فصل: باب مَنْ زَارَ قَوْمًا فَقَالَ عِنْدَهُمْ

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: فتح الباري شرح صحيح البخاري **


*3*باب الْقَائِلَةِ بَعْدَ الْجُمُعَةِ

الشرح‏:‏

قوله ‏(‏باب القائلة بعد الجمعة‏)‏ أي بعد صلاة الجمعة، وهي النوم في وسط النهار عند الزوال وما قاربه من قبل أو بعد، قيل لها قائلة لأنها يحصل فيها ذلك، وهي فاعلة بمعنى مفعولة مثل ‏(‏عيشة راضية‏)‏ ويقال لها أيضا القيلولة‏.‏

وأخرج ابن ماجه وابن خزيمة من حديث ابن عباس رفعه استعينوا على صيام النهار بالسحور، وعلى قيام الليل بالقيلولة وفي سنده زمعة بن صالح وفيه ضعف، وقد تقدم شرح حديث سهل المذكور في الباب في أواخر كتاب الجمعة، وفيه إشارة إلى أنهم كانت عادتهم ذلك في كل يوم، وورود الأمر بها في الحديث الذي أخرجه الطبراني في ‏"‏ الأوسط ‏"‏ من حديث أنس رفعه قال ‏"‏ قيلوا فإن الشياطين لا تقيل ‏"‏ وفي سنده كثير بن مروان وهو متروك‏.‏

وأخرج سفيان بن عيينة في جامعه من حديث خوات بن جبير رضي الله عنه موقوفا قال ‏"‏ نوم أول النهار حرق، وأوسطه خلق، وآخره حمق ‏"‏ وسنده صحيح‏.‏

*3*باب الْقَائِلَةِ فِي الْمَسْجِدِ

الشرح‏:‏

قوله ‏(‏باب القائلة في المسجد‏)‏ ذكر فيه حديث علي في سبب تكنيته أبا تراب، وقد تقدم في أواخر كتاب الأدب، والغرض منه قول فاطمة عليها السلام ‏"‏ فغاضبني فخرج فلم يقل عندي ‏"‏ وهو بفتح أوله وكسر القاف‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ أَبِي حَازِمٍ عَنْ أَبِي حَازِمٍ عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ قَالَ مَا كَانَ لِعَلِيٍّ اسْمٌ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِنْ أَبِي تُرَابٍ وَإِنْ كَانَ لَيَفْرَحُ بِهِ إِذَا دُعِيَ بِهَا جَاءَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْتَ فَاطِمَةَ عَلَيْهَا السَّلَام فَلَمْ يَجِدْ عَلِيًّا فِي الْبَيْتِ فَقَالَ أَيْنَ ابْنُ عَمِّكِ فَقَالَتْ كَانَ بَيْنِي وَبَيْنَهُ شَيْءٌ فَغَاضَبَنِي فَخَرَجَ فَلَمْ يَقِلْ عِنْدِي

فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِإِنْسَانٍ انْظُرْ أَيْنَ هُوَ فَجَاءَ فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ هُوَ فِي الْمَسْجِدِ رَاقِدٌ فَجَاءَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ مُضْطَجِعٌ قَدْ سَقَطَ رِدَاؤُهُ عَنْ شِقِّهِ فَأَصَابَهُ تُرَابٌ فَجَعَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَمْسَحُهُ عَنْهُ وَهُوَ يَقُولُ قُمْ أَبَا تُرَابٍ قُمْ أَبَا تُرَابٍ

الشرح‏:‏

قوله ‏(‏هو في المسجد راقد‏)‏ قال المهلب‏:‏ فيه جواز النوم في المسجد من غير ضرورة إلى ذلك، وعكسه غيره وهو الذي يظهر من سياق القصة‏.‏

*3*باب مَنْ زَارَ قَوْمًا فَقَالَ عِنْدَهُمْ

الشرح‏:‏

قوله ‏(‏باب من زار قوما فقال عندهم‏)‏ أي رقد وقت القيلولة، والفعل الماضي منه ومن القول مشترك بخلاف المضارع، فقال يقيل من القائلة وقال يقول من القول، وقد تلطف النضير المناوي حيث قال في لغز‏:‏ قال قال النبي قولا صحيحا قلت قال النبي قولا صحيحا فسره السراج الوراق في جوابه حيث قال‏:‏ فابن منه مضارعا يظهر الخافي ويبدو الذي كنيت صريحا

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْأَنْصَارِيُّ قَالَ حَدَّثَنِي أَبِي عَنْ ثُمَامَةَ عَنْ أَنَسٍ أَنَّ أُمَّ سُلَيْمٍ كَانَتْ تَبْسُطُ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نِطَعًا فَيَقِيلُ عِنْدَهَا عَلَى ذَلِكَ النِّطَعِ قَالَ فَإِذَا نَامَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَخَذَتْ مِنْ عَرَقِهِ وَشَعَرِهِ فَجَمَعَتْهُ فِي قَارُورَةٍ ثُمَّ جَمَعَتْهُ فِي سُكٍّ قَالَ فَلَمَّا حَضَرَ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ الْوَفَاةُ أَوْصَى إِلَيَّ أَنْ يُجْعَلَ فِي حَنُوطِهِ مِنْ ذَلِكَ السُّكِّ قَالَ فَجُعِلَ فِي حَنُوطِهِ

الشرح‏:‏

قصة أم سليم في العرق‏.‏

قوله ‏(‏حدثنا قتيبة بن سعيد حدثنا الأنصاري‏)‏ هو محمد بن عبد الله بن المثنى بن عبد الله بن أنس بن مالك قاضي البصرة وقد أكثر البخاري الرواية عنه بلا واسطة كالذي هنا، وثمامة هو عم عبد الله بن المثني الراوي عنه‏.‏

قوله ‏(‏أن أم سليم‏)‏ هذا ظاهره أن الإسناد مرسل، لأن ثمامة لم يلحق جدة أبيه أم سليم والدة أنس، لكن دل قوله في أواخره ‏"‏ فلما حضر أنس بن مالك الوفاة أوصى إلي ‏"‏ علي أن ثمامة حمله عن أنس فليس هو مرسلا ولا من مسند أم سليم بل هو من مسند أنس، وقد أخرج الإسماعيلي من رواية محمد بن المثني عن محمد بن عبد الله الأنصاري فقال في روايته عن ثمامة عن أنس ‏"‏ أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يدخل على أم سليم ‏"‏ وذكر الحديث وقد أخرج مسلم معنى الحديث من رواية ثابت ومن رواية إسحاق بن أبي طلحة ومن رواية أبي قلابة كلهم عن أنس، ووقع عنده في رواية أبي قلابة عن أنس عن أم سليم، وهذا يشعر بأن أنسا إنما حمله عن أمه‏.‏

قوله ‏(‏فيقيل‏)‏ بفتح أوله وكسر القاف ‏(‏عندها‏)‏ في رواية إسحاق بن أبي طلحة عن أنس عند مسلم ‏"‏ كان النبي صلى الله عليه وسلم يدخل بيت أم سليم فينام على فراشها وليست فيه، فجاء ذات يوم فقيل لها فجاءت وقد عرق فاستنقع عرقه ‏"‏ وفي رواية أبي قلابة المذكورة ‏"‏ كان يأتيها فيقيل عندها فتبسط له نطعا فيقيل عليه وكان كثير العرق‏"‏‏.‏

قوله ‏(‏أخذت من عرقه وشعره فجعلته في قارورة‏)‏ في رواية مسلم ‏"‏ في قوارير ‏"‏ ولم يذكر الشعر وفي ذكر الشعر غرابة في هذه القصة، وقد حمله بعضهم على ما ينتثر من شعره عند الترجل ثم رأيت في رواية محمد بن سعد ما يزيل اللبس، فإنه أخرج بسند صحيح عن ثابت عن أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم لما حلق شعره بمنى أخذ أبو طلحة شعره فأتى به أم سليم فجعلته في سكها، قالت أم سليم ‏"‏ وكان يجيء فيقيل عندي على نطع فجعلت أسلت العرق ‏"‏ الحديث فيستفاد من هذه الرواية أنها لما أخذت العرق وقت قيلولته أضافته إلى الشعر الذي عندها، لا أنها أخذت من شعره لما نام‏.‏

ويستفاد منها أيضا أن القصة المذكورة كانت بعد حجة الوداع لأنه صلى الله عليه وسلم إنما حلق رأسه بمنى فيها‏.‏

قوله ‏(‏في سك‏)‏ بضم المهملة وتشديد الكاف هو طيب مركب، وفي النهاية طيب معروف يضاف إلى غيره من الطيب ويستعمل‏.‏

وفي رواية الحسن بن سفيان المذكورة ‏"‏ ثم تجعله في سكها ‏"‏ وفي رواية ثابت المذكورة عند مسلم ‏"‏ دخل علينا النبي صلى الله عليه وسلم فقال عندنا فعرق، وجاءت أمي بقارورة فجعلت تسلت العرق فيها، فاستيقظ فقال‏:‏ يا أم سليم ما هذا الذي تصنعين‏؟‏ قالت‏:‏ هذا عرقك نجعله في طيبنا وهو من أطيب الطيب‏"‏‏.‏

وفي رواية إسحاق بن أبي طلحة المذكورة ‏"‏ عرق فاستنقع عرقه على قطعة أديم، ففتحت عتيدتها فجعلت تنشف ذلك العرق فتعصره في قواريرها، فأفاق فقال‏:‏ ما تصنعين‏؟‏ قالت نرجو بركته لصبياننا‏.‏

فقال أصبت ‏"‏ والعتيدة بمهملة ثم مثناة وزن عظيمة‏:‏ السلة أو الحق، وهي مأخوذة من العتاد وهو الشيء المعد للأمر المهم‏.‏

وفي رواية أبي قلابة المذكورة ‏"‏ فكانت تجمع عرقه فتجعله في الطيب والقوارير، فقال‏:‏ ما هذا‏؟‏ قالت‏:‏ عرقك أذوف به طيبي ‏"‏ وأذوف بمعجمة مضمومة ثم فاء أي أخلط‏.‏

ويستفاد من هذه الروايات اطلاع النبي صلى الله عليه وسلم على فعل أم سليم وتصويبه‏.‏

ولا معارضة بين قولها إنها كانت تجمعه لأجل طيبه وبين قولها للبركة بل يحمل على أنها كانت تفعل ذلك للأمرين معا‏.‏

قال المهلب‏:‏ في هذا الحديث مشروعية القائلة للكبير في بيوت معارفه لما في ذلك من ثبوت المودة وتأكد المحبة، قال‏:‏ وفيه طهارة شعر الآدمي وعرقه وقال غيره‏:‏ لا دلالة فيه لأنه من خصائص النبي صلى الله عليه وسلم ودليل ذلك متمكن في القوة ولا سيما أن ثبت الدليل على عدم طهارة كل منهما‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ قَالَ حَدَّثَنِي مَالِكٌ عَنْ إِسْحَاقَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ سَمِعَهُ يَقُولُ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا ذَهَبَ إِلَى قُبَاءٍ يَدْخُلُ عَلَى أُمِّ حَرَامٍ بِنْتِ مِلْحَانَ فَتُطْعِمُهُ وَكَانَتْ تَحْتَ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ فَدَخَلَ يَوْمًا فَأَطْعَمَتْهُ فَنَامَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثُمَّ اسْتَيْقَظَ يَضْحَكُ قَالَتْ فَقُلْتُ مَا يُضْحِكُكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ فَقَالَ نَاسٌ مِنْ أُمَّتِي عُرِضُوا عَلَيَّ غُزَاةً فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَرْكَبُونَ ثَبَجَ هَذَا الْبَحْرِ مُلُوكًا عَلَى الْأَسِرَّةِ أَوْ قَالَ مِثْلَ الْمُلُوكِ عَلَى الْأَسِرَّةِ شَكَّ إِسْحَاقُ قُلْتُ ادْعُ اللَّهَ أَنْ يَجْعَلَنِي مِنْهُمْ فَدَعَا ثُمَّ وَضَعَ رَأْسَهُ فَنَامَ ثُمَّ اسْتَيْقَظَ يَضْحَكُ فَقُلْتُ مَا يُضْحِكُكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ نَاسٌ مِنْ أُمَّتِي عُرِضُوا عَلَيَّ غُزَاةً فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَرْكَبُونَ ثَبَجَ هَذَا الْبَحْرِ مُلُوكًا عَلَى الْأَسِرَّةِ أَوْ مِثْلَ الْمُلُوكِ عَلَى الْأَسِرَّةِ فَقُلْتُ ادْعُ اللَّهَ أَنْ يَجْعَلَنِي مِنْهُمْ قَالَ أَنْتِ مِنْ الْأَوَّلِينَ فَرَكِبَتْ الْبَحْرَ زَمَانَ مُعَاوِيَةَ فَصُرِعَتْ عَنْ دَابَّتِهَا حِينَ خَرَجَتْ مِنْ الْبَحْرِ فَهَلَكَتْ

الشرح‏:‏

قصة أم حرام بنت ملحان أخت أم سليم‏.‏

قوله ‏(‏حدثنا إسماعيل‏)‏ هو ابن أبي أويس‏.‏

قوله ‏(‏إذا ذهب إلى قباء‏)‏ لم يذكر أحد من رواة الموطأ هذه الزيادة إلا ابن وهب، قال الدار قطني قال وتابع إسماعيل عليها عتيق بن يعقوب عن مالك‏.‏

قوله ‏(‏أم حرام‏)‏ بفتح المهملتين وهي خالة أنس وكان يقال لها الرميصاء ولأم سليم الغميصاء بالغين المعجمة والباقي مثله‏.‏

قال عياض‏:‏ وقيل بالعكس‏.‏

وقال ابن عبد البر الغميصاء والرميصاء هي أم سليم، ويرده ما أخرج أبو داود بسند صحيح عن عطاء بن يسار عن الرميصاء أخت أم سليم فذكر نحو حديث الباب‏.‏

ولأبي عوانة من طريق الدراوردي عن أبي طوالة عن أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم وضع رأسه في بيت بنت ملحان إحدى خالات أنس، ومعنى الرمص والغمص متقارب وهو اجتماع القذى في مؤخر العين وفي هدبها، وقيل استرخاؤها وانكسار الجفن، وقد سبق حديث الباب في أول الجهاد في عدة مواضع منه، واختلف فيه عن أنس‏:‏ فمنهم من جعله من مسنده، ومنهم جعله من مسند من أم حرام، والتحقيق أن أوله من مسند أنس وقصة المنام من مسند أم حرام، فإن أنسا إنما حمل قصة المنام عنها، وقد وقع في أثناء هذه الرواية ‏"‏ قالت فقلت يا رسول الله ما يضحكك ‏"‏‏؟‏ وتقدم بيان من قال فيه عن أنس عن أم حرام في ‏"‏ باب الدعاء بالجهاد ‏"‏ لكنه حذف ما في أول الحديث وابتدأه بقوله ‏"‏ استيقظ رسول الله صلى الله عليه وسلم من نومه إلى آخره ‏"‏ وتقدم في ‏"‏ باب ركوب البحر ‏"‏ من طريق محمد بن يحيى بن حبان بفتح المهملة وتشديد الموحدة عن أنس ‏"‏ حدثتني أم حرام بنت ملحان أخت أم سليم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال يوما في بيتها فاستيقظ ‏"‏ الحديث‏.‏

قوله ‏(‏وكانت تحت عبادة بن الصامت‏)‏ هذا ظاهره أنها كانت حينئذ زوج عبادة، وتقدم في ‏"‏ باب غزو المرأة في البحر ‏"‏ من رواية أبي طوالة عن أنس قال ‏"‏ دخل النبي صلى الله عليه وسلم على ابنة ملحان ‏"‏ فذكر الحديث إلى أن قال ‏"‏ فتزوجت عبادة بن الصامت ‏"‏ وتقدم أيضا في ‏"‏ باب ركوب البحر ‏"‏ من طريق محمد بن يحيى بن حبان عن أنس ‏"‏ فتزوج بها عبادة فخرج بها إلى الغزو ‏"‏ وفي رواية مسلم من هذا الوجه، فتزوج بها عبادة بعد، وقد تقدم بيان الجمع في ‏"‏ باب غزو المرأة في البحر ‏"‏ وأن المراد بقوله هنا ‏"‏ وكانت تحت عبادة ‏"‏ الأخبار عما آل إليه الحال بعد ذلك، وهو الذي اعتمده النووي وغيره تبعا لعياض، لكن وقع في ترجمة أم حرام من طبقات ابن سعد أنها كانت تحت عبادة فولدت له محمدا ثم خلف عليها عمرو بن قيس بن زيد الأنصاري النجاري فولدت له قيسا وعبد الله وعمرو بن قيس هذا اتفق أهل المغازي أنه استشهد بأحد، وكذا ذكر ابن إسحاق أن ابنه قيس بن عمرو بن قيس استشهد بأحد فلو كان الأمر كما وقع عند ابن سعد لكان محمد صحابيا لكونه ولد لعبادة قبل أن يفارق أم حرام ثم اتصلت بمن ولدت له قيسا فاستشهد بأحد فيكون محمد أكبر من قيس ابن عمرو، إلا أن يقال إن عبادة سمي ابنه محمدا في الجاهلية كما سمي بهذا الاسم غير واحد ومات محمد قبل إسلام الأنصار فلهذا لم يذكروه في الصحابة، ويعكر عليه أنهم لم يعدوا محمد بن عبادة فيمن سمي بهذا الاسم قبل الإسلام، ويمكن الجواب وعلى هذا فيكون عبادة تزوجها أولا ثم فارقها فتزوجت عمرو بن قيس ثم استشهد فرجعت إلى عبادة، والذي يظهر لي أن الأمر بعكس ما وقع في الطبقات وأن عمرو بن قيس تزوجها أولا فولدت له ثم استشهد هو وولده قيس منها وتزوجت بعده بعبادة‏.‏

وقد تقدم في باب ما قيل في قتال الروم، بيان المكان الذي نزلت به أم حرام مع عبادة في الغزو ولفظه من طريق عمير بن الأسود ‏"‏ أنه أتى عبادة بن الصامت وهو نازل بساحل حمص ومعه أم حرام، قال عمير فحدثتنا أم حرام فذكر المنام‏"‏‏.‏

قوله ‏(‏فدخل يوما‏)‏ زاد القعنبي عن مالك ‏"‏ عليها ‏"‏ أخرجه أبو داود‏.‏

قوله ‏(‏فأطعمته‏)‏ لم أقف على تعيين ما أطعمته يومئذ، زاد في ‏"‏ باب الدعاء إلى الجهاد ‏"‏ وجعلت تفلي رأسه، وتفلي بفتح المثناة وسكون الفاء وكسر اللام أي تفتش ما فيه، وتقدم بيانه في الأدب‏.‏

قوله ‏(‏فنام رسول الله صلى الله عليه وسلم‏)‏ زاد في رواية الليث عن يحيى بن سعيد في الجهاد ‏"‏ فنام قريبا منى ‏"‏ وفي رواية أبي طوالة في الجهاد ‏"‏ فاتكأ ‏"‏ ولم يقع في روايته ولا في رواية مالك بيان وقت النوم المذكور وقد زاد غيره أنه كان وقت القائلة ففي رواية حماد بن زيد عن يحيى بن سعيد في الجهاد ‏"‏ أن النبي صلى الله عليه وسلم قال يوما في بيتها ‏"‏ ولمسلم من هذا الوجه ‏"‏ أتانا النبي صلى الله عليه وسلم فقال عندنا ‏"‏ ولأحمد وابن سعد من طريق حماد بن سلمة عن يحيى ‏"‏ بينا رسول الله صلى الله عليه وسلم قائلا في بيتي ‏"‏ ولأحمد من رواية عبد الوارث بن سعيد عن يحيى ‏"‏ فنام عندها أو قال ‏"‏ بالشك وقد أشار البخاري في الترجمة إلى رواية يحيى بن سعيد‏.‏

قوله ‏(‏ثم استيقظ يضحك‏)‏ تقدم في الجهاد من هذا الوجه بلفظ ‏"‏ وهو يضحك ‏"‏ وكذا هو في معظم الروايات التي ذكرتها‏.‏

قوله ‏(‏فقلت ما يضحكك‏)‏ ‏؟‏ في رواية حماد بن زيد عند مسلم ‏"‏ بأبي أنت وأمي ‏"‏ وفي رواية أبي طوالة ‏"‏ لم تضحك ‏"‏ ولأحمد من طريقه ‏"‏ مم تضحك ‏"‏‏؟‏ وفي رواية عطاء بن يسار عن الرميصاء ‏"‏ ثم استيقظ وهو يضحك وكانت تغسل رأسها فقالت‏:‏ يا رسول الله أتضحك من رأسي‏؟‏ قال‏:‏ لا ‏"‏ أخرجه أبو داود، ولم يسق المتن بل أحال به على رواية حماد بن زيد وقال‏:‏ يزيد وينقص، وقد أخرجه عبد الرزاق من الوجه الذي أخرجه منه أبو داود فقال عن عطاء بن يسار ‏"‏ أن امرأة حدثته ‏"‏ وساق المتن ولفظه يدل على أنه في قصة أخرى غير قصة أم حرام فالله أعلم‏.‏

قوله ‏(‏فقال‏:‏ ناس من أمتي عرضوا علي غزاة‏)‏ في رواية حماد بن زيد ‏"‏ فقال‏:‏ عجبت من قوم من أمتي ‏"‏ ولمسلم من هذا الوجه ‏"‏ أريت قوما من أمتي ‏"‏ وهذا يشعر بأن ضحكه كان إعجابا بهم وفرحا لما رأى لهم من المنزلة الرفيعة‏.‏

قوله ‏(‏يركبون ثبج هذا البحر‏)‏ في رواية الليث ‏"‏ يركبون هذا البحر الأخضر ‏"‏ وفي رواية حماد بن زيد ‏"‏ يركبون البحر ‏"‏ ولمسلم من طريقه ‏"‏ يركبون ظهر البحر ‏"‏ وفي رواية أبي طوالة ‏"‏ يركبون البحر الأخضر في سبيل الله ‏"‏ والثبج بفتح المثلثة والموحدة ثم جيم ظهر الشيء، هكذا فسره جماعة‏.‏

وقال الخطابي‏:‏ متن البحر وظهره‏.‏

وقال الأصمعي‏:‏ ثبج كل شيء وسطه‏.‏

وقال أبو علي في أماليه‏:‏ قيل ظهره وقيل معظمه وقيل هوله‏.‏

وقال أبو زيد في نوادره‏:‏ ضرب ثبج الرجل بالسيف أي وسطه، وقيل ما بين كتفيه، والراجح أن المراد هنا ظهره كما وقع التصريح به في الطريق التي أشرت إليها؛ والمراد أنهم يركبون السفن التي تجري على ظهره‏.‏

ولما كان جري السفن غالبا إنما يكون في وسطه قيل المراد وسطه وإلا فلا اختصاص لوسطه بالركوب، وأما قوله ‏"‏ الأخضر ‏"‏ فقال الكرماني هي صفة لازمة للبحر لا مخصصة انتهى، ويحتمل أن تكون مخصصة لأن البحر يطلق على الملح والعذب فجاء لفظ الأخضر لتخصيص الملح بالمراد، قال والماء في الأصل لا لون له وإنما تنعكس الخضرة من انعكاس الهواء وسائر مقابلاته إليه‏.‏

وقال غيره‏:‏ إن الذي يقابله السماء، وقد أطلقوا عليها الخضراء لحديث ‏"‏ ما أظلت الخضراء ولا أقلت الغبراء ‏"‏ والعرب تطلق الأخضر على كل لون ليس بأبيض ولا أحمر، قال الشاعر‏:‏ وأنا الأخضر من يعرفني أخضر الجلدة من نسل العرب يعني أنه ليس بأحمر كالعجم، والأحمر يطلقونه على كل من ليس بعربي‏.‏

ومنه ‏"‏ بعثت إلى الأسود والأحمر‏"‏‏.‏

قوله ‏(‏ملوكا على الأسرة‏)‏ كذا للأكثر، ولأبي ذر ‏"‏ ملوك ‏"‏ بالرفع‏.‏

قوله ‏(‏أو قال مثل الملوك على الأسرة يشك إسحاق‏)‏ يعني راويه عن أنس، ووقع في رواية الليث وحماد المشار إليهما قبل ‏"‏ كالملوك على الأسرة ‏"‏ من غير شيء‏.‏

وفي رواية أبي طوالة ‏"‏ مثل الملوك على الأسرة ‏"‏ بغير شك، أيضا، ولأحمد من طريقه ‏"‏ مثلهم كمثل الملوك على الأسرة ‏"‏ وهذا الشك من إسحاق وهو ابن عبد الله بن أبي طلحة يشعر بأنه كان يحافظ على تأدية الحديث بلفظه ولا يتوسع في تأديته بالمعنى كما توسع غيره كما وقع لهم في هذا الحديث في عدة مواضع تظهر مما سقته وأسوقه، قال ابن عبد البر، أراد والله أعلم أنه رأى الغزاة في البحر من أمته ملوكا على الأسرة في الجنة، ورؤياه وحي، وقد قال الله تعالى في صفة أهل الجنة ‏(‏على سرر متقابلين‏)‏ وقال ‏(‏على الأرائك متكئون‏)‏ والأرائك السرر في الحجال‏.‏

وقال عياض‏:‏ هذا محتمل، ويحتمل أيضا أن يكون خبرا عن حالهم في الغزو من سعة أحوالهم وقوام أمرهم وكثرة عددهم وجودة عددهم فكأنهم الملوك على الأسرة‏.‏

قلت‏:‏ وفي هذا الاحتمال بعد، والأول أظهر لكن الإتيان بالتمثيل في معظم طرقه يدل على أنه رأى ما يؤول إليه أمرهم لا أنهم نالوا ذلك في تلك الحالة، أو موقع التشبيه أنهم فيما هم من النعيم الذي أثيبوا به على جهادهم مثل ملوك الدنيا على أسرتهم، والتشبيه بالمحسوسات أبلغ في نفس السامع‏.‏

قوله ‏(‏فقلت ادع الله أن يجعلني منهم، فدعا‏)‏ تقدم في أوائل الجهاد بلفظ ‏"‏ فدعا لها ‏"‏ ومثله في رواية الليث‏.‏

وفي رواية أبي طوالة ‏"‏ فقال اللهم اجعلها منهم ‏"‏ ووقع في رواية حماد بن زيد ‏"‏ فقال أنت منهم ‏"‏ ولمسلم من هذا الوجه ‏"‏ فإنك منهم ‏"‏ وفي رواية عمير بن الأسود ‏"‏ فقلت‏:‏ يا رسول الله أنا منهم‏؟‏ قال أنت منهم ‏"‏ ويجمع بأنه دعا لها فأجيب فأخبرها جازما بذلك‏.‏

قوله ‏(‏ثم وضع رأسه فنام‏)‏ في رواية الليث ‏"‏ ثم قام ثانية ففعل مثلها، فقالت مثل قولها فأجابها مثلها ‏"‏ وفي رواية حماد بن زيد ‏"‏ فقال ذلك مرتين أو ثلاثة ‏"‏ وكذا في رواية أبي طوالة عند أبي عوانة من طريق الدراوردي عنه، وله من طريق إسماعيل بن جعفر عنه ‏"‏ ففعل مثل ذلك مرتين أخريين ‏"‏ وكل ذلك شاذ والمحفوظ من طريق أنس ما اتفقت عليه روايات الجمهور أن ذلك كان مرتين مرة بعد مرة وأنه قال لها في الأولى ‏"‏ أنت منهم ‏"‏ وفي الثانية ‏"‏ لست منهم ‏"‏ ويؤيده ما في رواية عمير بن الأسود حيث قال في الأولى ‏"‏ يغزون هذا البحر ‏"‏ وفي الثانية ‏"‏ يغزون مدينة قيصر‏"‏‏.‏

قوله ‏(‏أنت من الأولين‏)‏ زاد في رواية الدراوردي عن أبي طوالة ‏"‏ ولست من الآخرين ‏"‏ وفي رواية عمير بن الأسود في الثانية ‏"‏ فقلت‏:‏ يا رسول الله أنا منهم‏؟‏ قال لا‏"‏‏.‏

قلت‏:‏ وظاهر قوله فقال مثلها أن الفرقة الثانية يركبون البحر أيضا ولكن رواية عمير بن الأسود تدل على أن الثانية إنما غزت في البر لقوله ‏"‏ يغزون مدينة قيصر ‏"‏ وقد حكى ابن التين أن الثانية وردت في غزاة البر وأقره، وعلى هذا يحتاج إلى حملة المثلية في الخبر على معظم ما اشتركت فيه الطائفتان لا خصوص ركوب البحر ويحتمل أن يكون بعض العسكر الذين غزوا مدينة قيصر ركبوا البحر إليها‏؟‏ وعلى تقدير أن يكون المراد ما حكى ابن التين فتكون الأولية مع كونها في البر مقيدة بقصد مدينة قيصر، وإلا فقد غزوا قبل ذلك في البر مرارا‏.‏

وقال القرطبي، الأولى في أول من غزا البحر من الصحابة، والثانية في أول من غزا البحر من التابعين‏.‏

قلت‏:‏ بل كان في كل منهما من الفريقين لكن معظم الأولى من الصحابة والثانية بالعكس‏.‏

وقال عياض والقرطبي في السياق دليل على أن رؤياه الثانية غير رؤياه الأولى، وأن في كل نومة عرضت طائفة من الغزاة‏.‏

وأما قول أم حرام ‏"‏ ادع الله أن يجعلني منهم ‏"‏ في الثانية فلظنها أن الثانية تساوي الأولى في المرتبة فسألت ثانيا ليتضاعف لها الأجر، لا أنها شكت في إجابة دعاء النبي صلى الله عليه وسلم لها في المرة الأولى وفي جزمه بذلك‏.‏

قلت‏:‏ لا تنافي بين إجابة دعائه وجزمه بأنها من الأولين وبين سؤالها أن تكون من الآخرين لأنه لم يقع التصريح لها أنها تموت قبل زمان الغزوة الثانية فجوزت أنها تدركها فتغزو معهم ويحصل لها أجر الفريقين، فأعلمها أنها لا تدرك زمان الغزوة الثانية فكان كما قال صلى الله عليه وسلم‏.‏

قوله ‏(‏فركبت البحر في زمان معاوية‏)‏ في رواية الليث ‏"‏ فخرجت مع زوجها عبادة بن الصامت غازيا أول ما ركب المسلمون البحر مع معاوية ‏"‏ وفي رواية حماد ‏"‏ فتزوج بها عبادة، فخرج بها إلى الغزو ‏"‏ وفي رواية أبي طوالة ‏"‏ فتزوجت عبادة، فركبت البحر مع بنت قرظة ‏"‏ وقد تقدم اسمها في ‏"‏ باب غزوة المرأة في البحر ‏"‏ وتقدم في باب فضل من يسرع في سبيل الله بيان الوقت الذي ركب فيه المسلمون البحر للغزو أولا وأنه كان في سنة ثمان وعشرين، وكان ذلك في خلافة عثمان ومعاوية يومئذ أمير الشام، وظاهر سياق الخبر يوهم أن ذلك كان في خلافته وليس كذلك‏.‏

وقد اغتر بظاهره بعض الناس فوهم، فإن القصة إنما وردت في حق أول من يغزو في البحر، وكان عمر ينهي عن ركوب البحر، فلما ولي عثمان استأذنه معاوية في الغزو في البحر فأذن له‏.‏

ونقله أبو جعفر الطبري عن عبد الرحمن بن يزيد بن أسلم، ويكفي في الرد عليه التصريح في الصحيح بأن ذلك كان أول ما غزا المسلمون في البحر، ونقل أيضا من طريق خالد بن معدان قال ‏"‏ أول من غزا البحر معاوية في زمن عثمان وكان استأذن عمر فلم يأذن له، فلم يزل بعثمان حتى أذن له وقال‏:‏ لا تنتخب أحدا، بل من اختار الغزو فيه طائعا فأعنه ففعل ‏"‏ وقال خليفة بن خياط في تاريخه في حوادث سنة ثمان وعشرين‏:‏ وفيها غزا معاوية البحر ومعه امرأته فأخته بنت قرظة ومع عبادة بن الصامت امرأته أم حرام، وأرخها في سنة ثمان وعشرين غير واحد، وبه جزم ابن أبي حاتم، وأرخها يعقوب بن سفيان في المحرم سنة سبع وعشرين قال‏:‏ كانت فيه غزاة قبرس الأولى‏.‏

وأخرج الطبري من طريق الواقدي أن معاوية غزا الروم في خلافة عثمان فصالح أهل قبرس، وسمي امرأته كبرة بفتح الكاف وسكون الموحدة وقيل فأخته بنت قرظة وهما أختان كان معاوية تزوجهما واحدة بعد أخرى، ومن طريق ابن وهب عن ابن لهيعة أن معاوية غزا بامرأته إلى قبرس في خلافة عثمان فصالحهم‏.‏

ومن طريق أبي معشر المدني أن ذلك كان في سنة ثلاث وثلاثين‏.‏

فتحصلنا على ثلاثة أقوال والأول أصح وكلها في خلافة عثمان أيضا لأنه قتل في آخر سنة خمس وثلاثين‏.‏

قوله ‏(‏فصرعت عن دابتها حين خرجت من البحر فهلكت‏)‏ في رواية الليث ‏"‏ فلما انصرفوا من غزوهم قافلين إلى الشام قربت إليها دابة لتركبها فصرعت فماتت ‏"‏ وفي رواية حماد بن زيد عند أحمد ‏"‏ فوقصها بغلة لها شهباء فوقعت فماتت ‏"‏ وفي رواية عنه مضت في ‏"‏ باب ركوب البحر ‏"‏ فوقعت فاندقت عنقها‏.‏

وقد جمع بينهما في ‏"‏ باب فضل من يصرع في سبيل الله ‏"‏ والحاصل أن البغلة الشهباء قربت إليها لتركبها فشرعت لتركب فسقطت فاندقت عنقها فماتت، وظاهر رواية الليث أن وقعتها كانت بساحل الشام لما خرجت من البحر بعد رجوعهم من غزاة قبرس، لكن أخرج ابن أبي عاصم في كتاب الجهاد عن هشام بن عمار عن يحيى بن حمزة بالسند الماضي لقصة أم حرام في ‏"‏ باب ما قيل في قتال الروم ‏"‏ وفيه ‏"‏ وعبادة نازل بساحل حمص ‏"‏ قال هشام بن عمار رأيت قبرها بساحل حمص، وجزم جماعة بأن قبرها بجزيرة قبرس، فقال ابن حبان بعد أن أخرج الحديث من طريق الليث بن سعد بسنده ‏"‏ قبر أم حرام بجزيرة في بحر الروم يقال لها قبرس بين بلاد المسلمين وبينها ثلاثة أيام ‏"‏ وجزم ابن عبد البر بأنها حين خرجت من البحر إلى جزيرة قبرس قربت إليها دابتها فصرعتها‏.‏

وأخرج الطبري من طريق الواقدي أن معاوية صالحهم بعد فتحها على سبعة آلاف دينار في كل سنة، فلما أرادوا الخروج منها قربت لأم حرام دابة لتركبها فسقطت فماتت فقبرها هناك يستسقون به ويقولون قبر المرأة الصالحة، فعلى هذا فلعل مراد هشام بن عمار بقوله ‏"‏ رأيت قبرها بالساحل ‏"‏ أي ساحل جزيرة قبرس، فكأنه توجه إلى قبرس لما غزاها الرشيد في خلافته‏.‏

ويجمع بأنهم لما وصلوا إلى الجزيرة بادرت المقاتلة وتأخرت الضعفاء كالنساء، فلما غلب المسلمون وصالحوهم طلعت أم حرام من السفينة قاصدة البلد لتراها وتعود راجعة للشام فوقعت حينئذ، ويحمل قول حماد ابن زيد في روايته ‏"‏ فلما رجعت ‏"‏ وقول أبي طوالة ‏"‏ فلما قفلت ‏"‏ أي أرادت الرجوع، وكذا قول الليث في روايته ‏"‏ فلما انصرفوا من غزوهم قافلين ‏"‏ أي أرادوا الانصراف‏.‏

ثم وقفت على شيء يزول به الإشكال من أصله وهو ما أخرجه عبد الرزاق عن معمر عن زيد بن أسلم عن عطاء بن يسار أن امرأة حدثته قالت ‏"‏ نام رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم استيقظ وهو يضحك، فقلت‏:‏ تضحك منى يا رسول الله‏؟‏ قال‏:‏ لا ولكن من قوم من أمتي يخرجون غزاة في البحر، مثلهم كمثل الملوك على الأسرة‏.‏

ثم نام ثم استيقظ فقال مثل ذلك سواء لكن قال فيرجعون قليلة غنائمهم مغفورا لهم‏.‏

قالت فادع الله أن يجعلني منهم، فدعا لها ‏"‏ قال عطاء فرأيتها في غزاة غزاها المنذر بن الزبير إلى أرض الروم فماتت بأرض الروم، وهذا إسناد على شرط الصحيح‏.‏

وقد أخرج أبو داود من طريق هشام بن يوسف عن معمر فقال في روايته ‏"‏ عن عطاء بن يسار عن الرميصاء أخت أم سليم ‏"‏ وأخرجه ابن وهب عن حفص بن ميسرة عن زيد بن أسلم فقال في روايته ‏"‏ عن أم حرام ‏"‏ وكذا قال زهير بن عباد عن زيد بن أسلم‏.‏

والذي يظهر لي أن قول من قال حديث عطاء بن يسار هذا عن أم حرام وهم، وإنما هي الرميصاء، وليست أم سليم وإن كانت يقال لها أيضا الرميصاء كما تقدم في المناقب من حديث جابر، لأن أم سليم لم تمت بأرض الروم ولعلها أختها أم عبد الله بن ملحان فقد ذكرها ابن سعد في الصحابيات وقال‏:‏ إنها أسلمت وبايعت‏.‏

ولم أقف على شيء من خبرها إلا ما ذكر ابن سعد‏.‏

فيحتمل أن تكون هي صاحبة القصة التي ذكرها ابن عطاء ابن يسار وتكون تأخرت حتى أدركها عطاء، وقصتها مغايرة لقصة أم حرام من أوجه‏:‏ الأول أن في حديث أم حرام أنه صلى الله عليه وسلم لما نام كانت تفلي رأسه، وفي حديث الأخرى أنها كانت تغسل رأسها كما قدمت ذكره من رواية أبي داود‏.‏

الثاني ظاهر رواية أم حرام أن الفرقة الثانية تغزو في البر وظاهر رواية الأخرى أنها تغزو في البحر‏.‏

الثالث أن في رواية أم حرام أنها من أهل الفرقة الأولى وفي رواية الأخرى أنها من أهل الفرقة الثانية‏.‏

الرابع أن في حديث أم حرام أن أمير الغزوة كان معاوية وفي رواية الأخرى أن أميرها كان المنذر بن الزبير‏.‏

الخامس أن عطاء بن يسار ذكر أنها حدثته وهو يصغر عن إدراك أم حرام وعن أن يغزو في سنة ثمان وعشرين بل وفي سنة ثلاث وثلاثين، لأن مولده على ما جزم به عمرو بن علي وغيره كان في سنة تسع عشرة‏.‏

وعلى هذا فقد تعددت القصة لأم حرام ولأختها أم عبد الله فلعل إحداهما دفنت بساحل قبرس والأخرى بساحل حمص، ولم أر من حرر ذلك ولله الحمد على جزيل نعمه‏.‏

وفي الحديث من الفوائد غير ما تقدم الترغيب في الجهاد والحض عليه، وبيان فضيلة المجاهد‏.‏

وفيه جواز ركوب البحر الملح للغزو، وقد تقدم بيان الاختلاف فيه وأن عمر كان يمنع منه أذن فيه عثمان، قال أبو بكر بن العربي‏:‏ ثم منع منه عمر بن عبد العزيز ثم أذن فيه من بعده واستقر الأمر عليه، ونقل عن عمر أنه إنما منع ركوبه لغير الحج والعمرة ونحو ذلك، ونقل ابن عبد البر أنه يحرم ركوبه عند ارتجاجه اتفاقا، وكره مالك ركوب النساء مطلقا البحر لما يخشى من اطلاعهن على عورات الرجال فيه إذ يتعسر الاحتراز من ذلك، وخص أصحابه ذلك بالسفن الصغار وأما الكبار التي يمكنهن فيهن الاستتار بأماكن تخصهن فلا حرج فيه‏.‏

وفي الحديث جواز تمني الشهادة وأن من يموت غازيا يلحق بمن يقتل في الغزو، كذا قال ابن عبد البر وهو ظاهر القصة، لكن لا يلزم من الاستواء في أصل الفضل الاستواء في الدرجات، وقد ذكرت في ‏"‏ باب الشهداء ‏"‏ من كتاب الجهاد كثيرا ممن يطلق عليه شهيد وإن لم يقتل‏.‏

وفيه مشروعية القائلة لما فيه من الإعانة على قيام الليل، وجواز إخراج ما يؤذي البدن من قمل ونحوه عنه، ومشروعية الجهاد مع كل أمام لتضمنه الثناء على من غزا مدينة قيصر وكان أمير تلك الغزوة يزيد بن معاوية ويزيد يزيد، وثبوت فضل الغازي إذا صلحت نيته‏.‏

وقال بعض الشراح في فضل المجاهدين إلى يوم القيامة لقوله فيه ‏"‏ ولست من الآخرين ‏"‏ ولا نهاية للآخرين إلى يوم القيامة‏.‏

والذي يظهر أن المراد بالآخرين في الحديث الفرقة الثانية، نعم يؤخذ منه فضل المجاهدين في الجملة لا خصوص الفضل الوارد في حق المذكورين، وفيه ضروب من أخبار النبي صلى الله عليه وسلم بما سيقع فوقع كما قال، وذلك معدود من علامات نبوته‏:‏ منها إعلامه ببقاء أمته بعده وأن فيهم أصحاب قوة وشوكة ونكاية في العدو، وأنهم يتمكنون من البلاد حتى يغزوا البحر، وأن أم حرام تعيش إلى ذلك الزمان، وأنها تكون مع من يغزو البحر، وأنها لا تدرك زمان الغزوة الثانية‏.‏

وفيه جواز الفرح بما يحدث من النعم، والضحك عند حصول السرور لضحكه صلى الله عليه وسلم إعجابا بما رأى من امتثال أمته أمره لهم بجهاد العدو، وما أثابهم الله تعالى على ذلك، وما ورد في بعض طرقه بلفظ التعجب محمول على ذلك‏.‏

وفيه جواز قائلة الضيف في غير بيته بشرطه كالإذن وأمن الفتنة، وجواز خدمة المرأة الأجنبية للضيف بإطعامه والتمهيد له ونحو ذلك، وإباحة ما قدمته المرأة للضيف من مال زوجها لأن الأغلب أن الذي في بيت المرأة هو من مال الرجل، كذا قال ابن بطال؛ قال‏:‏ وفيه أن الوكيل والمؤتمن إذا علم أنه يسر صاحبه ما يفعله من ذلك جاز له فعله، ولا شك أن عبادة كان يسره أكل رسول الله صلى الله عليه وسلم مما قدمته له امرأته ولو كان بغير إذن خاص منه، وتعقبه القرطبي بأن عبادة حينئذ لم يكن زوجها كما تقدم‏.‏

قلت‏:‏ لكن ليس في الحديث ما ينفي أنها كانت حينئذ ذات زوج، إلا أن في كلام ابن سعد ما يقتضي أنها كان حينئذ عزبا‏.‏

وفيه خدمة المرأة الضيف بتفلية رأسه، وقد أشكل هذا على جماعة فقال ابن عبد البر‏:‏ أظن أن أم حرام أرضعت رسول الله صلى الله عليه وسلم أو أختها أم سليم فصارت كل منهما أمه أو خالته من الرضاعة فلذلك كان ينام عندها وتنال منه ما يجوز للمحرم أن يناله من محارمه، ثم ساق بسنده إلى يحيى بن إبراهيم بن مزين قال‏:‏ إنما استجاز رسول الله صلى الله عليه وسلم أن تفلي أم حرام رأسه لأنها كانت منه ذات محرم من قبل خالاته، لأن أم عبد المطلب جده كانت من بني النجار‏.‏

ومن طريق يونس بن عبد الأعلى قال‏:‏ قال لنا ابن وهب أم حرام إحدى خالات النبي صلى الله عليه وسلم من الرضاعة فلذلك كان يقيل عندها وينام في حجرها وتفلي رأسه‏.‏

قال ابن عبد البر وأيهما كان فهي محرم له‏.‏

وجزم أبو القاسم بن الجوهري والداودي والمهلب فيما حكاه ابن بطال عنه بما قال ابن وهب قال‏:‏ وقال غيره إنما كانت خالة لأبيه أو جده عبد المطلب‏.‏

وقال ابن الجوزي سمعت بعض الحفاظ يقول‏:‏ كانت أم سليم أخت آمنة بنت وهب أم رسول الله صلى الله عليه وسلم من الرضاعة‏.‏

وحكى ابن العربي ما قال ابن وهب ثم قال‏:‏ وقال غيره بل كان النبي صلى الله عليه وسلم معصوما يملك أربه عن زوجته فكيف عن غيرها مما هو المنزه عنه، وهو المبرأ عن كل فعل قبيح وقول رفث، فيكون ذلك من خصائصه‏.‏

ثم قال‏:‏ ويحتمل أن يكون ذلك قبل الحجاب، ورد بأن ذلك كان بعد الحجاب جزما، وقد قدمت في أول الكلام على شرحه أن ذلك كان بعد حجة الوداع ورد عياض الأول بأن الخصائص لا تثبت بالاحتمال، وثبوت العصمة مسلم لكن الأصل عدم الخصوصية، وجواز الاقتداء به في أفعاله حتى يقوم على الخصوصية دليل‏.‏

وبالغ الدمياطي في الرد على من ادعى المحرمية فقال‏:‏ ذهل كل من زعم أن أم حرام إحدى خالات النبي صلى الله عليه وسلم من الرضاعة أو من النسب وكل من أثبت لها خؤولة تقتضي محرمية، لأن أمهاته من النسب واللاتي أرضعنه معلومات ليس فيهن أحد من الأنصار البتة، سوى أم عبد المطلب وهي سلمى بنت عمرو بن زيد بن لبيد بن خراش بن عامر بن غنم بن عدي بن النجار، وأم حرام هي بنت ملحان بن خالد بن زيد بن حرام بن جندب بن عامر المذكور فلا تجتمع أم حرام وسلمى إلا في عامر بن غنم جدهما الأعلى، وهذه خؤولة لا تثبت بها محرمية لأنها خؤولة مجازية، وهي كقوله صلى الله عليه وسلم لسعد بن أبي وقاص ‏"‏ هذا خالي ‏"‏ لكونه من بني زهرة وهم أقارب أمه آمنة، وليس سعد أخا لآمنة لا من النسب ولا من الرضاعة‏.‏

ثم قال وإذا تقرر هذا فقد ثبت في الصحيح أنه صلى الله عليه وسلم كان لا يدخل على أحد من النساء إلا على أزواجه، إلا على أم سليم فقيل له فقال‏:‏ أرحمها قتل أخوها معي، يعني حرام بن ملحان، وكان قد قتل يوم بئر معونة‏.‏

قلت‏:‏ وقد تقدمت قصته في الجهاد في ‏"‏ باب فضل من جهز غازيا ‏"‏ وأوضحت هناك وجه الجمع بين ما أفهمه هذا الحصر وبين ما دل عليه حديث الباب في أم حرام بما حاصله أنهما أختان كانتا في دار واحدة كل واحدة منهما في بيت من تلك الدار، وحرام بن ملحان أخوهما معا فالعلة مشتركة فيهما‏.‏

وإن ثبت قصة أم عبد الله بنت ملحان التي أشرت إليها قريبا فالقول فيها كالقول في أم حرام، وقد انضاف إلى العلة المذكورة كون أنس خادم النبي صلى الله عليه وسلم وقد جرت العادة بمخالطة المخدوم خادمه وأهل خادمه ورفع الحشمة التي تقع بين الأجانب عنهم، ثم قال الدمياطي‏:‏ على أنه ليس في الحديث ما يدل على الخلوة بأم حرام، ولعل ذلك كان مع ولد أو خادم أو زوج أو تابع‏.‏

قلت‏:‏ وهو احتمال قوي، لكنه لا يدفع الإشكال من أصله لبقاء الملامسة في تفلية الرأس، وكذا النوم في الحجر، وأحسن الأجوبة دعوى الخصوصية ولا يردها كونها لا تثبت إلا بدليل، لأن الدليل على ذلك واضح، والله أعلم‏.‏

*3*باب الْجُلُوسِ كَيْفَمَا تَيَسَّرَ

الشرح‏:‏

قوله ‏(‏باب الجلوس كيف ما تيسر‏)‏ سقط لفظ ‏"‏ باب ‏"‏ من رواية أبي ذر‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ الزُّهْرِيِّ عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَزِيدَ اللَّيْثِيِّ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ نَهَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ لِبْسَتَيْنِ وَعَنْ بَيْعَتَيْنِ اشْتِمَالِ الصَّمَّاءِ وَالِاحْتِبَاءِ فِي ثَوْبٍ وَاحِدٍ لَيْسَ عَلَى فَرْجِ الْإِنْسَانِ مِنْهُ شَيْءٌ وَالْمُلَامَسَةِ وَالْمُنَابَذَةِ تَابَعَهُ مَعْمَرٌ وَمُحَمَّدُ بْنُ أَبِي حَفْصَةَ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ بُدَيْلٍ عَنْ الزُّهْرِيِّ

الشرح‏:‏

حديث أبي سعيد في النهي عن لبستين وبيعتين، وقد تقدم شرحه في ستر العورة من كتاب الصلاة وفي كتاب البيوع، قال المهلب‏:‏ هذه الترجمة قائمة من دليل الحديث، وذلك أنه نهى عن حالتين ففهم منه إباحة غيرهما مما تيسر من الهيئات والملابس إذا ستر العورة‏.‏

قلت‏:‏ والذي يظهر لي أن المناسبة تؤخذ من جهة العدول عن النهي عن هيئة الجلوس إلى النهي عن لبستين يستلزم كل منهما انكشاف العورة، فلو كانت الجلسة مكروهة لذاتها لم يتعرض لذكر اللبس، فدل على أن النهي عن جلسة تفضي إلى كشف العورة وما لا يفضي إلى كشف العورة يباح في كل صورة، ثم ادعى المهلب أن النهي عن هاتين اللبستين خاص بحالة الصلاة لكونهما لا يستران العورة في الخفض والرفع، وأما الجالس في غير الصلاة فإنه لا يصنع شيئا ولا يتصرف بيديه فلا تنكشف عورته فلا حرج عليه، قال‏:‏ وقد سبق في باب الاحتباء أنه صلى الله عليه وسلم احتبى‏.‏

قلت‏:‏ وغفل رحمه الله عما وقع من التقييد في نفس الخبر، فإن فيه ‏"‏ والاحتباء في ثوب واحد ليس على فرجه منه شيء ‏"‏ وتقدم في ‏"‏ باب اشتمال الصماء ‏"‏ من كتاب اللباس وفيه ‏"‏ والصماء أن يجعل ثوبه على أحد عاتقيه فيبدو أحد شقيه ‏"‏ وستر العورة مطلوب في كل حالة وإن تأكد في حالة الصلاة لكونها قد تبطل بتركه، ونقل ابن بطال عن ابن طاوس أنه كان يكره التربع ويقول هي جلسة مملكة، وتعقب بما أخرجه مسلم والثلاثة من حديث جابر بن سمرة ‏"‏ كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا صلى الفجر تربع في مجلسه حتى تطلع الشمس ‏"‏ ويمكن الجمع‏.‏

قوله ‏(‏تابعه معمر ومحمد بن أبي حفص وعبد الله بن بديل عن الزهري‏)‏ أما متابعة معمر فوصلها المؤلف في البيوع، وأما متابعة محمد بن أبي حفص فهي عند أبي أحمد بن عدي في نسخة أحمد بن حفص النيسابوري عن أبيه عن إبراهيم بن طهمان عن محمد بن أبي حفص، وأما متابعة عبد الله بن بديل فأظنها في ‏"‏ الزهريات ‏"‏ جمع الذهلي، والله أعلم‏.‏

*3*باب مَنْ نَاجَى بَيْنَ يَدَيْ النَّاسِ وَمَنْ لَمْ يُخْبِرْ بِسِرِّ صَاحِبِهِ فَإِذَا مَاتَ أَخْبَرَ بِهِ

الشرح‏:‏

قوله ‏(‏باب من ناجى بين يدي الناس ولم يخبر بسر صاحبه، فإذا مات أخبر به‏)‏ ذكر فيه حديث عائشة في قصة فاطمة رضي الله عنهما إذ بكت لما سارها النبي صلى الله عليه وسلم ثم ضحكت لما سارها ثانيا فسألتها عن ذلك فقالت‏:‏ ما كنت لأفشى، وفيه أنها أخبرت بذلك بعد موته، وقد تقدم شرحه في المناقب وفي الوفاة النبوية‏.‏

قال ابن بطال‏:‏ مساررة الواحد مع الواحد بحضرة الجماعة جائز لأن المعنى الذي يخاف من ترك الواحد لا يخاف من ترك الجماعة‏.‏

قلت‏:‏ وسيأتي إيضاح هذا بعد باب، قال‏:‏ وفيه أنه لا ينبغي إفشاء السر إذا كانت فيه مضرة على السر، لأن فاطمة لو أخبرتهن لحزن لذلك حزنا شديدا، وكذا لو أخبرتهن أنها سيدة نساء المؤمنين لعظم ذلك عليهن واشتد حزنهن، فلما أمنت من ذلك بعد موتهن أخبرت به‏.‏

قلت‏:‏ أما الشق الأول فحق العبارة أن يقول فيه جواز إفشاء السر إذا زال ما يترتب على إفشائه من المضرة، لأن الأصل في السر الكتمان وإلا فما فائدته‏؟‏ وأما الشق الثاني فالعلة التي ذكرها مردودة، لأن فاطمة رضي الله تعالى عنها ماتت قبلهن كلهن وما أدري كيف خفي عليه هذا‏؟‏ ثم جوزت أن يكون في النسخة سقم وأن الصواب فلما أمنت من ذلك بعد موته، وهو أيضا مردود لأن الحزن الذي علل به لم ينزل بموت النبي صلى الله عليه وسلم بل لو كان كما زعم لاستمر حزنهن على ما فاتهن من ذلك‏.‏

وقال ابن التين يستفاد من قول عائشة ‏"‏ عزمت عليك بمالي عليك من الحق ‏"‏ جواز العزم بغير الله، قال‏:‏ وفي المدونة عن مالك إذا قال أعزم عليك بالله فلم يفعل لم يحنث، وهو كقوله أسألك بالله، وإن قال أعزم بالله أن تفعل فلم يفعل حنث، لأن هذا يمين انتهى‏.‏

والذي عند الشافعية أن ذلك في الصورتين يرجع إلى قصد الحالف، فإن قصد يمين نفسه فيمين، وإن قصد بمين المخاطب أو الشفاعة أو أطلق فلا‏.‏

*3*باب الِاسْتِلْقَاءِ

الشرح‏:‏

قوله ‏(‏باب الاستلقاء‏)‏ هو الاضطجاع على القفا سواء كان معه نوم أم لا‏.‏

وقد تقدمت هذه الترجمة وحديثها في آخر كتاب اللباس قبيل كتاب الأدب، وتقدم بيان الحكم في أبواب المساجد من كتاب الصلاة، وذكرت هناك قول من زعم أن النهي عن ذلك منسوخ وأن الجمع أولى، وأن محل النهي حيث تبدو العورة والجواز حيث لا تبدو، وهو جواب الخطابي ومن تبعه‏.‏

ونقلت قول من ضعف الحديث الوارد في ذلك وزعم أنه لم يخرج في الصحيح، وأوردت عليه بأنه غفل عما في كتاب اللباس من الصحيح والمراد بذلك صحيح مسلم، وسبق القلم هناك فكتبت صحيح البخاري وقد أصلحته في أصلي، ولحديث عبد الله بن زيد في الباب شاهد من حديث أبي هريرة صححه ابن حبان‏.‏

*3*باب لَا يَتَنَاجَى اثْنَانِ دُونَ الثَّالِثِ

وَقَوْلُهُ تَعَالَى يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَنَاجَيْتُمْ فَلَا تَتَنَاجَوْا بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَمَعْصِيَةِ الرَّسُولِ وَتَنَاجَوْا بِالْبِرِّ وَالتَّقْوَى إِلَى قَوْلِهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلْ الْمُؤْمِنُونَ وَقَوْلُهُ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَاجَيْتُمْ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَةً ذَلِكَ خَيْرٌ لَكُمْ وَأَطْهَرُ فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ إِلَى قَوْلِهِ وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ

الشرح‏:‏

قوله ‏(‏باب لا يتناجى اثنان دون الثالث‏)‏ أي لا يتحدثان سرا، وسقط لفظ باب من رواية أبي ذر‏.‏

قوله ‏(‏وقال عز وجل‏:‏ يا أيها الذين آمنوا إذا تناجيتم فلا تتناجوا - إلى قوله - المؤمنون‏)‏ كذا لأبي ذر، وساق في رواية الأصيلي وكريمة الآيتين بتمامهما، وأشار بإيراد هاتين الآيتين إلى أن التناجي الجائز المأخوذ من مفهوم الحديث مقيد بأن لا يكون في الإثم والعدوان‏.‏

قوله ‏(‏وقوله‏:‏ يا أيها الذين آمنوا إذا ناجيتم الرسول فقدموا بين يدي نجواكم صدقة - إلى قوله - بما تعملون‏)‏ كذا لأبي ذر، وساق في رواية الأصيلي وكريمة الآيتين أيضا‏.‏

وزعم ابن التين أنه وقع عنده ‏"‏ وإذا تناجيتم ‏"‏ قال‏:‏ والتلاوة ‏(‏يا أيها الذين آمنوا إذا ناجيتم‏)‏ ‏.‏

قلت‏:‏ ولم أقف في شيء من نسخ الصحيح على ما ذكره ابن التين‏.‏

وقوله تعالى ‏(‏فقدموا بين يدي نجواكم صدقة‏)‏ أخرج الترمذي عن علي أنها منسوخة‏.‏

وأخرج سفيان بن عيينة في جامعه عن عاصم الأحول قال‏:‏ لما نزلت كان لا يناجي النبي صلى الله عليه وسلم أحد إلا تصدق، فكان أول من ناجاه على بن أبي طالب فتصدق بدينار، ونزلت الرخصة ‏(‏فإذا لم تفعلوا وتاب الله عليكم‏)‏ الآية‏.‏

وهذا مرسل رجاله ثقات‏.‏

وجاء مرفوعا على غير هذا السياق عن علي أخرجه الترمذي وابن حبان وصححه وابن مردويه من طريق علي بن علقمة عنه قال ‏"‏ لما نزلت هذه الآية قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ما تقول‏؟‏ دينار، قلت‏:‏ لا يطيقونه، قال‏:‏ في نصف دينار، قلت‏:‏ لا يطيقونه‏.‏

قال فكم‏؟‏ قلت‏:‏ شعيرة قال‏:‏ إنك لزهيد‏.‏

قال‏:‏ فنزلت أأشفقتم الآية، قال علي‏:‏ فبي خفف عن هذه الأمة ‏"‏ وأخرج ابن مردويه من حديث سعد بن أبي وقاص له شاهدا‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ أَخْبَرَنَا مَالِكٌ ح و حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ قَالَ حَدَّثَنِي مَالِكٌ عَنْ نَافِعٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ إِذَا كَانُوا ثَلَاثَةٌ فَلَا يَتَنَاجَى اثْنَانِ دُونَ الثَّالِثِ

الشرح‏:‏

قوله ‏(‏عن نافع‏)‏ كذا أورده هنا عن مالك عن نافع؛ ولمالك فيه شيخ آخر عن ابن عمر، وفيه قصة سأذكرها بعد باب إن شاء الله تعالى‏.‏

قوله ‏(‏إذا كانوا ثلاثة‏)‏ كذا للأكثر بنصب ثلاثة على أنه الخبر، ووقع في رواية لمسلم ‏"‏ إذا كان ثلاثة ‏"‏ بالرفع على أن كان تامة‏.‏

قوله ‏(‏فلا يتناجى اثنان دون الثالث‏)‏ كذا للأكثر بألف مقصورة ثابتة في الخط صورة ياء وتسقط في اللفظ لالتقاء الساكنين، وهو بلفظ الخبر ومعناه النهي‏.‏

وفي بعض النسخ بجيم فقط بلفظ النهي وبمعناه، زاد أيوب عن نافع كما سيأتي بعد باب ‏"‏ فإن ذلك يحزنه ‏"‏ وبهذه الزيادة تظهر مناسبة الحديث للآية الأولى من قوله ‏(‏ليحزن الذين آمنوا‏)‏ وسيأتي بسطه بعد أبواب‏.‏

*3*باب حِفْظِ السِّرِّ

الشرح‏:‏

قوله ‏(‏باب حفظ السر‏)‏ أي ترك إفشائه‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ صَبَّاحٍ حَدَّثَنَا مُعْتَمِرُ بْنُ سُلَيْمَانَ قَالَ سَمِعْتُ أَبِي قَالَ سَمِعْتُ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ أَسَرَّ إِلَيَّ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سِرًّا فَمَا أَخْبَرْتُ بِهِ أَحَدًا بَعْدَهُ وَلَقَدْ سَأَلَتْنِي أُمُّ سُلَيْمٍ فَمَا أَخْبَرْتُهَا بِهِ

الشرح‏:‏

قوله ‏(‏معتمر بن سليمان‏)‏ هو التيمي‏.‏

قوله ‏(‏أسر إلي النبي صلى الله عليه وسلم سرا‏)‏ في رواية ثابت عن أنس عند مسلم أثناء حديث ‏"‏ فبعثني في حاجة فأبطأت على أمي فلما جئت قالت ما حبسك ‏"‏ ولأحمد وابن سعد من طريق حميد عن أنس فأرسلني في رسالة فقالت أم سليم ما حبسك‏.‏

قوله ‏(‏فما أخبرت به أحدا بعده ولقد سألتني أم سليم‏)‏ في رواية ثابت فقالت ‏"‏ ما حاجته‏؟‏ قلت‏:‏ إنها سر، قالت‏:‏ لا تخبر بسر رسول الله صلى الله عليه وسلم أحدا ‏"‏ وفي رواية حميد عن أنس ‏"‏ فقالت احفظ سر رسول الله صلى الله عليه وسلم ‏"‏ وفي رواية ثابت ‏"‏ والله لو حدثت به أحدا لحدثتك يا ثابت‏"‏‏.‏

قال بعض العلماء‏:‏ كأن هذا السر يختص بنساء النبي صلى الله عليه وسلم، وإلا فلو كان من العلم ما وسع أنسا كتمانه‏.‏

وقال ابن بطال‏:‏ الذي عليه أهل العلم أن السر لا يباح به إذا كان على صاحبه منه مضرة، وأكثرهم يقول‏:‏ إنه إذا مات لا يلزم من كتمانه ما كان يلزم في حياته إلا أن يكون عليه فيه غضاضة قلت‏:‏ الذي يظهر انقسام ذلك بعد الموت إلى ما يباح، وقد يستحب ذكره ولو كرهه صاحب السر، كأن يكون فيه تزكية له من كرامة أو منقبة أو نحو ذلك وإلى ما يكره مطلقا وقد يحرم وهو الذي أشار إليه ابن بطال، وقد يجب كأن يكون فيه ما يجب ذكره كحق عليه كان يعذر بترك القيام به فيرجى بعده إذا ذكر لمن يقوم به عنه أن يفعل ذلك‏.‏

ومن الأحاديث الواردة في حفظ السر حديث أنس ‏"‏ احفظ سري تكن مؤمنا ‏"‏ أخرجه أبو يعلى والخرائطي، وفيه على ابن زيد وهو صدوق كثير الأوهام، وقد أخرج أصله الترمذي وحسنه؛ ولكن لم يسق هذا المتن بل ذكر بعض الحديث ثم قال‏:‏ وفي الحديث طول‏.‏

وحديث ‏"‏ إنما يتجالس المتجالسان بالأمانة، فلا يحل لأحد أن يفشي على صاحبه ما يكره ‏"‏ أخرجه عبد الرزاق من مرسل أبي بكر بن حزم‏.‏

وأخرج القضاعي في ‏"‏ مسند الشهاب ‏"‏ من حديث علي مرفوعا ‏"‏ المجالس بالأمانة ‏"‏ وسنده ضعيف‏.‏

ولأبي داود من حديث جابر مثله وزاد ‏"‏ إلا ثلاثة مجالس‏:‏ ما سفك فيه دم حرام، أو فرج حرم أو اقتطع فيه مال بغير حق ‏"‏ وحديث جابر رفعه ‏"‏ إذا حدث الرجل بالحديث ثم التفت فهي أمانة ‏"‏ أخرجه ابن أبي شيبة وأبو داود والترمذي، وله شاهد من حديث أنس عند أبي يعلى‏.‏

*3*باب إِذَا كَانُوا أَكْثَرَ مِنْ ثَلَاثَةٍ فَلَا بَأْسَ بِالْمُسَارَّةِ وَالْمُنَاجَاةِ

الشرح‏:‏

قوله ‏(‏باب إذا كانوا أكثر من ثلاثة فلا بأس بالمسارة والمناجاة‏)‏ أي مع بعض دون بعض، وسقط ‏"‏ باب ‏"‏ لأبي ذر، وعطف المناجاة على المسارة من عطف الشيء على نفسه إذا كان بغير لفظه لأنهما بمعنى واحد، وقيل بينهما مغايرة وهي أن المسارة وإن اقتضت المفاعلة لكنها باعتبار من يلقى السر ومن يلقى إليه، والمناجاة تقتضي وقوع الكلام سرا من الجانبين، فالمناجاة أخص من المسارة فتكون من عطف الخاص على العام‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا عُثْمَانُ حَدَّثَنَا جَرِيرٌ عَنْ مَنْصُورٍ عَنْ أَبِي وَائِلٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا كُنْتُمْ ثَلَاثَةً فَلَا يَتَنَاجَى رَجُلَانِ دُونَ الْآخَرِ حَتَّى تَخْتَلِطُوا بِالنَّاسِ أَجْلَ أَنْ يُحْزِنَهُ

الشرح‏:‏

قوله ‏(‏عن عبد الله‏)‏ هو ابن مسعود‏.‏

قوله ‏(‏فلا يتناجى‏)‏ في رواية الكشميهني بجيم ليس بعدها ياء وقد تقدم بيانه قبل باب‏.‏

قوله ‏(‏حتى تختلطوا بالناس‏)‏ أي يختلط الثلاثة بغيرهم‏.‏

والغير أعم من أن يكون واحدا أو أكثر فطابقت الترجمة، ويؤخذ منه أنهم إذا كانوا أربعة لم يمتنع تناجي اثنين لإمكان أن يتناجى الاثنان الآخران، وقد ورد ذلك صريحا فيما أخرجه المصنف في ‏"‏ الأدب المفرد ‏"‏ وأبو داود وصححه ابن حبان من طريق أبي صالح عن ابن عمر رفعه ‏"‏ قلت فإن كانوا أربعة‏؟‏ قال‏:‏ لا يضره ‏"‏ وفي رواية مالك عن عبد الله بن دينار ‏"‏ كان ابن عمر إذا أراد أن يسارر رجلا وكانوا ثلاثة دعا رابعا ثم قال للاثنين‏:‏ استريحا شيئا فإني سمعت ‏"‏ فذكر الحديث‏.‏

وفي رواية سفيان في جامعه عن عبد الله بن دينار نحوه ولفظه ‏"‏ فكان ابن عمر إذا أراد أن يناجي رجلا دعا آخر ثم ناجى الذي أراد ‏"‏ وله من طريق نافع ‏"‏ إذا أراد أن يناجي وهم ثلاثة دعا رابعا ‏"‏ ويؤخذ من قوله ‏"‏ حتى تختلطوا بالناس ‏"‏ أن الزائد على الثلاثة يعني سواء جاء اتفاقا أم عن طلب كما فعل ابن عمر‏.‏

قوله ‏(‏أجل أن ذلك يحزنه‏)‏ أي من أجل، وكذا هو في ‏"‏ الأدب المفرد ‏"‏ بالإسناد الذي في الصحيح بزيادة ‏"‏ من ‏"‏ قال الخطابي‏:‏ قد نطقوا بهذا اللفظ بإسقاط ‏"‏ من ‏"‏ وذكر لذلك شاهدا، ويجوز كسر همزة ‏"‏ إن ذلك ‏"‏ والمشهور فتحها‏.‏

قال‏:‏ وإنما قال يحزنه لأنه قد يتوهم أن نجواها إنما هي لسوء رأيهما فيه أو لدسيسة غائلة له‏.‏

قلت‏:‏ ويؤخذ من التعليل استثناء صورة مما تقدم عن ابن عمر من إطلاق الجواز إذا كانوا أربعة، وهي مما لو كان بين الواحد الباقي وبين الاثنين مقاطعة بسبب يعذران به أو أحدهما فإنه يصير في معنى المنفرد، وأرشد هذا التعليل إلى أن المناجى إذا كان ممن إذا خص أحدا بمناجاته أحزن الباقين امتناع ذلك، إلا أن يكون في أمر مهم لا يقدح في الدين‏.‏

وقد نقل ابن بطال عن أشهب عن مالك قال‏:‏ لا يتناجى ثلاثة دون واحد ولا عشرة لأنه قد نهى أن يترك واحدا قال‏:‏ وهذا مستنبط من حديث الباب، لأن المعنى في ترك الجماعة للواحد كترك الاثنين للواحد، قال‏:‏ وهذا من حسن الأدب لئلا يتباغضوا ويتقاطعوا‏.‏

وقال المازري ومن تبعه‏:‏ لا فرق في المعنى بين الاثنين والجماعة لوجود المعنى في حق الواحد، زاد القرطبي‏:‏ بل وجوده في العدد الكثير أمكن وأشد، فليكن المنع أولى، وإنما خص الثلاثة بالذكر لأنه أول عدد يتصور فيه ذلك المعنى، فمهما وجد المعنى فيه ألحق به في الحكم‏.‏

قال ابن بطال‏:‏ وكلما كثر الجماعة مع الذي لا يناجى كان أبعد لحصول الحزن ووجود التهمة، فيكون أولى‏.‏

واختلف فيما إذا انفرد جماعة بالتناجي دون جماعة، قال ابن التين‏:‏ وحديث عائشة في قصة فاطمة دال على الجواز‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا عَبْدَانُ عَنْ أَبِي حَمْزَةَ عَنْ الْأَعْمَشِ عَنْ شَقِيقٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ قَسَمَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمًا قِسْمَةً فَقَالَ رَجُلٌ مِنْ الْأَنْصَارِ إِنَّ هَذِهِ لَقِسْمَةٌ مَا أُرِيدَ بِهَا وَجْهُ اللَّهِ قُلْتُ أَمَا وَاللَّهِ لَآتِيَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَتَيْتُهُ وَهُوَ فِي مَلَإٍ فَسَارَرْتُهُ فَغَضِبَ حَتَّى احْمَرَّ وَجْهُهُ ثُمَّ قَالَ رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَى مُوسَى أُوذِيَ بِأَكْثَرَ مِنْ هَذَا فَصَبَرَ

الشرح‏:‏

حديث ابن مسعود في قصة الذي قال ‏"‏ هذه قسمة ما أريد بها وجه الله ‏"‏ والمراد منه قول ابن مسعود ‏"‏ فأتيته وهو في ملأ فساررته ‏"‏ فإن في ذلك دلالة على أن المنع يرتفع إذا بقي جماعة لا يتأذون بالسرار، ويستثنى من أصل الحكم ما إذا أذن من يبقى سواء كان واحدا أم أكثر للاثنين في التناجي دونه أو دونهم فإن المنع يرتفع لكونه حق من يبقى، وأما إذا انتجى اثنان ابتداء وثم ثالث كان بحيث لا يسمع كلامهما لو تكلما جهرا فأتى ليستمع عليهما فلا يجوز كما لو لم يكن حاضرا معهما أصلا‏.‏

وقد أخرج المصنف في ‏"‏ الأدب المفرد ‏"‏ من رواية سعيد المقبري قال ‏"‏ مررت على ابن عمر ومعه رجل يتحدث فقمت إليهما، فلطم صدري وقال‏:‏ إذا وجدت اثنين يتحدثان فلا تقم معهما حتى تستأذنهما ‏"‏ زاد أحمد في روايته من وجه آخر عن سعيد ‏"‏ وقال‏:‏ أما سمعت أن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ إذا تناجى اثنان فلا يدخل معهما غيرهما حتى يستأذنهما ‏"‏ قال ابن عبد البر‏:‏ لا يجوز لأحد أن يدخل على المتناجيين في حال تناجيهما‏.‏

قلت‏:‏ ولا ينبغي لداخل القعود عندهما ولو تباعد عنهما إلا بإذنهما، لما افتتحا حديثهما سرا وليس عندهما أحد دل على أن مرادهما ألا يطلع أحد على كلامهما‏.‏

ويتأكد ذلك إذا كان صوت أحدهما جهوريا لا يتأتى له إخفاء كلامه ممن حضره، وقد يكون لبعض الناس قوة فهم بحيث إذا سمع بعض الكلام استدل به على باقيه، فالمحافظة على ترك ما يؤذي المؤمن مطلوبة وإن تفاوتت المراتب‏.‏

وقد أخرج سفيان بن عيينة في جامعه عن يحيى بن سعيد عن القاسم بن محمد قال ‏"‏ قال ابن عمر في زمن الفتنة‏:‏ ألا ترون القتل شيئا ورسول الله صلى الله عليه وسلم يقول ‏"‏ فذكر حديث الباب وزاد في آخره ‏"‏ تعظيما لحرمة المسلم ‏"‏ وأظن هذه الزيادة من كلام ابن عمر استنبطها من الحديث‏.‏

فأدرجت في الخبر والله أعلم‏.‏

قال النووي‏:‏ النهي في الحديث للتحريم إذا كان بغير رضاه‏.‏

وقال في موضع آخر‏:‏ إلا بإذنه أي صريحا كان أو غير صريح، والإذن أخص من الرضا لأن الرضا قد يعلم بالقرينة فيكتفي بها عن التصريح، والرضا أخص من الإذن من وجه آخر لأن الإذن قد يقع مع الإكراه ونحوه، والرضا لا يطلع على حقيقته، لكن الحكم لا يناط إلا بالإذن الدال على الرضا، وظاهر الإطلاق أنه لا فرق في ذلك بين الحضر والسفر وهو قول الجمهور، وحكى الخطابي عن أبي عبيد بن حربويه أنه قال‏:‏ هو مختص بالسفر في الموضع الذي لا يأمن فيه الرجل على نفسه، فأما في الحضر وفي العمارة فلا بأس‏.‏

وحكى عياض نحوه ولفظه‏:‏ قيل إن المراد بهذا الحديث السفر والمواضع التي لا يأمن فيها الرجل رفيقه أو لا يعرفه أو لا يثق به ويخشى منه، قال‏:‏ وقد روى في ذلك أثر، وأشار بذلك إلى ما أخرجه أحمد من طريق أبي سالم الجيشاني عن عبد الله بن عمرو أن النبي صلى الله عليه وسلم قال ‏"‏ ولا يحل لثلاثة نفر يكونون بأرض فلاة أن يتناجى اثنان دون صاحبهما ‏"‏ الحديث، وفي سنده ابن لهيعة، وعلى تقدير ثبوته فتقييده بأرض الفلاة يتعلق بإحدى علتي النهي‏.‏

قال الخطابي إنما قال يحزنه لأنه إما أن يتوهم أن نجواهما إنما هي لسوء رأيهما فيه، أو أنهما يتفقان على غائلة تحصل له منهما‏.‏

قلت‏:‏ فحديث الباب يتعلق بالمعنى الأول، وحديث عبد الله بن عمرو يتعلق بالثاني؛ وعلى هذا المعنى عول ابن حربويه وكأنه ما استحضر الحديث الأول‏.‏

قال عياض‏:‏ قيل كان هذا في أول الإسلام، فلما فشا الإسلام وأمن الناس سقط هذا الحكم، وتعقبه القرطبي بأن هذا تحكم وتخصيص لا دليل عليه‏.‏

وقال ابن العربي‏:‏ الخبر عام اللفظ والمعنى، والعلة الحزن وهي موجودة في السفر والحضر، فوجب أن يعمهما النهي جميعا‏.‏

*3*باب طُولِ النَّجْوَى

وَقَوْلُهُ وَإِذْ هُمْ نَجْوَى مَصْدَرٌ مِنْ نَاجَيْتُ فَوَصَفَهُمْ بِهَا وَالْمَعْنَى يَتَنَاجَوْنَ

الشرح‏:‏

قوله ‏(‏باب طول النجوى ‏(‏وإذ هم نجوى‏)‏ مصدر من ناجيت فوصفهم بها والمعنى يتناجون‏)‏ هذا التفسير في رواية المستملى وحده، وقد تقدم بيانه في تفسير الآية في سورة ‏"‏ سبحان‏"‏، وتقدم منه أيضا في تفسير سورة يوسف في قوله تعالى ‏(‏خلصوا نجيا‏)‏ ‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ عَبْدِ الْعَزِيزِ عَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ أُقِيمَتْ الصَّلَاةُ وَرَجُلٌ يُنَاجِي رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَمَا زَالَ يُنَاجِيهِ حَتَّى نَامَ أَصْحَابُهُ ثُمَّ قَامَ فَصَلَّى

الشرح‏:‏

حديث أنس ‏"‏ أقيمت الصلاة ورجل يناجي النبي صلى الله عليه وسلم ‏"‏ الحديث وعبد العزيز راويه عن أنس هو ابن صهيب، وقد تقدم شرح الحديث مستوفى في ‏"‏ باب الإمام تعرض له الحاجة ‏"‏ وهو قبيل صلاة الجماعة‏.‏

قوله ‏(‏حتى نام أصحابه‏)‏ تقدم هناك بلفظ ‏"‏ حتى نام بعض القوم ‏"‏ فيحمل الإطلاق في حديث الباب على ذلك‏.‏

*3*باب لَا تُتْرَكُ النَّارُ فِي الْبَيْتِ عِنْدَ النَّوْمِ

الشرح‏:‏

قوله ‏(‏باب لا تترك النار في البيت عند النوم‏)‏ بضم أول ‏"‏ تترك ‏"‏ ومثناة فوقانية على البناء للمجهول وبفتحة ومثناة تحتانية بصيغة النهي المفرد‏.‏

ذكر فيه ثلاثة أحاديث‏:‏ الأول حديث ابن عمر في النهي عن ذلك‏.‏

الثاني حديث أبي موسى وفيه بيان حكمة النهي وهي خشية الاحتراق‏.‏

الثالث حديث جابر وفيه بيان علة الخشية المذكورة‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا أَبُو نُعَيْمٍ حَدَّثَنَا ابْنُ عُيَيْنَةَ عَنْ الزُّهْرِيِّ عَنْ سَالِمٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لَا تَتْرُكُوا النَّارَ فِي بُيُوتِكُمْ حِينَ تَنَامُونَ

الشرح‏:‏

فأما حديث ابن عمر فقوله في السند ‏"‏ ابن عيينة عن الزهري ‏"‏ وقع في رواية الحميدي ‏"‏ عن سفيان حدثنا الزهري ‏"‏ وقوله ‏"‏ حين ينامون ‏"‏ قيده بالنوم لحصول الغفلة به غالبا، ويستنبط منه أنه متى وجدت الغفلة حصل النهي‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْعَلَاءِ حَدَّثَنَا أَبُو أُسَامَةَ عَنْ بُرَيْدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ عَنْ أَبِي بُرْدَةَ عَنْ أَبِي مُوسَى رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ احْتَرَقَ بَيْتٌ بِالْمَدِينَةِ عَلَى أَهْلِهِ مِنْ اللَّيْلِ فَحُدِّثَ بِشَأْنِهِمْ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ إِنَّ هَذِهِ النَّارَ إِنَّمَا هِيَ عَدُوٌّ لَكُمْ فَإِذَا نِمْتُمْ فَأَطْفِئُوهَا عَنْكُمْ

الشرح‏:‏

وأما حديث أبي موسى فقوله ‏"‏ احترق بيت بالمدينة على أهله ‏"‏ لم أقف على تسميتهم، قال ابن دقيق العيد‏:‏ يؤخذ من حديث أبي موسى سبب الأمر في حديث جابر بإطفاء المصابيح، وهو فن حسن غريب، ولو تتبع لحصل منه فوائد‏.‏

قلت‏:‏ قد أفرده أبو حفص العكبري من شيوخ أبي يعلى بن الفراء بالتصنيف وهو في المائة الخامسة، ووقفت على مختصر منه، وكأن الشيخ ما وقف عليه فلذلك تمنى أن لو تتبع، وقوله ‏"‏إن هذه النار إنما هي عدو لكم ‏"‏ هكذا أورده بصيغة الحصر مبالغة في تأكيد ذلك، قال ابن العربي‏:‏ معنى كون النار عدوا لنا أنها تنافي أبداننا وأموالنا منافاة العدو، وإن كانت لنا بها منفعة، لكن لا يحصل لنا منها إلا بواسطة، فأطلق أنها عدو لنا لوجود معنى العداوة فيها والله أعلم‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ حَدَّثَنَا حَمَّادٌ عَنْ كَثِيرٍ هُوَ ابْنُ شِنْظِيرٍ عَنْ عَطَاءٍ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَمِّرُوا الْآنِيَةَ وَأَجِيفُوا الْأَبْوَابَ وَأَطْفِئُوا الْمَصَابِيحَ فَإِنَّ الْفُوَيْسِقَةَ رُبَّمَا جَرَّتْ الْفَتِيلَةَ فَأَحْرَقَتْ أَهْلَ الْبَيْتِ

الشرح‏:‏

وأما حديث جابر فقوله في السند ‏"‏ كثير ‏"‏ كذا للأكثر غير منسوب، زاد أبو ذر في روايته ‏"‏ هو ابن شنظير ‏"‏ وهو كذلك، وشنظير بكسر الشين والظاء المعجمتين بينهما نون ساكنة تقدم ضبطه والكلام عليه في ‏"‏ باب ذكر الجن ‏"‏ من كتاب بدء الخلق وشرح حديثه هذا وأنه ليس له في الصحيح غير هذا الحديث، ووقع في رجال الصحيح للكلاباذي أن البخاري أخرج له أيضا في ‏"‏ باب استعانة اليد في الصلاة ‏"‏ فراجعت الباب المذكور من الصحيح وهو قبيل كتاب الجنائز فما وجدت له هناك ذكرا‏.‏

ثم وجدت له بعد الباب المذكور بأحد عشر بابا حديثا آخر بسنده هذا وقد نبهت عليه في ‏"‏ باب ذكر الجن ‏"‏ والشنظير في اللغة السيئ الخلق، وكثير المذكور يكنى أبا قرة وهو بصري‏.‏

وقال القرطبي‏:‏ الأمر والنهي في هذا الحديث للإرشاد، قال‏:‏ وقد يكون للندب، وجزم النووي بأنه للإرشاد لكونه لمصلحة دنيوية، وتعقب بأنه قد يفضي إلى مصلحة دينية وهي حفظ النفس المحرم قتلها والمال المحرم تبذيره‏.‏

وقال القرطبي‏:‏ في هذه الأحاديث أن الواحد إذا بات ببيت ليس فيه غيره وفيه نار فعليه أن يطفئها قبل نومه أو يفعل بها ما يؤمن معه الاحتراق، وكذا إن كان في البيت جماعة فإنه يتعين على بعضهم وأحقهم بذلك آخرهم نوما، فمن فرط في ذلك كان للسنة مخالفا ولأدائها تاركا‏.‏

ثم أخرج الحديث الذي أخرجه أبو داود وصححه ابن حبان والحاكم من طريق عكرمة عن ابن عباس قال ‏"‏ جاءت فأرة فجرت الفتيلة فألقتها بين يدي النبي صلى الله عليه وسلم على الخمرة التي كان قاعدا عليها فأحرقت منها مثل موضع الدرهم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ إذا نمتم فأطفئوا سراجكم فإن الشيطان يدل مثل هذه على هذا فيحرقكم ‏"‏ وفي هذا الحديث بيان سبب الأمر أيضا وبيان الحامل للفويسقة - وهي الفأرة - على جر الفتيلة وهو الشيطان، فيستعين وهو عدو الإنسان عليه بعدو آخر وهي النار، أعاذنا الله بكرمه من كيد الأعداء إنه رءوف رحيم‏.‏

وقال ابن دقيق العيد‏:‏ إذا كانت العلة في إطفاء السراج الحذر من جر الفويسقة الفتيلة فمقتضاه أن السراج إذا كان على هيئة لا تصل إليها الفأرة لا يمنع إيقاده، كما لو كان على منارة من نحاس أملس لا يمكن الفأرة الصعود إليه، أو يكون مكانه بعيدا عن موضع يمكنها أن تثب منه إلى السراج‏.‏

قال‏:‏ وأما ورود الأمر بإطفاء النار مطلقا كما في حديثي ابن عمر وأبي موسى - وهو أعم من نار السراج - فقد يتطرق منه مفسدة أخرى غير جر الفتيلة كسقوط شيء من السراج على بعض متاع البيت، وكسقوط المنارة فينثر السراج إلى شيء من المتاع فيحرقه، فيحتاج إلى الاستيثاق من ذلك، فإذا استوثق بحيث يؤمن معه الإحراق فيزول الحكم بزوال علته‏.‏

قلت‏:‏ وقد صرح النووي بذلك في القنديل مثلا لأنه يؤمن معه الضرر الذي لا يؤمن مثله في السراج‏.‏

وقال ابن دقيق العيد أيضا‏:‏ هذه الأوامر لم يحملها الأكثر على الوجوب، ويلزم أهل الظاهر حملها عليه، قال‏:‏ وهذا لا يختص بالظاهري بل الحمل على الظاهر إلا لمعارض ظاهر يقول به أهل القياس، وإن كان أهل الظاهر أولى بالالتزام به لكونهم لا يلتفتون إلى المفهومات والمناسبات، وهذه الأوامر تتنوع بحسب مقاصدها‏:‏ فمنها ما يحمل على الندب وهو التسمية على كل حال، ومنها ما يحمل على الندب والإرشاد معا كإغلاق الأبواب من أجل التعليل بأن الشيطان لا يفتح بابا مغلقا، لأن الاحتراز من مخالطة الشيطان مندوب إليه وإن كان تحته مصالح دنيوية كالحراسة، وكذا إيكاء السقاء وتخمير الإناء‏.‏

والله أعلم‏.‏

*3*باب إِغْلَاقِ الْأَبْوَابِ بِاللَّيْلِ

الشرح‏:‏

قوله ‏(‏باب غلق الأبواب بالليل‏)‏ في رواية الأصيلي والجرجاني وكذا لكريمة عن الكشميهني ‏"‏ إغلاق ‏"‏ وهو الفصيح‏.‏

وقال عياض هو الصواب‏.‏

قلت‏:‏ لكن الأول ثبت في لغة نادرة‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا حَسَّانُ بْنُ أَبِي عَبَّادٍ حَدَّثَنَا هَمَّامٌ حَدَّثَنَا عَطَاءٌ عَنْ جَابِرٍ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَطْفِئُوا الْمَصَابِيحَ بِاللَّيْلِ إِذَا رَقَدْتُمْ وَغَلِّقُوا الْأَبْوَابَ وَأَوْكُوا الْأَسْقِيَةَ وَخَمِّرُوا الطَّعَامَ وَالشَّرَابَ قَالَ هَمَّامٌ وَأَحْسِبُهُ قَالَ وَلَوْ بِعُودٍ يَعْرُضُهُ

الشرح‏:‏

قوله ‏(‏همام‏)‏ هو ابن يحيى، وعطاء هو ابن أبي رباح‏.‏

قوله ‏(‏أطفئوا المصابيح بالليل‏)‏ تقدم شرحه في الذي قبله‏.‏

قوله ‏(‏وأغلقوا الأبواب‏)‏ في رواية المستملي والسرخسي ‏"‏ وغلقوا ‏"‏ بتشديد اللام، وتقدم في الباب الذي قبله بلفظ ‏"‏ أجيفوا ‏"‏ بالجيم والفاء وهي بمعنى أغلقوا وتقدم شرحها في ‏"‏ باب ذكر الجن ‏"‏ وكذا بقية الحديث‏.‏

قال ابن دقيق العيد‏:‏ في الأمر بإغلاق الأبواب من المصالح الدينية والدنيوية حراسة الأنفس والأموال من أهل العبث والفساد ولا سيما الشياطين، وأما قوله ‏"‏ فإن الشيطان لا يفتح بابا مغلقا ‏"‏ فإشارة إلى أن الأمر بالإغلاق لمصلحة إبعاد الشيطان عن الاختلاط بالإنسان، وخصه بالتعليل تنبيها على ما يخفى مما لا يطلع عليه إلا من جانب النبوة، قال‏:‏ واللام في الشيطان للجنس إذ ليس المراد فردا بعينه، وقوله في هذه الرواية ‏"‏ وخمروا الطعام والشراب ‏"‏ قال همام‏:‏ وأحسبه قال ‏"‏ ولو بعود يعرضه ‏"‏ وهو بضم الراء بعدها ضاد معجمة، وقد تقدم الجزم بذلك عن عطاء في رواية ابن جريج في الباب المذكور، ولفظه ‏"‏ وخمر إناءك ولو بعود تعرضه عليه ‏"‏ وزاد في كل من الأوامر المذكورة ‏"‏ واذكر اسم الله تعالى ‏"‏ وتقدم في ‏"‏ باب شرب اللبن ‏"‏ من كتاب الأشربة بيان الحكمة في ذلك، وقد حمله ابن بطال على عمومه وأشار إلى استشكاله فقال‏:‏ أخبر صلى الله عليه وسلم أن الشيطان لم يعط قوة على شيء من ذلك، وإن كان أعطى ما هو أعظم منه وهو ولوجه في الأماكن التي لا يقدر الآدمي أن يلج فيها‏.‏

قلت‏:‏ والزيادة التي أشرت إليها قبل ترفع الإشكال، وهو أن ذكر اسم الله يحول بينه وبين فعل هذه الأشياء‏.‏

ومقتضاه أنه يتمكن من كل ذلك إذا لم يذكر اسم الله، ويؤيده ما أخرجه مسلم والأربعة عن جابر رفعه ‏"‏ إذا دخل الرجل بيته فذكر الله عند دخوله وعند طعامه قال الشيطان‏:‏ لا مبيت لكم ولا عشاء، وإذا دخل فلم يذكر الله عند دخوله قال الشيطان‏:‏ أدركتم ‏"‏ وقد تردد ابن دقيق العيد في ذلك فقال في شرح الإمام‏:‏ يحتمل أن يؤخذ قوله ‏"‏ فإن الشيطان لا يفتح بابا مغلقا ‏"‏ على عمومه، ويحتمل أن يخص بما ذكر اسم الله عليه، ويحتمل أن يكون المنع لأمر يتعلق بجسمه، ويحتمل أن يكون لمانع من الله بأمر خارج عن جسمه، قال‏:‏ والحديث يدل على منع دخول الشيطان الخارج، فأما الشيطان الذي كان داخلا فلا يدل الخبر على خروجه، قال‏:‏ فيكون ذلك لتخفيف المفسدة لا رفعها، ويحتمل أن تكون التسمية عند الإغلاق تقتضي طرد من في البيت من الشياطين، وعلى هذا فينبغي أن تكون التسمية من ابتداء الإغلاق إلى تمامه‏.‏

واستنبط منه بعضهم مشروعية غلق الفم عند التثاؤب لدخوله في عموم الأبواب مجازا‏.‏