فصل: باب مَا يُسْتَحَبُّ مِنْ الْعُطَاسِ وَمَا يُكْرَهُ مِنْ التَّثَاؤُبِ

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: فتح الباري شرح صحيح البخاري **


*3*باب مَا يُسْتَحَبُّ مِنْ الْعُطَاسِ وَمَا يُكْرَهُ مِنْ التَّثَاؤُبِ

الشرح‏:‏

قوله‏:‏ ‏(‏باب ما يستحب من العطاس، وما يكره من التثاؤب‏)‏ قال الخطابي‏:‏ معنى المحبة والكراهة فيهما منصرف إلى سببهما، وذلك أن العطاس يكون من خفة البدن وانفتاح المسام وعدم الغاية في الشبع وهو بخلاف التثاؤب فإنه يكون من علة امتلاء البدن وثقله مما يكون ناشئا عن كثرة الأكل والتخليط فيه، والأول يستدعي النشاط للعبادة والثاني على عكسه‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا آدَمُ بْنُ أَبِي إِيَاسٍ حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي ذِئْبٍ حَدَّثَنَا سَعِيدٌ الْمَقْبُرِيُّ عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْعُطَاسَ وَيَكْرَهُ التَّثَاؤُبَ فَإِذَا عَطَسَ فَحَمِدَ اللَّهَ فَحَقٌّ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ سَمِعَهُ أَنْ يُشَمِّتَهُ وَأَمَّا التَّثَاؤُبُ فَإِنَّمَا هُوَ مِنْ الشَّيْطَانِ فَلْيَرُدَّهُ مَا اسْتَطَاعَ فَإِذَا قَالَ هَا ضَحِكَ مِنْهُ الشَّيْطَانُ

الشرح‏:‏

قوله‏:‏ ‏(‏سعيد المقبري عن أبيه عن أبي هريرة‏)‏ هكذا قال آدم بن أبي أياس عن ابن أبي ذئب، وتابعه عاصم بن علي كما سيأتي بعد باب، والحجاج بن محمد عند النسائي وأبو داود الطيالسي ويزيد بن هارون عند الترمذي وابن أبي فديك عند الإسماعيلي وأبو عامر العقدي عند الحاكم كلهم عن ابن أبي ذئب، وخالفهم القاسم بن يزيد عند النسائي فلم يقل فيه ‏"‏ عن أبيه ‏"‏ وكذا ذكره أبو نعيم من طريق الطيالسي‏.‏

وكذلك أخرجه النسائي وابن خزيمة وابن حبان والحاكم من رواية محمد بن عجلان عن سعيد المقبري عن أبي هريرة ولم يقل ‏"‏ عن أبيه ‏"‏ ورجح الترمذي رواية من قال عن أبيه وهو المعتمد‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏إن الله يحب العطاس‏)‏ يعني الذي لا ينشأ عن زكام، لأنه المأمور فيه بالتحميد والتشميت، ويحتمل التعميم في نوعي العطاس والتفصيل في التشميت خاصة، وقد ورد ما يخص بعض أحوال العاطسين، فأخرج الترمذي من طريق أبي اليقظان عن عدي بن ثابت عن أبيه عن جده رفعه قال ‏"‏ العطاس والنعاس والتثاؤب في الصلاة من الشيطان ‏"‏ وسنده ضعيف، وله شاهد عن ابن مسعود في الطبراني لكن لم يذكر النعاس، وهو موقوف وسنده ضعيف أيضا‏.‏

قال شيخنا في ‏"‏ شرح الترمذي ‏"‏ لا يعارض هذا حديث الباب في محبة العطاس وكراهة التثاؤب لكونه بحال الصلاة فقد بتسبب الشيطان في حصول العطاس للمصلي ليشغله عن صلاته، وقد يقال إن العطاس إنما لم يوصف بكونه مكروها في الصلاة لأنه لا يمكن رده بخلاف التثاؤب، ولذلك جاء في التثاؤب كما سيأتي بعد ‏"‏ فليرده ما استطاع ‏"‏ ولم يأت ذلك في العطاس‏.‏

وأخرج ابن أبي شيبة عن أبي هريرة ‏"‏ إن الله يكره التثاؤب ويحب العطاس في الصلاة ‏"‏ وهذا يعارض حديث جد عدي وفي سنده ضعف أيضا وهو موقوف والله أعلم‏.‏

ومما يستحب للعاطس أن لا يبالغ في إخراج العطسة فقد ذكر عبد الرزاق عن معمر عن قتادة قال ‏"‏ سبع من الشيطان ‏"‏ فذكر منها شدة العطاس‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏فحق على كل مسلم سمعه أن يشمته‏)‏ استدل به على استحباب مبادرة العاطس بالتحميد، ونقل ابن دقيق العيد عن بعض العلماء أنه ينبغي أن يتأنى في حقه حتى يسكن ولا يعاجله بالتشميت، قال‏:‏ وهذا فيه غفلة عن شرط التشميت وهو توقفه على حمد العاطس‏.‏

وأخرج البخاري في ‏"‏ الأدب المفرد ‏"‏ عن مكحول الأزدي ‏"‏ كنت إلى جنب ابن عمر فعطس رجل من ناحية المسجد فقال ابن عمر يرحمك الله إن كنت حمدت الله ‏"‏ واستدل به على أن التشميت إنما يشرع لمن سمع العاطس وسمع حمده، فلو سمع من يشمت غيره ولم يسمع هو عطاسه ولا حمده هل يشرع له تشميته‏؟‏ سيأتي قريبا‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏وأما التثاؤب‏)‏ سيأتي شرحه بعد بابين‏.‏

*3*باب إِذَا عَطَسَ كَيْفَ يُشَمَّتُ

الشرح‏:‏

قوله‏:‏ ‏(‏باب إذا عطس كيف يشمت‏)‏ ‏؟‏ بضم أوله وتشديد الميم المفتوحة‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا مَالِكُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ أَبِي سَلَمَةَ أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ دِينَارٍ عَنْ أَبِي صَالِحٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ إِذَا عَطَسَ أَحَدُكُمْ فَلْيَقُلْ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَلْيَقُلْ لَهُ أَخُوهُ أَوْ صَاحِبُهُ يَرْحَمُكَ اللَّهُ فَإِذَا قَالَ لَهُ يَرْحَمُكَ اللَّهُ فَلْيَقُلْ يَهْدِيكُمُ اللَّهُ وَيُصْلِحُ بَالَكُمْ

الشرح‏:‏

قوله‏:‏ ‏(‏عن أبي صالح‏)‏ هو السمان، والإسناد كله مدنيون إلا شيخ البخاري، وهو من رواية تابعي عن تابعي‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏إذا عطس أحدكم فليقل الحمد لله‏)‏ كذا في جميع نسخ البخاري، وكذا أخرجه النسائي من طريق يحيى بن حسان، والإسماعيلي من طريق بشر بن المفضل وأبي النضر، وأبو نعيم في ‏"‏ المستخرج ‏"‏ من طريق عاصم بن علي، وفي ‏"‏ عمل يوم وليلة ‏"‏ من طريق عبد الله بن صالح كلهم عن عبد العزيز بن أبي سلمة، وأخرجه أبو داود عن موسى بن إسماعيل عن عبد العزيز المذكور به بلفظ ‏"‏ فليقل الحمد لله على كل حال‏"‏‏.‏

قلت‏:‏ ولم أر هذه الزيادة من هذا الوجه في غير هذه الرواية، وقد تقدم ما يتعلق بحكمها‏.‏

واستدل بأمر العاطس بحمد الله أنه يشرع حتى للمصلي، وقد تقدمت الإشارة إلى حديث رفاعة بن رافع في ‏"‏ باب الحمد للعاطس ‏"‏ وبذلك قال الجمهور من الصحابة والأئمة بعدهم، وبه قال مالك والشافعي وأحمد، ونقل الترمذي عن بعض التابعين أن ذلك يشرع في النافلة لا في الفريضة، ويحمد مع ذلك في نفسه‏.‏

وجوز شيخنا في ‏"‏ شرح الترمذي ‏"‏ أن يكون مراده أنه يسر به ولا يجهر به، وهو متعقب مع ذلك بحديث رفاعة بن رافع فإنه جهر بذلك ولم ينكر النبي صلى الله عليه وسلم عليه‏.‏

نعم يفرق بين أن يكون في قراءة الفاتحة أو غيرها من أجل اشتراط الموالاة في قراءتها، وجزم ابن العربي من المالكية بأن العاطس في الصلاة يحمد في نفسه، ونقل عن سحنون أنه لا يحمد حتى يفرغ وتعقبه بأنه غلو‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏وليقل له أخوه أو صاحبه‏)‏ هو شك من الراوي وكذا وقع للأكثر من رواية عاصم بن علي ‏"‏ فليقل له أخوه ‏"‏ ولم يشك والمراد بالأخوة أخوة الإسلام‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏يرحمك الله‏)‏ قال ابن دقيق العيد‏:‏ يحتمل أن يكون دعاء بالرحمة، ويحتمل أن يكون إخبارا على طريق البشارة كما قال في الحديث الآخر ‏"‏ طهور إن شاء الله ‏"‏ أي هي طهر لك؛ فكأن المشمت بشر العاطس بحصول الرحمة له في المستقبل بسبب حصولها له في الحال لكونها دفعت ما يضره، قال‏:‏ وهذا ينبني على قاعدة، وهي أن اللفظ إذا أريد به معناه لم ينصرف لغيره، وإن أريد به معنى يحتمله انصرف إليه، وإن أطلق انصرف إلى الغالب، وإن لم يستحضر القائل المعنى الغالب‏.‏

وقال ابن بطال‏:‏ ذهب إلى هذا قوم فقالوا‏:‏ يقول له يرحمك الله يخصه بالدعاء وحده وقد أخرج البيهقي في ‏"‏ الشعب ‏"‏ وصححه ابن حبان من طريق حفص بن عاصم عن أبي هريرة رفعه ‏"‏ لما خلق الله آدم عطس، فألهمه ربه أن قال‏:‏ الحمد لله، فقال له ربه‏:‏ يرحمك الله ‏"‏ وأخرج الطبري عن ابن مسعود قال ‏"‏ يقول يرحمنا الله وإياكم ‏"‏ وأخرجه ابن أبي شيبة عن ابن عمر نحوه‏.‏

وأخرج البخاري في ‏"‏ الأدب المفرد ‏"‏ بسند صحيح عن أبي جمرة بالجيم ‏"‏ سمعت ابن عباس إذا شمت يقول‏:‏ عافانا الله وإياكم من النار، يرحمكم الله ‏"‏ وفي الموطأ عن نافع عن ابن عمر أنه ‏"‏ كان إذا عطس فقيل له‏:‏ يرحمك الله، قال‏:‏ يرحمنا الله وإياكم ويغفر الله لنا ولكم ‏"‏ قال ابن دقيق العيد‏:‏ ظاهر الحديث أن السنة لا تتأدى إلا بالمخاطبة، وأما ما اعتاده كثير من الناس من قولهم للرئيس يرحم الله سيدنا فخلاف السنة، وبلغني عن بعض الفضلاء أنه شمت رئيسا فقال له يرحمك الله يا سيدنا فجمع الأمرين وهو حسن‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏فإذا قال له يرحمك الله فليقل يهديكم الله ويصلح بالكم‏)‏ مقتضاه أنه لا يشرع ذلك إلا لمن شمت وهو واضح، وأن هذا اللفظ هو جواب التشميت، وهذا مختلف فيه قال ابن بطال‏:‏ ذهب الجمهور إلى هذا وذهب الكوفيون إلى أنه يقول يغفر الله لنا ولكم، وأخرجه الطبري عن ابن مسعود وابن عمر وغيرهما‏.‏

قلت‏:‏ وأخرجه البخاري في ‏"‏ الأدب المفرد ‏"‏ والطبراني من حديث ابن مسعود وهو في حديث سالم بن عبيد المشار إليه قبل ففيه ‏"‏ وليقل يغفر الله لنا ولكم ‏"‏ قلت‏:‏ وقد وافق حديث أبي هريرة في ذلك حديث عائشة عند أحمد وأبي يعلى وحديث أبي مالك الأشعري عند الطبراني أيضا وحديث ابن عمر عند البزار وحديث عبد الله بن جعفر بن أبي طالب عند البيهقي في ‏"‏ الشعب‏"‏‏.‏

وقال ابن بطال‏:‏ ذهب مالك والشافعي إلى أنه يتخير بين اللفظين‏.‏

وقال أبو الوليد بن رشد‏:‏ الثاني أولى، لأن المكلف يحتاج إلى طلب المغفرة، والجمع بينهما أحسن إلا للذمي، وذكر الطبري أن الذين منعوا من جواب التشميت بقول ‏"‏ يهديكم الله ويصلح بالكم ‏"‏ احتجوا بأنه تشميت اليهود كما تقدمت الإشارة إليه من تخريج أبي داود من حديث أبي موسى، قال‏:‏ ولا حجة فيه إذ لا تضاد بين خبر أبي موسى وخبر أبي هريرة - يعني حديث الباب - لأن حديث أبي هريرة في جواب التشميت وحديث أبي موسى في التشميت نفسه، وأما ما أخرجه البيهقي في ‏"‏ الشعب ‏"‏ عن ابن عمر قال‏:‏ اجتمع اليهود والمسلمون فعطس النبي صلى الله عليه وسلم فشمته الفريقان جميعا فقال للمسلمين‏:‏ يغفر الله لكم ويرحمنا وإياكم‏.‏

وقال لليهود‏:‏ يهديكم الله ويصلح بالكم‏.‏

فقال‏:‏ تفرد به عبد الله بن عبد العزيز بن أبي رواد عن أبيه عن نافع، وعبد الله ضعيف‏.‏

واحتج بعضهم بأن الجواب المذكور مذهب الخوارج لأنهم لا يرون الاستغفار للمسلمين، وهذا منقول عن إبراهيم النخعي، وكل هذا لا حجة فيه بعد ثبوت الخبر بالأمر به، قال البخاري بعد تخريجه في ‏"‏ الأدب المفرد ‏"‏‏:‏ وهذا أثبت ما يروى في هذا الباب‏.‏

وقال الطبري‏:‏ هو من أثبت الأخبار‏.‏

وقال البيهقي‏:‏ هو أصح شيء ورد في هذا الباب‏.‏

وقد أخذ به الطحاوي من الحنفية واحتج له بقول الله تعالى ‏(‏وإذا حييتم بتحية فحيوا بأحسن منها‏)‏ قال‏:‏ والذي يجيب بقوله ‏"‏ غفر الله لنا ولكم ‏"‏ لا يزيد المشمت على معنى قوله يرحمك الله، لأن المغفرة ستر الذنب والرحمة ترك المعاقبة عليه، بخلافه دعائه له بالهداية والإصلاح فإن معناه أن يكون سالما من مواقعة الذنب صالح الحال، فهو فوق الأول فيكون أولى، واختار ابن أبي جمرة أن يجمع المجيب بين اللفظين فيكون أجمع للخير ويخرج من الخلاف، ورجحه ابن دقيق العيد‏.‏

وقد أخرج مالك في ‏"‏ الموطأ ‏"‏ عن نافع عن ابن عمر أنه ‏"‏ كان إذا عطس فقيل له يرحمك الله قال‏:‏ يرحمنا الله وإياكم، يغفر الله لنا ولكم ‏"‏ قال ابن أبي جمرة‏:‏ وفي الحديث دليل على عظيم نعمة الله على العاطس؛ يؤخذ ذلك مما رتب عليه من الخير، وفيه إشارة إلى عظيم فضل الله على عبده، فإنه أذهب عنه الضرر بنعمة العطاس ثم شرع له الحمد الذي يثاب عليه، ثم الدعاء بالخير بعد الدعاء بالخير، وشرع هذه النعم المتواليات في زمن يسير فضلا منه وإحسانا، وفي هذا لمن رآه بقلب له بصيرة زيادة قوة في إيمانه حتى يحصل له من ذلك ما لا يحصل بعبادة أيام عديدة، ويداخله من حب الله الذي أنعم عليه بذلك ما لم يكن في باله، ومن حب الرسول الذي جاءت معرفة هذا الخير على يده والعلم الذي جاءت به سنته ما لا يقدر قدره‏.‏

قال‏:‏ وفي زيادة ذرة من هذا ما يفوق الكثير مما عداه من الأعمال ولله الحمد كثيرا‏.‏

وقال الحليمي‏:‏ أنواع البلاء والآفات كلها مؤاخذات، وإنما المؤاخذة عن ذنب، فإذا حصل الذنب مغفورا وأدركت العبد الرحمة لم تقع المؤاخذة، فإذا قيل للعاطس‏:‏ يرحمك الله، فمعناه جعل الله لك ذلك لتدوم لك السلامة‏.‏

وفيه إشارة إلى تنبيه العاطس على طلب الرحمة والتوبة من الذنب، ومن ثم شرع له الجواب بقوله ‏"‏ غفر الله لنا ولكم‏"‏‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏بالكم شأنكم‏)‏ قال أبو عبيدة في معنى قوله تعالى ‏(‏سيهديهم ويصلح بالهم‏)‏ أي شأنهم‏.‏

*3*باب لَا يُشَمَّتُ الْعَاطِسُ إِذَا لَمْ يَحْمَدْ اللَّهَ

الشرح‏:‏

قوله‏:‏ ‏(‏باب لا يشمت العاطس إذا لم يحمد الله‏)‏ أورد فيه حديث أنس الماضي في ‏"‏ باب الحمد للعاطس ‏"‏ وكأنه أشار إلى أن الحكم عام وليس مخصوصا بالرجل الذي وقع له ذلك وإن كانت واقعة حال لا عموم فيها، لكن ورد الأمر بذلك فيما أخرجه مسلم من حديث أبي موسى بلفظ ‏"‏ إذا عطس أحدكم فحمد الله فشمتوه، وإن لم يحمد الله فلا تشمتوه ‏"‏ قال النووي‏:‏ مقتضى هذا الحديث أن من لم يحمد الله لم يشمت‏.‏

قلت‏:‏ هو منطوقه، لكن هل النهي فيه للتحريم أو للتنزيه‏؟‏ الجمهور على الثاني، قال‏:‏ وأقل الحمد والتشميت أن يسمع صاحبه، ويؤخذ منه أنه إذا أتى بلفظ آخر غير الحمد لا يشمت‏.‏

وقد أخرج أبو داود والنسائي وغيرهما من حديث سالم بن عبيد الأشجعي قال‏:‏ ‏"‏ عطس رجل فقال السلام عليكم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم عليك وعلى أمك‏.‏

وقال‏:‏ إذا عطس أحدكم فليحمد الله ‏"‏ واستدل به على أنه يشرع التشميت لمن حمد إذا عرف السامع أنه حمد الله وإن لم يسمعه، كما لو سمع العطسة ولم يسمع الحمد بل سمع من شمت ذلك العاطس فإنه يشرع له التشميت لعموم الأمر به لمن عطس فحمد‏.‏

وقال النووي‏:‏ المختار أنه يشمته من سمعه دون غيره، وحكى ابن العربي اختلافا فيه ورجح أنه يشمته‏.‏

قلت‏:‏ وكذا نقله ابن بطال وغيره عن مالك، واستثنى ابن دقيق العيد من علم أن الذين عند العاطس جهلة لا يفرقون بين تشميت من حمد وبين من لم يحمد، والتشميت متوقف على من علم أنه حمد فيمتنع تشميت هذا ولو شمته من عنده لأنه لا يعلم هل حمد أو لا، فإن عطس وحمد ولم يشمته أحد فسمعه من بعد عنه استحب له أن يشمته حين يسمعه‏.‏

وقد أخرج ابن عبد البر بسند جيد عن أبي داود صاحب السنن إن كان في سفينة فسمع عاطسا على الشط حمد فاكترى قاربا بدرهم حتى جاء إلى العاطس فشمته ثم رجع، فسئل عن ذلك فقال‏:‏ لعله يكون مجاب الدعوة، فلما رقدوا سمعوا قائلا يقول‏:‏ يا أهل السفينة إن أبا داود اشترى الجنة من الله بدرهم‏.‏

قال النووي‏:‏ ويستحب لمن حضر من عطس فلم يحمد أن يذكره بالحمد ليحمد فيشمته، وقد ثبت ذلك عن إبراهيم النخعي، وهو من باب النصيحة والأمر بالمعروف‏.‏

وزعم ابن العربي أنه جهل من فاعله، قال‏:‏ وأخطأ فيما زعم بل الصواب استحبابه‏.‏

قلت‏:‏ احتج ابن العربي لقوله بأنه إذا نبهه ألزم نفسه ما لم يلزمها، قال‏:‏ فلو جمع بينهما فقال الحمد لله يرحمك الله جمع جهالتين‏:‏ ما ذكرناه أولا وإيقاعه التشميت قبل وجود الحمد من العاطس‏.‏

وحكى ابن بطال عن بعض أهل العلم - وحكى غيره أنه الأوزاعي - أن رجلا عطس عنده فلم يحمد فقال له‏:‏ كيف يقول من عطس‏؟‏ قال‏:‏ الحمد لله، قال‏:‏ يرحمك الله‏.‏

قلت‏:‏ وكأن ابن العربي أخذ بظاهر حديث الباب لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يذكر الذي عطس فلم يحمد لكن تقدم في ‏"‏ باب الحمد للعاطس ‏"‏ احتمال أنه لم يكن مسلما، فلعل ترك ذلك لذلك، لكن يحتمل أن يكون كما أشار إليه ابن بطال أراد تأديبه على ترك الحمد بترك تشميته، ثم عرفه الحكم وأن الذي يترك الحمد لا يستحق التشميت‏.‏

وهذا الذي فهمه أبو موسى الأشعري ففعل بعد النبي صلى الله عليه وسلم مثل ما فعل النبي صلى الله عليه وسلم، شمت من حمد ولم يشمت من لم يحمد، كما ساق حديثه مسلم‏.‏

*3*باب إِذَا تَثَاءَبَ فَلْيَضَعْ يَدَهُ عَلَى فِيهِ

الشرح‏:‏

قوله‏:‏ ‏(‏باب إذا تثاؤب‏)‏ كذا للأكثر، وللمستملي ‏"‏ تثاءب ‏"‏ بهمزة بدل الواو، قال شيخنا في ‏"‏ شرح الترمذي ‏"‏ وقع في رواية المحبوبي عند الترمذي بالواو‏.‏

وفي رواية السنجي بالهمز، ووقع عند البخاري وأبي داود بالهمز، وكذا في حديث أبي سعيد عند أبي داود، وأما عند مسلم فبالواو، قال‏:‏ وكذا هو في أكثر نسخ مسلم، وفي بعضها بالهمز‏.‏

وقد أنكر الجوهري كونه بالواو وقال‏:‏ تقول تثاءبت على وزن تفاعلت ولا تقل تثاوبت، قال‏:‏ والتثاؤب أيضا مهموز، وقد يقلبون الهمزة المضمومة واوا والاسم الثؤباء بضم ثم همز على وزن الخيلاء، وجزم ابن دريد وثابت بن قاسم في ‏"‏ الدلائل ‏"‏ بأن الذي بغير واو بوزن تيممت فقال ثابت‏:‏ لا يقال تثاؤب بالمد مخففا بل يقال تثأب بالتشديد‏.‏

وقال ابن دريد‏:‏ أصله من ثئب فهو مثئوب إذا استرخى وكسل‏.‏

وقال غير واحد‏:‏ إنهما لغتان‏.‏

وبالهمز والمد أشهر‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏فليضع يده على فيه‏)‏ أورد فيه حديث أبي هريرة بلفظ فليرده ما استطاع‏.‏

قال الكرماني‏:‏ عموم الأمر بالرد يتناول وضع اليد على الفم فيطابق الترجمة من هذه الحيثية‏.‏

قلت‏:‏ وقد ورد في بعض طرقه صريحا أخرجه مسلم وأبو داود من طريق سهيل بن أبي صالح عن عبد الرحمن بن أبي سعيد الخدري عن أبيه بلفظ ‏"‏ إذا تثاءب أحدكم فليمسك بيده على فمه ‏"‏ ولفظ الترمذي مثل لفظ الترجمة‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا عَاصِمُ بْنُ عَلِيٍّ حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي ذِئْبٍ عَنْ سَعِيدٍ الْمَقْبُرِيِّ عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْعُطَاسَ وَيَكْرَهُ التَّثَاؤُبَ فَإِذَا عَطَسَ أَحَدُكُمْ وَحَمِدَ اللَّهَ كَانَ حَقّاً عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ سَمِعَهُ أَنْ يَقُولَ لَهُ يَرْحَمُكَ اللَّهُ وَأَمَّا التَّثَاؤُبُ فَإِنَّمَا هُوَ مِنْ الشَّيْطَانِ فَإِذَا تَثَاءَبَ أَحَدُكُمْ فَلْيَرُدَّهُ مَا اسْتَطَاعَ فَإِنَّ أَحَدَكُمْ إِذَا تَثَاءَبَ ضَحِكَ مِنْهُ الشَّيْطَانُ

الشرح‏:‏

قوله‏:‏ ‏(‏إن الله يحب العطاس‏)‏ تقدم شرحه قريبا‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏وأما التثاؤب فإنما هو من الشيطان‏)‏ قال ابن بطال إضافة التثاؤب إلى الشيطان بمعنى إضافة الرضا والإرادة، أي أن الشيطان يحب أن يرى الإنسان متثائبا لأنها حالة تتغير فيها صورته فيضحك منه‏.‏

لا أن المراد أن الشيطان فعل التثاؤب‏.‏

وقال ابن العربي‏:‏ قد بينا أن كل فعل مكروه نسبه الشرع إلى الشيطان لأنه واسطته، وأن كل فعل حسن نسبه الشرع إلى الملك لأنه واسطته، قال‏:‏ والتثاؤب من الامتلاء وينشأ عنه التكاسل وذلك بواسطة الشيطان، والعطاس من تقليل الغذاء وينشأ عنه النشاط وذلك بواسطة الملك‏.‏

وقال النووي‏:‏ أضيف التثاؤب إلى الشيطان لأنه يدعو إلى الشهوات إذ يكون عن ثقل البدن واسترخائه وامتلائه، والمراد التحذير من السبب الذي يتولد منه ذلك وهو التوسع في المأكل‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏فإذا تثاءب أحدكم فليرده ما استطاع‏)‏ أي يأخذ في أسباب رده، وليس المراد به أنه يملك دفعه لأن الذي وقع لا يرد حقيقة، وقيل معنى إذا تثاءب إذا أراد أن يتثاءب، وجوز الكرماني أن يكون الماضي فيه بمعنى المضارع‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏فإن أحدكم إذا تثاءب ضحك منه الشيطان‏)‏ في رواية ابن عجلان ‏"‏ فإذا قال آه ضحك منه الشيطان ‏"‏ وفي حديث أبي سعيد ‏"‏ فإن الشيطان يدخل ‏"‏ وفي لفظ له ‏"‏ إذا تثاءب أحدكم في الصلاة فليكظم ما استطاع فإن الشيطان يدخل ‏"‏ هكذا قيده بحالة الصلاة، وكذا أخرجه الترمذي من طريق العلاء بن عبد الرحمن عن أبيه عن أبي هريرة بلفظ ‏"‏ التثاؤب في الصلاة من الشيطان فإذا تثاءب أحدكم فليكظم ما استطاع ‏"‏ وللترمذي والنسائي من طريق محمد بن عجلان عن سعيد المقبري عن أبي هريرة نحوه، ورواه ابن ماجه من طريق عبد الله بن سعيد المقبري عن أبيه بلفظ ‏"‏ إذا تثاءب أحدكم فليضع يده على فيه ولا يعوي، فإن الشيطان يضحك منه ‏"‏ قال شيخنا في شرح الترمذي‏:‏ أكثر روايات الصحيحين فيها إطلاق التثاؤب، ووقع في الرواية الأخرى تقييده بحالة الصلاة فيحتمل أن يحمل المطلق على المقيد، وللشيطان غرض قوي في التشويش على المصلي في صلاته، ويحتمل أن تكون كراهته في الصلاة أشد، ولا يلزم من ذلك أن لا يكره في غير حالة الصلاة‏.‏

وقد قال بعضهم‏:‏ إن المطلق إنما يحمل على المقيد في الأمر لا في النهي، ويؤيد كراهته مطلقا كونه من الشيطان، وبذلك صرح النووي، قال ابن العربي‏:‏ ينبغي كظم التثاؤب في كل حالة، وإنما خص الصلاة لأنها أولى الأحوال بدفعه لما فيه من الخروج عن اعتدال الهيئة واعوجاج الخلقة‏.‏

وأما قوله في رواية أبي سعيد في ابن ماجه ‏"‏ ولا يعوي ‏"‏ فإنه بالعين المهملة، شبه التثاؤب الذي يسترسل معه بعواء الكلب تنفيرا عنه واستقباحا له فإن الكلب يرفع رأسه ويفتح فاه ويعوي، والمتثائب إذا أفرط في التثاؤب شابهه‏.‏

ومن هنا تظهر النكتة في كونه يضحك منه، لأنه صيره ملعبة له بتشويه خلقه في تلك الحالة‏.‏

وأما قوله في رواية مسلم ‏"‏ فإن الشيطان يدخل ‏"‏ فيحتمل أن يراد به الدخول حقيقة، وهو وإن كان يجري من الإنسان مجرى الدم لكنه لا يتمكن منه ما دام ذاكر الله تعالى، والمتثائب في تلك الحالة غير ذاكر فيتمكن الشيطان من الدخول فيه حقيقة‏.‏

ويحتمل أن يكون أطلق الدخول وأراد التمكن منه، لأن من شأن من دخل في شيء أن يكون متمكنا منه‏.‏

وأما الأمر بوضع اليد على الفم فيتناول ما إذا انفتح بالتثاؤب فيغطى بالكف ونحوه وما إذا كان منطبقا حفظا له عن الانفتاح بسبب ذلك‏.‏

وفي معنى وضع اليد على الفم وضع الثوب ونحوه مما يحصل ذلك المقصود، وإنما تتعين اليد إذا لم يرتد التثاؤب بدونها، ولا فرق في هذا الأمر بين المصلي وغيره، بل يتأكد في حال الصلاة كما تقدم ويستثنى ذلك من النهي عن وضع المصلي يده على فمه‏.‏

ومما يؤمر به المتثائب إذا كان في الصلاة أن يمسك عن القراءة حني يذهب عنه لئلا يتغير نظم قراءته، واسند ابن أبي شيبة نحو ذلك عن مجاهد وعكرمة والتابعين المشهورين، ومن الخصائص النبوية ما أخرجه ابن أبي شيبة والبخاري في ‏"‏ التاريخ ‏"‏ من مرسل يزيد بن الأصم قال ‏"‏ ما تثاءب النبي صلى الله عليه وسلم قط ‏"‏ وأخرج الخطابي من طريق مسلمة بن عبد الملك بن مروان قال ‏"‏ ما تثاءب نبي قط ‏"‏ ومسلمة أدرك بعض الصحابة وهو صدوق‏.‏

ويؤيد ذلك ما ثبت أن التثاؤب من الشيطان‏.‏

ووقع في ‏"‏ الشفاء لابن سبع ‏"‏ أنه صلى الله عليه وسلم كان لا يتمطى، لأنه من الشيطان، والله أعلم‏.‏

‏(‏خاتمة‏)‏ ‏:‏ اشتمل كتاب الأدب من الأحاديث المرفوعة على مائتين وستة وخمسين حديثا، المعلق منها خمسة وسبعون والبقية موصولة‏.‏

المكرر منها فيه وفيما مضى مائتا حديث وحديث، وافقه مسلم على تخريجها سوى حديث عبد الله بن عمرو في عقوق الوالدين، وحديث أبي هريرة ‏"‏ من سره أن يبسط له في رزقه‏"‏، وحديث ‏"‏ الرحم شجنة‏"‏، وحديث ابن عمرو ‏"‏ ليس الواصل بالمكافئ‏"‏، وحديث أبي هريرة ‏"‏ قام أعرابي فقال اللهم ارحمنا‏"‏، وحديث أبي شريح ‏"‏ من لا يأمن جاره ‏"‏ وحديث جابر ‏"‏ كل معروف صدقة‏"‏، وحديث أنس ‏"‏ لم يكن فاحشا‏"‏، وحديث عائشة ‏"‏ ما أظن فلانا وفلانا يعرفان ديننا‏"‏، وحديث أنس ‏"‏ إن كانت الأمة ‏"‏ وحديث حذيفة ‏"‏ أن أشبه الناس دلا وسمتا‏"‏، وحديث ابن مسعود ‏"‏ إن أحسن الحديث كتاب الله ‏"‏ وحديث أبي هريرة ‏"‏ إذا قال الرجل يا كافر‏"‏، وحديث ابن عمر فيه، وحديث أبي هريرة ‏"‏ لا تغضب‏"‏، وحديث ابن عمر ‏"‏ لأن يمتلئ ‏"‏ وحديث ابن عباس في ابن صياد، وحديث سعيد بن المسيب عن أبيه في اسم الحزن، وحديث ابن أبي أوفى في إبراهيم ابن النبي صلى الله عليه وسلم‏.‏

وفيه من الآثار عن الصحابة فمن بعدهم أحد عشر أثرا بعضها موصول وبعضها معلق‏.‏

والله أعلم بالصواب‏.‏