فصل: الجمع بين علوه وقربه وأزليته وأبديته:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: شرح العقيدة الواسطية (نسخة منقحة)



.الجمع بين علوه وقربه وأزليته وأبديته:

هو الأول والآخر والظاهر والباطن (1)...............................................
(1) {الأول والآخر والظاهر والباطن} : هذه أربعة أسماء كلها متقابلة في الزمان والمكان، تفيد إحاطة الله سبحانه وتعالى بكل شيء أولًا وآخرًا وكذلك في المكان ففيه الإحاطة الزمانية والإحاطة المكانية.
{الأول} : فسره النبي عليه الصلاة والسلام بقوله: «الذي ليس قبله شيء».
وهنا فسر الإثبات بالنفي فجعل هذه الصفة الثبوتية صفة سلبية، وقد ذكرنا فيما سبق أن الصفات الثبوتية أكمل وأكثر، فلماذا؟
فنقول: فسرها النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بذلك، لتوكيد الأولية، يعني أنها مطلقة، أولية ليست أولية إضافية، فيقال: هذا أول باعتبار ما بعده وفيه شيء آخر قبله، فصار تفسيرها بأمر سلبي أدل على العموم باعتبار التقدم الزمني.
{والآخر} : فسره النبي عليه الصلاة والسلام بقوله: «الذي ليس بعده شيء»، ولا يتوهم أن هذا يدل على غاية لآخريته، لأن هناك أشياء أبدية وهي من المخلوقات، كالجنة والنار، وعليه فيكون معنى: {الآخر} أنه محيط بكل شيء، فلا نهاية لآخريته.
{والظاهر} : من الظهور وهو العلو، كما قال تعالى: {هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله} [التوبة: 33]، أي: ليعليه، ومنه ظهر الدابة لأنه عال عليها، ومنه قوله تعالى: {فما اسطاعوا أن يظهروه} [الكهف: 97]، أي يعلوا عليه، وقال النبي عليه الصلاة والسلام في تفسيرها: «الذي ليس فوقه شيء»، فهو عال على كل شيء.
{والباطن} : فسره النبي عليه الصلاة والسلام قال: (الذي ليس دونه شيء) وهذا كناية عن إحاطته بكل شيء، ولكن المعنى أنه مع علوه عز وجل، فهو باطن، فعلوه لا ينافي قربه عز وجل، فالباطن قريب من معنى القريب.
تأمل هذه الأسماء الأربعة، تجد أنها متقابلة، وكلها خبر عن مبتدأ واحد لكن بواسطة حرف العطف والأخبار بواسطة حرف العطف أقوى من الأخبار بدون واسطة حرف العطف، فمثلًا: {وهو الغفور الودود ذو العرش المجيد فعال لما يريد} [البروج: 14- 16]: هي أخبار متعددة بدون حرف العطف لكن أحيانًا تأتي أسماء الله وصفاته مقترنة بواو العطف وفائدتها:
أولًا: توكيد السابق، لأنك إذا عطفت عليه، جعلته أصلًا، والأصل ثابت.
ثانيًا: إفادة الجمع ولا يستلزم ذلك تعدد الموصوف، أرأيت قوله تعالى: {سبح اسم ربك الأعلى الذي خلق فسوى والذي قدر فهدى} [الأعلى: 1- 3] فالأعلى الذي خلق فسوى هو الذي قدر فهدى.
فإذا قلت: المعروف أن العطف يقتضي المغايرة.
فالجواب: نعم، لكن المغايرة تارة تكون بالأعيان، وتارة تكون بالأوصاف، وهذا تغاير أوصاف، على ان التغاير قد يكون لفظيًا غير معنوي مثل قول الشاعر:
فألقى قولها كذبًا ومينا

فالمين هو الكذب ومع ذلك عطفه عليه، لتغاير اللفظ والمعنى واحد، فالتغاير إما عيني أو معنوي أو لفظي فلو قلت: جاء زيد وعمرو وبكر وخالد، لا تغاير عيني، لو قلت: جاء زيد الكريم والشجاع والعالم، فالتغاير معنوي، ولو قلت: هذا الحديث كذب مين، فالتغاير لفظي.
واستفدنا من هذه الآية الكريمة إثبات أربعة أسماء لله، وهي الأول والآخر والظاهر والباطن.
واستفدنا منها خمس صفات: الأولية، والآخرية، والظاهرية، والباطنية وعموم العلم.
واستفدنا من مجموع الأسماء: إحاطة الله تعالى بكل شيء زمنًا ومكانًا، لأنه قد يحصل من اجتماع الأوصاف زيادة صفة.
فإذا قال قائل: هل هذه الأسماء متلازمة، بمعنى أنك إذا قلت: الأول، فلابد أن تقول: الآخر، أو: يجوز فصل بعضها عن بعض؟!
فالظاهر أن المتقابل منها متلازم، فإذا قلت: الأول، فقل: الآخر، وإذا قلت: الظاهر، فقل: الباطن، لئلا تفوت صفة المقابلة الدالة على الإحاطة.
وهو بكل شيء عليم (1).............................................................
(1) هذا إكمال لما سبق من الصفات الأربع، يعني: ومع ذلك، فهو بكل شيء عليم.
وهذه من صيغ العموم التي لم يدخلها تخصيص أبدًا، وهذا العموم يشمل أفعاله وأفعال العباد الكليات والجزئيات، يعلم ما يقع وما سيقع ويشمل الواجب والممكن والمستحيل، فعلم الله تعالى واسع شامل محيط لا يستثنى منه شيء، فأما علمه بالواجب، فكعلمه بنفسه وبما له من الصفات الكاملة، وأما علمه بالمستحيل، فمثل قوله تعالى: {لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدنا} [الأنبياء: 22]، وقوله: {إن الذين تدعون من دون الله لن يخلقوا ذبابًا ولو اجتمعوا له} [الحج: 73]، وأما علمه بالممكن، فكل ما أخبر الله به عن المخلوقات، فهو من الممكن: {يعلم ما تسرون وما تعلنون} [النحل: 19].
إذًا، فعلم الله تعالى محيط بكل شيء.
والثمرة التي ينتجها الإيمان بأن الله بكل شيء عليم: كمال مراقبة الله عز وجل وخشيته، بحيث لا يفقده حيث أمره، ولا يراه حيث نهاه.
وقوله سبحانه: وتوكل (1)...........................................................
(1) التوكل: مأخوذ من وكل الشيء إلى غيره، أي: فوضه إليه، فالتوكل على الغير، بمعنى: التفويض إليه.
وعرف بعض العلماء التوكل على الله بأنه: صدق الاعتماد على الله في جلب المنافع ودفع المضار، مع الثقة به سبحانه وتعالى، وفعل الأسباب الصحيحة.
وصدق الاعتماد: أن تعتمد على الله اعتمادًا صادقًا، بحيث لا تسأل إلا الله، ولا تستعين إلا بالله، ولا ترجو إلا الله، ولا تخاف إلا الله، تعتمد على الله عز وجل بجلب المنافع ودفع المضار، ولا يكفي هذا الاعتماد دون الثقة به وعل السبب الذي أذن به، بحيث إنك واثق بدون تردد مع فعل السبب الذي أذن فيه.
فمن لم يعتمد على الله واعتمد على قوته، فإنه يخذل، ودليل ذلك ما وقع للصحابة مع نبيهم محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في غزوة حنين، حين قال الله عز وجل: {لقد نصركم الله في مواطن كثيرة ويوم حنين إذا أعجبتكم كثرتكم}، حيث قالوا: لن نغلب اليوم من قلة، {فلم تغن عنكم شيئًا وضاقت عليكم الأرض بما رحبت ثم وليتم مدبرين ثم أنزل الله سكينته على رسوله وعلى المؤمنين وأنزل جنودًا لم تروها} [التوبة: 25- 26].
ومن توكل على الله، ولكن لم يفعل السبب الذي أذن الله فيه، فهو غير صادق، بل إن عدم فعل الأسباب سفه في العقل ونقص في الدين، لأنه طعن واضح في حكمة الله.
والتوكل على الله هو شطر الدين، كما قال تعالى: {إياك نعبد وإياك نستعين} [الفاتحة: 5]، والاستعانة بالله تعالى هي ثمرة التوكل، {فاعبده وتوكل عليه} [هود: 123].
ولهذا، فإن من توكل على غير الله لا يخلو من ثلاثة أقسام:
أولًا: أن يتوكل توكل اعتماد وتعبد، فهذا شرك أكبر، كأن يعتقد بأن هذا المتوكل عليه هو الذي يجلب له كل خير ويدفع عنه كل شر، فيفوض أمره إليه تفويضًا كاملًا في جلب المنافع ودفع المضار، مع اقتران ذلك بالخشية والرجاء، ولا فرق بين أن يكون المتوكل عليه حيًا أو ميتًا، لأن هذا التفويض لا يصح إلا الله.
ثانيًا: أن يتوكل على غير الله بشيء من الاعتماد لكن فيه إيمان بأنه سبب وأن الأمر إلى الله، كتوكل كثير من الناس على الملوك والأمراء في تحصيل معاشهم، فهذا نوع من الشرك الأصغر.
ثالثًا: أن يتوكل على شخص على أنه نائب عنه، وأن هذا المتوكل فوقه، كتوكل الإنسان على الوكيل في بيع وشراء ونحوهما مما تدخله النيابة، فهذا جائز، ولا ينافي التوكل على الله، وقد وكل النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أصحابه في البيع والشراء ونحوهما.
على الحي الذي لا يموت (1) وقوله: {وهو العليم (2) الحكيم (3)}....................
(1) قوله: {على الحي الذي لا يموت} : يقولون: إن الحكم إذا علق بوصف، دل على عليه ذلك الوصف.
لو قال قائل: لماذا لم تكن الآية: وتوكل على القوي العزيز، لأن القوة والعزة أنسب فيما يبدو؟!
فالجواب: أنه لما كانت الأصنام التي يعتمد عليها هؤلاء بمنزلة الأموات: كما قال تعالى: {والذين يدعون من دون الله لا يخلقون شيئًا وهم يخلقون أموات غير أحياء وما يشعرون أيان يبعثون} [النحل: 20- 21]، فقال توكل على من ليس صفته كصفة هذه الأصنام وهو الحي الذي لا يموت، على أنه قال في آية أخرى: {وتوكل على العزيز الرحيم} [الشعراء: 217]، لأن العزة أنسب في هذا السياق.
ووجه آخر: أن الحي اسم يتضمن جميع الصفات الكاملة في الحياة، ومن كمال حياته عز وجل أنه أهل لأن يعتمد عليه.
وقوله: {لا يموت}، يعني لكمال حياته لا يموت فيكون تعلقها بما قبلها المقصود به إفادة أن هذه الحياة كاملة لا يحلقها فناء.
في هذه الآية من أسماء الله: الحي، وفيها من صفاته: الحياة، وانتفاء الموت المتضمن لكمال الحياة، ففيها صفتان واسم.
(2) سبق تعريف العلم، وسبق أن العلم صفة كمال وسبق أن علم الله محيط بكل شيء.
(3) {الحكيم} هذه المادة (ح ك م): تدل على حكم وإحكام، فعلى الأول يكون الحكيم بمعنى الحاكم، وعلى الثاني يكون الحكيم بمعنى المحكم، إذًا: يدل هذا الاسم الكريم على أن الحكم لله، ويدل على أن الله موصوف بالحكمة، لأن الإحكام هو الإتقان، والإتقان وضع الشيء في موضعه. ففي الآية إثبات حكم وإثبات حكمة:
فالله عز وجل وحده هو الحاكم، وحكم الله إما كوني وإما شرعي:
فحكم الله الشرعي ما جاءت به رسله ونزلت به كتبه من شرائع الدين.
وحكم الله الكوني: ما قضاه على عباده من الخلق والرزق والحياة والموت ونحو ذلك من معاني ربوبيته ومتقتضياتها.
دليل الحكم الشرعي: قوله تعالى في سورة الممتحنة: {ذلكم حكم الله يحكم بينكم} [الممتحنة: 10].
ودليل الحكم الكوني: قوله تعالى عن أحد أخوة يوسف: {فلن أبرح الأرض حتى يأذن لي أبي أو يحكم الله لي وهو خير الحاكمين} [يوسف: 80].
وأما قوله تعالى: {أليس الله بأحكم الحاكمين}، فشامل للكوني والشرعي، فالله عز وجل حكيم بالحكم الكوني وبالحكم الشرعي، وهو أيضًا محكم لهما، فكل من الحكمين موافق للحكمة.
لكن من الحكمة ما نعلمه، ومن الحكمة مالا نعلمه، لأن الله تعالى يقول: {وما أوتيتم من العلم إلا قليلًا}.
ثم الحكمة نوعان:
الأول: حكمة في كون الشيء على كيفيته وحاله التي هو عليها، كحال الصلاة، فهي عبادة كبيرة تسبق بطهارة من الحدث والخبث وتؤدى على هيئة معينة من قيام وقعود وركوع وسجود، وكالزكاة، فهي عبادة لله تعالى بأداء جزء من المال النامي غالبًا لمن هم في حاجة إليها، أو في المسلمين حاجة إليهم كبعض المؤلفة قلوبهم.
النوع الثاني: حكمة في الغاية من الحكم، حيث إن جميع أحكام الله تعالى لها غايات حميدة وثمرات جليلة.
فانظر إلى حكمة الله في حكمه الكوني، حيث يصيب الناس المصائب العظيمة لغايات حميدة، كقوله تعالى: {ظهر الفساد في البر والبحر بما كسبت أيدي الناس ليذيقهم بعض الذي عملوا لعلهم يرجعون} [الروم: 41]، ففيها رد لقول من يقول: إن أحكام الله تعالى ليست لحكمة، بل هي لمجرد مشيئته.
وفي هذه الآية من أسماء الله: العليم، والحكيم. ومن صفاته: العلم والحكمة.
وفيها من الفوائد المسلكية: أن الإيمان بعلم الله وحكمته يستلزم الطمأنينة التامة لما حكم به من أحكام كونية وشرعية، لصدور ذلك عن علم وحكمة، فيزول عنه القلق النفسي وينشرح صدره.
وقوله: {وهو العليم (1) الخبير (2)}.................................................
(1) العليم: سبق الكلام فيه.
(2) الخبير: هو العليم ببواطن الأمور فيكون هذا وصفًا أخص بعد وصف أعم، فنقول: العليم بظواهر الأمور، والخبير ببواطن الأمور، فيكون العلم بالبواطن مذكورًا مرتين: مرة بطريق العموم، ومرة بطريق الخصوص، لئلا يظن أن علمه مختص بالظواهر.
وكما يكون هذا في المعاني يكون في الأعيان، فمثلًا: {نزل الملائكة والروح فيها} [القدر: 4]: الروح جبريل، وهو من الملائكة فنقول: الملائكة ومنهم جبريل، وخص جبريل بالذكر تشريفًا له ويكون النص عليه مرتين: مرة بالعموم، ومرة بالخصوص.
وفي هذه الآية من أسماء الله تعالى: العليم، والخبير ومن صفاته: العلم، والخبرة.
وفيها من الفوائد المسلكية: أن الإيمان بذلك يزيد المرء خوفًا من الله وخشية، سرًا وعلنًا.