فصل: المبحث الثاني:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: شرح العقيدة الواسطية (نسخة منقحة)



.إثبات معية الله لخلقه:

(1) شرع المؤلف بسوق أدلة المعية؛ أي: أدلة معية الله تعالى لخلقه، وناسب أن يذكرها بعد العلو؛ لأنه قد يبدون للإنسان أن هناك تناقضًا بين كونه فوق كل شيء وكونه مع العباد، فكان من المناسب جدًّا أن يذكر الآيات التي تثبت معية الله للخلق بعد ذكر آيات العلو.
وفي معية الله تعالى لخلقه مباحث:

.المبحث الأول في أقسامها:

معية الله عز وجل تنقسم إلى قسمين: عامة، وخاصة.
والخاصة تنقسم إلى قسمين: مقيدة بشخص، ومقيدة بوصف.
أما العامة؛ فهي التي تشمل كل أحد من مؤمن وكافر وبر وفاجر. ودليلها قوله تعالى: {وهو معكم أين ما كنتم} [الحديد: 4].
أما الخاصة المقيدة بوصف؛ فمثل قوله تعالى: {إن الله مع الذين اتقوا والذين هم محسنون} {النحل: 128}.
وأما الخاصة المقيدة بشخص معين؛ فمثل قوله تعالى عن نبيه: {إذ يقول لصاحبه لا تحزن إن الله معنا} [التوبة: 40]، وقال لموسى وهارون: {إنني معكما أسمع وأرى} [طه: 46].
وهذه أخص من المقيدة بوصف.
فالمعية درجات: عامة مطلقة، وخاصة مقيدة بوصف، وخاصة مقيدة بشخص. فأخص أنواع المعية ما قيد بشخص، ثم ما قيد بوصف، ثم ما كان عامًا. فالمعية العامة تستلزم الإحاطة بالخلق علمًا وقدرة وسمعًا وبصرًا وسلطانًا وغير ذلك من معاني ربوبيته، والمعية الخاصة بنوعيها تستلزم مع ذلك النصر والتأييد.

.المبحث الثاني:

هل المعية حقيقية أو هي كتابة عن علم الله عز وجل وسمعه وبصره وقدرته وسلطانه وغير ذلك من معاني ربوبيته؟
أكثر عبارات السلف رحمهم الله يقولون: إنها كتابة عن العلم وعن السمع والبصر والقدرة وما أشبه ذلك، فيجعلون معنى قوله: {وهو معكم} أي: وهو عالم بكم سميع لأقوالكم، بصير بأعمالكم، قادر عليكم حاكم بينكم.... وهكذا، فيفسرونها بلازمها.
واختار شيخ الإسلام رحمه الله في هذا الكتاب وغيره أنها على حقيقتها، وأن كونه معنا حق على حقيقته، لكن ليست معيته كمعية الإنسان للإنسان التي يمكن أن يكون الإنسان مع الإنسان في مكانه؛ لأن معية الله عز وجل ثابتة له وهو في علوه؛ فهو معنا وهو عال على عرشه فوق كل شيء، ولا يمكن بأي حال من الأحوال أن يكون معنا في الأمكنة التي نحن فيها.
وعلى هذا، فإنه يحتاج إلى الجمع بينها وبين العلو.
والمؤلف عقد لها فصلًا خاصًا سيأتي بيانه إن شاء الله تعالى، وأنه لا منافاة بين العلو والمعية، لأن الله تعالى ليس كمثله شيء في جميع صفاته، فهو علي في دنوه، قريب في علوه.
وضرب شيخ الإسلام رحمه الله لذلك مثلًا بالقمر، قال: إنه يقال: مازلنا نسير والقمر معنا، وهو موضوع في السماء، وهو من أصغر المخلوقات، فكيف لا يكون الخالق عز وجل مع الخلق، الذي الخلق بالنسبة إليه ليسوا بشيء، وهو فوق سماواته؟!
وما قاله رحمه الله فيه دفع حجة بعض أهل التعطيل حيث احتجوا على أهل السنة، فقالوا: أنتم تمنعون التأويل، وأنتم تؤولون في المعية، تقولون: المعية بمعنى العلم والسمع والبصر والقدرة والسلطان وما أشبه ذلك.
فنقول: إن المعية حق على حقيقتها، لكنها ليست في المفهوم الذي فهمه الجهمية ونحوهم، بأنه مع الناس في كل مكان وتفسير بعض السلف لها بالعلم ونحوه، بأنه مع الناس في كل مكان وتفسير بعض السلف لها بالعلم ونحوه تفسير باللازم.

.المبحث الثالث:

هل المعية من الصفات الذاتية أو منا لصفات الفعلية؟
فيه تفصيل:
- أما المعية العامة، فهي ذاتية، لأن الله لم يزل ولا يزال محيطًا بالخلق علمًا وقدرة وسلطانًا وغير ذلك من معاني ربوبيته.
- وأما المعية الخاصة، فهي صفة فعلية، لأنها تابعة لمشيئة الله، وكل صفة مقرونة بسبب هي من الصفات الفعلية، فقد سبق لنا أن الرضى من الصفات الفعلية، لأنه مقرون بسبب، إذا وجد السبب الذي به يرضى الله، وجد الرضى، وكذلك المعية الخاصة إذا وجدت التقوى أو غيرها من أسبابها في شخص، كان الله معه.

.المبحث الرابع في المعية:

هل هي حقيقة أو لا؟
ذكرنا ذلك، وأن من السلف من فسرها باللازم، وهو الذي لا يكاد يرى الإنسان سواه. ومنهم من قال: هي على حقيقتها، لكنها معية تليق بالله، خاصة به.
وهذا صريح كلام المؤلف هنا في هذا الكتاب وغيره، لكن تصان عن الظنون الكاذبة، مثل أن يظن أن الله معنا في الأرض ونحو ذلك، فإن هذا باطل مستحيل!

.المبحث الخامس في المعية:

هل بينها وبين العلو تناقض؟
الجواب: لا تناقض بينهما، لوجوه ثلاثة:
الوجه الأول: أن الله جمع بينهما فيما وصف به نفسه، ولو كانا يتناقضان ما صح أن يصف الله بهما نفسه.
الوجه الثاني: أن نقول: ليس بين العلو والمعية تعارض، أصلًا، إذ من الممكن أن يكون الشيء عاليًا وهو معك، ومنه ما يقوله العرب: القمر معنا ونحن نسير، والشمس معنا ونحن نسير، والقطب معنا ونحن نسير، مع أن القمر والشمس والقطب كلها في السماء، فإذا أمكن اجتماع العلو والمعية في المخلوق، فاجتماعهما في الخالق من باب أولى.
أرأيت لو أن إنسانًا على جبل عالٍ، وقال للجنود: اذهبوا إلى مكان بعيد في المعركة، وأنا معكم، وهو واضع المنظار على عينيه، ينظر إليهم من بعيد، فصار معهم، لأنه الآن يبصر كأنهم بين يديه، وهو بعيد عنهم، فالأمر ممكن في حق المخلوق، فكيف لا يمكن في حق الخالق؟!
الوجه الثالث: أنه لو تعذر اجتماعهما في حق المخلوق، لم يكن متعذرًا في حق الخالق، لأن الله أعظم وأجل، ولا يمكن أن تقاس صفات الخالق بصفات المخلوقين، لظهور التباين بين الخالق والمخلوق.
والرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول في سفره: «اللهم أنت الصاحب في السفر، والخليفة في الأهل»، فجمع بين كونه صاحبًا له وخليفة له في أهله، مع أنه بالنسبة للمخلوق غير ممكن، لا يمكن أن يكون شخص ما صاحبًا لك في السفر وخليفة لك في أهلك.
وثبت في الحديث الصحيح: أن الله عز وجل يقول إذا قال المصلى: {الحمد لله رب العالمين} : «حمدني عبدي». كم من مصل يقول: {الحمد لله رب العالمين}؟ لا يحصون، وكم من مصليين، أحدهما يقول: {الحمد لله رب العالمين}، والثاني يقول: {إياك نعبد وإياك نستعين}، وكل واحد منهما له رد، الذي يقول: {الحمد لله رب العالمين} : يقول الله له: «حمدني عبدي». والذي يقول: {إياك نعبد وإياك نستعين} : يقول الله له: «هذا بيني وبين عبدي نصفين».....
إذًا، يمكن أن يكون الله معنا حقًّا وهو على عرشه في السماء حقًّا، ولا يفهم أحدًا أنهما يتعارضان، إلا من أراد أن يمثل الله بخلقه، ويجعل معية الخالق كمعية المخلوق.
ونحن بينا إمكان الجمع بين نصوص العلو ونصوص المعية، فإن تبين ذلك، وإلا، فالواجب أن يقول العبد: آمنت بالله ورسوله، وصدقت بما قال الله عن نفسه ورسوله، ولا يقول: كيف يمكن؟! منكرًا ذلك!
إذا قال: كيف يمكن؟! قلنا: سؤالك هذا بدعة، لم يسأل عنه الصحابة، وهم خير منك، ومسئولهم أعلم من مسئولك وأصدق وأفصح وأنصح، عليك أن تصدق، لا تقل: كيف؟ ولا لم؟ ولكن سلم تسليمًا.
تنبيه:
تأمل في الآية، تجد كل الضمائر تعود على الله سبحانه وتعالى: {خلق السموات والأرض في ستة أيام ثم استوى}، {يعلم ما يلج في الأرض}، فكذلك ضمير {وهو معكم}، فيجب علينا أن نؤمن بظاهر الآية الكريمة، ونعلم علم اليقين أن هذه المعية لا تقتضي أن يكون الله معنا في الأرض، بل هو معنا مع استوائه على العرش. هذه المعية، إذا آمنا بها، توجب لنا خشية الله عز وجل وتقواه، ولهذا جاء في الحديث: «أفضل الإيمان أن تعلم أن الله معك حيثما كنت».
أما أهل الحلول، فقالوا: إن الله معنا بذاته في أمكنتنا، إن كنت في المسجد، فالله معك في المسجد والذين في السوق الله معهم في السوق!! والذين في الحمامات الله معهم في الحمامات!!
ما نزهوه عن الأقذار والأنتان وأماكن اللهو والرفث!!

.المبحث السادس:

في شبهة القائلين بأن الله معنا في أكنتنا والرد عليهم:
شبهتهم: يقولون: هذا ظاهر اللفظ: {وهو معكم}؛ لأن كل الضمائر تعود على الله: {هو الذي خلق}، {ثم استوى}، {يعلم}، {وهو معكم}، وإذا كان معنا؛ فنحن لأنفهم من المعية إلا المخالطة أو المصاحبة في المكان!!
والرد عليهم من وجوه:
أولًا: أن ظاهرها ليس كما ذكرتم؛ إذ لو كان الظاهر كما ذكرتم؛ لكان في الآية تناقض: أن يكون مستويًا على العرش، وهو مع كل إنسان في أي مكان! والتناقض في كلام الله تعالى مستحيل.
ثانيًا: قولكم: إن المعية لا تعقل إلا مع المخالطة أو المصاحبة في المكان! هذا ممنوع؛ فالمعية في اللغة العربية أسم لمطلق المصاحبة، وهي أوسع مدلولًا مما زعمتم؛ فقد تقتضي الاختلاط، وقد تقتضي المصاحبة في المكان، وقد تقتضي مطلق المصاحبة وإن اختلف المكان؛ هذه ثلاثة أشياء:
1- مثال المعية التي تقتضي المخالطة: أن يقال: اسقوني لبنًا مع ماء؛ أي: مخلوطًا بماء.
2- ومثال المعية التي تقتضي المصاحبة في المكان: قولك: وجدت فلانًا مع فلان يمشيان جميعًا وينزلان جميعًا.
3- ومثال المعية التي تقتضي الاختلاط ولا المشاركة في المكان: أن يقال:
فلان مع جنوده. وإن كان في غرفة القيادة، لكن يوجههم. فهذا ليس فيه اختلاط ولا مشاركة في مكان.
ويقال: زوجة فلان معه. وإن كانت هي في المشرق وهو في المغرب. فالمعية إذا كما قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله وكما هو ظاهر من شواهد اللغة: مدلولها مطلق المصاحبة، ثم هي بحسب ما تضاف إليه. فإذا قيل: {إن الله مع الذين اتقوا} [النحل: 128]؛ فلا يقتضي ذلك لا اختلاطًا ولا مشاركة في المكان، بل هي معية لائقة بالله، ومقتضاها النصر والتأييد.
ثالثًا: نقول: وصفكم الله بهذا! من أبطل الباطل وأشد التنقص لله عز وجل، والله عز وجل ذكرها هنا عن نفسه متمدحًا؛ أنه مع علوه على عرشه؛ فهو مع الخلق، وإن كانوا أسفل منه، فإذا جعلتم الله في الأرض؛ فهذا نقص. إذا جعلتم الله نفسه معكم في كل مكان، وأنتم تدخلون الكنيف؛ هذا أعظم النقص، ولا تستطيع أن تقوله ولا لملك من ملوك الدنيا: إنك أنت في الكنيف! لكن كيف تقوله لله عز وجل؟!
رابعًا: يلزم على قولكم هذا أحد أمرين لا ثالث لهما، وكلاهما ممتنع: إما أن يكون الله متجزئًا، كل جزء منه في مكان.
وإما أن يكون متعددًا؛ يعني: كل إله في جهة ضرورة تعدد الأمكنة.
خامسًا: أن نقول: قولكم هذا أيضًا يستلزم أن يكون الله حالًا في الخلق؛ فكل مكان في الخلق؛ فالله تعالى فيه، وصار هذا سلمًا لقول أهل وحدة الوجود. فأنت ترى أن هذا القول باطل، ومقتضى هذا القول الكفر.
ولهذا نرى أن من قال: إن الله معنا في الأرض؛ فهو كافر؛ يستتاب، ويبين له الحق، فإن رجع، وإلا؛ وجب قتله.
وهذه آيات المعية:
الآية الأولى: قوله تعالى: {هو الذي خلق السموات والأرض في ستة أيام ثم استوى على العرش يعلم ما يلج في الأرض وما يخرج منها وما ينزل من السماء وما يعرج فيها وهو معكم أين ما كنتم والله بما تعملون بصير} [الحديد: 4]: والشاهد فيها قوله: {وهو معكم أين ما كنتم}، وهذه من المعية العامة؛ لأنها تقتضي الإحاطة بالخلق علمًا وقدرة وسلطانًا وسمعًا وبصرًا وغير ذلك من معاني الربوبية.
(1) الآية الثانية: قوله: {ما يكون من نجوى ثلاثة إلا هو رابعهم ولا خمسة إلا هو سادسهم ولا أدنى من ذلك ولا أكثر إلا هو معهم أين ما كانوا ثم ينبئهم بما عملوا يوم القيامة إن الله بكل شيء عليم} [المجادلة: 7].
{ما يكون} : {يكون}؛ تامة يعني: ما يوجد.
وقوله: {من نجوى ثلاثة} : قيل: إنها من باب إضافة الصفة إلى الموصوف، وأصلها: من ثلاثة نجوى، ومعنى {نجوى}؛ أي: متناجين.
وقوله: {إلا هو رابعهم} ولم يقل: إلا هو ثالثهم؛ لأنه من غير الجنس، وإذا كان من غير الجنس، فإنه يؤتى بالعدد التالي، أما إذا كان من الجنس؛ فإنه يؤتى بنفس العدد، أنظر قوله تعالى عن النصارى: {لقد كفر الذين قالوا إن الله ثالث ثلاثة} [المائدة: 73]، ولم يقولوا: ثالث أثنين؛ لأنه من الجنس على زعمهم فعندهم كل الثلاثة آلهة، فلما كان من الجنس على زعمهم؛ قالوا فيه: ثالث ثلاثة.
قوله: {ولا خمسة هو سادسهم} ذكر العدد الفردي ثلاثة وخمسة، وسكت عن العدد الزوجي، لكنه داخل في قوله: {ولا أدنى من ذلك} : الأدنى من ثلاثة اثنان، {ولا أكثر} من خمسة، ستة فما فوق.
ما من اثنين فأكثر يتناجيان بأي مكان من الأرض؛ إلا والله عز وجل معهم.
وهذه المعية عامة؛ لأنها تشمل كل أحد: المؤمن، والكافر، والبر، والفاجر، ومقتضاها الإحاطة بهم علمًا وقدرة وسمعًا وبصرًا وسلطانًا وتدبيرًا وغير ذلك.
وقوله: {ثم ينبئهم بما عملوا يوم القيامة}؛ يعني: أن هذه المعية تقتضي إحصاء ما عملوه؛ فإذا كان يوم القيامة؛ نبأهم بما عملوا؛ يعني: أخبرهم به وحاسبهم عليه؛ لأن المراد بالإنباء لازمه، وهو المحاسبة، لكن إن كانوا مؤمنين؛ فإن الله تعالى يحصي أعمالهم، ثم يقول: «سترتها عليك في الدنيا وأنا أغفرها لك اليوم».
وقوله: {لا تحزن إن الله معنا}.........................
وقوله عز وجل: {إن الله بكل شيء عليم} : كل شيء موجود أو معدوم، جائز أو واجب أو ممتنع، كل شيء؛ فالله عليم به. وقد سبق لنا الكلام على صفة العلم، وأن علم الله يتعلق بكل شيء، حتى بالواجب والمستحيل والصغير والكبير، والظاهر والخفي.
الآية الثالثة: {لا تحزن إن الله معنا} [التوبة: 40].
الخطاب لأبي بكر من النبي، صلى الله عليه وسلم: قال الله تعالى: {إلا تنصروه فقد نصره الله إذ هما في الغار إذ يقول لصاحبه لا تحزن إن الله معنا} [التوبة:40].
أولًا: نصره حين الإخراج و: {إذ أخرجه الذين كفروا}.
ثانيًا: وعند المكث في الغار {إذ هما في الغار}.
ثالثًا: عند الشدة حينما وقف المشركون على فم الغار: {إذ يقول لصاحبه لا تحزن}.
فهذه ثلاثة مواقع بين الله تعالى فيها نصره لنبيه، صلى الله عليه وسلم.
وهذا الثالث حين وقف المشركون عليهم؛ يقول أبو بكر: (يا رسول الله! لو نظر أحدهم إلى قدمه؛ لأبصرنا)؛ يعني: إننا على خطر؛ كقول أصحاب موسى لما وصلوا إلى البحر: {إنا لمدركون} [الشعراء: 61]، وهنا قال النبي، صلى الله عليه وسلم، لأبي بكر رضي الله عنه: {لا تحزن إن الله معنا}. فطمأنه وأدخل الأمن في نفسه، وعلل ذلك بقوله: {إن الله معنا}.
وقوله: {لا تحزن} : نهي يشمل الهم مما وقع وما سيقع؛ فهو صالح للماضي والمستقبل.
والحزن: تألم النفس وشدة همها.
{إن الله معنا} : وهذه المعية خاصة، مقيدة بالنبي، صلى الله عليه وسلم وأبي بكر، وتقتضي مع الإحاطة التي هي المعية العامة النصر والتأييد. ولهذا وقفت قريش على الغار، ولم يبصروهما! أعمى الله أبصارهم. وأما قول من قال: فجاءت العنكبوت فنسجت على باب الغار، والحمامة وقعت على باب الغار، فلما جاء المشركون، وإذا على الغار، حمامة وعش عنكبوت، فقالوا: ليس فيه أحد؛ فانصرفوا. فهذا باطل!! الحماية الإلهية والآية البالغة أن يكون الغار مفتوحًا صافيًا؛ ليس فيه مانع حسي، ومع ذلك لا يرون من فيه، هذه هي الآية!!
أما أن تأتي حمامة وعنكبوت تعشش؛ فهذا بعيد، وخلاف قوله: (لو نظر أحدهم إلى قدمه، لأبصرنا).
المهم أن بعض المؤرخين –عفا الله عنهم –يأتون بأشياء غريبة شاذة منكرة لا يقبلها العقل ولا يصح بها النقل.
(1) الآية الرابعة: قوله: {إنني معكما أسمع وأرى} [طه: 46].
هذا الخطاب موجه لموسى وهارون، لما أمرهما الله عز وجل أن يذهبا إلى فرعون؛ قال: {اذهبا إلى فرعون إنه طغى فقولا له قولًا لينا لعله يتذكر أو يخشى قالا ربنا إننا نخاف أن يفرط علينا أو أن يطغى قال لا تخافا إنني معكما أسمع وأرى} [طه:43- 46].
فقوله: {أسمع وأرى} : جملة استئنافية لبيان مقتضى هذه المعية الخاصة، وهو السمع والرؤية، وهذا سمع ورؤية خاصان تقتضيان النصر والتأييد والحماية من فرعون الذي قالا عنه: {إننا نخاف أن يفرط علينا أو أن يطغى}.
(1) الآية الخامسة: قوله: {إن الله مع الذين اتقوا والذين هم محسنون} [النحل: 128].
هذه جاءت بعد قوله: {وإن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عرفتم به ولئن صبرتم لهو خير للصابرين واصبر وما صبرك إلا بالله ولا تحزن عليهم ولا تك في ضيق مما يمكرون} [النحل: 126- 127].
عقوبة الجاني بمثل ما عوقب به من باب التقوى، وأكثر ظلم وعدوان، والعفو إحسان، ولهذا قال: {إن الله مع الذين اتقوا والذين هم محسنون}.
والمعية هنا خاصة مقيدة بصفة: كل من كان من المتقين المحسنين؛ فالله معه.
وهذا يثمر لنا بالنسبة للحالة المسلكية: الحرص على الإحسان والتقوى؛ فإن كل إنسان يحب أن يكون الله معه.
(2) الآية السادسة: قوله: {واصبروا إن الله مع الصابرين} [الأنفال:46].
سبق لنا أن الصبر حبس النفس على طاعة الله، وحبسها عن معصية الله، وحبسها عن التسخط على أقدار الله؛ سواء باللسان أو بالقلب أو بالجوارح.
وأفضل أنواع الصبر: الصبر على طاعة الله، ثم عن معصية الله لأن فيهما اختيارًا: إن شاء الإنسان فعل المأمور، وإن شاء لم يفعل، وإن شاء ترك المحرم وإن شاء ما تركه، ثم على أقدار الله؛ لن أقدار الله واقعة شئت أم أبيت؛ فإما أن تصبر صبر الكرام وإما أن تسلو سلو البهائم.
والصبر درجة عالية لا تنال إلا بشيء يصبر عليه، أما من فرشت له الأرض ورودًا، وصار الناس ينظرون إلى ما يريد؛ فإنه لا بد أن يناله شيء من التعب النفس أو البدني الداخلي أو الخارجي.
ولهذا جمع الله لنبيه عليه الصلاة والسلام بين الشكر والصبر.
فالشكر؛ كان يقوم حتى تتورم قدماه، فيقول: «أفلا أكون عبدًا شكورًا؟».
والصبر: صبر على ما أوذي، فقد أوذي من قومه ومن غيرهم من اليهود والمنافقين، ومع ذلك؛ فهو صابر.
(1) الآية السابعة: قوله: {كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله والله مع الصابرين} [البقرة:249].
{كم} : خبرية، تفيد التكثير؛ يعني: فئة قليلة غلبت فئة كثيرة عدة مرات، أو فئات قليلة متعددة غلبت فئات كثيرة متعددة، لكن لا بحولهم ولا بقوتهم، بل بإذن الله، أي: بإرادته وقدرته.
ومن ذلك: أصحاب طالوت غلبوا عدوهم وكانوا كثيرين.
أصحاب بدر خرجوا لغير قتال، بل لأخذ عير أبي سفيان، وأبو سفيان لما علم بهم؛ أرسل صارخًا إلى أهل مكة يقول: أنقذوا عيركم، محمد وأصحابه خرجوا إلينا يريدون أخذ العير. فيها أرزاق كثيرة لقريش، فخرجت قريش بأشرافها وأعيانها وخيلائها وبطرها، يظهرون القوة والفخر والعزة، حتى قال أبو جهل: والله؛ لا ترجع حتى نقدم بدرًا فنقيم فيها ثلاثًا؛ ننحر الجزور، ونسقي الخمور، وتعزف علينا القيان، وتسمع بنا العرب؛ فلا يزالون يهابوننا أبدًا.
فالحمد لله، غنوا على قتله هو ومن معه!
كان هؤلاء القوم ما بين تسعمائة وألف، كل يوم ينحرون من الإبل تسعًا إلى عشر، والنبي عليه الصلاة والسلام هو أصحابه ثلاثمائة وأربعة عشر رجلًا، معهم سبعون بعيرًا وفرسان فقط يتعاقبونها، ومع ذلك قتلوا الصناديد العظماء لقريش حتى جيفوا وانتفخوا من الشمس وسحبوا إلى قليب من قلب بدر خبيثة.
فـ: {كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله والله مع الصابرين}؛ لأن الفئة القليلة صبرت، {والله مع الصابرين}؛ صبرت كل أنواع الصبر؛ على طاعة الله، وعن معصية الله، وعلى ما أصابها من الجهد والتعب والمشقة في تحمل أعباء الجهاد، {والله مع الصابرين}.
انتهت آيات المعية، وسيأتي للمؤلف رحمه الله فصل كامل في تقريزها.
فما هي الثمرات التي نستفيدها بأن الله معنا؟
أولًا: الإيمان بإحاطة الله عز وجل بكل شيء، وأنه مع علوه فهو مع خلقه، لا يغيب عنه شيء من أحوالهم أبدًا.
ثانيًا: أننا إذا علمنا ذلك وآمنا به؛ فإن ذلك يوجب لنا كمال مراقبته بالقيام بطاعته وترك معصيته؛ بحيث لا يفقدنا حيث أمرنا، ولا يجدنا حيث نهانا، وهذه ثمرة عظيمة لمن آمن بهذه المعية.