فصل: باب لا يرد من سال بالله

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: مجموع فتاوى ورسائل فضيلة الشيخ محمد بن صالح العثيمين **


باب لا يرد من سال بالله

قوله‏:‏ ‏(‏باب لا يرد‏)‏‏.‏ ‏(‏لا‏)‏ نافية بدليل رفع المضارع بعدها، والنفي يحتمل أن يكون للكراهة، وأن يكون للتحريم‏.‏

وقوله‏:‏ ‏(‏من سأل بالله‏)‏‏.‏ أي‏:‏ من سأل غيره بالله، والسؤال بالله ينقسم إلى قسمين‏:‏

أحدهما‏:‏ السؤال بالله بالصيغة، مثل أن يقول‏:‏ أسألك بالله كما تقدم في حديث الثلاثة حيث قال الملك‏:‏ ‏(‏أسألك بالذي أعطاك الجلد الحسن واللون الحسن بعيرا‏)‏‏(‏1‏)‏‏.‏

الثاني‏:‏ السؤال بشرع الله - عز وجل - أي‏:‏ يسأل سؤالا يبيحه الشرع، كسؤال الفقير من الصدقة، والسؤال عن مسألة من العلم، وما شابه ذلك‏.‏

وحكم من رد من سأل بالله الكراهة أو التحريم حسب حال المسؤول والسائل، وهنا عدة مسائل‏:‏

المسألة الأولى‏:‏ هل يجوز للإنسان أن يسأل بالله أم لا‏؟‏

وهذه المسألة لو يتطرق إليه المؤلف رحمه الله، فنقول أولا‏:‏ السؤال من حيث هو مكروه ولا ينبغي للإنسان أن يسأل أحدا شيئا إلا إذا دعت الحاجة إلى ذلك، ولهذا كان مما بايع النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ أصحابه أن يسألوا الناس شيئا، حتى إن عصا أحدهم ليسقط منه وهو على راحلته، فلا يقول لأحد‏:‏ ناولينه، بل ينزل ويأخذه‏(‏2‏)‏‏.‏

والمعنى يقتضيه، لأنك إذا أعززت نفسك ولم تذلها لسؤال الناس بقيت محترما عند الناس، وصار لك منعة من أن تذل وجهك لأحد، لأن من أذل وجهه لأحد، فإنه ربما يحتاجه ذلك الأحد لأمر يكره أن يعطيه إياه، ولكنه سأله اضطر إلى يجيبه، ولهذا روي عن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ أنه قال ‏(‏ازهد فيما عند الناس يحبك الناس‏)‏ ‏[‏ابن ماجة‏:‏ كتاب الزهد / باب الزهد في الدنيا‏.‏‏]‏، فالسؤال أصلا مكروه أو محرم إلا لحاجة أو ضرورة‏.‏

فسؤال المال محرم، فلا يجوز أن يسال من أحد مالا إلا إذا دعت الضرورة إلى ذلك، وقال الفقهاء رحمهم الله في باب الزكاة‏:‏ ‏(‏إن من أبيح له أخذ شيء أبيح له سؤاله‏)‏، ولكن فيما قالوه نظر، فإن الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ حذر من السؤال، وقال‏:‏ ‏(‏إن الإنسان لا يزال يسأل الناس حتى يأتي يوم القيامة وليس في وجهه مزعة لحم‏)‏ ‏[‏البخاري‏:‏ كتاب الزكاة/ باب من سال الناس تكثرا، ومسلم‏:‏ كتاب الزكاة / باب كراهة المسألة‏.‏‏]‏، وهذا يدل على التحريم إلا للضرورة‏.‏

وأما سؤال المعونة بالجاه أو المعونة بالبدن، فهذا مكروه، إلا إذا دعت الحاجة إلى ذلك‏.‏

وأما إجابة السائل، فهو موضوع بابنا، ولا يخلو السائل من أحد الأمرين‏:‏

الأول‏:‏ أن يسأل سؤالا مجردا، كأن يقول مثلا‏:‏ يا فلان‏!‏ أعطني كذا وكذا، فإن كان مما أباحه الشارع له فإنك تعطيه، كالفقير يسأل شيئا من الزكاة‏.‏

الثاني‏:‏ أن يسأل بالله، فهذا تجيبه وإن لم يكن مستحقا، لأنه سال بعظيم، فإجابته من تعظيم هذا التعظيم، لكن لو سال إثما أو كان في إجابته ضرر على المسؤول، فإنه يجاب‏.‏

مثال الأول‏:‏ أن يسألك بالله نقودا ليشتري بها محرما كالخمر‏.‏

ومثال الثاني‏:‏ أن يسألك بالله أن تخبره عما في سرك وما تفعله مع أهلك، فهذا لا يجاب لأن في الأول إعانة على الإثم، وإجابته في الثاني ضرر على المسؤول‏.‏

عن ابن عمر رضي الله عنه قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏من سأل بالله فأعطوه؛ ومن استعاذ بالله؛ فأعيذوه، ومن دعاكم؛ فأجيبوه، ومن صنع إليكم معرروفا؛ فكافئوه، فإن لم تجدوا ما تكافئوه، فأدعوا له حتي تروا أنكم قد كافأتموه‏)‏‏.‏ رواه أبو داوود والنسائي بسند صحيح

* * *

قوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ‏:‏ ‏(‏من سال بالله‏)‏‏.‏ ‏(‏من‏)‏‏:‏ شرطية للعموم‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏فأعطوه‏)‏ الأمر هنا للوجوب ما لم يتضمن السؤال إثما أو ضررا على المسؤول، لأن في إعطائه إجابة لحاجته وتعظيما لله - عز وجل - الذي سال به‏.‏

ولا يشترط أن يكون سؤاله بلفظ الجلالة بل بكل اسم يختص بالله، كما قال الملك الذي جاء إلى الأبرص والقرع والأعمى‏:‏ ‏(‏أسألك بالذي أعطاك كذا وكذا‏)‏ ‏[‏تقدم ‏(‏ص110‏)‏‏.‏‏]‏‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏ومن استعاذ بالله فأعيذوه‏)‏‏.‏ أي قال‏:‏ أعوذ بالله منك، فإنه يجب عليك أن تعيذه، لأنه استعاذ بعظيم، ولهذا لما قالت ابنة الجون للرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ‏:‏ أعوذ بالله منك، قال لها‏:‏ ‏(‏لقد عذت بعظيم- أو معاذ - الحقي بأهلك ‏[‏البخاري‏:‏ كتاب الطلاق / باب من طلق وهل يواجه الرجل امرأته بالطلاق‏.‏‏]‏‏.‏

لكن يستثنى من ذلك لو استعاذ من أمر واجب عليه، فلا تعذه، مثل أن تلزمه بصلاة الجماعة، فقال أعوذ بالله منك‏.‏

وكذلك لو ألزمته بالإقلاع عن أمر محرم، فاستعاذ بالله منك، فلا تعذه لما فيه من التعاون على الإثم والعدوان، ولأن الله لا يعيذ عاصيا، بل العاصي يستحق العقوبة لا الانتصار له وإعادته‏.‏

وكذلك من استعاذ بملجأ صحيح يقتضي الشرع أن يعيذه - وإن لم يقل أستعيذ بالله - فإنه يجب عليك أن تعيذه كما قال أهل العلم‏:‏ لو جنى أحد جناية ثم لجأ إلى الحرم، فإنه لا يقام عليه الحد ولا القصاص في الحرم، ولكنه يضيق عليه، فلا يبايع، ولا يشترى منه، ولا يؤجر حتى يخرج‏.‏

قوله‏:‏‏(‏ومن دعاكم فأجيبوه‏)‏‏.‏ ‏(‏من‏)‏‏:‏ شرطية للعموم، والظاهر أن المراد بالدعوة هنا للإكرام، وليس المقصود بالدعوة هنا النداء‏.‏

وظاهر الحديث وجوب إجابة الدعوة في كل دعوة، وهو مذهب الظاهرية‏.‏

وجمهور أهل العلم‏:‏ أنها مستحبة إلا دعوة العرس، فإنها واجبة لقوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ فيها‏:‏‏(‏شر الطعام طعام الوليمة، يدعى إليها من يأباها ويمنعها من يأتيها، ومن لم يجب، فقد عصى الله ورسوله‏)‏ ‏[‏البخاري‏:‏ كتاب النكاح/ باب من ترك الدعوة فقد عصى الله ورسوله/ ومسلم‏:‏ كتاب النكاح / باب الأمر بإجابة الداعي‏.‏‏]‏‏.‏ وسواء قيل بالوجوب أو الاستحباب، فإنه يشترط لذلك شروط‏:‏

1‏.‏ 1‏.‏ أن يكون الداعي ممن لا يجب هجره أو يسن‏.‏

2‏.‏ 2‏.‏ ألا يكون هناك منكر في مكان الدعوة، فإن كان هناك منكر، فإن أمكنة إزالته، وجب عليه الحضور لسببين‏:‏

- - إجابة الدعوة‏.‏

- - وتغيير المنكر‏.‏

وإن كان لا يمكن إزالته حرم عليه الحضور، لأن حضوره يستلزم إثمه، وما استلزم الإثم، فهو إثم‏.‏

3‏.‏ 3‏.‏ أن يكون الداعي مسلما، وإلا لم تجب الإجابة، لقوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ‏:‏ ‏(‏حق المسلم على المسلم خمس‏.‏‏.‏‏.‏‏)‏ وذكر منها‏:‏ ‏(‏إذا دعاك فأجبه‏)‏ ‏[‏البخاري‏:‏ كتاب الجنائز / باب الأمر باتباع الجنائز، ومسلم‏:‏ كتاب السلام / باب من حق المسلم للمسلم‏.‏‏]‏‏.‏ قالوا‏:‏ وهذا مقيد للعموم الوارد‏.‏

4‏.‏ 4‏.‏ أن لا يكون كسبه حرام، لأن إجابته تسلتزم أن تأكل طعاما حراما، وهذا لا يجوز، وبه قال بعض أهل العلم‏.‏

وقال آخرون‏:‏ ما كان محرما لكسبه، فإنما إثمه على الكاسب لا على من أخذه بطريق مباح من الكاسب، بخلاف ما كان محرما لعينه، كالخمر والمغصوب ونحوهما، وهذا القول وجيه قوي، بدليل أن الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ اشتري من يهودي طعاما لأهله‏(‏3‏)‏، وأكل من الشاة التي أهدتها له اليهودية بخيبر‏[‏البخاري‏:‏ كتاب الهبة / باب قبول الهدية من المشركين، ومسلم‏:‏ كتاب السلام / باب السم‏.‏

‏]‏ ، وأجاب دعوة اليهودي، ومن المعلوم أن اليهود معظمهم يأخذون الربا ويأكلون السحت، وربما يقوي هذا القول قوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ في اللحم الذي تصدق به على بريرة‏:‏ ‏(‏هو لها صدقة ولنا منها هدية‏)‏‏[‏ البخاري‏:‏ كتاب الزكاة / باب إذا تحولت الصدقة، ومسلم‏:‏ كتاب الزكاة / باب إباحة الهدية للنبي عليه الصلاة والسلام‏.‏‏]‏‏.‏

وعلى القول الأول، فإن الكراهة تقوي وتضعف حسب كثرة المال الحرام وقلته، فكلما كان الحرام أكثر كانت الكراهة أشد، وكلما قل كانت الكراهة أقل‏.‏

5‏.‏ 5‏.‏ أن لا تتضمن الإجابة إسقاط واجب أو ماهو أوجب منها، فإن تضمنت ذلك حرمت الإجابة‏.‏

6‏.‏ 6‏.‏ أن لا تتضمن ضررا على المجيب، مثل أن تحتاج إجابة الدعوة إلى سفر أو مفرقة هله المحتاجين إلى وجوده بينهم‏.‏

مسألة‏:‏ هل إجابة الدعوة حق على لله أو للآدمي‏؟‏

الجواب‏:‏ حق للآدمي، ولهذا طلبت من الداعي أن يقيلك فقبل، فلا إثم عليك، لكنها واجبة بأمر الله عز وجل- ولهذا ينبغي أن تلاحظ أن إجابتك طاعة لله وقيام بحق أخيك، لكن صاحبها أن يسقطها كما أن له أن لا يدعوك أيضا، ولكن إذا أقالك حياء منه وخجلا من غير اقتناع، فإنه لا ينبغي أن تدع الإجابة‏.‏

مسألة‏:‏ هل بطاقات الدعوة التي توزع كالدعوة بالمشافهة‏؟‏

الجواب‏:‏ البطاقات ترسل إلى الناس ولا يدري لمن ذهبت إليه، فيمكن أن نقول‏:‏ إنها تشبه دعوة الجفلي فلا تجب الإجابة، أما إذا علم أو غلب على الظن أن الذي أرسلت إليه مقصود بعينه، فإنه لها حكم الدعوة بالمشافهة‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏من صنع إليكم معروفا، فكافئوه‏)‏‏.‏ المعروف‏:‏ الإحسان، فمن أحسن إليك بهدية أو غيرها، فكافئه، فإذا أحسن إليك بإنجاز معاملة وكان عملا زائدا عن الواجب عليه،فكافئه، وهذا، كالملك أو الرئيس‏.‏‏.‏‏.‏ مثلا إذا أعطاك هدية، فمثل هذا يدعي له، لأنك لو كافأته لرأى أن في ذلك غضا من حقه فتكون مسيئا له، والنبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ أن تكافئه إحسانه‏.‏

وللمكافأة فائدتان‏:‏

1‏.‏ 1‏.‏ تشجيع ذوي المعروف على فعل المعروف‏.‏

2‏.‏ 2‏.‏ أن الإنسان يكسر بها الذل الذي حصل له يصنع المعروف إليه، لأن من صنع إليك

معروفا فلا بد أن يكون في نفسك رقة له، فإذا رددت إليه معروفه زال عنك ذلك، ولهذا قال النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ‏:‏ ‏(‏اليد العليا خير من اليد السفلى‏)‏‏[‏ البخاري‏:‏ كتاب الزكاة / باب لا صدقة إلا عن ظهر غني، ومسلم كتاب الزكاة / باب بيان أن اليد العليا خير من اليد السفلى‏.‏

‏]‏، واليد العليا هي يد المعطي، وهذه فائدة عظيمة لمن صنع له معروفا، لئلا يرى لأحد عليه منة إلا الله - عز وجل - لكن بعض الناس يكون كريما جدا، فإذا كافأته بدل هديته أكثر مما أعطيته، فهذا لا يريد مكافأة، ولكن يدعي له، لقوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ‏:‏ ‏(‏فإن لم تجدوا ما تكافئونه، فادعوا له‏)‏ وكذلك الفقير إذا لم يجد مكافأة الغني فإنه يدعو له‏.‏

ويكون الدعاء بعد الإهداء مباشرة، لأنه من باب المسارعة إلى أمر الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ ولأنه به سرور صانع المعروف‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏حتى تروا أنكم قد كافأتموه‏)‏‏.‏ ‏(‏تروا‏)‏، بفتح التاء بمعنى تعلموا، وتجوز بالضم بمعنى تظنوا، أي‏:‏ حتى تعلموا أو يغلب على ظنكم أنكم قد كافأتموه، ثم أمسكوا‏.‏

* * *

* فيه مسائل‏:‏

* الأولى‏:‏ إعاذة من استعاذ بالله‏.‏ وسبق أن من استعاذ بالله وجبت إعاذته، إلا أن يستعيذ عن شيء واجب فعلا أو تركا، فإنه لا يعاذ‏.‏

* الثانية‏:‏ إعطاء من سأل بالله‏.‏ وسبق التفصيل فيه‏.‏

* الثالثة‏:‏ إجابة الدعوة‏.‏ وسبق كذلك التفصيل فيها‏.‏

* الرابعة‏:‏المكافأة على الصنيعة‏.‏أي‏:‏على صنيعة من صنع إليك معروفا، وسبق تفصيل ذلك‏.‏

* الخامسة‏:‏ أن الدعاء مكافأة لمن يقدر إلا عليه‏.‏ وسبق أنه مكافأة في ذلك، وفيما إذا كان الصانع لا يكافأ مثله عادة‏.‏

* السادسة‏:‏ قوله‏:‏ ‏(‏حتى تروا أنكم قد كافأتموه‏)‏‏.‏ أي‏:‏ أنه لا يقصر في الدعاء، بل يدعوا له حتى يعلم أو يغلب على ظنه أنه قد كافأه‏.‏

وفيه مسائل أخرى، لكن ما ذكره المؤلف هو المقصود‏.‏

* * *