فصل: باب قول الله تعالى: {وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} (المائدة: من الآية23)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: مجموع فتاوى ورسائل فضيلة الشيخ محمد بن صالح العثيمين **


باب قول الله تعالى‏:‏ ‏{‏وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ من الآية23‏]‏

مناسبة هذا الباب لما قبله

هي أن الإنسان إذا أفرد الله - سبحانه - بالتوكل، فإنه يعتمد عليه في حصول مطلوبه وزوال مكروهه، ولا يعتمد على غيره‏.‏

والتوكل‏:‏ هو الاعتماد على الله - سبحانه وتعالى - في حصول المطلوب، ودفع المكروه، مع الثقة به وفعل السباب المأذون فيها، وهذا أقرب تعريف له، ولا بد من أمرين‏:‏

الأول‏:‏ أن يكون الاعتماد على الله اعتمادا صادقا حقيقيا‏.‏

الثاني‏:‏ فعل الأسباب المأذون فيها‏.‏

فمن جعل أكثر اعتماده على الأسباب، نقص توكله على الله، ويكون قادحا في كفاية الله، فكأنه جعل السبب وحده هو العمدة فيما يصبو إليه من حصول المطلوب وزال المكروه‏.‏

ومن جعل اعتماده على الله ملغيا للأسباب، فقد طعن في حكمة الله، لأن الله جعل لكل شيء سببا، فمن اعتمد على الله اعتمادا مجردا، كان قادحا في حكمة الله، لأن الله حكيم، يربط الأسباب بمسبباتها، كمن يعتمد على الله في حصول الولد وهو لا يتزوج‏.‏

والنبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ أعظم المتوكلين، ومع ذلك كان يأخذ بالأسباب، فكان يأخذ الزاد في السفر، ولما خرج إلى أُحد ظاهر بين درعين، أي‏:‏ لبس درعين اثنين، ولما خرج مهاجرا أخذ من يدله الطريق ولم يقل سأذهب مهاجرا وأتوكل على الله، ولن أصطحب معي من يدلني الطريق، وكان ـ صلى الله عليه وسلم ـ يتقي الحر والبرد، ولم ينقص ذلك من توكله‏.‏

ويذكر عن عمر رضى الله عنه أنه قدم ناس من أهل اليمن إلى الحج بلا زاد، فجيء بهم إلى عمر، فسألهم فقالوا‏:‏ نحن المتوكلون على الله‏.‏ فقال‏:‏ لستم المتوكلين، بل المتواكلون‏.‏

والتوكل نصف الدين ولهذا نقول في صلاتنا ‏{‏إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ‏}‏ ‏[‏الفاتحة‏:‏5‏]‏

فنطلب من الله العون اعتمادا عليه سبحانه بأنه سيعيننا على عبادته‏.‏

وقال تعالى‏:‏ ‏{‏فاعبده وتوكل عليه‏}‏ ‏[‏هود‏:‏123‏]‏ وقال تعالى‏:‏ ‏{‏عليه توكلت وإليه أنيب‏}‏ ‏[‏هود‏:‏ 88‏]‏، ولا يمكن تحقيق العبادة إلا بالتوكل، لأن الإنسان لو ُوكل إلى نفسه وُكل إلى ضعف وعجز، ولم يتمكن من القيام بالعبادة، فهو حين يعبد الله يشعر أنه متوكل على الله، فينال بذلك أجر العبادة وأجر التوكل، ولكن الغالب عندنا ضعف التوكل، وأننا لا نشعر حين نقوم بالعبادة أو العادة بالتوكل على الله والاعتماد عليه في أن ننال هذا الفعل، بل نعتمد في الغالب على الأسباب الظاهرة وننسى ما وراء ذلك، فيفوتنا ثواب عظيم، وهو ثواب التوكل، كما أننا لا نوفق إلى الحصول المقصود كما هو الغالب سواء حصل لنا عوارض توجب انقطاعها أو عوارض توجب نقصها ‏.‏

والتوكل ينقسم إلى ثلاثة أقسام‏:‏

الأول‏:‏ توكل عبادة وخضوع، وهو الاعتماد المطلق على من توكل عليه، بحيث يعتقد أن بيده جلب النفع ودفع الضر، فيعتمد عليه اعتمادا كاملا، مع شعوره بافتقاره إليه، فهذا يجب إخلاصه لله تعالى، ومن لغير الله، فهو مشرك شركا أكبر، كالذين يعتمدون على الصالحين من الأموات والغائبين، وهذا لا يكون إلا ممن يعتقد أن لهؤلاء تصرفا خفيا في الكون، فيعتمد عليهم في جلب المنافع ودفع المضار‏.‏

الثاني‏:‏ الاعتماد على شخص في رزقه ومعاشه وغير ذلك، وهذا من الشرك الأصغر، وقال بعضهم‏:‏من الشرك الخفي، مثل اعتماد كثير من الناس على وظيفته في حصوله على رزقه، ولهذا تجد الإنسان يشعر من نفسه أنه معتمد على هذا اعتماد افتقار، فتجد في نفسه من المحاباة لمن يكون هذا الرزق عنده ما هو ظاهر، فهو لم يعتقد أنه مجرد سبب، بل جعله فوق السبب‏.‏

الثالث‏:‏ أن يعتمد على شخص فيما فوّض إليه التصرف فيه، كما لو وكلت شخصا في بيع شيء أو شرائه، وهذا لا شيء فيه، لأنه اعتمد عليه وهو يشعر أن المنزلة العليا له فوقه، لأنه جعله نائبا عنه، وقد وكل النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ علي ابن أبي طالب أن يذبح ما بقى من هديه، وككل أبا هريرة على الصدقة، ووكل عروة بن الجعد أن يشتري له شاه، وهذا بخلاف القسم الثاني، لأنه يشعر بالحاجة إلى ذلك، ويرى اعتماده على المتوكل عليه اعتماد افتقار‏.‏

ومما سبق يتبين أن التوكل من أعلى المقامات، وأنه يجب على الإنسان أن يكون مصطحبا له في جميع شؤونه، قال شيءخ الإسلام ابن تميمة رحمه الله‏:‏ (1)‏ لأن المعطلة يعتقدون انتفاء الصفات عن الله تعالى، والإنسان لا يعتمد إلا على من كان كامل الصفات المستحقة لأنه يعتمد عليه‏.‏

وكذلك القدرية، لأنهم يقولون‏:‏ إن العبد مستقل بعمله، والله ليس له تصرف في أعمال العباد‏.‏

ومن ثم نعرف أن طريق السلف هو خير الطرق، وبه تكمل جميع العبادات وتتم به جميع أحوال العابدين‏.‏

****

وقد ذكر المؤلف في هذا الباب أربع آيات، أولها ما جعله ترجمة للباب وهي‏:‏

قوله تعالى‏:‏‏(‏وعلى الله فتوكلوا‏)‏‏.‏ ‏(‏على الله‏)‏ متعلقة بقوله‏:‏ ‏(‏فتوكلوا‏)‏، أي‏:‏ اعتمدوا‏.‏

والفاء لتحسين اللفظ وليست عاطفة، لأن في الجملة حرف عطف وهو الواو، ولا يمكن أن نعطف الجملة بعاطفين، فتكون لتحسين اللفظ، كقوله تعالى‏:‏‏(‏بل الله فاعبد‏)‏ و التقدير‏:‏‏(‏بل الله اعبد‏)‏‏.‏

قوله ‏(‏إن كنتم مؤمنين‏)‏‏.‏ ‏(‏إن‏)‏‏:‏ شرطية، وفعل الشرط ‏(‏كنتم‏)‏، وجوابه قيل إنه محذوف دل عليه ما قبله، وتقدير الكلام‏:‏ إن كنتم مؤمنين فتوكلوا، وقيل‏:‏ إنه في مثل هذا التركيب لا يحتاج إلى جواب اكتفاء بما سبق، فيكون ما سبق كأنه فعل معلق بهذا الشيء، وهذا أرجح، لأن الأصل عدم الحذف‏.‏

وقول أصحاب موسى في هذه الآية يفيد أن التوكل من الإيمان ومن مقتضياته، كما لو قلت‏:‏ إن كنت كريما فأكرم الضيف‏.‏ فيقتضي أن إكرام الضيف من الكرم‏.‏

وهذه الآية تقتضي انتفاء كمال الإيمان بانتفاء التوكل على الله، إلا إن حصل اعتماد كلى على غير الله، فهو شرك أكبر ينتفي له الإيمان كله‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوُبهُم‏}‏ ‏[‏الأنفال‏:‏ من الآية2‏]‏

****

الآية الثانية‏:‏ قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إنما المؤمنون‏}‏‏.‏ ‏(‏إنما‏)‏‏:‏ أداة حصر، والحصر هو إثبات الحكم في المذكور ونفيه عما عداه، والمعنى‏:‏ ما المؤمنون إلا هؤلاء‏.‏

وذكر الله تعالى في هذه الآية وما بعدها خمسة أوصاف‏:‏

أحدهما‏:‏ قوله‏:‏ ‏{‏الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم‏}‏، أي‏:‏ خافت لما فيه من تعظيم الله تعالى، مثال ذلك‏:‏ رجل هم بمعصية، فذكر الله أو ذكر به، وقيل له‏:‏ اتق الله‏.‏ فإن كان مؤمنا، فإنه سيخاف، وهذا هو علامة الإيمان‏.‏

الوصف الثاني‏:‏ قوله‏:‏ ‏(‏وإذا تليت عليهم آياته زادتهم إيمانا‏)‏، أي‏:‏ تصديق وامتثالا، وفي هذا دليل على أن الإنسان قد ينتفع بقراءة غيره أكثر مما ينتفع بقراءة نفسه كما أمر الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ عبد الله بن مسعود أن يقرأ عليه، فقال‏:‏

كيف أقرأ عليك وعليك أُنزل‏؟‏ فقال‏:‏ ‏(‏إني أُحب أن أسمعه من غيري‏)‏ فقرأ عليه سورة النساء حتى بلغ قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلاءِ شَهِيداً‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏41‏]‏‏.‏ قال‏:‏ ‏(‏حسبك‏)‏ فنظرت، فإذا عيناه تذرفان‏.‏

الوصف الثالث‏:‏ قوله‏:‏ ‏{‏وعلى ربهم يتوكلون‏}‏‏.‏ أي‏:‏ يعتمدون على الله لا على غيره، وهم مع ذلك يعملون الأسباب، وهذا هو الشاهد‏.‏

الوصف الرابع‏:‏ قوله‏:‏ ‏{‏الذين يقيمون الصلاة‏}‏ أي‏:‏ يأتون بها مستقيمة كاملة، والصلاة‏:‏ اسم جنس تشمل الفرائض والنوافل‏.‏

الوصف الخامس‏:‏ قوله‏:‏ ‏{‏ومما رزقناهم ينفقون‏}‏‏.‏ ‏(‏من‏)‏ للتبعيض، فيكون الله يمدح من أنفق بعض ماله لا كله، أو تكون لبيان الجنس، فيشمل الثناء من أنفق البعض ومن أنفق الكل، والصواب‏:‏ أنها لبيان الجنس، وأن من أنفق الكل يدخل في الثناء إذا توكل على الله تعالى في أن يرزقه وأهله كما فعل أبو بكر، أما إن كان أهله في حاجة أو كان المنفق عليه ليس بحاجة ماسة تستلزم إنفاق المال كله، فلا ينبغي أن ينفق ماله عليه‏.‏

****

قوله‏:‏ ‏{‏يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللَّهُ‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ ‏[‏الأنفال‏:‏64‏]‏ الآية‏.‏

الآية الثالثة قوله تعالى‏:‏ ‏{‏يا أيها النبي‏}‏‏.‏ المراد به الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ يخاطب الله رسوله بوصف النبوة أحيانا، فحينما يأمره أن يبلغ يناديه بوصف الرسالة، وأما في الأحكام الخاصة، فالغالب أن يناديه بوصف النبوة، قال تعالى‏:‏ ‏{‏يا أيها النبي لم تحرم ما أحل الله لك‏}‏ ‏[‏التحريم‏:‏ 1‏]‏ وقال تعالى‏:‏ ‏{‏يا أيها النبي إذا طلقتم النساء‏}‏ ‏[‏الطلاق‏:‏ 1‏]‏‏.‏

و ‏{‏النبي‏}‏ فعيل بمعنى مفعل بفتح العين ومفعل بكسرها، أي‏:‏ منبأ، ومنبئي، فالرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ منبأ من قبل الله، ومنبئ لعباد الله‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏حسبك الله‏)‏‏.‏ أي‏:‏ كافيك، والحسب‏:‏ الكافي، ومنه قوله أعطى درهما فحسب، وحسب خبر مقدم، ولفظ الجلالة مبتدأ مؤخر، والمعنى‏:‏ ما الله إلا حسبك، ويجوز العكس، أي‏:‏ أن تكون حسب مبتدأ ولفظ الجلالة خبره، ويكون المعنى‏:‏ ما حسبك إلا الله وهذا هو الأرجح‏.‏

قوله‏:‏ ‏{‏ومن اتبعك من المؤمنين‏}‏‏.‏ ‏(‏من‏)‏‏:‏ اسم موصول مبنية على السكون، وفي عطفها رأيان لأهل العلم‏:‏ قيل‏:‏ حسبك الله، وحسبك من اتبعك من المؤمنين، ف ‏(‏من‏)‏ معطوفة على الله لأنه أقرب، ولو كان العطف على الكاف في حسبك، لوجب إعادة الجار، وهذا كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏هو الذي أيدك بنصره والمؤمنين‏}‏ ‏[‏الأنفال‏:‏62‏]‏، فالله أيد رسوله بالمؤمنين، فيكونون حسبا له كما كان الله حسبا له‏.‏

وهذا ضعيف، والجواب عنه من وجوه‏:‏

أولا‏:‏ قولهم‏:‏ عطف عليه لكونه أقرب ليس بصحيح، فقد يكون العطف على شيء سابق، حتى أن النحويين قالوا‏:‏ إذا تعددت المعطوفات يكون العطف على الأول‏.‏

ثانيا‏:‏ قولهم‏:‏ لو عطف على الكاف لوجب إعادة الجار، والصحيح أنه ليس بلازم، كما قال ابن مالك‏:‏

ليس عندي لازما إذ قد أتى ** في النثر والنظم الصحيح مثبتا

ثالثا‏:‏ استدلالهم بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏هو الذي أيدك بنصره وبالمؤمنين‏}‏‏.‏

فالتأييد لهم غير كونهم حسبه، لأن المعنى كونهم حسبه أن يعتمد عليهم، ومعنى كونهم يؤيدونه أي ينصرونه مع استقلاله بنفسه ، وبينهما فرق‏.‏

رابعا‏:‏ أن الله - سبحانه وتعالى - حينما يذكر الحسب يخلصه لنفسه، قال تعالى‏:‏ ‏{‏وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوا مَا آتَاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ سَيُؤْتِينَا اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَرَسُولُهُ‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏59‏]‏ ففرق بين الحسب والإيتاء، وقال تعالى‏:‏ ‏[‏قل حسبي الله عليه يتوكل المؤمنون‏}‏ ‏[‏الزمر‏:‏ 38‏]‏ فكما أن التوكل على غير الله لا يجوز، فكذلك الحسب لا يمكن أن يكون غير الله حسبا، فلو كان، لجاز التوكل عليه، ولكن الحسب هو الله، وهو الذي عليه يتوكل المتوكلون‏.‏

خامسا‏:‏ أن في قوله‏:‏ ‏(‏ومن اتبعك‏)‏ ما يمنع الصحابة حسبا للرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ وذلك لأنهم تابعون، فكيف يكون التابع حسبا للمتبوع‏؟‏ هذا لا يستقيم أبدا، فالصواب أنه معطوف على الكاف في قوله‏:‏ ‏(‏حسبك‏)‏، أي‏:‏ وحسب من أتبعك من المؤمنين، فتوكلوا عليه جميعا أنت ومن اتبعك‏.‏

قوله‏:‏ ‏{‏ومن يتوكل على الله فهو حسبه‏}‏ ‏[‏الطلاق‏:‏ 3‏]‏ الآية‏.‏

****

الآية الرابعة‏:‏ قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ومن يتوكل على الله فهو حسبه‏}‏‏.‏ جملة شرطية تفيد بمنطوقها أن من يتوكل على الله، فإن الله يكفيه مهماته وييسر له أمره، فالله حسبه ولو حصل بعض الأذية، فإن الله يكفيه الأذى، والرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ سيد المتوكلين، ومع ذلك يصيبه الأذى ولا تحصل له المضرة، لأن الله حسبه، فالنتيجة لمن اعتمد على الله أن يكفيه ربه المؤونة‏.‏

والآية تفيد بمفهومها أن من توكل على غير الله خذل، لأن غير الله لا يكون حسبا كما تقدم، فمن توكل على غير الله تخلى عنه، وصار موكولا إلى هذا الشيء ولم يحصل له مقصوده، وابتعد عن الله بمقدار توكله على غير الله‏.‏

وعن ابن عباس، قال‏:‏ ‏(‏حسبنا الله ونعم الوكيل‏)‏، قالها إبراهيم عليه السلام حين ألقى في النار،وقالها محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ حين قالوا له‏:‏‏{‏الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَاناً وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏173‏]‏‏.‏ رواه البخاري ‏[‏البخاري‏:‏ كتاب التفسير / باب ‏(‏الذين قال لهم الناس‏.‏‏.‏‏.‏‏)‏‏]‏‏.‏

****

قوله في أثر ابن عباس رضى الله عنهما‏:‏‏"‏ قال محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ حين قالوا له‏:‏ ‏(‏إن الناس قد جمعوا لكم‏)‏‏.‏

وهذا في نص القرآن لما انصرف أبو سفيان من أُحد أراد أن يرجع إلى النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ وأصحابه ليقضي عليهم بزعمه، فلقي ركبا فقال لهم‏:‏ إلى أين ذهبون‏؟‏ قالوا نذهب إلى المدينة‏.‏ فقال‏:‏ بلغوا محمدا وأصحابه أنّا راجعون إليهم فقاضون عليهم‏.‏ فجاء الركب إلى المدينة، فبلغوهم، فقال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ومن معه‏:‏ حسبنا الله ونعم الوكيل‏.‏ وخرجوا في نحو سبعين راكبا، حتى بلغوا حمراء الأسد، ثم إن أبا سفيان تراجع عن رأيه وانصرف إلى مكة، وهذا من كفاية الله لرسوله وللمؤمنين، حيث اعتمدوا عليه تعالى‏.‏

قوله‏:‏ ‏{‏قال لهم الناس‏}‏‏.‏ أي‏:‏ الركب‏.‏

قوله‏:‏ ‏{‏إن الناس‏}‏‏.‏ أي‏:‏ أبا سفيان ومن معه، وكلمة الناس يمثل بها الأصوليون للعام الذي أُريد به الخصوص‏.‏

قوله‏:‏ ‏{‏حسبنا‏}‏‏.‏ أي‏:‏ كافينا، وهي مبتدأ ولفظ الجلالة خبره‏.‏

قوله‏:‏ ‏{‏نعم الوكيل‏}‏‏.‏ ‏(‏نعم‏)‏‏:‏ فعل ماضي، ‏(‏الوكيل‏)‏‏:‏ فاعل، والمخصوص محذوف تقديره‏:‏ هو، أي‏:‏ الله، والوكيل‏:‏ المعتمد عليه سبحانه، والله - سبحانه - يطلق عليه اسم وكيل، وهو أيضا مُوكّل، والوكيل في مثل قوله تعالى‏:‏ ‏{‏نعم الوكيل‏}‏، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وكفى بالله وكيلا‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 81‏]‏، وأما الموكل، ففي مثل قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فإن يكفر بها هؤلاء فقد وكلنا بها قوما ليسوا بها كافرين‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏89‏]‏

وليس المراد بالتوكيل هنا إنابة الغير فيما يحتاج إلى الاستنابة فيه، فليس توكيله سبحانه من حاجة له، بل المراد بالتوكيل الاستخلاف في الأرض لينظر كيف يعملون‏.‏

وقول ابن العباس رضى الله عنهما‏:‏ ‏(‏إن إبراهيم قالها حين أُلقى في النار‏)‏ قول لا مجال للرأي فيه، فيكون له حكم الرفع‏.‏

وابن عباس ممن يروي عن بني إسرائيل، فيحتمل أنه أخذه منه، ولكن جزمه بهذا، وقرنه لما قاله الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ مما يبعد أن يكون أخذه من بني إسرائيل‏.‏

الشاهد من الآية‏:‏ قوله تعالى‏:‏‏{‏وقالوا حسبنا الله ونعم الوكيل‏}‏ حيث جعلوا حسبهم الله وحده‏.‏

‏(‏تنبيه‏)‏‏:‏

قولنا‏:‏ ‏"‏وابن عباس ممن يروى عن بني إسرائيل‏"‏ قول مشهور عند علماء المصطلح، لكن فيه نظر، فإن ابن عباس رضى الله عنهما ممن ينكر الأخذ عن بني إسرائيل، ففي ‏(‏صحيح البخاري‏)‏ ‏(‏5/291 - فتح‏)‏ أنه قال‏:‏ ‏(‏يا معشر المسلمين‏!‏ كيف تسألون أهل الكتاب وكتابكم الذي أُنزل على نبيه ـ صلى الله عليه وسلم ـ أحدث الأخبار بالله تقرؤونه لم يُشب، وقد حدثكم الله أن أهل الكتاب بدلوا ما كتب الله وغيروا بأيديهم الكتاب‏؟‏‏!‏ فقالوا‏:‏ هذا من عند الله ليشتروا به ثمنا قليلا، أفلا ينهاكم ما جاءكم من العلم عن مساءلتهم‏؟‏‏!‏ لا والله ما رأينا منهم رجلا يسألكم عن الذي أُنزل عليكم‏)‏

***

فيه مسائل‏:‏

الأولى‏:‏ أن التوكل من الفرائض‏.‏ووجهه أن الله علق الإيمان بالتوكل في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وعلى الله فتوكلوا إن كنتم مؤمنين‏}‏، وقد سبق تفسيرها‏.‏

الثانية‏:‏ أنه من شروط الإيمان‏.‏ تؤخذ من قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إن كنتم مؤمنين‏}‏‏.‏ وسبق تفسيرها‏.‏

الثالثة‏:‏ تفسير آية الأنفال وهي قوله تعالى‏:‏ ‏(‏إنما المؤمنون الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم‏.‏‏.‏‏.‏‏)‏ والمراد بالإيمان هنا الإيمان الكامل، وإلا، فالإنسان يكون مؤمنا وأن لم يتصف بهذه الصفات، لكن معه مطلق الإيمان، وقد سبق تفسير ذلك‏.‏

الرابعة‏:‏ تفسير الآية في آخرها، أي‏:‏ آخر الأنفال‏.‏ وهي قوله تعالى‏:‏ ‏{‏يا أيها النبي حسبك الله ومن اتبعك من المؤمنين‏}‏، أي‏:‏ حسبك وحسب من اتبعك من المؤمنين، وهذا هو الراجح على ما سبق‏.‏

الخامسة‏:‏ تفسير آية الطلاق‏.‏ وهي قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ومن يتوكل على الله فهو حسبه‏}‏ وقد سبق تفسيرها‏.‏

السادسة‏:‏ عظم شأن هذه الكلمة، وأنها قول إبراهيم عليه السلام ومحمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ في الشدائد‏.‏ يعني قول‏:‏ ‏(‏حسبنا الله ونعم الوكيل‏)‏‏.‏

وفي الباب مسائل غير ما ذكره المؤلف، منها‏:‏

زيادة الإيمان، لقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وإذا تليت عليهم آياته زادتهم إيمانا‏}‏‏.‏

ومنها‏:‏ أنه عند الشدائد ينبغي أن يعتمد على الله مع فعل الأسباب، لأن الرسول صلى الله عليه وأصحابه قالوا ذلك عندما قيل لهم‏:‏ إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم، ولكنهم فوّضُوا الأمر إلى الله، وقالوا‏:‏ حسبنا الله ونعم الوكيل‏.‏

ومنها‏:‏ أن اتباعه النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ مع الإيمان سبب لكفاية الله للعبد‏.‏