فصل: باب هَلْ تُكْسَرُ الدِّنَانُ الَّتِي فِيهَا الْخَمْرُ أَوْ تُخَرَّقُ الزِّقَاقُ

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: فتح الباري شرح صحيح البخاري **


*3*باب هَلْ تُكْسَرُ الدِّنَانُ الَّتِي فِيهَا الْخَمْرُ أَوْ تُخَرَّقُ الزِّقَاقُ

فَإِنْ كَسَرَ صَنَمًا أَوْ صَلِيبًا أَوْ طُنْبُورًا أَوْ مَا لَا يُنْتَفَعُ بِخَشَبِهِ وَأُتِيَ شُرَيْحٌ فِي طُنْبُورٍ كُسِرَ فَلَمْ يَقْضِ فِيهِ بِشَيْءٍ

الشرح‏:‏

قوله‏:‏ ‏(‏باب هل تكسر الدنان التي فيها خمر أو تخرق الزقاق‏)‏ لم يبين الحكم، لأن المعتمد فيه التفصيل‏:‏ فإن كانت الأوعية بحيث يراق ما فيها وإذا غسلت طهرت وانتفع بها لم يحز إتلافها وإلا جاز، وكأنه أشار بكسر الدنان إلى ما أخرجه الترمذي عن أبي طلحة قال‏:‏ ‏"‏ يا نبي الله اشتريت خمرا لأيتام في حجري‏.‏

قال‏:‏ أهرق الخمر وكسر الدنان ‏"‏ وأشار بتخريق الزقاق إلى ما أخرجه أحمد عن ابن عمر قال‏:‏ ‏"‏ أخذ النبي صلى الله عليه وسلم شفرة وخرج إلى السوق وبها زقاق خمر جلبت من الشام فشق بها ما كان من تلك الزقاق ‏"‏ فأشار المصنف إلى أن الحديثين إن ثبتا فإنما أمر بكسر الدنان وشق الزقاق عقوبة لأصحابها، وإلا فالانتفاع بها بعد تطهيرها ممكن كما دل عليه حديث سلمة أول أحاديث الباب‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏فإن كسر صنما أو صليبا أو طنبورا أو ما لا ينتفع بخشبه‏)‏ أي هل يضمن أم لا‏؟‏ أما الصنم والصليب فمعروفان يتخذان من خشب ومن حديد ومن نحاس وغير ذلك، وأما الطنبور فهو بضم الطاء والموحدة بينهما نون سكنة آلة من آلات الملاهي معروفة وقد تفتح طاؤه، وأما ما لا ينتفع بخشبه فبينه وبين ما تقدم خصوص وعموم وقال الكرماني‏:‏ المعنى أو كسر شيئا لا يجوز الانتفاع بخشبة قبل الكسر كآلة الملاهي، يعني فيكون من العام بعد الخاص، قال‏:‏ ويحتمل أن يكون ‏"‏ أو ‏"‏ بمعنى حتى، أي كسر ما ذكر إلى حد لا ينتفع بخشبه، أو هو عطف على محذوف تقديره كسر كسرا لا ينتفع بخشبه ولا ينتفع به بعد الكسر‏.‏

قلت‏:‏ ولا يخفى تكلف هذا الأخير وبعد الذي قبله‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏وأتي شريح في طنبور كسر فلم يقض فيه بشيء‏)‏ أي لم يضمن صاحبه، وقد وصله ابن أبي شيبة من طريق أبي حصين بفتح أوله بلفظ ‏"‏ أن رجلا كسر طنبورا لرجل فرفعه إلى شريح فلم يضمنه شيئا ‏"‏ ثم أورد المصنف في الباب ثلاثة أحاديث‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا أَبُو عَاصِمٍ الضَّحَّاكُ بْنُ مَخْلَدٍ عَنْ يَزِيدَ بْنِ أَبِي عُبَيْدٍ عَنْ سَلَمَةَ بْنِ الْأَكْوَعِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَأَى نِيرَانًا تُوقَدُ يَوْمَ خَيْبَرَ قَالَ عَلَى مَا تُوقَدُ هَذِهِ النِّيرَانُ قَالُوا عَلَى الْحُمُرِ الْإِنْسِيَّةِ قَالَ اكْسِرُوهَا وَأَهْرِقُوهَا قَالُوا أَلَا نُهَرِيقُهَا وَنَغْسِلُهَا قَالَ اغْسِلُوا قَالَ أَبُو عَبْد اللَّهِ كَانَ ابْنُ أَبِي أُوَيْسٍ يَقُولُ الْحُمُرِ الْأَنْسِيَّةِ بِنَصْبِ الْأَلِفِ وَالنُّونِ

الشرح‏:‏

حديث سلمة بن الأكوع في غسل القدور التي طبخت فيها الخمر، وسيأتي الكلام عليه مستوفى في كتاب الذبائح إن شاء الله تعالى‏.‏

وهو يساعد ما أشرت إليه في الترجمة من التفصيل‏.‏

قال ابن الجوزي‏:‏ أراد التغليظ عليهم في طبخهم ما نهي عن أكله، فلما رأى إذعانهم اقتصر على غسل الأواني، وفيه رد على من زعم أن دنان الخمر لا سبيل إلى تطهيرها لما يداخلها من الخمر، فإن الذي داخل القدور من الماء الذي طبخت به الخمر يطهره، وقد أذن صلى الله عليه وسلم في غسلها فدل على إمكان تطهيرها‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏قال أبو عبد الله‏)‏ هو المصنف ‏(‏كان ابن أبي أويس‏)‏ يعني شيخه إسماعيل‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏الأنسية بنصب الألف والنون‏)‏ يعني أنها نسبت إلى الأنس بالفتح ضد الوحشة تقول أنسته أنسة وأنسا بإسكان النون وفتحها، والمشهور في الروايات بكسر الهمزة وسكون النون نسبة إلى الإنس أي بني آدم تألفهم وهي ضد الوحشية‏.‏

‏(‏تنبيه‏)‏ ‏:‏ ثبت هذا التفسير لأبي ذر وحده، وتعبيره عن الهمزة بالألف وعن الفتح بالنصب جائز عند المتقدمين، وإن كان الاصطلاح أخيرا قد استقر على خلافه فلا يبادر إلى إنكاره‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي نَجِيحٍ عَنْ مُجَاهِدٍ عَنْ أَبِي مَعْمَرٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ دَخَلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَكَّةَ وَحَوْلَ الْكَعْبَةِ ثَلَاثُ مِائَةٍ وَسِتُّونَ نُصُبًا فَجَعَلَ يَطْعُنُهَا بِعُودٍ فِي يَدِهِ وَجَعَلَ يَقُولُ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ الْآيَةَ

الشرح‏:‏

حديث ابن مسعود في طعن الأصنام، وسيأتي الكلام عليه في غزوة الفتح‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏يطعنها‏)‏ بفتح العين وبضمها، قال الطبري‏:‏ في حديث ابن مسعود جواز كسر الآت الباطل وما لا يصلح إلا في المعصية حتى تزول هيئتها وينتفع برضاضها‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ الْمُنْذِرِ حَدَّثَنَا أَنَسُ بْنُ عِيَاضٍ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْقَاسِمِ عَنْ أَبِيهِ الْقَاسِمِ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّهَا كَانَتْ اتَّخَذَتْ عَلَى سَهْوَةٍ لَهَا سِتْرًا فِيهِ تَمَاثِيلُ فَهَتَكَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَاتَّخَذَتْ مِنْهُ نُمْرُقَتَيْنِ فَكَانَتَا فِي الْبَيْتِ يَجْلِسُ عَلَيْهِمَا

الشرح‏:‏

حديث عائشة في هتك الستر الذي فيه التماثيل، وسيأتي الكلام عليه في اللباس ونذكر فيه وجه الجمع بين قولها هنا ‏"‏ كان النبي صلى الله عليه وسلم يتكئ عليها ‏"‏ وبين قولها في الطريق الأخرى ‏"‏ ما بال هذه النمرقة‏؟‏ قلت‏:‏ اشتريتها لتوسدها‏.‏

قال‏:‏ إن البيت الذي فيه الصورة لا تدخله الملائكة‏"‏‏.‏

والسهوة بفتح المهملة وسكون الهاء صفة وقيل خزانة وقيل رف وقيل طاق يوضع فيه الشيء‏.‏

قال ابن التين‏:‏ قولها‏:‏ ‏"‏ فهتكه ‏"‏ أي شقه، كذا قال، والذي يظهر أنه نزعه، ثم هي بعد ذلك قطعته كما سيأتي توضيحه إن شاء الله تعالى‏.‏

*3*باب مَنْ قَاتَلَ دُونَ مَالِهِ

الشرح‏:‏

قوله‏:‏ ‏(‏باب من قاتل دون ماله‏)‏ أي ما حكمه‏؟‏ قال القرطبي‏:‏ ‏"‏ دون ‏"‏ في أصلها ظرف مكان بمعنى تحت، وتستعمل للسببية على المجاز، ووجهه أن الذي يقاتل عن ماله غالبا إنما يجعله خلفه أو تحته ثم يقاتل عليه‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يَزِيدَ حَدَّثَنَا سَعِيدٌ هُوَ ابْنُ أَبِي أَيُّوبَ قَالَ حَدَّثَنِي أَبُو الْأَسْوَدِ عَنْ عِكْرِمَةَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ سَمِعْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ مَنْ قُتِلَ دُونَ مَالِهِ فَهُوَ شَهِيدٌ

الشرح‏:‏

قوله‏:‏ ‏(‏حدثنا عبد الله بن يزيد‏)‏ هو المقرئ وأبو الأسود هو محمد بن عبد الرحمن بن نوفل الأسدي، ووقع منسوبا هكذا عند الإسماعيلي‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏عن عكرمة‏)‏ في رواية الطبري عن أبي الأسود ‏"‏ أن عكرمة أخبره ‏"‏ وليس لعكرمة عن عبد الله بن عمرو وهو ابن العاص في صحيح البخاري غير هذا الحديث الواحد‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏من قتل دون ماله فهو شهيد‏)‏ قال الإسماعيلي وكذا أخرجه البخاري‏.‏

وكأنه كتبه من حفظه أو حدث به المقرئ من حفظه فجاء به على اللفظ المشهور، وإلا فقد رواه الجماعة عن المقرئ بلفظ ‏"‏ من قتل دون ماله مظلوما فله الجنة ‏"‏ قال‏:‏ ومن أتى به على غير اللفظ الذي اعتيد فهو أولى بالحفظ ولا سيما وفيهم مثل دحيم، وكذلك ما زادوه من قوله‏:‏ ‏"‏ مظلوما ‏"‏ فإنه لا بد من هذا القيد‏.‏

وساقه من طريق دحيم وابن أبي عمر وعبد العزيز بن سلام، قلت‏:‏ وكذلك أخرجه النسائي عن عبيد الله بن فضالة عن المقرئ، وكذلك رواه حيوة بن شريح عن أبي الأسود بهذا اللفظ أخرجه الطبري‏.‏

نعم للحديث طريق أخرى عن عكرمة أخرجها النسائي باللفظ المشهور، وأخرجه مسلم كذلك من طريق ثابت بن عياض عن عبد الله بن عمرو، وفي روايته قصة قال‏:‏ ‏"‏ لما كان بين عبد الله بن عمرو وبين عنبسة بن أبي سفيان ما كان - يشير للقتال - فركب خالد بن العاص إلى عبد الله بن عمرو فوعظه، فقال عبد الله بن عمرو‏:‏ أما علمت‏.‏

‏"‏ فذكر الحديث، وأشار بقوله‏:‏ ‏"‏ ما كان ‏"‏ إلى ما بينه حيوة في روايته المشار إليها فإن أولها ‏"‏ أن عاملا لمعاوية أجرى عينا من ماء ليسقي بها أرضا، فدنا من حائط لآل عمرو بن العاص فأراد أن يخرجه ليجري العين منه إلى الأرض، فأقبل عبد الله بن عمرو ومواليه بالسلاح وقالوا‏:‏ والله لا تخرقون حائطنا حتى لا يبقى منا أحد ‏"‏ فذكر الحديث، والعامل المذكور هو عنبسة بن أبي سفيان كما ظهر من رواية مسلم، وكان عاملا لأخيه على مكة والطائف، والأرض المذكورة كانت بالطائف، وامتناع عبد الله بن عمرو من ذلك لما يدخل عليه من الضرر فلا حجة فيه لمن عارض به حديث أبي هريرة فيمن أراد أن يضع جذعه على جدار جاره والله أعلم‏.‏

وأخرجه النسائي من وجهين آخرين، وأبو داود والترمذي من وجه آخر كلهم عن عبيد الله بن عمرو باللفظ المشهور‏.‏

وفي رواية لأبي داود والترمذي ‏"‏ من أريد ماله بغير حق فقاتل فقتل فهو شهيد ‏"‏ ولابن ماجة من حديث ابن عمر نحوه، وكأن البخاري أشار إلى ذلك في الترجمة لتعبيره بلفظ ‏"‏ قاتل ‏"‏ وروى الترمذي وبقية أصحاب السنن من حديث سعيد بن زيد نحوه وفيه ذكر الأهل والدم والدين، وفي حديث أبي هريرة عند ابن ماجة ‏"‏ من أريد ماله ظلما فقتل فهو شهيد ‏"‏ قال النووي‏:‏ فيه جواز قتل من قصد أخذ المال بغير حق سواء كان المال قليلا أو كثيرا وهو قول الجمهور، وشذ من أوجبه‏.‏

وقال بعض المالكية‏:‏ لا يجوز إذا طلب الشيء الخفيف‏.‏

قال القرطبي‏:‏ سبب الخلاف عندنا هل الإذن في ذلك من باب تغيير المنكر فلا يفترق الحال بين القليل والكثير، أو من باب دفع الضرر فيختلف الحال‏؟‏ وحكى ابن المنذر عن الشافعي قال‏:‏ من أريد ماله أو نفسه أو حريمه فله الاختيار أن يكلمه أو يستغيث، فإن منع أو امتنع لم يكن له قتاله وإلا فله أن يدفعه عن ذلك ولو أتى على نفسه، وليس عليه عقل ولا دية ولا كفارة، لكن ليس له عمد قتله‏.‏

قال ابن المنذر‏:‏ والذي عليه أهل العلم أن للرجل أن يدفع عما ذكر إذا أريد ظلما بغير تفصيل، إلا أن كل من يحفظ عنه من علماء الحديث المجمعين على استثناء السلطان للآثار الواردة بالأمر بالصبر على جوره وترك القيام عليه‏.‏

وفرق الأوزاعي بين الحال التي للناس فيها جماعة وإمام فحمل الحديث عليها، وأما في حبال الاختلاف والفرقة فليستسلم ولا يقاتل أحدا‏.‏

ويرد عليه ما وقع في حديث أبي هريرة عند مسلم بلفظ ‏"‏ أرأيت إن جاء رجل يريد أخذ مالي‏؟‏ قال‏:‏ فلا تعطه‏.‏

قال‏:‏ أرأيت أن قاتلني‏؟‏ قال‏:‏ فاقتله‏.‏

قال‏:‏ أرأيت أن قتلني‏؟‏ قال‏:‏ فأنت شهيد‏.‏

قال أرأيت أن قتلته‏؟‏ قال‏:‏ فهو في النار ‏"‏ قال ابن بطال‏:‏ إنما أدخل البخاري هذه الترجمة في هذه الأبواب ليبين أن للإنسان أن يدفع عن نفسه وماله ولا شيء عليه، فإنه إذا كان شهيدا إذا قتل في ذلك فلا قود عليه ولا دية إذا كان هو القاتل‏.‏

*3*باب إِذَا كَسَرَ قَصْعَةً أَوْ شَيْئًا لِغَيْرِهِ

الشرح‏:‏

قوله‏:‏ ‏(‏باب إذا كسر قصعة أو شيئا لغيره‏)‏ أي هل يضمن المثل أو القيمة‏؟‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ عَنْ حُمَيْدٍ عَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ عِنْدَ بَعْضِ نِسَائِهِ فَأَرْسَلَتْ إِحْدَى أُمَّهَاتِ الْمُؤْمِنِينَ مَعَ خَادِمٍ بِقَصْعَةٍ فِيهَا طَعَامٌ فَضَرَبَتْ بِيَدِهَا فَكَسَرَتْ الْقَصْعَةَ فَضَمَّهَا وَجَعَلَ فِيهَا الطَّعَامَ وَقَالَ كُلُوا وَحَبَسَ الرَّسُولَ وَالْقَصْعَةَ حَتَّى فَرَغُوا فَدَفَعَ الْقَصْعَةَ الصَّحِيحَةَ وَحَبَسَ الْمَكْسُورَةَ وَقَالَ ابْنُ أَبِي مَرْيَمَ أَخْبَرَنَا يَحْيَى بْنُ أَيُّوبَ حَدَّثَنَا حُمَيْدٌ حَدَّثَنَا أَنَسٌ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ

الشرح‏:‏

قوله‏:‏ ‏(‏إن النبي صلى الله عليه وسلم كان عند بعض نسائه‏)‏ في رواية الترمذي من طريق سفيان الثوري عن حميد عن أنس ‏"‏ أهدت بعض أزواج النبي صلى الله عليه وسلم طعاما في قصعة فضربت عائشة القصعة بيدها ‏"‏ الحديث وأخرجه أحمد عن ابن أبي عدي ويزيد بن هارون عن حميد به وقال‏:‏ أظنها عائشة‏.‏

قال الطيبي‏:‏ إنما أبهمت عائشة تفخيما لشأنها، وإنه مما لا يخفى ولا يلتبس أنها هي، لأن الهدايا إنما كانت تهدى إلى النبي صلى الله عليه وسلم في بيتها‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏فأرسلت إحدى أمهات المؤمنين مع خادم‏)‏ لم أقف على اسم الخادم، وأما المرسلة فهي زينب بنت جحش ذكره ابن حزم في ‏"‏ المحلى ‏"‏ من طريق الليث بن سعد عن جرير بن حازم عن حميد ‏"‏ سمعت أنس بن مالك أن زينب بنت جحش أهدت إلى النبي صلى الله عليه وسلم وهو في بيت عائشة ويومها جفنة من حيس ‏"‏ الحديث، واستفدنا منه معرفة الطعام المذكور‏.‏

ووقع قريب من ذلك لعائشة مع أم سلمة، فروى النسائي من طريق حماد بن سلمة عن ثابت عن أبي المتوكل ‏"‏ عن أم سلمة أنها أتت بطعام في صحفة إلى النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه، فجاءت عائشة متزرة بكساء ومعها فهر ففلقت به الصحفة ‏"‏ الحديث، وقد اختلف في هذا الحديث على ثابت فقيل‏:‏ عنه عن أنس، ورجح أبو زرعة الرازي فيما حكاه ابن أبي حاتم في ‏"‏ العلل ‏"‏ عنه رواية حماد بن سلمة وقال‏:‏ إن غيرها خطأ، ففي الأوسط للطبراني من طريق عبيد الله العمري ‏"‏ عن ثابت عن أنس أنهم كانوا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم في بيت عائشة إذ أتى بصحفة خبز ولحم من بيت أم سلمة، قال‏:‏ فوضعنا أيدينا وعائشة تصنع طعاما عجلة، فلما فرغنا جاءت به ورفعت صحفة أم سلمة فكسرتها ‏"‏ الحديث‏.‏

وأخرجه الدار قطني من طريق عمران بن خالد عن ثابت عن أنس قال‏:‏ ‏"‏ كان النبي صلى الله عليه وسلم في بيت عائشة معه بعض أصحابه ينتظرون طعاما فسبقتها - قال عمران أكثر ظني أنها حفصة - بصحفة فيها ثريد فوضعتها فخرجت عائشة - وذلك قبل أن يحتجبن - فضربت بها فانكسرت ‏"‏ الحديث‏.‏

ولم يصب عمران في ظنه أنها حفصة بل هي أم سلمة كما تقدم، نعم وقعت القصة لحفصة أيضا، وذلك فيما رواه ابن أبي شيبة وابن ماجة من طريق رجل من بني سواءة غير مسمى عن عائشة قالت‏:‏ ‏"‏ كان رسول الله صلى الله عليه وسلم مع أصحابه فصنعت له طعاما وصنعت له حفصة طعاما فسبقتني، فقلت للجارية انطلقي فأكفئي قصعتها فأكفأتها فانكسرت وانتشر الطعام، فجمعه على النطع فأكلوا، ثم بعث بقصعتي إلى حفصة فقال‏:‏ خذوا ظرفا مكان ظرفكم ‏"‏ وبقية رجاله ثقات، وهي قصة أخرى بلا ريب، لأن في هذه القصة أن الجارية هي التي كسرت الصحفة وفي الذي تقدم أن عائشة نفسها هي التي كسرتها‏.‏

وروى أبو داود والنسائي من طريق جسرة بفتح الجيم وسكون المهملة عن عائشة قالت‏:‏ ‏"‏ ما رأيت صانعة طعاما مثل صفية، أهدت إلى النبي صلى الله عليه وسلم إناء فيه طعام، فما ملكت نفسي أن كسرته فقلت‏:‏ يا رسول الله ما كفارته‏؟‏ قال‏:‏ إناء كإناء وطعام كطعام ‏"‏ إسناده حسن‏:‏ ولأحمد وأبي داود عنها ‏"‏ فلما رأيت الجارية أخذتني رعدة ‏"‏ فهذه قصة أخرى أيضا، وتحرر من ذلك أن المراد بمن أبهم في حديث الباب هي زينب لمجيء الحديث من مخرجه وهو حميد عن أنس، وما عدا ذلك فقصص أخرى لا يليق بمن يحقق أن يقول في مثل هذا‏:‏ قيل المرسلة فلانة وقيل فلانة إلخ من غير تحرير‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏بقصعة‏)‏ بفتح القاف‏:‏ إناء من خشب‏.‏

وفي رواية ابن علية في النكاح عند المصنف ‏"‏ بصحفة ‏"‏ وهي قصعة مبسوطة وتكون من غير الخشب‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏فضربت بيدها فكسرت القصعة‏)‏ زاد أحمد ‏"‏ نصفين ‏"‏ وفي رواية أم سلمة عند النسائي ‏"‏ فجاءت عائشة ومعها فهر ففلقت به الصحفة ‏"‏ وفي رواية ابن علية ‏"‏ فضربت التي في بيتها يد الخادم فسقطت الصحفة فانفلقت ‏"‏ والفلق بالسكون الشق، ودلت الرواية الأخرى على أنها انشقت ثم انفصلت‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏فضمها‏)‏ في رواية ابن علية ‏"‏ فجمع النبي صلى الله عليه وسلم فلق الصحفة، ثم جعل يجمع فيها الطعام الذي كان في الصحفة ويقول‏:‏ غارت أمكم ‏"‏ ولأحمد ‏"‏ فأخذ الكسرتين فضم إحداهما إلى الأخرى فجعل فيها الطعام ‏"‏ ولأبي داود والنسائي من طريق خالد بن الحارث عن حميد نحوه وزاد ‏"‏ كلوا فأكلوا‏"‏‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏وحبس الرسول‏)‏ زاد ابن علية ‏"‏ حتى أتي بصحفة من عند التي هو في بيتها‏"‏‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏فدفع القصعة الصحيحة‏)‏ زاد ابن علية ‏"‏ إلى التي كسرت صحفتها، وأمسك المكسورة في بيت التي كسرت ‏"‏ زاد الثوري ‏"‏ وقال‏:‏ إناء كإناء وطعام كطعام ‏"‏ قال ابن بطال‏:‏ احتج به الشافعي والكوفيون فيمن استهلك عروضا أو حيوانا فعليه مثل ما استهلك، قالوا‏:‏ ولا يقضى بالقيمة إلا عند عدم المثل‏.‏

وذهب مالك إلى القيمة مطلقا‏.‏

وعنه في رواية كالأول‏.‏

وعنه ما صنعه الآدمي فالمثل‏.‏

وأما الحيوان فالقيمة‏.‏

وعنه ما كان مكيلا أو موزونا فالقيمة وإلا فالمثل وهو المشهور عندهم‏.‏

وما أطلقه عن الشافعي فيه نظر، وإنما يحكم في الشيء بمثله إذا كان متشابه الأجزاء، وأما القصعة فهي من المتقومات لاختلاف أجزائها‏.‏

والجواب ما حكاه البيهقي بأن القصعتين كانتا للنبي صلى الله عليه وسلم في بيتي زوجتيه فعاقب الكاسرة بجعل القصعة المكسورة في بيتها وجعل الصحيحة في بيت صاحبتها ولم يكن هناك تضمين، ويحتمل على تقدير أن تكون القصعتان لهما أنه رأى ذلك سدادا بينهما فرضيتا بذلك، ويحتمل أن يكون ذلك في الزمان الذي كانت العقوبة فيه بالمال كما تقدم قريبا، فعاقب الكاسرة بإعطاء قصعتها للأخرى‏.‏

قلت‏:‏ ويبعد هذا التصريح بقوله‏:‏ ‏"‏ إناء كإناء ‏"‏ وأما التوجيه الأول فيعكر عليه قوله في الرواية التي ذكرها ابن أبي حاتم ‏"‏ من كسر شيئا فهو له وعليه مثله ‏"‏ زاد في رواية الدار قطني ‏"‏ فصارت قضية ‏"‏ وذلك يقتضي أن يكون حكما عاما لكل من وقع له مثل ذلك، ويبقى دعوى من اعتذر عن القول به بأنها واقعة عين لا عموم فيها، لكن محل ذلك ما إذا أفسد المكسور، فأما إذا كان الكسر خفيفا يمكن إصلاحه فعلى الجاني أرشه، والله أعلم‏.‏

وأما مسألة الطعام فهي محتملة لأن يكون ذلك من باب المعونة والإصلاح دون بت الحكم بوجوب المثل فيه لأنه ليس له مثل معلوم، وفي طرق الحديث ما يدل على ذلك وأن الطعامين كانا مختلفين والله أعلم‏.‏

واحتج به الحنفية لقولهم إذا تغيرت العين المغصوبة بفعل الغاصب حتى زال اسمها وعظم منافعها زال ملك المغصوب عنها وملكها الغاصب وضمنها، وفي الاستدلال لذلك بهذا الحديث نظر لا يخفى، قال الطيبي‏:‏ وإنما وصفت المرسلة بأنها أم المؤمنين إيذانا بسبب الغيرة التي صدرت من عائشة وإشارة إلى غيرة الأخرى حيث أهدت إلى بيت ضرتها، وقوله‏:‏ ‏"‏ غارت أمكم ‏"‏ اعتذار منه صلى الله عليه وسلم لئلا يحمل صنيعها على ما يذم، بل يجري على عادة الضرائر من الغيرة فإنها مركبة في النفس بحيث لا يقدر على دفعها، وسيأتي مزيد لما يتعلق بالغيرة في كتاب النكاح حيث ذكره المصنف إن شاء الله تعالى‏.‏

وفي الحديث حسن خلقه صلى الله عليه وسلم وإنصافه وحلمه، قال ابن العربي‏:‏ وكأنه إنما لم يؤدب الكاسرة ولو بالكلام لما وقع منها من التعدي لما فهم من أن التي أهدت أرادت بذلك أذى التي هو في بيتها والمظاهرة عليها فاقتصر على تغريمها للقصعة، قال‏:‏ وإنما لم يغرمها الطعام لأنه كان مهدي فإتلافهم له قبول أو في حكم القبول، وغفل رحمه الله عما ورد في الطرق الأخرى والله المستعان‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏وقال ابن أبي مريم‏)‏ هو سعيد شيخ البخاري، وأراد بذلك بيان التصريح بتحديث أنس لحميد، وقد وقع تصريحه بالسماع منه لهذا الحديث في رواية جرير بن حازم المذكورة أولا من عند ابن حزم‏.‏

*3*باب إِذَا هَدَمَ حَائِطًا فَلْيَبْنِ مِثْلَهُ

الشرح‏:‏

قوله‏:‏ ‏(‏باب إذا هدم حائطا فليبن مثله‏)‏ أي خلافا لمن قال تلزمه القيمة من المالكية وغيرهم‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا مُسْلِمُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ حَدَّثَنَا جَرِيرُ بْنُ حَازِمٍ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ رَجُلٌ فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ يُقَالُ لَهُ جُرَيْجٌ يُصَلِّي فَجَاءَتْهُ أُمُّهُ فَدَعَتْهُ فَأَبَى أَنْ يُجِيبَهَا فَقَالَ أُجِيبُهَا أَوْ أُصَلِّي ثُمَّ أَتَتْهُ فَقَالَتْ اللَّهُمَّ لَا تُمِتْهُ حَتَّى تُرِيَهُ وُجُوهَ الْمُومِسَاتِ وَكَانَ جُرَيْجٌ فِي صَوْمَعَتِهِ فَقَالَتْ امْرَأَةٌ لَأَفْتِنَنَّ جُرَيْجًا فَتَعَرَّضَتْ لَهُ فَكَلَّمَتْهُ فَأَبَى فَأَتَتْ رَاعِيًا فَأَمْكَنَتْهُ مِنْ نَفْسِهَا فَوَلَدَتْ غُلَامًا فَقَالَتْ هُوَ مِنْ جُرَيْجٍ فَأَتَوْهُ وَكَسَرُوا صَوْمَعَتَهُ فَأَنْزَلُوهُ وَسَبُّوهُ فَتَوَضَّأَ وَصَلَّى ثُمَّ أَتَى الْغُلَامَ فَقَالَ مَنْ أَبُوكَ يَا غُلَامُ قَالَ الرَّاعِي قَالُوا نَبْنِي صَوْمَعَتَكَ مِنْ ذَهَبٍ قَالَ لَا إِلَّا مِنْ طِينٍ

الشرح‏:‏

أورد المصنف حديث أبي هريرة في قصة جريج الراهب مختصرا، وساقه في أحاديث الأنبياء من هذا الوجه مطولا، ويأتي الكلام عليه هناك مستوفى إن شاء الله تعالى‏.‏

وموضع الحاجة منه هنا قوله‏:‏ ‏"‏ فقالوا نبني صومعتك من ذهب، قال‏:‏ لا إلا من طين ‏"‏ وقال قبل ذلك ‏"‏ فكسروا صومعته ‏"‏ وتوجيه الاحتجاج به أن شرع من قبلنا شرع لنا، وهو كذلك إذا لم يأت شرعنا بخلافه كما تقدم غير مرة، لكن في الاستدلال بقصة جريج فيما ترجم به نظر، قال ابن المنير‏:‏ الاستدلال بذلك غير ظاهر فيما ترجم له؛ لأنهم عرضوا عليه مالا يلزمهم اتفاقا وهو بناؤها من ذهب، وما أجابهم جريج إلا بقوله‏:‏ ‏"‏ من طين ‏"‏ وأشار بذلك إلى الصفة التي كانت عليها قال‏:‏ ولا خلاف أن الهادم لو التزم الإعادة ورضي صاحبه في جواز ذلك‏.‏

قال‏:‏ ويحتمل على أصل مالك أن لا يجوز، لأنه فسخ لما وجب ناجزا وهو القيمة إلا ما يتأخر وهو البنيان‏.‏

قال ابن مالك‏:‏ في قوله‏:‏ ‏"‏ لا إلا من طين ‏"‏ شاهد على حذف المجزوم بلا، فإن التقدير لا تبنوها إلا من طين‏.‏

‏(‏خاتمة‏)‏ ‏:‏ اشتمل كتاب المظالم من الأحاديث المرفوعة على ثمانية وأربعين حديثا‏.‏

المعلق منها ستة، المكرر منها فيه وفيما مضى ثمانية وعشرون حديثا، وافقه مسلم على تخريجها سوى حديث أبي سعيد ‏"‏ إذا خلص المؤمنون ‏"‏ وحديث أنس ‏"‏ انصر أخاك ‏"‏ وحديث أبي هريرة ‏"‏ من كانت له مظلمة ‏"‏ وحديث ابن عمر ‏"‏ من أخذ شيئا من الأرض ‏"‏ وحديث عبد الله بن يزيد في النهي عن النهبى والمثلة، وحديث أنس في القصعة المكسورة‏.‏

وفيه من الآثار سبعة آثار‏.‏

والله سبحانه وتعالى أعلم‏.‏