشديد في عزته، الشديد في جميع صفات الجبروت، وهو من حيث المعنى توكيد للقوي.
ويجوز أن نخبر عن الله بأنه شديد، ولا نسمي الله بالشديد، بل نسميه بالمتين، لأن الله سمى نفسه بذلك.
في هذه الآية إثبات اسمين من أسماء الله، هما: الرزاق، والمتين، وإثبات ثلاث صفات، وهي الرزق، والقوة، وما تضمنه اسم المتين.
والفائدة المسلكية في الإيمان بصفة القوة والرزق، أن لا نطلب القوة والرزق إلا من الله تعالى، وأن نؤمن بأن كل قوة مهما عظمت، فلن تقابل قوة الله تعالى.