فصل: باب قول الله تعالى

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: مجموع فتاوى ورسائل فضيلة الشيخ محمد بن صالح العثيمين **


باب قول الله تعالى

{‏فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَاداً وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ من الآية22‏]‏

قوله‏:‏ ‏{‏فلا تجعلوا لله أندادا وأنتم تعلمون‏}

لما ذكر سبحانه ما يقر به هؤلاء من أفعاله التي لم يفعلها غيره‏:‏ ‏{‏الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ * الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِرَاشاً وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقاً لَكُمْ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 21-22‏]‏‏.‏ فكل من أقر بذلك لزمه أن لا يعبد إلا المقر له، لأنه لا يستحق العبادة من لا يفعل ذلك، ولا يبغي أن يعبد إلا من فعل ذلك، ولذلك أتى بالفاء الدالة على التفريع والسببية، أي‏:‏ فبسبب ذلك لا تجعلوا لله أندادا‏.‏

و‏(‏لا‏)‏ هذه ناهية، أي‏:‏ فلا تجعلوا له أندادا في العبادة، كما أنكم لم تجعلوا له أندادا في الربوبية، وأيضا لا تجعلوا له أندادا في أسمائه وصفاته، لأنهم قد يصفون غير الله بأوصاف الله - عز وجل - كاشتقاق العزى من العزيز، وتسميتهم رحمن اليمامة‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏أندادا‏)‏‏.‏ جمع ند، وهو الشبيه والنظير، والمراد هنا‏:‏ أندادا في العبادة‏.‏

قوله‏:‏ ‏{‏وأنتم تعلمون‏}‏‏.‏ الجملة في موضع نصب حال من فاعل ‏(‏تجعلوا‏)‏، أي‏:‏ والحال أنكم تعلمون، والمعنى‏:‏ وأنتم تعلمون أنه لا أنداد له - يعني في الربوبية ـ لأن هذا محط التقبيح من هؤلاء أنهم يجعلون له أندادا وهم يعلمون أنه لا أنداد له في الربوبية، أما الألوهية، فيجعلون له أندادا، قالوا للنبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ ‏{‏أجعل الآلهة إلها واحدا إن هذا لشيء عجاب‏}‏ ‏(‏ص‏:‏ 5‏)‏، ويقولون في تلبيتهم‏:‏ ‏(‏لبيك لا شريك لك إلا شريكا هو لك تملكه وما ملك‏)‏، وهذا من سفههم، فإنه إذا صار مملوكا، فكيف يكون شريكا، ولهذا أنكر الله عليهم في قوله‏:‏ ‏{‏فلا تجعلوا لله أندادا وأنتم تعلمون‏}‏، إذ الأنداد بالمعنى العام - بقطع النظر عن كونه يخاطب أقواما يقرون بالربوبية - يشمل الأنداد في الربوبية والألوهية والأسماء والصفات‏.‏

وقال ابن عباس في الآية‏:‏ ‏(‏الأنداد هو الشرك، أخفى من دبيب النمل على صفاة سوداء في ظلمة الليل وهو أن تقول‏:‏ والله وحياتك يا

****

قوله‏:‏‏(‏وقال ابن عباس في الآية‏)‏‏.‏ أي‏:‏ في تفسيرها‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏هو الشرك‏)‏‏.‏ هذا تفسير بالمراد، لأن التفسير تفسيران‏:‏

تفسير بالمراد، وهو المقصود بسياق الجملة بقطع النظر عن مفرداتها‏.‏

تفسير بالمعنى، وهو الذي يسمى تفسير الكلمات، فعندنا الآن وجهان للتفسير‏:‏

أحدهما‏:‏ التفسير اللفظي وهو تفسير الكلمات، وهذا يقال فيه‏:‏ معناه كذا وكذا‏.‏

الثاني‏:‏ التفسير بالمراد، فيقال‏:‏ المراد بكذا وكذا، والأخير هنا هو المراد‏.‏

فإذا قلنا‏:‏ الأنداد الأشباه والنظراء، فهو تفسير بالمعنى، وإذا قلنا‏:‏ الأنداد الشركاء أو الشرك، فهو تفسير بالمراد، يقول رضى الله عنه ‏(‏الأنداد هو الشرك‏)‏، فإذا الند الشريك المشارك لله - سبحانه وتعالى - فيما يختص به‏.‏

فلان، وحياتي، وتقول‏:‏ لولا كليبة هذا لأتانا اللصوص، ولولا البط في الدار، لأتي اللصوص، وقول الرجل لصاحبه لا تجعل فيها فلانا، هذا كله به شرك‏)‏ رواه ابن أبي حاتم

وقوله‏:‏ ‏(‏دبيب‏)‏‏.‏ أي‏:‏ أثر دبيب النمل وليس فعل النمل‏.‏

وقوله‏:‏ ‏(‏على صفاة‏)‏ هي الصخرة الملساء‏.‏

وقوله‏:‏‏(‏سوداء‏)‏‏.‏ وليس على بيضاء، إذ لو كان على بيضاء لبان أثر السير أكثر‏.‏

وقوله‏:‏ ‏(‏في ظلمة الليل‏)‏‏.‏ وهذا أبلغ ما يكون في الخفاء‏.‏

فإذا كان الشرك في قلوب بني آدم أخفى من هذا، فنسأل الله أن يعين على التخلص منه، ولهذا قال بعض السلف‏:‏ ‏(‏ما عالجت نفسي معالجتها على الإخلاص‏)‏، ويروى عن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ أنه لما قال مثل هذا، قيل له‏:‏كيف نتخلص منه‏؟‏ قال‏:‏ قولوا‏:‏ اللهم‏!‏ إنا نعوذ بك من أن نشرك بك شيئا نعلمه، ونستغفرك لما لا نعلم‏)‏ ‏[‏ابن ابي حاتم كما في تفسير ابن كثير ‏(‏1/63‏)‏‏.‏‏]‏‏.‏

وقوله‏:‏ ‏(‏والله وحياتك‏)‏‏.‏ فيها نوعان من الشرك‏:‏

الأول‏:‏ الحلف بغير الله‏.‏

الثاني‏:‏ الإشراك مع الله بقوله‏:‏ والله ‏!‏ وحياتك ‏!‏ فضمها إلى الله بالواو المقتضية للتسوية فيها نوع من الشرك، والقسم بغير الله إن اعتقد الحالف أن المقسم به بمنزلة الله في العظمة، فهو شرك أكبر، وإلا، فهو شرك أصغر‏.‏

وقوله‏:‏ ‏(‏وحياتي‏)‏ فيه حلف بغير الله فهو شرك‏.‏

وقوله‏:‏ ‏(‏لولا كليبة هذا لأتانا اللصوص‏)‏، كليبة تصغير كلب، والكلب ينتفع به للصيد وحراسة الماشيءة والحرث‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏لولا كليبة هذا‏)‏ يكون فيه شرك إذا نظر إلى السبب دون المسبب، وهو الله - عز وجل - أما الاعتماد على السبب الشرعي أو الحسي المعلوم، فقد تقدم أنه لا بأس به، وأن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال‏:‏ ‏(‏لولا أنا، لكان في الدرك السفل من النار‏)‏ ‏[‏تقدم ص 787‏.‏‏]‏ لكن قد يقع في قلب الإنسان إذا قال لولا كذا لحصل كذا أو ما كان كذا وكذا، قد يقع في قلبه شيء من الشرك بالاعتماد على السبب بدون نظر إلى المسبب، وهو الله - عز وجل -‏.‏

وقوله‏:‏ ‏(‏لولا البط في الدار لأتى اللصوص‏)‏‏.‏ البط طائر معروف، وإذا دخل اللص البيت وفيه بط، فإنه يصرخ، فينتبه أهل البيت ثم يجتنبه اللصوص‏.‏

وقوله‏:‏ ‏(‏وقول الرجل لصاحبه‏:‏ ما شاء الله وشئت‏)‏ فيه شرك، لأنه شرك غير الله مع الله بالواو، فإن اعتقد أنه يساوي الله - عز وجل - في التدبير والمشيءئة، فهو شرك أكبر، وأن لم يعتقد ذلك، واعتقد أن الله - سبحانه وتعالى - فوق كل شيء، فهو شرك أصغر، وكذلك قوله‏:‏ ‏(‏لولا الله فلان‏)‏‏.‏

وقوله‏:‏ ‏(‏هذا كله به شرك‏)‏‏.‏ المشار إليه ما سبق، وهو شرك أكبر أو اصغر وعن عمر بن الخطاب رضي الله عنه؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏من حلف بغير الله فقد كفر أو أشرك‏)‏ رواه الترمذي وحسنه وصححه الحاكم ‏[‏الإمام أحمد في المسند ‏(‏2/ 34، 86‏)‏ وأبو داوود كتاب الإيمان / باب كراهة الحلف بالأباء، والترمزي‏:‏ كتاب الإيمان /باب ما جاء في كراهة الحلف بغير الله ـ وحسنه، وابم حبان ‏(‏1177‏)‏ والحاكم ‏(‏1/18، 4/ 297‏)‏ وصححه ووافقه الذهبي، وصححه سماحة الشيءخ العلامة عبد العزيز بن باز في الفتاوى ‏(‏5/307‏)‏‏.‏‏]‏

حسب ما يكون في قلب الشخص من نوع هذا التشريك‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏وعن عمر‏)‏‏.‏ صوابه عن ابن عمر، نبه عليه الشارح في ‏(‏تيسير العزيز الحميد‏)‏‏.‏

قوله في حديث ابن عمر رضي الله عنهما‏:‏ ‏(‏من حلف بغير الله‏)‏‏.‏ ‏(‏من‏)‏ شرطية، فتكون للعموم‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏أو أشرك‏)‏‏.‏ شك من الراوي، والظاهر أن الصواب الحديث ‏(‏أشرك‏)‏

قوله‏:‏ ‏(‏من حلف بغير الله‏)‏‏.‏ يشمل كل محلوف به سوى الله، سواء بالكعبة أو الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ أو الأسماء أو غير ذلك، ولا يشمل الحلف بصفات الله، لأن الصفة تابعة للموصوف، وعلى هذا فيجوز أن تقول‏:‏ وعزة الله لأفعلن كذا‏.‏

وقوله‏:‏ ‏(‏بغير الله‏)‏‏.‏ ليس المراد بغير هذا الاسم، بل المراد بغير المسمى بهذا الاسم، فإذا حلف بالله أو بالرحمن أو بالسميع، فهو حلف بالله‏.‏

والحلف‏:‏ تأكيد الشيء بذكر معظم بصيغة مخصوصة بالباء أو التاء أو الواو‏.‏ وحروف القسم ثلاثة‏:‏ الباء، والتاء، والواو‏.‏

والباء‏:‏ أعمها، لأنه تدخل على الظاهر والمضمر وعلى أسم الله وغيره، ويذكر معها فعل القسم ويحذف، فيذكر معها فعل القسم، كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وأقسموا بالله جهد أيمانهم‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏109‏]‏، ويحذف مثل قولك‏:‏ بالله لأفعلن، وتدخل على المضمر مثل قولك‏:‏ الله عظيم أحلف به لأفعلن، وعلى الظاهر كما في الآية وعلى غير لفظ الجلالة، مثل قولك‏:‏ بالسميع لأفعلن، وأما الواو، فإنه لا يذكر معها فعل القسم، ولا تدخل على الضمير، ويحلف بها مع كل اسم، وأما التاء، فإنه لا يذكر معها فعل القسم وتختص بالله ورب، قال بن مالك‏:‏ ‏(‏والتاء لله ورب‏)‏‏.‏ والحلف بغير الله شرك أكبر إن اعتقد أن المحلوف به مساو لله تعالى في التعظيم والعظمة، وإلا، فهو شرك أصغر‏.‏

وهل يغفر الله الشرك الأصغر‏؟‏

قال بعض العلماء‏:‏ إن قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إن الله لا يغفر أن يشرك به}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 116‏]‏، أي‏:‏ الشرك الكبر ‏(‏ويغفر ما دون ذلك‏)‏، يعني‏:‏ الشرك الصغر والكبائر‏.‏

وقال شيءخ الإسلام ابن تميمة رحمه الله‏:‏إن الشرك لا يغفره لله ولو كان أصغر، لأن قوله‏:‏ ‏(‏أن يشرك به‏)‏ مصدر مؤول، فهو نكرة في سياق النفي، فيعم الصغر والأكبر،والتقدير‏:‏ لا يغفر شركا به أو إشراكا به‏.‏

وأما قوله تعالى‏:‏ ‏{‏والشمس وضحاها‏}‏ ‏[‏الشمس‏:‏1‏]‏،وقوله‏:‏‏{‏لا أقسم بهذا البلد‏}‏ ‏[‏البلد‏:‏ 1‏]‏، وقوله‏:‏ ‏{‏والليل إذا يغشى‏}‏ ‏[‏الليل‏:‏ 1‏]‏ وما أشبه ذلك من المخلوقات التي اقسم الله بها، فالجواب على وجهين‏:‏

الأول‏:‏ أن هذا من فعل الله والله لا يسأل عما يفعل، وله أن يقسم سبحانه بما شاء من خلقه، وهو سائل غير مسؤول وحاكم غير محكوم عليه‏.‏

الثاني‏:‏ أن قسم الله بهذه الآيات دليل على عظمته وكمال قدرته وحكمته، فيكون القسم به الدال على تعظيمها ورفع شأنها متضمنا للثناء على الله - عز وجل - بما تقتضيه من الدلالة على عظمته‏.‏

وأما نحن، فلا نقسم بغير الله أو صفاته، لأننا منهيون عن ذلك‏.‏

وأما ما ثبت في ‏(‏صحيح مسلم‏)‏ من قوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ‏:‏ ‏(‏أفلح وأبيه إن صدق‏)‏ ‏[‏مسلم كتاب الإيمان / باب بيان الصلوات التي هي أحد أركان الإسلام‏]‏‏.‏

فالجواب عنه من وجوه

الأول‏:‏ أن بعض العلماء أنكر هذه اللفظة، وقال‏:‏ إنها لم تثبت في الحديث، لأنها مناقضة للتوحيد، وما كان كذلك، فلا تصح نسبته إلى الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ فيكون باطلا‏.‏

الثاني‏:‏ أنها تصحيف من الرواة، والأصل‏:‏ ‏(‏أفلح والله إن صدق‏)‏‏.‏

وكانوا في السابق لا يشكلون الكلمات، و‏(‏أبيه‏)‏ تشبه ‏(‏الله‏)‏ إذا حذفت النقط السفلي‏.‏

الثالث‏:‏ أن هذا ما يجري على الألسنة بغير قصد، وقد قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم ولكن يؤاخذكم بما عقدتم الإيمان‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 89‏]‏، وهذا لم ينو فلا يؤاخذ‏.‏

الرابع‏:‏ أنه وقع من النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ وهو أبعد الناس عن الشرك، فيكون من خصائصه، وإما من غيره، فهم منهيون عنه لأنهم لا يساوون النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ في الإخلاص والتوحيد‏.‏

الخامس‏:‏ أنه على حذف مضاف، والتقدير‏:‏ ‏(‏أفلح ورب أبيه‏)‏‏.‏

السادس‏:‏ أن هذا على منسوخ، وأن النهي هو الناقل من الأصل، وهذا من أقرب الوجوه‏.‏

ولو قال قائل‏:‏ نحن نقلب عليكم الأمر، ونقول‏:‏ إن المنسوخ هو النهي، لأنهم لما كانوا حديثي عهد بشرك نهوا أن يشركوا به كما نهي الناس حين كانوا حديثي عهد بشرك عن زيارة القبور ثم أذن لهم فيها ‏[‏مسلم‏:‏ كتاب الجنائز/ باب استئذان النبي صلى الله عليه وسلم ربه زيارة أمه‏.‏‏]‏‏؟‏

فالجواب عنه‏:‏ أن هذا اليمين كان جاريا على ألسنتهم، فتركوا حتى استقر الإيمان في نفوسهم ثم نهوا عنه، ونظيره إقرارهم على شرب الخمر أولا ثم أمروا باجتنابه‏.‏

أما بالنسبة للوجه الأول، فضعيف لأن الحديث ثابت، وما دام يمكن حمله على وجه صحيح، فإنه يجوز إنكاره‏.‏

أما الوجه الثاني، فبعيد، وإن أمكن، فلا يمكن في قوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ لما سئل‏:‏ أي الصدقة أفضل‏؟‏ فقال‏:‏ ‏(‏أما وأبيك لتنبأنه‏)‏ ‏[‏مسلم‏:‏ كتاب الزكاة / باب أن أفضل الصدقة صدقة الصحيح الشحيح‏.‏‏]‏‏.‏

وأما الوجه الثالث، فغير صحيح لأن النهي وارد مع أنه كان يجري على ألسنتهم كما جرى على لسان سعد فنهاه النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ ‏[‏ونصه‏:‏0حلفت مرة باللات والعزى، فقال النبي صلى الله عليه وسلم ‏(‏قل لا إله إلا الله وحده لا شريك له، ثم انفث على يسارك ثلاثا، ثم تعوذ ولا تعد‏)‏‏.‏‏]‏، ولو صح هذا، لصح أن يقال لمن فعل شركا اعتاده لا ينهى، لأن هذا من عادته، وهذا باطل‏.‏

وأما الرابع، فدعوى الخصوصية تحتاج إلى دليل، وإلا، فالأصل التأسي به‏.‏

وأما الخامس‏:‏ فضعيف لأن الأصل عدم الحذف، ولأن الحذف هنا يستلزم فهما باطلا، ولا يمكن أن يتكلم الرسول صلى الله عليه بما يستلزم ذلك بدون بيان المراد، وعلى هذا يكون أقربها الوجه السادس أنه منسوخ، ولا نجزم بذلك لعدم العلم بالتاريخ، ولهذا قلنا أقربها والله أعلم، وإن كان النووي رحمه الله ارتضى أن هذا مما يجري على اللسان بدون قصد، لكن هذا ضعيف لا يمكن القول به، ثم رأيت بعضهم جزم بشذوذها لانفراد مسلم بها عن البخاري مع مخالفة راويها للثقات، فالله أعلم‏.‏

قال ابن مسعود‏:‏ (1)

****

قوله في اثر ابن مسعود‏:‏ ‏(‏لأن أحلف بالله كاذبا‏)‏‏.‏ اللام‏:‏ لام الابتداء، و‏(‏أن‏)‏ مصدرية، فيكون قوله‏:‏ ‏(‏أن أحلف‏)‏ مؤولا بمصدر مبتدأ تقديره لحلفي بالله‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏أحب إلىّ‏)‏‏.‏ خبر مبتدأ، ونظير ذلك في القرآن قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وأن تصوموا خير لكم‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 184‏]‏‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏كاذبا‏)‏ حال من فاعل أحلف‏.‏

قوله‏:‏‏(‏أحب إلىّ‏)‏ هذا من باب التفضيل الذي ليس فيه من الجانبين، وهذا نادر في الكلام، لأن التفضيل في الأصل يكون فيه المعنى ثابتا في المفضل وفي المفضل عليه، وأحيانا في المفضل دون المفضل عليه، وأحيانا لا يوجد في الجانبين، فابن مسعود رضى الله عنه لا يحب لا هذا ولا هذا، ولكن الحلف بالله كاذبا أهون عليه من الحلف بغيره صادق، فالحلف كاذبا محرم من وجهين‏:‏

1‏.‏ أن كذب، والكذب محرم لذاته‏.‏

2‏.‏ أن هذا الكذب قرن باليمين، واليمين تعظيم لله - عز وجل - فإذا كان على كذب صار فيه شيء من تنقص لله - عز وجل - حيث جعل اسمه مؤكدا لأمر كذب، ولذلك كان الحلف بالله كاذبا عند بعض أهل العلم من اليمين المغموس التي تغمس صاحبها في الإثم ثم في النار‏.‏

وأما الحلف بغير الله صادقا، فهو محرم من وجه واحد وهو الشرك، لكن سيئه الشرك أعظم من سيئة الكذب، وأعظم من سيئة الحلف بالله كاذبا، وأعظم من اليمين الغموس إذا قلنا‏:‏ إن الحلف بالله كاذبا، من اليمين الغموس، لأن الشرك لا يغفر، قال تعالى‏:‏ ‏{‏إن الله لا يغفر أن يشرك به‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏116‏]‏ وما أرسل الله الرسل وأنزل الكتب إلا لإبطال الشرك، فهو أعظم الذنوب، قال تعالى‏:‏ ‏{‏إن الشرك لظلم عظيم‏}‏ ‏[‏لقمان‏:‏ 13‏]‏، وسئل النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ‏:‏ أي الذنب أعظم‏؟‏ قال‏:‏ ‏(‏أن تجعل لله ندا وهو خلقك‏)‏ ‏[‏سبق تخريجه ص 606‏]‏، والشرك متضمن للكذب، فإن الذي جعل غير الله شريكا لله كاذب، بل من أكذب الكاذبين، لأن الله لا شريك له‏.‏

****

وعن حذيفة رضي الله عنه؛ أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏لا تقولوا ما شاء الله وشاء فلان ولكن قولوا ما شاء الله ثم شاء فلان‏)‏ رواه أبو داود بسند صحيح ‏[‏الإمام أحمد في المسند ‏(‏5/ 384‏)‏ وأبو داوود كتاب الأدب / باب لا يقال‏:‏ خبث نفسي، والطيالسي ‏(‏430‏)‏،والنسائي في عمل اليوم والليلة ‏(‏919‏)‏ قال النووي في الأذكار ‏(‏308‏)‏ إسناده صحيح‏]‏‏.‏

قوله في حديث حذيفة رضى الله عنه‏:‏ ‏(‏لا تقولوا‏)‏‏.‏ ‏(‏لا‏)‏ الناهية، ولهذا جزم الفعل بعدها بحذف النون‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏ما شاء الله وما شاء فلان‏)‏ ‏.‏ والعلة في ذلك أن الواو تقتضي تسوية المعطوف بالمعطوف عليه، فيكون القائل‏:‏ ما شاء الله وشئت مسويا مشيءئة الله بمشيءئة المخلوق، وهذا شرك، ثم إن اعتقد أن المخلوق أعظم من الخالق، أو أنه مساو له، فهو شرك أكبر، وإن اعتقد أنه أقل، فهو شرك أصغر‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏ولكن قولوا‏:‏ ما شاء الله ثم شاء فلان‏)‏‏.‏ لما نهي عن اللفظ المحرم بين اللفظ المباح، لأن ‏(‏ثم‏)‏ للترتيب والتراخي، فنفيد أن المعطوف أقل مرتبة من المعطوف عليه‏.‏

أما بالنسبة لقوله‏:‏ ‏(‏ما شاء الله فشاء فلان‏)‏، فالحكم فيه أنها مرتبة بين مرتبة ‏(‏الواو‏)‏ ومرتبة ‏(‏ثم‏)‏ فهي تختلف عن ‏(‏ثم‏)‏ بأن ‏(‏ثم‏)‏ للتراخي والفاء للتعقيب، وتوافق ‏(‏ثم‏)‏ بأنها للترتيب، فالظاهر أنها جائزة، ولكن التعبير بـ ‏(‏ثم‏)‏ أولى لأنه اللفظ الذي أرشد إليه النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ ولأنه أبين في إظهار الفرق بين الخالق والمخلوق‏.‏

ويستفاد من هذا الحديث‏:‏

1‏.‏ إثبات المشيءئة للعبد، لقوله‏:‏ ‏(‏ثم شاء فلان‏)‏، فيكون فيه رد على الجبرية حيث قالوا‏:‏ إن العبد لا مشيءئة له ولا اختيار‏.‏

2‏.‏ أنه ينبغي لمن سد على الناس بابا محرما أن يفتح لهم الباب المباح، لقوله‏:‏ ‏(‏ولكن قولوا‏:‏ ما شاء الله ثم شاء فلان‏)‏، ونظير ذلك قوله تعالى‏:‏ ‏{‏يا أيها الذين آمنوا لا تقولوا راعنا وقولوا انظرنا‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 104‏]‏، وكذلك النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ لما جي له بتمر جيد وأخبره الآتي به أنه أخذ الصاع بالصاعين والصاعين بالثلاثة، وقال‏:‏ ‏(‏لا تفعل، ولكن بع الجمع بالدراهم، ثم اشتر بالدراهم جنيبا ‏[‏البخاري‏:‏ كتاب البيوع / باب إذا أراد بيع تمر بتمر، ومسلم‏:‏ كتاب المساقاة /باب بيع الطعام مثلا بمثل‏.‏‏]‏، أي‏:‏ تمرا جيدا، فأرشده إلى الطريق المباح حين نهاه عن الطريق المحرم‏.‏

وفي هذا فائدتان عظيمتان‏:‏

الأولى‏:‏ بيان كمال الشريعة وشمولها، حيث لم تسد على الناس بابا إلا فتحت لهم ما هو خير منه‏.‏

الثانية‏:‏ التسهيل على الناس ورفع الحرج عنهم، فعامل الناس بهذا ما استطعت، كلما سددت عليهم بابا ممنوعا، فافتح لهم من المباح ما يغني عنه ما استطعت إلى ذلك سبيلا حتى لا يقعوا في الحرج‏.‏

****

وجاء عن إبراهيم النخعي‏:‏ ‏(‏أنه يكره‏:‏ أعوذ بالله وبك، ويجوز أن يقول بالله ثم بك‏)‏‏.‏ قال‏:‏ ويقول‏:‏ ‏(‏ولولا الله ثم فلان، ولا تقولوا لولا الله وفلان‏)‏‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏عن إبراهيم النخعي‏)‏‏.‏ من فقهاء التابعين، لكنه قليل البضاعة في الحديث، كما ذكر ذلك حماد بن زيد‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏يكره أعوذ بالله وبك‏)‏‏.‏ العياذ الاعتصام بالمستعاذ به عن المكروه، واللياذ بالشخص‏:‏ هو اللجوء إليه لطلب المحبوب، قال الشاعر‏:‏

يا من ألوذ به فيما أوملـــــه ** ومن أعوذ به مما أحـــــــاذره

لا يجبر الناس عظما أنت كاسره ** ولا يهيضون عظما أنت جابره

وهذان البيتان يخاطب بهما رجلا، لكن كما قال بعضهم‏:‏ هذا القول لا ينبغي أن يكون إلا لله‏.‏

وقوله‏:‏ ‏(‏أعوذ بالله وبك‏)‏‏.‏ هذا محرم، لأنه جمع بين الله والمخلوق بحرف يقتضي التسوية وهو الواو‏.‏

ويجوز بالله ثم بك، لأن ‏(‏ثم‏)‏ تدل على الترتيب والتراخي‏.‏

فإن قيل‏:‏ سبق أن من الشرك الاستعاذة بغير الله، وعلى هذا يكون قوله‏:‏ أعوذ بالله ثم بك محرما‏.‏

أجيب‏:‏ أن الاستعاذة بمن يقدر على أن يعيذك جائزة، لقوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ في ‏(‏صحيح مسلم‏)‏ وغيره‏:‏ ‏(‏من وجد ملجأ، فليعذ به‏)‏ ‏[‏سبق تخريجه ‏(‏ص ــــ‏)‏‏.‏‏]‏، لكنه قال‏:‏ أعوذ بالله ثم بفلان‏.‏ وهو ميت، فهذا شرك أكبر لأنه لا يقدر على أن يعيذك، وأما استدلال الإمام أحمد على أن القرآن غير مخلوق بقوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ‏:‏ ‏(‏أعوذ بكلمات الله التامات من شر ما خلق‏)‏، ثم قال رحمه الله‏:‏ والاستعاذة لا تكون بمخلوق فيحمل كلامه على أن الاستعاذة بكلام لا تكون بكلام مخلوق بل بكلام غير مخلوق،وهو كلام الله، والكلام تابع للمتكلم به، إن كان مخلوقا، وإن كان غير مخلوق، فهو غير مخلوق‏.‏

فيه مسائل‏:‏

الأولى‏:‏ تفسير آية البقرة في الأنداد‏.‏ وقد سبق

الثانية‏:‏ أن الصحابة يفسرون الآية النازلة في الشرك الأكبر أنها تعم الصغر، لأن قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فلا تجعلوا لله أندادا وأنتم تعلمون‏}‏ نازلة في الأكبر، لأن المخاطب بها هم المشركون، وابن عباس فسرها بما يقتضي الشرك الأصغر، لأن الند يشمل النظير المساوي على سبيل الإطلاق أو في بعض الأمور‏.‏

الثالثة‏:‏ الحلف بغير الله شرك‏.‏ لحديث ابن عمر رضى الله عنهما‏.‏

الرابعة‏:‏ أنه إذا حلف بغير الله صادقا، فهو أكبر من اليمين الغموس‏.‏ واليمين الغموس عند الحنابلة أن يحلف بالله كاذبا، وقال بعض العلماء - وهو الصحيح‏:‏ أن يحلف بغير الله كاذبا ليقتطع بها مال امري مسلم‏.‏

الخامسة‏:‏ الفرق بين الواو وثم في اللفظ‏.‏ لأن الواو تقتضي المساواة، فتكون شركا، وثم تقتضي الترتيب والتراخي، فلا تكون شركا‏.‏

****