فصل: باب مَنْ أَجَازَ طَلَاقَ الثَّلَاثِ

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: فتح الباري شرح صحيح البخاري **


*3*باب مَنْ أَجَازَ طَلَاقَ الثَّلَاثِ

لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ وَقَالَ ابْنُ الزُّبَيْرِ فِي مَرِيضٍ طَلَّقَ لَا أَرَى أَنْ تَرِثَ مَبْتُوتَتُهُ وَقَالَ الشَّعْبِيُّ تَرِثُهُ وَقَالَ ابْنُ شُبْرُمَةَ تَزَوَّجُ إِذَا انْقَضَتْ الْعِدَّةُ قَالَ نَعَمْ قَالَ أَرَأَيْتَ إِنْ مَاتَ الزَّوْجُ الْآخَرُ فَرَجَعَ عَنْ ذَلِكَ

الشرح‏:‏

قوله ‏(‏باب من جوز الطلاق الثلاث‏)‏ كذا لأبي ذر، وللأكثر ‏"‏ من أجاز‏"‏‏.‏

وفي الترجمة إشارة إلى أن من السلف من لم يجز وقوع الطلاق الثلاث، فيحتمل أن يكون مراده بالمنع من كره البينونة الكبرى، وهي بإيقاع الثلاث أعم من أن تكون مجموعة أو مفرقة، ويمكن أن يتمسك له بحديث ‏"‏ أبغض الحلال إلى الله الطلاق ‏"‏ وقد تقدم في أوائل الطلاق‏.‏

وأخرج سعيد بن منصور عن أنس ‏"‏ أن عمر كان إذا أتى برجل طلق امرأته ثلاثا أوجع ظهره ‏"‏ وسنده صحيح‏.‏

ويحتمل أن يكون مراده بعدم الجواز من قال لا يقع الطلاق إذا أوقعها مجموعة للنهي عنه وهو قول للشيعة وبعض أهل الظاهر، وطرد بعضهم ذلك في كل طلاق منهي كطلاق الحائض وهو شذوذ، وذهب كثير منهم إلى وقوعه مع منع جوازه، واحتج له بعضهم بحديث محمود بن لبيد قال ‏"‏ أخبر النبي صلى الله عليه وسلم عن رجل طلق امرأته ثلاث تطليقات جميعا، فقال‏:‏ أيلعب بكتاب الله وأنا بين أظهركم ‏"‏‏؟‏ الحديث أخرجه النسائي ورجاله ثقات، لكن محمود بن لبيد ولد في عهد النبي صلى الله عليه وسلم ولم يثبت له منه سماع، وإن ذكره بعضهم في الصحابة فلأجل الرؤية، وقد ترجم له أحمد في مسنده وأخرج له عدة أحاديث ليس فيها شيء صرح فيه بالسماع، وقد قال النسائي بعد تخريجه‏:‏ لا أعلم أحدا رواه غير مخرمة بن بكير يعني ابن الأشج عن أبيه ا هـ‏.‏

ورواية مخرمة عن أبيه عند مسلم في عدة أحاديث، وقد قيل إنه لم يسمع من أبيه، وعلى تقدير صحة حديث محمود فليس فيه بيان أنه هل أمضى عليه الثلاث مع إنكاره عليه إيقاعها مجموعة أو لا‏؟‏ فأقل أحواله أن يدل على تحريم ذلك وإن لزم، وقد تقدم في الكلام على حديث ابن عمر في طلاق الحائض ‏"‏ أنه قال لمن طلق ثلاثا مجموعة‏:‏ عصيت ربك، وبانت منك امرأتك ‏"‏ وله ألفاظ أخرى نحو هذه عند عبد الرزاق وغيره‏.‏

وأخرج أبو داود بسند صحيح من طريق مجاهد قال ‏"‏ كنت عند ابن عباس، فجاءه رجل فقال‏:‏ إنه طلق امرأته ثلاثا، فسكت حتى ظننت أنه سيردها إليه فقال‏:‏ ينطلق أحدكم فيركب الأحموقة ثم يقول‏:‏ يا ابن عباس يا ابن عباس، إن الله قال ‏(‏ومن يتق الله يجعل له مخرجا‏)‏ وإنك لم تتق الله فلا أجد لك مخرجا، عصيت ربك وبانت منك امرأتك ‏"‏ وأخرج أبو داود له متابعات عن ابن عباس بنحوه‏.‏

ومن القائلين بالتحريم واللزوم من قال‏:‏ إذا طلق ثلاثا مجموعة وقعت واحدة، وهو قول محمد بن إسحاق صاحب المغازي، واحتج بما رواه عن داود بن الحصين عن عكرمة عن ابن عباس قال ‏"‏ طلق ركانة بن عبد يزيد امرأته ثلاثا في مجلس واحد، فحزن عليها حزنا شديدا، فسأله النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ كيف طلقتها‏؟‏ قال‏:‏ ثلاثا في مجلس واحد فقال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ إنما تلك واحدة، فارتجعها إن شئت‏.‏

فارتجعها ‏"‏ وأخرجه أحمد وأبو يعلى وصححه من طريق محمد ابن إسحاق‏.‏

وهذا الحديث نص في المسألة لا يقبل التأويل الذي في غيره من الروايات الآتي ذكرها‏.‏

وقد أجابوا عنه بأربعة أشياء‏:‏ أحدها أن محمد بن إسحاق وشيخه مختلف فيهما، وأجيب بأنهم احتجوا في عدة من الأحكام بمثل هذا الإسناد كحديث ‏"‏ أن النبي صلى الله عليه وسلم رد على أبي العاص بن الربيع زينب ابنته بالنكاح الأول ‏"‏ وليس كل مختلف فيه مردودا‏.‏

والثاني معارضته بفتوى ابن عباس بوقوع الثلاث كما تقدم من رواية مجاهد وغيره؛ فلا يظن بابن عباس أنه كان عنده هذا الحكم عن النبي صلى الله عليه وسلم ثم يفتي بخلافه إلا بمرجح ظهر له، وراوي الخبر أخبر من غيره بما روى‏.‏

وأجيب بأن الاعتبار برواية الراوي لا برأيه لما يطرق رأيه من احتمال النسيان وغير ذلك، وأما كونه تمسك بمرجح فلم ينحصر في المرفوع لاحتمال التمسك بتخصيص أو تقييد أو تأويل، وليس قول مجتهد حجة على مجتهد آخر‏.‏

الثالث أن أبا داود رجح أن ركانة إنما طلق امرأته البتة كما أخرجه هو من طريق آل بيت ركانة، وهو تعليل قوي لجواز أن يكون بعض رواته حمل البتة على الثلاث فقال طلقها ثلاثا، فهذه النكتة يقف الاستدلال بحديث ابن عباس‏.‏

الرابع أنه مذهب شاذ فلا يعمل به، وأجيب بأنه نقل عن علي وابن مسعود وعبد الرحمن بن عوف والزبير مثله، نقل ذلك ابن مغيث في ‏"‏ كتاب الوثائق ‏"‏ له وعزاه لمحمد بن وضاح، ونقل الغنوي ذلك عن جماعة من مشايخ قرطبة كمحمد بن تقي بن مخلد ومحمد بن عبد السلام الخشني وغيرهما، ونقله ابن المنذر عن أصحاب ابن عباس كعطاء وطاوس وعمرو بن دينار‏.‏

ويتعجب من ابن التين حيث جزم بأن لزوم الثلاث لا اختلاف فيه، وإنما الاختلاف في التحريم مع ثبوت الاختلاف كما ترى، ويقوى حديث ابن إسحاق المذكور ما أخرجه مسلم من طريق عبد الرزاق عن معمر عن عبد الله بن طاوس عن أبيه عن ابن عباس قال ‏"‏ كان الطلاق على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وسنتين من خلافة عمر طلاق الثلاث واحدة، فقال عمر بن الخطاب‏:‏ إن الناس قد استعجلوا في أمر كانت لهم فيه أناة، فلو أمضيناه عليهم، فأمضاه عليهم ‏"‏ ومن طريق عبد الرزاق عن ابن جريج عن ابن طاوس عن أبيه ‏"‏ أن أبا الصهباء قال لابن عباس‏:‏ أتعلم إنما كانت الثلاث تجعل واحدة على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وثلاثا من إمارة عمر‏؟‏ قال ابن عباس نعم ‏"‏ ومن طريق حماد بن زيد عن أيوب عن إبراهيم بن ميسرة عن طاوس ‏"‏ أن أبا الصهباء قال لابن عباس‏:‏ ألم يكن طلاق الثلاث على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم واحدة‏؟‏ قال‏:‏ قد كان ذلك، فلما كان في عهد عمر تتابع الناس في الطلاق فأجازه عليهم ‏"‏ وهذه الطريق الأخيرة أخرجها أبو داود، لكن لم يسم إبراهيم بن ميسرة وقال بدله ‏"‏ عن غير واحد ‏"‏ ولفظ المتن ‏"‏ أما علمت أن الرجل كان إذا طلق امرأته ثلاثا قبل أن يدخل بها جعلوها واحدة ‏"‏ الحديث، فتمسك بهذا السياق من أعل الحديث وقال‏:‏ إنما قال ابن عباس ذلك في غير المدخول بها، وهذا أحد الأجوبة عن هذا الحديث وهي متعددة، وهو جواب إسحاق بن راهويه وجماعة، وبه جزم زكريا الساجي من الشافعية، ووجهوه بأن غير المدخول بها تبين إذا قال لها زوجها أنت طالق، فإذا قال ثلاثا لغا العدد لوقوعه بعد البينونة‏.‏

وتعقبه القرطبي بأن قوله أنت طالق ثلاثا كلام متصل غير منفصل، فكيف يصح جعله كلمتين وتعطى كل كلمة حكما‏؟‏ وقال النووي‏:‏ أنت طالق معناه أنت ذات الطلاق، وهذا اللفظ يصح تفسيره بالواحدة وبالثلاث وغير ذلك‏.‏

الجواب الثاني دعوى شذوذ رواية طاوس، وهي طريقة البيهقي، فإنه ساق الروايات عن ابن عباس بلزوم الثلاث ثم نقل عن ابن المنذر أنه لا يظن بابن عباس أنه يحفظ عن النبي صلى الله عليه وسلم شيئا ويفتي بخلافه، فيتعين المصير إلى الترجيح، والأخذ بقول الأكثر أولى من الأخذ بقول الواحد إذا خالفهم‏.‏

وقال ابن العربي‏:‏ هذا حديث مختلف في صحته، فكيف يقدم على الإجماع‏؟‏ قال‏:‏ ويعارضه حديث محمود بن لبيد - يعني الذي تقدم أن النسائي أخرجه - فإن فيه التصريح بأن الرجل طلق ثلاثا مجموعة ولم يرده النبي صلى الله عليه وسلم بل أمضاه، كذا قال، وليس في سياق الخبر تعرض لإمضاء ذلك ولا لرده‏.‏

الجواب الثالث دعوى النسخ، فنقل البيهقي عن الشافعي أنه قال‏:‏ يشبه أن يكون ابن عباس علم شيئا نسخ ذلك، قال البيهقي‏:‏ ويقويه ما أخرجه أبو داود من طريق يزيد النحوي عن عكرمة عن ابن عباس قال‏:‏ كان الرجل إذا طلق امرأته فهو أحق برجعتها وإن طلقها ثلاثا، فنسخ ذلك‏.‏

وقد أنكر المازري ادعاء النسخ فقال‏:‏ زعم بعضهم أن هذا الحكم منسوخ وهو غلط فإن عمر لا ينسخ، ولو نسخ - وحاشاه - لبادر الصحابة إلى إنكار‏.‏

وإن أراد القائل أنه نسخ في زمن النبي صلى الله عليه وسلم فلا يمتنع لكن يخرج عن ظاهر الحديث، لأنه لو كان كذلك لم يجز للراوي أن يخبر ببقاء الحكم في خلافة أبي بكر وبعض خلافة عمر‏.‏

فإن قيل فقد يجمع الصحابة ويقبل منهم ذلك، قلنا إنما يقبل ذلك لأنه يستدل بإجماعهم على ناسخ، وأما أنهم ينسخون من تلقاء أنفسهم فمعاذ الله لأنه إجماع على الخطأ وهم معصومون عن ذلك‏.‏

فإن قيل فلعل النسخ إنما ظهر في زمن عمر، قلنا‏:‏ هذا أيضا غلط لأنه يكون قد حصل الإجماع على الخطأ في زمن أبي بكر، وليس انقراض العصر شرطا في صحة الإجماع على الراجح‏.‏

قلت‏:‏ نقل النووي هذا ا الفصل في شرح مسلم وأقره، وهو متعقب في مواضع‏:‏ أحدها أن الذي ادعى نسخ الحكم لم يقل إن عمر هو الذي نسخ حتى يلزم منه ما ذكر، وإنما قال ما تقدم يشبه أن يكون علم شيئا من ذلك نسخ، أي اطلع على ناسخ للحكم الذي رواه مرفوعا، ولذلك أفتى بخلافه‏.‏

وقد سلم المازري في أثناء كلامه أن جماعهم يدل على ناسخ، وهذا هو مراد من ادعى النسخ‏.‏

الثاني إنكاره الخروج عن الظاهر عجيب، فإن الذي يحاول الجمع بالتأويل يرتكب خلاف الظاهر حتما‏.‏

الثالث أن تغليطه من قال المراد ظهور النسخ عجيب أيضا، لأن المراد بظهوره انتشاره، وكلام ابن عباس أنه كان يفعل في زمن أبي بكر محمول على أن الذي كان يفعله من لم يبلغه النسخ فلا يلزم ما ذكر من إجماعهم على الخطأ، وما أشار إليه من مسألة انقراض العصر لا يجئ هنا، لأن عصر الصحابة لم ينقرض في زمن أبي بكر بل ولا عمر، فإن المراد بالعصر الطبقة من المجتهدين وهم في زمن أبي بكر وعمر بل وبعدهما طبقة واحدة‏.‏

الجواب الرابع دعوى الاضطراب قال القرطبي في ‏"‏ المفهم ‏"‏‏:‏ وقع فيه مع الاختلاف على ابن عباس الاضطراب في لفظه، وظاهر سياقه يقتضي النقل عن جميعهم أن معظمهم كانوا يرون ذلك، والعادة في مثل هذا أن يفشو الحكم وينتشر فكيف ينفرد به واحد عن واحد‏؟‏ قال‏:‏ فهذا الوجه يقتضي التوقف عن العمل بظاهره إن لم يقتض القطع ببطلانه‏.‏

الجواب الخامس دعوى أنه ورد في صورة خاصة، فقال ابن سريج وغيره‏:‏ يشبه أن يكون‏.‏

ورد في تكرير اللفظ كأن يقول أنت طالق أنت طالق أنت طالق، وكانوا أولا على سلامة صدورهم يقبل منهم أنهم أرادوا التأكيد، فلما كثر الناس في زمن عمر وكثر فيهم الخداع ونحوه مما يمنع قبول من ادعى التأكيد حمل عمر اللفظ على ظاهر التكرار فأمضاه عليهم، وهذا الجواب ارتضاه القرطبي وقواه بقول عمر‏:‏ إن الناس استعجلوا في أمر كانت لهم فيه أناة، وكذا قال النووي إن هذا أصح الأجوبة‏.‏

الجواب السادس تأويل قوله ‏"‏ واحدة ‏"‏ وهو أن معنى قوله ‏"‏ كأن الثلاث واحدة ‏"‏ إن الناس في زمن النبي صلى الله عليه وسلم كانوا يطلقون واحدة فلما كان زمن عمر كانوا يطلقون ثلاثا، ومحصله أن المعنى أن الطلاق الموقع في عهد عمر ثلاثا كان يوقع قبل ذلك واحدة لأنهم كانوا لا يستعملون الثلاث أصلا أو كانوا يستعملونها نادرا، وأما في عصر عمر فكثر استعمالهم لها، ومعنى قوله فأمضاه عليهم وأجازه وغير ذلك أنه صنع فيه من الحكم بإيقاع الطلاق ما كان يصنع قبله، ورجح هذا التأويل ابن العربي ونسبه إلى أبي زرعة الرازي، وكذا أورده البيهقي بإسناده الصحيح إلى أبي زرعة أنه قال‏:‏ معنى هذا الحديث عندي أن ما تطلقون أنتم ثلاثا كانوا يطلقون واحدة، قال النووي‏:‏ وعلى هذا فيكون الخبر وقع عن اختلاف عادة الناس خاصة لا عن تغير الحكم في الواحدة فالله أعلم‏.‏

الجواب السابع دعوى وقفه، فقال بعضهم‏:‏ ليس في هذا السياق أن ذلك كان يبلغ النبي صلى الله عليه وسلم فيقره، والحجة إنما هي في تقريره‏.‏

وتعقب بأن قول الصحابي ‏"‏ كنا نفعل كذا في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ‏"‏ في حكم الرفع على الراجح حملا على أنه اطلع على ذلك فأقره لتوفر دواعيهم على السؤال عن جليل الأحكام وحقيرها‏.‏

الجواب الثامن حمل قوله ‏"‏ ثلاثا ‏"‏ على أن المراد بها لفظ البتة كما تقدم في حديث ركانة سواء‏.‏

وهو من رواية ابن عباس أيضا، وهو قوي ويؤيده إدخال، البخاري في هذا الباب الآثار التي فيها البتة والأحاديث التي فيها التصريح بالثلاث كأنه يشير إلى عدم الفرق بينهما وأن البتة إذا أطلقت حمل على الثلاث إلا إن أراد المطلق واحدة فيقبل، فكأن بعض رواته حمل لفظ البتة على الثلاث لاشتهار التسوية بينهما فرواها بلفظ الثلاث وإنما المراد لفظ البتة، وكانوا في العصر الأول يقبلون ممن قال أردت بالبتة الواحدة فلما كان عهد عمر أمضى الثلاث في ظاهر الحكم‏.‏

قال القرطبي‏:‏ وحجة الجمهور في اللزوم من حيث النظر ظاهرة جدا، وهو أن المطلقة ثلاثا لا تحل للمطلق حتى تنكح زوجا غيره، ولا فرق بين مجموعها ومفرقها لغة وشرعا، وما يتخيل من الفرق صوري ألغاه الشرع اتفاقا في النكاح والعتق والأقارير، فلو قال الولي أنكحتك هؤلاء الثلاث في كلمة واحدة انعقد كما لو قال أنكحتك هذه وهذه وهذه، وكذا في العتق والإقرار وغير ذلك من الأحكام، واحتج من قال إن الثلاث إذا وقعت مجموعة حملت على الواحدة بأن من قال أحلف بالله ثلاثا لا يعد حلفه إلا يمينا واحدة، فليكن المطلق مثله‏.‏

وتعقب باختلاف الصيغتين فإن المطلق ينشئ طلاق امرأته وقد جعل أمد طلاقها ثلاثا، فإذا قال أنت طالق ثلاثا فكأنه قال أنت طالق جميع الطلاق، وأما الحلف فلا أمد لعدد أيمانه فافترقا‏.‏

وفي الجملة فالذي وقع في هذه المسألة نظير ما وقع في مسألة المتعة سواء، أعني قول جابر إنها كانت تفعل في عهد النبي صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وصدر من خلافة عمر، قال‏:‏ ثم نهانا عمر عنها فانتهينا، فالراجح في الموضعين تحريم المتعة وإيقاع الثلاث للإجماع الذي انعقد في عهد عمر على ذلك، ولا يحفظ أن أحدا في عهد عمر خالفه في واحدة منهما، وقد دل إجماعهم على وجود ناسخ وإن كان خفي عن بعضهم قبل ذلك حتى ظهر لجميعهم في عهد عمر، فالمخالف بعد هذا الإجماع منابذ له والجمهور على عدم اعتبار من أحدث الاختلاف بعد الاتفاق والله أعلم‏.‏

وقد أطلت في هذا الموضع لالتماس من التمس ذلك مني والله المستعان‏.‏

قوله ‏(‏لقول الله تعالى الطلاق مرتان، فإمساك بمعروف أو تسريح بإحسان‏)‏ قد استشكل وجه استدلال المصنف بهذه الآية على ما ترجم به من تجويز الطلاق الثلاث، والذي يظهر لي أنه كان أراد بالترجمة مطلق وجود الثلاث مفرقة كانت أو مجموعة، فالآية واردة على المانع لأنها دلت على مشروعية ذلك من غير نكير، وإن كان أراد تجويز الثلاث مجموعة وهو الأظهر فأشار بالآية إلى أنها مما احتج به المخالف للمنع من الوقوع لأن ظاهرها أن الطلاق المشروع لا يكون بالثلاث دفعة بل على الترتيب المذكور، فأشار إلى أن الاستدلال بذلك على منع جميع الثلاث غير متجه إذ ليس في السياق المنع من غير الكيفية المذكورة، بل انعقد الإجماع على أن إيقاع المرتين ليس شرطا ولا راجحا، بل اتفقوا على أن إيقاع الواحدة أرجح من إيقاع الثنتين كما تقدم تقريره في الكلام على حديث ابن عمر، فالحاصل أن مراده دفع دليل المخالف بالآية لا الاحتجاج بها لتجويز الثلاث، هذا الذي ترجح عندي‏.‏

وقال الكرماني‏:‏ وجه استدلاله بالآية أنه تعالى قال ‏(‏الطلاق مرتان‏)‏ فدل على جواز جمع الثنتين وإذا جاز جمع الثنتين دفعة جاز جمع الثلاث دفعة كذا، قال‏:‏ وهو قياس مع وضوح الفارق، لأن جمع الثنتين لا يستلزم البينونة الكبرى بل تبقى له الرجعة إن كانت رجعية وتجديد العقد بغير انتظار عدة إن كانت بائنا، بخلاف جمع الثلاث‏.‏

ثم قال الكرماني‏:‏ أو التسريح بإحسان عام يتناول إيقاع الثلاث دفعة‏.‏

قلت‏:‏ وهذا لا بأس به لكن التسريج في سياق الآية إنما هو فيما بعد إيقاع الثنتين فلا يتناول إيقاع الطلقات الثلاث، فإن معنى قوله تعالى ‏(‏الطلاق مرتان‏)‏ فيما ذكر أهل العلم بالتفسير أي أكثر الطلاق الذي يكون بعده الإمساك أو التسريح مرتان، ثم حينئذ إما أن يختار استمرار العصمة فيمسك الزوجة أو المفارقة فيسرحها بالطلقة الثالثة، وهذا التأويل نقله الطبري وغيره عن الجمهور، ونقلوا عن السدي والضحاك أن المراد بالتسريج في الآية ترك الرجعة حتى تنقضي العدة فتحصل البينونة، ويرجح الأول ما أخرجه الطبري وغيره من طريق إسماعيل بن سميع عن أبي رزين قال ‏"‏ قال رجل‏:‏ يا رسول الله الطلاق مرتان، فأين الثالثة‏؟‏ قال‏:‏ إمساك بمعروف أو تسريح بإحسان ‏"‏ وسنده حسن، لكنه مرسل لأن أبا رزين لا صحبة له، وقد وصله الدار قطني من وجه آخر عن إسماعيل فقال ‏"‏ عن أنس ‏"‏ لكنه شاذ، والأول هو المحفوظ، وقد رجح الكيا الهراسي من الشافعية في كتاب ‏"‏ أحكام القرآن ‏"‏ له قول السدي، ودفع الخبر لكونه مرسلا، وأطال في تقرير ذلك بما حاصله أن فيه زيادة فائدة، وهي بيان حال المطلقة وأنها تبين إذا انقضت عدتها، قال‏:‏ وتؤخذ الطلقة الثالثة من قوله تعالى ‏(‏فإن طلقها‏)‏ ا هـ والأخذ بالحديث أولى فإنه مرسل حسن يعتضد بما أخرجه الطبري من حديث ابن عباس بسند صحيح قال ‏"‏ إذا طلق الرجل امرأته تطليقتين فليتق الله في الثالثة، فإما أن يمسكها فيحسن صحبتها أو يسرحها فلا يظلمها من حقها شيئا ‏"‏ وقال القرطبي في تفسيره‏:‏ ترجم البخاري على هذه الآية من أجاز الطلاق الثلاث لقوله تعالى ‏(‏الطلاق مرتان‏)‏ وهذه إشارة منه إلى أن هذا العدد إنما هو بطريق الفسحة لهم، فمن ضيق على نفسه لزمه، كذا قال ولم يظهر لي وجه اللزوم المذكور، والله المستعان‏.‏

قوله ‏(‏وقال ابن الزبير‏:‏ لا أرى أن ترث مبتوتة‏)‏ كذا لأبي ذر، ولغيره ‏"‏ مبتوتته ‏"‏ بزيادة ضمير للرجل، وكأنه حذف للعلم به، وهذا التعليق عن عبد الله بن الزبير وصله الشافعي وعبد الرزاق من طريق ابن أبي مليكة قال‏:‏ سألت عبد الله بن الزبير عن الرجل يطلق امرأته فيبتها ثم يموت وهي في عدتها، قال‏:‏ أما عثمان فورثها، وأما أنا فلا أرى أن أورثها لبينونته إياها‏.‏

قوله ‏(‏وقال الشعبي ترثه‏)‏ وصله سعيد بن منصور عن أبي عوانة عن مغيرة عن إبراهيم والشعبي في رجل طلق ثلاثا في مرضه قال‏:‏ تعتد عدة المتوفي عنها زوجها وترثه ما كانت في العدة‏.‏

قوله ‏(‏وقال ابن شبرمة‏)‏ هو عبد الله قاضي الكوفة‏.‏

قوله ‏(‏تزوج‏)‏ بفتح أوله وضم آخره، وهو استفهام محذوف الأداة‏.‏

قوله ‏(‏إذا انقضت العدة‏؟‏ قال‏:‏ نعم‏)‏ هذا ظاهره أن الخطاب دار بين الشعبي وابن شبرمة، لكن الذي رأيت في ‏"‏ سنن سعيد بن منصور ‏"‏ أنه كان مع غيره فقال سعيد‏:‏ حدثنا حماد بن زيد عن أبي هاشم في الرجل يطلق امرأته وهو مريض إن مات في مرضه ذلك ورثته‏؟‏ فقال له ابن شبرمة‏:‏ أرأيت إن انقضت العدة‏.‏

قوله ‏(‏قال أرأيت إن مات الزوج الآخر فرجع عن ذلك‏)‏ هكذا وقع عند البخاري مختصرا، والذي في رواية سعيد بن منصور المذكورة فقال ابن شبرمة‏:‏ أتتزوج‏؟‏ قال‏:‏ نعم‏.‏

قال‏:‏ فإن مات هذا ومات الأول أترث زوجين‏؟‏ قال‏:‏ لا‏.‏

فرجع إلى العدة فقال ترثه ما كانت في العدة‏.‏

ولعله سقط ذكر الشعبي من الرواية‏.‏

وأبو هاشم المذكور هو الرماني بضم الراء وتشديد الميم اسمه يحيى، وهو واسطي كان يتردد إلى الكوفة، وهو ثقة‏.‏

ومحل المسألة المذكورة كتاب الفرائض، وإنما ذكرت هنا استطرادا‏.‏

والمبتوتة بموحدة ومثناتين من قيل لها أنت طالق البتة وتطلق على من أبينت بالثلاث، ثم أورد المصنف في الباب ثلاثة أحاديث‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ أَخْبَرَنَا مَالِكٌ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ أَنَّ سَهْلَ بْنَ سَعْدٍ السَّاعِدِيَّ أَخْبَرَهُ أَنَّ عُوَيْمِرًا الْعَجْلَانِيَّ جَاءَ إِلَى عَاصِمِ بْنِ عَدِيٍّ الْأَنْصَارِيِّ فَقَالَ لَهُ يَا عَاصِمُ أَرَأَيْتَ رَجُلًا وَجَدَ مَعَ امْرَأَتِهِ رَجُلًا أَيَقْتُلُهُ فَتَقْتُلُونَهُ أَمْ كَيْفَ يَفْعَلُ سَلْ لِي يَا عَاصِمُ عَنْ ذَلِكَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَسَأَلَ عَاصِمٌ عَنْ ذَلِكَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَكَرِهَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمَسَائِلَ وَعَابَهَا حَتَّى كَبُرَ عَلَى عَاصِمٍ مَا سَمِعَ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَمَّا رَجَعَ عَاصِمٌ إِلَى أَهْلِهِ جَاءَ عُوَيْمِرٌ فَقَالَ يَا عَاصِمُ مَاذَا قَالَ لَكَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ عَاصِمٌ لَمْ تَأْتِنِي بِخَيْرٍ قَدْ كَرِهَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمَسْأَلَةَ الَّتِي سَأَلْتُهُ عَنْهَا قَالَ عُوَيْمِرٌ وَاللَّهِ لَا أَنْتَهِي حَتَّى أَسْأَلَهُ عَنْهَا فَأَقْبَلَ عُوَيْمِرٌ حَتَّى أَتَى رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَسْطَ النَّاسِ فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَرَأَيْتَ رَجُلًا وَجَدَ مَعَ امْرَأَتِهِ رَجُلًا أَيَقْتُلُهُ فَتَقْتُلُونَهُ أَمْ كَيْفَ يَفْعَلُ

فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ أَنْزَلَ اللَّهُ فِيكَ وَفِي صَاحِبَتِكَ فَاذْهَبْ فَأْتِ بِهَا قَالَ سَهْلٌ فَتَلَاعَنَا وَأَنَا مَعَ النَّاسِ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَمَّا فَرَغَا قَالَ عُوَيْمِرٌ كَذَبْتُ عَلَيْهَا يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنْ أَمْسَكْتُهَا فَطَلَّقَهَا ثَلَاثًا قَبْلَ أَنْ يَأْمُرَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ ابْنُ شِهَابٍ فَكَانَتْ تِلْكَ سُنَّةَ الْمُتَلَاعِنَيْنِ

الشرح‏:‏

حديث سهل ابن سعد في قصة المتلاعنين وسيأتي شرحه مستوفى في كتاب اللعان، والغرض منه هنا قوله في آخر الحديث، ‏"‏ فطلقها ثلاثا قبل أن يأمره رسول الله صلى الله عليه وسلم ‏"‏ الحديث، وقد تعقب بأن المفارقة في الملاعنة وقعت بنفس اللعان فلم يصادف تطليقه إياها ثلاثا موقعا، وأجيب بأن الاحتجاج به من كون النبي صلى الله عليه وسلم لم ينكر عليه إيقاع الثلاث مجموعة، فلو كان ممنوعا لأنكره، ولو وقعت الفرقة بنفس اللعان‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ عُفَيْرٍ قَالَ حَدَّثَنِي اللَّيْثُ قَالَ حَدَّثَنِي عُقَيْلٌ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ قَالَ أَخْبَرَنِي عُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ أَنَّ عَائِشَةَ أَخْبَرَتْهُ أَنَّ امْرَأَةَ رِفَاعَةَ الْقُرَظِيِّ جَاءَتْ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَتْ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ رِفَاعَةَ طَلَّقَنِي فَبَتَّ طَلَاقِي وَإِنِّي نَكَحْتُ بَعْدَهُ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ الزُّبَيْرِ الْقُرَظِيَّ وَإِنَّمَا مَعَهُ مِثْلُ الْهُدْبَةِ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَعَلَّكِ تُرِيدِينَ أَنْ تَرْجِعِي إِلَى رِفَاعَةَ لَا حَتَّى يَذُوقَ عُسَيْلَتَكِ وَتَذُوقِي عُسَيْلَتَهُ

الشرح‏:‏

حديث عائشة في قصة رفاعة القرظي وامرأته، سيأتي شرحه مستوفى في ‏"‏ باب إذا طلقها ثلاثا ثم تزوجت بعد العدة زوجا غيره فلم يمسها ‏"‏ وشاهد الترجمة منه قوله ‏"‏ فبت طلاقي ‏"‏ فإنه ظاهر في أنه قال لها أنت طالق البتة، ويحتمل أن يكون المراد أنه طلقها طلاقا حصل به قطع عصمتها منه، وهو أعم من أن يكون طلقها ثلاثا مجموعة أو مفرقة، ويؤيد الثاني أنه سيأتي في كتاب الأدب من وجه آخر أنها قالت طلقني آخر ثلاث تطليقات، وهذا يرجح أن المراد بالترجمة بيان من أجاز الطلاق الثلاث ولم يكرهه، ويحتمل أن يكون مراد الترجمة أعم من ذلك، وكل حديث يدل على حكم فرد من ذلك‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ حَدَّثَنَا يَحْيَى عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ قَالَ حَدَّثَنِي الْقَاسِمُ بْنُ مُحَمَّدٍ عَنْ عَائِشَةَ أَنَّ رَجُلًا طَلَّقَ امْرَأَتَهُ ثَلَاثًا فَتَزَوَّجَتْ فَطَلَّقَ فَسُئِلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَتَحِلُّ لِلْأَوَّلِ قَالَ لَا حَتَّى يَذُوقَ عُسَيْلَتَهَا كَمَا ذَاقَ الْأَوَّلُ

الشرح‏:‏

حديث عائشة أيضا ‏"‏ أن رجلا طلق امرأته ثلاثا، فسئل النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ أتحل للأول‏؟‏ قال‏:‏ لا ‏"‏ الحديث، وهو وإن كان مختصرا من قصة رفاعة فقد ذكرت توجيه المراد به، وإن كان في قصة أخرى فالتمسك بظاهر قوله ‏"‏ طلقها ثلاثا ‏"‏ فإنه ظاهر في كونها مجموعة، وسيأتي في شرح قصة رفاعة أن غيره وقع له مع امرأة نظير ما وقع لرفاعة، فليس التعدد في ذلك ببعيد‏.‏

*3*باب مَنْ خَيَّرَ نِسَاءَهُ

وَقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى قُلْ لِأَزْوَاجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحًا جَمِيلًا

الشرح‏:‏

قوله ‏(‏باب من خير أزواجه، وقول الله تعالى‏:‏ قل لأزواجك إن كنتن تردن الحياة الدنيا وزينتها‏)‏ تقدم في تفسير الأحزاب بيان سبب التخيير المذكور، وفيما إذا وقع التخيير، ومتى كان التخيير‏؟‏ وأذكر هنا بيان حكم من خير امرأته مع بقية شرح حديث الباب‏.‏

ووقع هنا في نسخة الصغاني قبل حديث مسروق عن عائشة حديث أبي سلمة عنها في المعنى، قال فيه ‏"‏ حدثنا أبو اليمان أنبأنا شعيب عن الزهري‏.‏

وقال الليث حدثنا يونس عن ابن شهاب أخبرني أبو سلمة بن عبد الرحمن أن عائشة قالت‏:‏ لما أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بتخيير أزواجه ‏"‏ الحديث وساقه على لفظ يونس، وقد تقدم الطريقان في تفسير سورة الأحزاب، وساق رواية شعيب وأولها ‏"‏ أن عائشة أخبرته أن رسول الله صلى الله عليه وسلم جاء لها حين أمره الله بتخيير أزواجه ‏"‏ الحديث‏.‏

ثم ساق رواية الليث معلقة أيضا في ترجمة أخرى‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا عُمَرُ بْنُ حَفْصٍ حَدَّثَنَا أَبِي حَدَّثَنَا الْأَعْمَشُ حَدَّثَنَا مُسْلِمٌ عَنْ مَسْرُوقٍ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ خَيَّرَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَاخْتَرْنَا اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَلَمْ يَعُدَّ ذَلِكَ عَلَيْنَا شَيْئًا

الشرح‏:‏

قوله ‏(‏حدثنا عمر بن حفص‏)‏ أي ابن غياث الكوفي، وقوله ‏"‏مسلم ‏"‏ هو ابن صبيح بالتصغير أبو الضحى مشهور بكنيته أكثر من اسمه، وفي طبقته مسلم البطين وهو من رجال البخاري لكنه وإن روى عنه الأعمش لا يروي عن مسروق، وفي طبقتهما مسلم بن كيسان الأعور وليس هو من رجال الصحيح ولا له رواية عن مسروق‏.‏

قوله ‏(‏خيرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم‏)‏ في رواية الشعبي عن مسروق ‏"‏ خير نساءه ‏"‏ أخرجه مسلم‏.‏

قوله ‏(‏فاخترنا الله ورسوله، فلم يعد‏)‏ بتشديد الدال وضم العين من العدد‏.‏

وفي رواية فلم ‏"‏ يعدد ‏"‏ بفك الإدغام وفي أخرى ‏"‏ فلم يعتد ‏"‏ بسكون العين وفتح المثناة وتشديد الدال من الاعتداد، وقوله ‏"‏فلم يعد ذلك علينا شيئا ‏"‏ في رواية مسلم ‏"‏ فلم يعده طلاقا‏"‏‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ حَدَّثَنَا يَحْيَى عَنْ إِسْمَاعِيلَ حَدَّثَنَا عَامِرٌ عَنْ مَسْرُوقٍ قَالَ سَأَلْتُ عَائِشَةَ عَنْ الْخِيَرَةِ فَقَالَتْ خَيَّرَنَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَفَكَانَ طَلَاقًا قَالَ مَسْرُوقٌ لَا أُبَالِي أَخَيَّرْتُهَا وَاحِدَةً أَوْ مِائَةً بَعْدَ أَنْ تَخْتَارَنِي

الشرح‏:‏

قوله ‏(‏إسماعيل‏)‏ هو ابن أبي خالد‏.‏

قوله ‏(‏سألت عائشة عن الخيرة‏)‏ بكسر المعجمة وفتح التحتانية بمعنى الخيار‏.‏

قوله ‏(‏أفكان طلاقا‏؟‏‏)‏ هو استفهام إنكار، ولأحمد عن وكيع عن إسماعيل ‏"‏ فهل كان طلاقا‏؟‏ ‏"‏ وكذا للنسائي من رواية يحيى القطان عن إسماعيل‏.‏

قوله ‏(‏قال مسروق‏:‏ لا أبالي أخيرتها واحدة أو مائة بعد أن تختارني‏)‏ هو موصول بالإسناد المذكور، وقد أخرجه مسلم من رواية علي بن مسهر عن إسماعيل فقدم كلام مسروق المذكور ولفظه عن مسروق ‏"‏ قال ما أبالي ‏"‏ فذكر مثله وزاد ‏"‏ أو ألفا، ولقد سألت عائشة ‏"‏ فذكر حديثها، وبقول عائشة المذكور بقول جمهور الصحابة والتابعين وفقهاء الأمصار، وهو أن من خير زوجته فاختارته لا يقع عليه بذلك طلاق، لكن اختلفوا فيما إذا اختارت نفسها هل يقع طلقة واحدة رجعية أو بائنا أو يقع ثلاثا‏؟‏ وحكى الترمذي عن علي‏:‏ إن اختارت نفسها فواحدة بائنة، وإن اختارت زوجها فواحدة رجعية، وعن زيد بن ثابت‏:‏ إن اختارت نفسها فثلاث وإن اختارت زوجها فواحدة بائنة، وعن عمر وابن مسعود‏:‏ إن اختارت نفسها فواحدة بائنة، وعنهما رجعية، وإن اختارت زوجها فلا شيء‏.‏

ويؤيد قول الجمهور من حيث المعنى أن التخيير ترديد بين شيئين، فلو كان اختيارها لزوجها طلاقا لاتحدا، فدل على أن اختيارها لنفسها بمعنى الفراق واختيارها لزوجها بمعنى البقاء في العصمة، وقد أخرج ابن أبي شيبة من طريق زاذان قال ‏"‏ كنا جلوسا عند علي فسئل عن الخيار فقال‏:‏ سألني عنه عمر فقلت‏:‏ إن اختارت نفسها فواحدة بائن، وإن اختارت زوجها فواحدة رجعية، قال‏:‏ ليس كما قلت، إن اختارت زوجها فلا شيء، قال‏:‏ فلم أجد بدا من متابعته، فلما وليت رجعت إلى ما كنت أعرف، قال علي‏:‏ وأرسل عمر إلى زيد بن ثابت فقال ‏"‏ فذكر مثل ما حكاه عنه الترمذي‏.‏

وأخرج ابن أبي شيبة من طرق عن علي نظير ما حكاه عنه زاذان من اختياره، وأخذ مالك بقول زيد بن ثابت واحتج بعض أتباعه لكونها إذا اختارت نفسها يقع ثلاثا بأن معنى الخيار بت أحد الأمرين‏:‏ إما الأخذ، وإما الترك، فلو قلنا إذا اختارت نفسها تكون طلقة رجعية لم يعمل بمقتضى اللفظ لأنها تكون بعد في أسر الزوج وتكون كمن خير بين شيئين فاختار غيرهما، وأخذ أبو حنيفة بقول عمر وابن مسعود فيما إذا اختارت نفسها فواحدة بائنة ولا يرد عليه الإيراد السابق‏.‏

وقال الشافعي‏:‏ التخيير كناية، فإذا خير الزوج امرأته وأراد بذلك تخييرها بين أن تطلق منه وبين أن تستمر في عصمته فاختارت نفسها وأرادت بذلك الطلاق طلقت، فلو قالت‏:‏ لم أرد باختيار نفسي الطلاق صدقت، ويؤخذ من هذا أنه لو وقع التصريح في التخيير بالتطليق أن الطلاق يقع جزما، نبه على ذلك شيخنا حافظ الوقت أبو الفضل العراقي في ‏"‏ شرح الترمذي ‏"‏ ونبه صاحب‏.‏

‏"‏ الهداية ‏"‏ من الحنفية على اشتراط ذكر النفس في التخيير، فلو قال مثلا اختاري فقالت اخترت لم يكن تخييرا بين الطلاق وعدمه وهو ظاهر، لكن محله الإطلاق فلو قصد ذلك بهذا اللفظ ساغ‏.‏

وقال صاحب ‏"‏ الهداية ‏"‏ أيضا إن قال ‏"‏ اختاري ‏"‏ ينوي به الطلاق فلها أن تطلق نفسها ويقع بائنا، فلو لم ينو فهو باطل، وكذا لو قال اختاري فقالت اخترت فلو نوى فقالت اخترت نفسي وقعت طلقة رجعية‏.‏

وقال الخطابي‏:‏ يؤخذ من قول عائشة ‏"‏ فاخترناه فلم يكن ذلك طلاقا ‏"‏ أنها لو اختارت نفسها لكان ذلك طلاقا، ووافقه القرطبي في ‏"‏ المفهم ‏"‏ فقال‏:‏ في الحديث أن المخيرة إذا اختارت نفسها أن نفس ذلك الاختيار يكون طلاقا من غير احتياج إلى نطق بلفظ يدل على الطلاق، قال‏:‏ وهو مقتبس من مفهوم قول عائشة المذكور‏.‏

قلت‏:‏ لكن ظاهر الآية أن ذلك بمجرده لا يكون طلاقا، بل لا بد من إنشاء الزوج الطلاق؛ لأن فيها ‏(‏فتعالين أمتعكن وأسرحكن‏)‏ أي بعد الاختيار، ودلالة المنطوق مقدمه على دلالة المفهوم‏.‏

واختلفوا في التخيير هل بمعنى التمليك أو بمعنى التوكيل‏؟‏ وللشافعي فيه قولان المصحح عند أصحابه أنه تمليك، وهو قول المالكية بشرط مبادرتها له حتى لو أخرت بقدر ما ينقطع القبول عن الإيجاب في العقد ثم طلقت لم يقع، وفي وجه لا يضر التأخير ما داما في المجلس وبه جزم ابن القاص، وهو الذي رجحه المالكية والحنفية، وهو قول الثوري والليث والأوزاعي‏.‏

وقال ابن المنذر‏:‏ الراجح أنه لا يتقيد ولا يشترط فيه الفور، بل متى طلقت نفذ، وهو قول الحسن والزهري، وبه قال أبو عبيد ومحمد بن نصر من الشافعية والطحاوي من الحنفية، وتمسكوا بحديث الباب حيث وقع فيه ‏"‏ إني ذاكر لك أمرا فلا تعجلي حتى تستأمري أبويك ‏"‏ الحديث، فإنه ظاهر في أنه فسخ لها إذ أخبرها أن لا تختار شيئا حتى تستأذن أبويها ثم تفعل ما يشيران به عليها، وذلك يقتضي عدم اشتراط الفور في جواب التخيير‏.‏

قلت‏:‏ ويمكن أن يقال يشترط الفور أو ما داما في المجلس عند الإطلاق، فأما لو صرح الزوج بالفسحة في تأخيره بسبب يقتضي ذلك فيتراخى، وهذا الذي وقع في قصة عائشة، ولا يلزم من ذلك أن يكون كل خيار كذلك، والله أعلم‏.‏

*3*باب إِذَا قَالَ فَارَقْتُكِ أَوْ سَرَّحْتُكِ أَوْ الْخَلِيَّةُ أَوْ الْبَرِيَّةُ أَوْ مَا عُنِيَ بِهِ الطَّلَاقُ فَهُوَ عَلَى نِيَّتِهِ

وَقَوْلُ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَسَرِّحُوهُنَّ سَرَاحًا جَمِيلًا وَقَالَ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحًا جَمِيلًا وَقَالَ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ وَقَالَ أَوْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَقَالَتْ عَائِشَةُ قَدْ عَلِمَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ أَبَوَيَّ لَمْ يَكُونَا يَأْمُرَانِي بِفِرَاقِهِ

الشرح‏:‏

قوله ‏(‏باب إذا قال فارقتك أو سرحتك أو الخلية أو البرية أو ما عنى به الطلاق فهو على نيته‏)‏ هكذا بت المصنف الحكم في هذه المسألة، فاقتضى أن لا صريح عنده إلا لفظ الطلاق أو ما تصرف منه، وهو قول الشافعي في القديم، ونص في الجديد على أن الصريح لفظ الطلاق والفراق والسراح لورود ذلك في القرآن بمعنى الطلاق‏.‏

وحجة القديم أنه ورد في القرآن لفظ الفراق والسراح لغير الطلاق بخلاف الطلاق فإنه لم يرد إلا للطلاق، وقد رجح جماعة القديم كالطبري في ‏"‏ العدة ‏"‏ والمحاملي وغيرهما، وهو قول الحنفية، واختاره القاضي عبد الوهاب من المالكية، وحكى الدارمي عن ابن خير أن من لم يعرف إلا الطلاق فهو صريح في حقه فقط، وهو تفصيل قوي، ونحوه للروياني فإنه قال‏:‏ لو قال عربي فارقتك ولم يعرف أنها صريحة لا يكون صريحا في حقه‏.‏

واتفقوا على أن لفظ الطلاق وما تصرف منه صريح، لكن أخرج أبو عبيد في ‏"‏ غريب الحديث ‏"‏ من طريق عبد الله بن شهاب الخولاني عن عمر أنه ‏(‏رفع إليه رجل قالت له امرأته‏.‏

شبهني، فقال‏:‏ كأنك ظبية، قالت‏:‏ لا‏.‏

قال‏:‏ كأنك حمامة قالت‏:‏ لا أرضى حتى تقول أنت خلية طالق، فقالها، فقال له عمر‏:‏ خد بيدها فهي امرأتك ‏"‏ قال أبو عبيد قوله خلية طالق أي ناقة كانت معقولة ثم أطلقت من عقالها وخلى عنها فتسمى خلية لأنها خليت عن العقال؛ وطالق لأنها طلقت منه، فأراد الرجل أنها تشبه الناقة ولم يقصد الطلاق بمعنى الفراق أصلا، فأسقط عنه عمر الطلاق‏.‏

قال أبو عبيد‏:‏ وهذا أصل لكل من تكلم بشيء من ألفاظ الطلاق ولم يرد الفراق بل أراد غيره فالقول قوله فيه فيما بينه وبين الله تعالى ا هـ‏.‏

وإلى هذا ذهب الجمهور، لكن المشكل من قصة عمر كونه رفع إليه وهو حاكم، فإن كان أجراه مجرى الفتيا ولم يكن هناك حكم فيوافق وإلا فهو من النوادر‏.‏

وقد نقل الخطابي الإجماع على خلافه، لكن أثبت غيره الخلاف وعزاه لداود‏.‏

وفي البويطي ما يقتضيه، وحكاه الروياني، ولكن أوله الجمهور وشرطوا قصد لفظ الطلاق لمعنى الطلاق ليخرج العجمي مثلا إذا لقن كلمة الطلاق فقالها وهو لا يعرف معناها أو العربي بالعكس، وشرطوا مع النطق بلفظ الطلاق تعمد ذلك احترازا عما يسبق به اللسان والاختيار ليخرج المكره، لكن إن أكره فقالها مع القصد إلى الطلاق وقع في الأصح‏.‏

قوله ‏(‏وقول الله تعالى‏:‏ وسرحوهن سراحا جميلا‏)‏ كأنه يشير إلى أن في هذه الآية لفظ التسريح بمعنى الإرسال لا بمعنى الطلاق لأنه أمر من طلق قبل الدخول أن يمتع ثم يسرح، وليس المراد من الآية تطليقها بعد التطليق قطعا‏.‏

قوله ‏(‏وقال‏:‏ وأسرحكن‏)‏ يعني قوله تعالى ‏(‏يا أيها النبي قل لأزواجك إن كنتن تردن الحياة الدنيا وزينتها فتعالين أمتعكن وأسرحكن سراحا جميلا‏)‏ والتسريح في هذه الآية محتمل للتطليق والإرسال، وإذا كانت صالحة للأمرين انتفى أن تكون صريحة في الطلاق، وذلك راجع إلى الاختلاف فيما خير به النبي صلى الله عليه وسلم نساءه‏:‏ هل كان في الطلاق والإقامة، فإذا اختارت نفسها طلقت وإن اختارت الإقامة لم تطلق كما تقدم تقريره في الباب قبله‏؟‏ أو كان في التخيير بين الدنيا والآخرة، فمن اختارت الدنيا طلقها ثم متعها ثم سرحها، ومن اختارت الآخرة أقرها في عصمته‏؟‏ قوله ‏(‏وقال تعالى‏:‏ فإمساك بمعروف أو تسريح بإحسان‏)‏ تقدم في الباب قبله بيان الاختلاف في المراد بالتسريح هنا وأن الراجح أن المراد به التطليق‏.‏

قوله ‏(‏وقال‏:‏ أو فارقوهن بمعروف‏)‏ يريد أن هذه الآية وردت بلفظ الفراق في موضع ورودها في البقرة بلفظ السراح؛ والحكم فيهما واحد لأنه ورد في الموضعين بعد وقوع الطلاق، فليس المراد به الطلاق بل الإرسال‏.‏

وقد اختلف السلف قديما وحديثا في هذه المسألة‏:‏ فجاء عن علي بأسانيد يعضد بعضها بعضا وأخرجها ابن أبي شيبة والبيهقي وغيرهما قال ‏"‏ البرية والخلية والبائن والحرام والبت ثلاث ثلاث ‏"‏ وبه قال مالك وابن أبي ليلى والأوزاعي، لكن قال في الخلية إنها واحدة رجعية، ونقله عن الزهري وعن زيد بن ثابت في البرية والبتة والحرام ثلاث ثلاث، وعن ابن عمر في الخلية والبرية ثلاث وبه قال قتادة، ومثله عن الزهري في البرية فقط، واحتج بعض المالكية بأن قول الرجل لامرأته أنت بائن وبتة وبتلة وخلية وبرية يتضمن إيقاع الطلاق لأن معناه أنت طالق مني طلاقا تبينين به مني، أو تبت أي يقطع عصمتك مني، والبتلة بمعناه، أو تخلين به من زوجيتي أو تبرين منها، قال‏:‏ وهذا لا يكون في المدخول بها إلا ثلاثا إذا لم يكن هناك خلع، وتعقب بأن الحمل على ذلك ليس صريحا والعصمة الثابتة لا ترفع بالاحتمال، وبأن من يقول إن من قال لزوجته أنت طالق طلقة بائنة إذا لم يكن هناك خلع أنها تقع رجعية مع التصريح كيف لا يقول يلغو مع التقدير وبأن كل لفظة من المذكورات إذا قصد بها الطلاق ووقع وانقضت العدة أنه يتم المعنى المذكور، فلم ينحصر الأمر فيما ذكروا وإنما النظر عند الإطلاق، فالذي يترجح أن الألفاظ المذكورات وما في معناها كنايات لا يقع الطلاق بها إلا مع القصد إليه، وضابط ذلك أن كل كلام أفهم الفرقة ولو مع دقته يقع به الطلاق مع القصد، فأما إذا لم يفهم الفرقة من اللفظ فلا يقع الطلاق ولو قصد إليه، كما لو قال كلي أو اشربي أو نحو ذلك، وهذا تحرير مذهب الشافعي في ذلك‏.‏

وقاله قبله الشعبي وعطاء وعمرو بن دينار وغيرهم، وبهذا قال الأوزاعي وأصحاب الرأي، واحتج لهم الطحاوي بحديث أبي هريرة الآتي قريبا ‏"‏ تجاوز الله عن أمتي عما حدثت به أنفسها ما لم تعمل به أو تكلم ‏"‏ فإنه يدل على أن النية وحدها لا تؤثر إذا تجردت عن الكلام أو الفعل‏.‏

وقال مالك‏:‏ إذا خاطبها بأي لفظ كان وقصد الطلاق طلقت حتى لو قال يا فلانة يريد به الطلاق، وبه قال الحسن بن صالح بن حي‏.‏

قوله ‏(‏وقالت عائشة‏:‏ قد علم النبي صلى الله عليه وسلم أن أبوي لم يكونا يأمراني بفراقه‏)‏ هذا التعليق طرف من حديث التخيير، وقد تقدم عن عائشة في آخر حديث عمر في ‏"‏ باب موعظة الرجل ابنته ‏"‏ من كتاب النكاح، وبيان الاختلاف على الزهري في إسناده، وأرادت عائشة بالفراق هنا الطلاق جزما، ولا نزاع في الحمل عليه إذا قصد إليه، وإنما النزاع في الإطلاق إذا تقدم‏.‏

*3*باب مَنْ قَالَ لِامْرَأَتِهِ أَنْتِ عَلَيَّ حَرَامٌ

وَقَالَ الْحَسَنُ نِيَّتُهُ وَقَالَ أَهْلُ الْعِلْمِ إِذَا طَلَّقَ ثَلَاثًا فَقَدْ حَرُمَتْ عَلَيْهِ فَسَمَّوْهُ حَرَامًا بِالطَّلَاقِ وَالْفِرَاقِ وَلَيْسَ هَذَا كَالَّذِي يُحَرِّمُ الطَّعَامَ لِأَنَّهُ لَا يُقَالُ لِطَعَامِ الْحِلِّ حَرَامٌ وَيُقَالُ لِلْمُطَلَّقَةِ حَرَامٌ وَقَالَ فِي الطَّلَاقِ ثَلَاثًا لَا تَحِلُّ لَهُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ وَقَالَ اللَّيْثُ حَدَّثَنِي نَافِعٌ قَالَ كَانَ ابْنُ عُمَرَ إِذَا سُئِلَ عَمَّنْ طَلَّقَ ثَلَاثًا قَالَ لَوْ طَلَّقْتَ مَرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ فَإِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَرَنِي بِهَذَا فَإِنْ طَلَّقْتَهَا ثَلَاثًا حَرُمَتْ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَكَ

الشرح‏:‏

قوله ‏(‏باب من قال لامرأته‏:‏ أنت علي حرام‏.‏

وقال الحسن‏:‏ نيته‏)‏ أي يحمل على نيته‏.‏

وهذا التعليق وصله البيهقي، ووقع لنا عاليا في ‏"‏ جزء محمد بن عبد الله الأنصاري ‏"‏ شيخ البخاري قال ‏"‏ حدثنا الأشعث عن الحسن في الحرام إن نوى يمينا فيمين، وإن طلاقا فطلاق ‏"‏ وأخرجه عبد الرزاق من وجه آخر عن الحسن، وبهذا قال النخعي والشافعي وإسحاق، وروى نحوه عن ابن مسعود وابن عمر وطاوس، وبه قال النووي لكن قال‏:‏ إن نوى واحدة فهي بائن‏.‏

وقال الحنفية مثله لكن قالوا‏:‏ إن نوى ثنتين فهي واحدة بائنة، وإن لم ينو طلاقا فهي يمين ويصير موليا، وهو عجيب والأول أعجب‏.‏

وقال الأوزاعي وأبو ثور‏:‏ يمين الحرام تكفر، وروى نحوه عن أبي بكر وعمر وعائشة وسعيد بن المسيب وعطاء وطاوس، واحتج أبو ثور بظاهر قوله تعالى ‏(‏لم تحرم ما أحل الله لك‏)‏ وسيأتي بيانه في الباب الذي بعده‏.‏

وقال أبو قلابة وسعيد بن جبير‏:‏ من قال لامرأته أنت علي حرام لزمته كفارة الظهار‏.‏

ومثله عن أحمد‏.‏

وقال الطحاوي‏:‏ يحتمل أنهم أرادوا أن من أراد به الظهار كان مظاهرا، وإن لم ينوه كان عليه كفارة يمين مغلظة وهي كفارة الظهار، لا أنه يصير مظاهرا ظهارا حقيقة، وفيه بعد‏.‏

وقال أبو حنيفة وصاحباه‏:‏ لا يكون مظاهرا ولو أراده‏.‏

وروي عن علي وزيد بن ثابت وابن عمر والحكم وابن أبي ليلى‏:‏ في الحرام ثلاث تطليقات ولا يسأل عن نيته، وبه قال مالك، وعن مسروق والشعبي وربيعة‏:‏ لا شيء فيه، وبه قال أصبغ من المالكية‏.‏

وفي المسألة اختلاف كثير عن السلف بلغها القرطبي المفسر إلى ثمانية عشر قولا، وزاد غيره عليها‏.‏

وفي مذهب مالك فيها تفاصيل أيضا يطول استيعابها‏.‏

قال القرطبي‏:‏ قال بعض علمائنا سبب الاختلاف أنه لم يقع في القرآن صريحا ولا في السنة نص ظاهر صحيح يعتمد عليه في حكم هذه المسألة، فتجاذبها العلماء، فمن تمسك بالبراءة الأصلية قال لا يلزمه شيء، ومن قال إنها يمين أخذ بظاهر قوله تعالى ‏(‏قد فرض الله لكم تحلة أيمانكم‏)‏ بعد قوله تعالى ‏(‏يا أيها النبي لم تحرم ما أحل الله لك‏)‏ ، ومن قال تجب الكفارة وليست بيمين بناه على أن معنى اليمين التحريم فوقعت الكفارة على المعنى، ومن قال تقع به طلقة رجعية حمل اللفظ على أقل وجوهه الظاهرة وأقل ما تحرم به المرأة طلقة تحرم الوطء ما لم يرتجعها، ومن قال بائنة فلاستمرار ا التحريم بها ما لم يجدد العقد، ومن قال ثلاث حمل اللفظ على منتهى وجوهه، ومن قال ظهار نظر إلى معنى التحريم وقطع النظر عن الطلاق فانحصر الأمر عنده في الظهار، والله أعلم‏.‏

قوله ‏(‏وقال أهل العلم‏:‏ إذا طلق ثلاثا فقد حرمت عليه فسموه حراما بالطلاق والفراق‏)‏ أي فلا بد أن يصرح القائل بالطلاق أو يقصد إليه، فلو أطلق أو نوى عير الطلاق فهو محل النظر‏.‏

قوله ‏(‏وليس هذا كالذي يحرم الطعام، لأنه لا يقال للطعام الحل حرام ويقال للمطلقة حرام‏.‏

وقال في الطلاق ثلاثا‏:‏ لا تحل له من بعد حتى تنكح زوجا غيره‏)‏ قال المهلب‏:‏ من نعم الله على هذه الأمة فيما خفف عنهم أن من قبلهم كانوا إذا حرموا على أنفسهم شيئا حرم عليهم كما وقع ليعقوب عليه السلام، فخفف الله ذلك عن هذه الأمة، ونهاهم أن يحرموا على أنفسهم شيئا مما أحل لهم فقال تعالى ‏(‏يا أيها الذين آمنوا لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم‏)‏ ا هـ‏.‏

وأظن البخاري أشار إلى ما تقدم عن أصبغ وغيره ممن سوى بين الزوجة وبين الطعام والشراب كما تقدم نقله عنهم، فبين أن الشيئين وإن استويا من جهة فقد يفترقان من جهة أخرى، فالزوجة إذا حرمها الرجل على نفسه وأراد بذلك تطليقها حرمت، والطعام والشراب إذا حرمه على نفسه لم يحرم، ولهذا احتج باتفاقهم على أن المرأة بالطلقة الثالثة تحرم على الزوج لقوله تعالى ‏(‏فلا تحل له من بعد حتى تنكح زوجا غيره‏)‏ وورد عن ابن عباس ما يؤيد ذلك، فأخرج يزيد بن هارون في كتاب النكاح ومن طريقه البيهقي بسند صحيح عن يوسف بن ماهك ‏"‏ أن أعرابيا أتى ابن عباس فقال‏:‏ إني جعلت امرأتي حراما، قال‏:‏ ليست عليك بحرام‏.‏

قال‏:‏ أرأيت قول الله تعالى ‏(‏كل الطعام كان حلا لبني إسرائيل إلا ما حرم إسرائيل على نفسه‏)‏ الآية‏؟‏ فقال ابن عباس‏:‏ إن إسرائيل كان به عرق النسا فجعل على نفسه إن شفاه الله أن لا يأكل العروق من كل شيء، وليست بحرام يعني على هذه الأمة‏"‏‏.‏

وقد اختلف العلماء فيمن حرم على نفسه شيئا، فقال الشافعي‏:‏ إن حرم زوجته أو أمته ولم يقصد الطلاق ولا الظهار ولا العتق فعليه كفارة يمين، وإن حرم طعاما أو شرابا فلغو‏.‏

وقال أحمد‏:‏ عليه في الجميع كفارة يمين‏.‏

وتقدم بيان بقية الاختلاف في الباب الذي قبله‏.‏

قال البيهقي بعد أن أخرج الحديث الذي أخرجه الترمذي وابن ماجه بسند رجاله ثقات من طريق داود بن أبي هند عن الشعبي عن مسروق ‏"‏ عن عائشة قالت‏:‏ آلى النبي صلى الله عليه وسلم من نسائه وحرم، فجعل الحرام حلالا، وجعل في اليمين كفارة ‏"‏ قال فإن في هذا الخبر تقوية لقول من قال إن لفظ الحرام لا يكون بإطلاقه طلاقا ولا ظهارا ولا يمينا‏.‏

قوله ‏(‏وقال الليث عن نافع قال‏:‏ كان ابن عمر إذا سئل عمن طلق ثلاثا قال‏:‏ لو طلقت مرة أو مرتين، فإن النبي صلى الله عليه وسلم أمرني بهذا، فإن طلقها ثلاثا حرمت عليك حتى تنكح زوجا غيرك‏)‏ كذا للأكثر وفي رواية الكشميهني ‏"‏ فإن طلقها وحرمت عليه ‏"‏ بضمير الغائب في الموضعين، وهذا الحديث مختصر من قصة تطليق ابن عمر امرأته وقد سبق شرحه في أول الطلاق، وظن ابن التين أن هذا جملة الخبر فاستشكل على مذهب مالك قولهم إن الجمع بين تطليقتين بدعة، قال والنبي صلى الله عليه وسلم لا يأمر بالبدعة، وجوابه أن الإشارة في قول ابن عمر ‏"‏ فإن النبي صلى الله عليه وسلم أمرني بذلك ‏"‏ إلى ما أمره من ارتجاع امرأته في آخر الحديث، ولم يرد ابن عمر أنه أمره أن يطلق امرأته مرة أو مرتين وإنما هو كلام ابن عمر، ففصل لسائله حال المطلق‏.‏

وقد روينا الحديث المذكور من طريق الليث التي علقها البخاري مطولا موصولا عاليا في ‏"‏ جزء أبي الجهم العلاء بن موسى الباهلي ‏"‏ رواية أبي القاسم البغوي عنه عن الليث، وفي أوله قصة ابن عمر في طلاق امرأته، وبعده ‏"‏ قال نافع وكان ابن عمر ‏"‏ إلخ وأخرج مسلم الحديث من طريق الليث لكن ليس بتمامه‏.‏

وقال الكرماني‏:‏ قوله ‏"‏ لو طلقت ‏"‏ جزاؤه محذوف تقديره لكان خيرا أو هو للتمني فلا يحتاج إلى جواب وليس كما قال بل الجواب‏:‏ لكان لك الرجعة لقوله ‏"‏ فإن النبي صلى الله عليه وسلم أمرني بهذا ‏"‏ والتقدير فإن كان في طهر لم يجامعها فيه كان طلاق سنة، وإن وقع في الحيض كان طلاق بدعة، ومطلق البدعة ينبغي أن يبادر إلى الرجعة‏.‏

ولهذا قال ‏"‏ فإن النبي صلى الله عليه وسلم أمرني بهذا ‏"‏ أي بالمراجعة لما طلقت الحائض، وقسيم ذلك وله ‏"‏ وإن طلقت ثلاثا ‏"‏ وكأن ابن عمر ألحق الجمع بين المرتين بالواحدة فسوى بينهما، وإلا فالذي وقع منه إنما هو واحدة كما تقدم بيانه صريحا هناك وأراد البخاري بإيراد هذا هنا الاستشهاد بقول ابن عمر ‏"‏ حرمت عليك ‏"‏ فسماها حراما بالتطليق ثلاثا كأنه يريد أنها لا تصير حراما بمجرد قوله أنت علي حرام حتى يريد به الطلاق أو يطلقها بائنا، وخفي هذا على الشيخ مغلطاي ومن تبعه فنفوا مناسبة هذا الحديث للترجمة، ولكن عرج شيخنا ابن الملقن تلويحا على شيء مما أشرت إليه‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا مُحَمَّدٌ حَدَّثَنَا أَبُو مُعَاوِيَةَ حَدَّثَنَا هِشَامُ بْنُ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ طَلَّقَ رَجُلٌ امْرَأَتَهُ فَتَزَوَّجَتْ زَوْجًا غَيْرَهُ فَطَلَّقَهَا وَكَانَتْ مَعَهُ مِثْلُ الْهُدْبَةِ فَلَمْ تَصِلْ مِنْهُ إِلَى شَيْءٍ تُرِيدُهُ فَلَمْ يَلْبَثْ أَنْ طَلَّقَهَا فَأَتَتْ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَتْ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ زَوْجِي طَلَّقَنِي وَإِنِّي تَزَوَّجْتُ زَوْجًا غَيْرَهُ فَدَخَلَ بِي وَلَمْ يَكُنْ مَعَهُ إِلَّا مِثْلُ الْهُدْبَةِ فَلَمْ يَقْرَبْنِي إِلَّا هَنَةً وَاحِدَةً لَمْ يَصِلْ مِنِّي إِلَى شَيْءٍ فَأَحِلُّ لِزَوْجِي الْأَوَّلِ

فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا تَحِلِّينَ لِزَوْجِكِ الْأَوَّلِ حَتَّى يَذُوقَ الْآخَرُ عُسَيْلَتَكِ وَتَذُوقِي عُسَيْلَتَهُ

الشرح‏:‏

ذكر المصنف حديث عائشة في قصة امرأة رفاعة لقوله فيه ‏"‏ لا تحلين لزوجك الأول حتى يذوق الآخر عسيلتك ‏"‏ وسيأتي شرحه قريبا‏.‏

وقوله في هذه الرواية ‏"‏ فلم يقربني إلا هنة واحدة ‏"‏ هو بلفظ حرف الاستثناء، والتي بعده بفتح الهاء وتخفيف النون، وحكى الهروي تشديدها وقد أنكره الأزهري قبله‏.‏

وقال الخليل‏:‏ هي كلمة يكني بها عن الشيء يستحيا من ذكره باسمه، قال ابن التين معناه لم يطأني إلا مرة واحدة يقال هن امرأته إذا غشيها‏.‏

ونقل الكرماني أنه في أكثر النسخ بموحدة ثقيلة أي مرة، والذي ذكر صاحب ‏"‏ المشارق ‏"‏ أن الذي رواه بالموحدة هو ابن السكن قال‏:‏ وعند الكافة بالنون، وحكى في معنى هبة بالموحدة ما تقدم وهو أن المراد بها مرة واحدة، قال وقيل المراد بالهبة الوقعة يقال حدر هبة السيف أي وقعته، وقيل هي من هب إذا احتاج إلى الجماع يقال هب التيس يهب هبيبا‏.‏

‏(‏تنبيه‏)‏ ‏:‏ زعم ابن بطال أن البخاري يرى أن التحريم يتنزل منزلة الطلاق الثلاث، وشرح كلامه على ذلك فقال بعد أن ساق الاختلاف في المسألة‏:‏ وفي قول مسروق ما أبالي حرمت امرأتي أو جفنة ثريد، وقول الشعبي أنت علي حرام أهون من فعلي هذا القول شذوذ، وعليه رد البخاري، قال واحتج من ذهب أن من حرم زوجته أنها ثلاث تطليقات بالإجماع على أن من طلق امرأته ثلاثا أنها تحرم عليه، قال فلما كانت الثلاث تحرمها كان التحريم ثلاثا، قال وإلى هذه الحجة أشار البخاري بإيراد حديث رفاعة لأنه طلق امرأته ثلاثا فلم تحل له مراجعتها إلا بعد زوج، فكذلك من حرم على نفسه امرأته فهو كمن طلقها ا هـ‏.‏

وقيما قاله نظر، والذي يظهر من مذهب البخاري أن الحرام ينصرف إلى نية القائل، ولذلك صدر الباب بقول الحسن البصري، وهذه عادته في موضع الاختلاف مهما صدر به من النقل عن صحابي أو تابعي فهو اختياره، وحاشا البخاري أن يستدل بكون الثلاث تحرم أن كل تحريم له حكم الثلاث مع ظهور منع الحصر، لأن الطلقة الواحدة تحرم غير المدخول بها مطلقا والبائن تحرم المدخول بها إلا بعد عقد جديد، وكذلك الرجعية إذا انقضت عدتها فلم ينحصر التحريم في الثلاث، وأيضا فالتحريم أعم من التطليق ثلاثا فكيف يستدل بالأعم على الأخص‏؟‏ ومما يؤيد ما اخترناه أولا تعقيب البخاري الباب بترجمة ‏"‏ لم تحرم ما أحل الله لك ‏"‏ وساق فيه قول ابن عباس ‏"‏ إذا حرم امرأته فليس بشيء ‏"‏ كما سيأتي بيانه إن شاء الله تعالى‏.‏